{بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَ الظَّالِمُونَ}‏ سورة العنكبوت الآية 49‏

قال السيد محمد حسين فضل الله في تفسيره: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} ‏فهم يعرفون روعته وعمقه، ويحفظونه من الضياع، وذلك فيما يفهمونه منه، ويبلُغُونه من معانيه، ‏وبذلك لا يقتصر حفظه على الكتابة، بل يمكن أن يحفظه هؤلاء الذين يحملونه في صدورهم، كعلم ‏يختزنونه فيبلغونه للآخرين [من وحي القرآن ج18ص67-68]
أقول: هذا كلام السيد محمد حسين، وهو كما تراه فيه ـ من إغفال التعرض لبيان مَن همُ الحفظة ‏للكتاب ـ ما فيه، مع أنَّ الآية لا تحتاج إلى توضيح ما ترمي إلى إثباته.‏
قوله «ويبلُغُونه من معانيه»، قول غير صحيح.‏
فإنَّ آلَ محمد (صلى الله عليه وآله) هم مَن أُوتوا العلم، وآلُ محمد صلوات الله ربي وسلامه ‏عليهم أجمعين، يبلُغُون جميعَ وكلَّ وتمامَ معاني الكتاب الكريم، لا أنهم (عليهم السلام) يبلُغُون ‏بعضاً من معانيه، كما يُفيدُه قول السيد محمد حسين حيث أتى بلفظ «من» وهو يدل على ‏التبعيض.‏
ولو أنه كنا نقول ـ ولا نقول ـ بأنَّ هناك أشخاصاً أُوتوا العلم، وأنَّ آلَ محمد (صلى الله عليه ‏وآله) مِن جملتهم، فأيضاً لا يصح أن يأتي بلفظ «من»، بل لا بُدَّ وأن نخصَّ لفظ «من» بأولئك ‏الأشخاص فحسب.‏
هذا مع أننا لا نعلم أحداً في أمة سيدنا محمد (صلى الله عليه وآله) قد أُوتيَ العلم إلا آل محمد ‏‏(صلى الله عليه وآله)، ولأجل ذلك وجب على الأمة قاطبة أن ترجع إليهم، وأن تأخذ عنهم.‏
ولو أنه كان في هذه الأمة مَن أُوتيَ العلمَ غير أهل البيت (عليهم السلام)، لما صحَّ أن يُؤمر جميع ‏الناس بالتمسك بالقرآن والعترة الطاهرة (عليهم السلام)، بل كان على رسول الله (صلى الله عليه ‏وآله) أن يأمر مَن لم يُؤتَ العلم بالتمسك بأهل البيت وبغيرهم ممَّن أُوتوا العلم.‏
فإذا ما كان السيد محمد حسين يعتقد بوجوب رجوع كلِّ الأمة إلى أهل البيت (عليهم السلام)، ‏أَليس من الأجدر به على الأقل أن يُشير إلى هويَّة أولئك الأشخاص الذين أُوتوا العلم، والذين كان ‏الكتابُ محفوظاً في صدورهم الشريفة، والذين كانت آياتُ الكتاب الكريم آياتٍ بيِّنةً مبيَّنةً عندهم؟
وعلى أيٍّ، فإنَّ الآيةَ تنصُّ على أمرين، الأول: أنَّ الذين أُوتوا العلمَ، هم مَن كانوا حفظةً ‏للكتاب، والثاني: أنَّ حفظةَ الكتاب هم مَن أُوتوا العلم، فكلٌّ من الأمرين يدلُّ على الآخر ويهدي ‏إليه.‏
فكأنَّ الآيةَ في مقام بيان الأمرين المشار إليهما بدلالة أحدهما على الآخر، فمَن يريدُ أن يعرِفَ مَن ‏هم الذين أُوتوا العلم، يكفيه أن يعرف مَن هم الذين كان القرآنُ آياتٍ بيناتٍ في صدورهم، وكذا ‏العكس.‏
وفي مقام التعرُّفِ على مَن هم أولئك الأشخاص، يكفي لنا أن نهتديَ إلى مَن عندهم خصائصُ مَن ‏أُوتيَ الكتابَ الكريم.‏
ومَن أُوتيَ الكتابَ، لا بُدَّ وأن يكون العالِمَ بكلِّ شيءٍ، بعد أن كان الكتابُ تبياناً لكلِّ شيءٍ، وقد قال ‏سبحانه{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} ‏
سورة النحل الاية 89
إذن مَن أُوتيَ العلم بالكتاب، هو الغنيُّ عن غيره فيما يحتاجه الغيرُ من علمٍ ومعرفةٍ، وهو مَن كان ‏الغيرُ جميعاً مفتقِرِين إليه، مذعِنين بالقصور عن الإحاطة بما عنده، مطَّلِعين وبحقٍّ على أنَّ عنده ‏العلم بكلِّ ما يُسأل عنه.‏
فمَن أُوتيَ العلمَ بقولٍ مطلق، لا يعرف الجهلَ بقول مطلق، والآيةُ تتحدث عن قوم أُوتوا العلمَ ومن ‏دون تخصيصٍ بأيِّ شيء، فيلزم عنه أن يكونوا العالِمين بكلِّ شيءٍ ومن دون تخصيصٍ بشيءٍ.‏
وإطلاقُ لفظ العالِم في كلامه تعالى على أحدٍ، ليس كإطلاقه في كلامنا، وعليه فهُمُ العالِمون ‏الحقيقيون، ومعنى ذلك أنَّ الحدسَ والاجتهادَ والتظنِّي لا يكون وارداً في حقهم، وما لم يكونوا ‏مُؤيَّدين من الحقِّ العليم المطلق تعالى، فإنه لن يكون لهم شأنُ الإحاطةِ بالعلوم والمعارف عن ‏حقٍّ.‏
وإذا ما كان العلمُ نوراً يقذفه الله تعالى في قلب وصدر مَن يشاء، فهذا يعني أنَّ مَن أُوتيَ العلمَ ‏ممَن يُحبُّهم الله تعالى، فإنه لا يمكن أن يشاء المولى بأن يكون مرجع الناس إلى غير القريب منه.‏
وما لم يكن إناؤهم وظرفُهم طاهراً، فلن يتأتَّى لهم إدراكُ النور الإلهيِّ بصفاء، وما لم تكن نفوسُهم ‏زاكيَّةً مطهَّرةً، فإنَّ الكدارةَ لا محالةَ ستحجِبُهم وتمنعهم عن نيل العلم الحق.‏
فإنه أبداً النور والفيض الإلهي لا انقطاع له ولا نفاد، غايته لمَّا أن كان نيلُ ذلك محتاجاً إلى ‏التوجُّه إليه أولاً، وإلى طلبِه بصدقٍّ ثانياً، فإنَّ الإنشغالَ عنه والتوجُّهَ إلى غيره، يلزم عنه وينتج ‏منه الحرمان.‏
والقلبُ الطاهر وحده مَن خلى عن الباطل، فيقع منه طلَبُ الحقِّ والتوجُّهُ بصدقٍّ إليه، وحيث إنه ‏نقيٌّ عن الباطل فلا شيءَ يمنعُهُ عن إدراك الحق.‏
فاحتاج الأمرُ إلى المحلِّ النقيِّ المنزَّه عن أيِّ نحو من أنحاء التوجُّهِ إلى الباطل، وكلما صفا القلبُ ‏وزكت النفسُ، كلما وجَدَ النورُ الإلهيُّ المكانَ المناسب لأن يستقِرَّ فيه.‏
لا أقول أنَّ القلبَ الذي لم (يصفُو) بالتمام والكمال، لا يدرك حظاً من الحقِّ والعلم، وإنما أقصد أنَّ ‏القلبَ النقيَّ عمَّن سواه تعالى وحده مَن عنده القابليَّة لنيل ما لا يشوبُهُ الباطلُ مطلقاً.‏
وبعبارة أخرى: إنَّ المحلَّ إذا ما كان فيه شيءٌ من الباطل، فإنه لا محالةَ سيترك أثراً من جهة، ‏وسيَحرِم صاحبَه من الحقِّ بمقدار ما كان في قلبه من الباطل من جهة ثانية.‏
وكمثالٍ، فالقلبُ الذي يمكن أن يستوعب مأةَ صنف من الحق، لا يمكن أن يستوعب ذلك فيما إذا ‏كان فيه عشرةُ أصناف من الباطل، بل لا يقبل إلا استيعاب تسعين صنفاً من الحق، هذا إذا لم يكن ‏لِمَا في قلبه من أصناف الباطل من تأثير سلبي، مع أنَّ تأثيرَه السلبيَّ أمرٌ لا نقاش فيه، وأنحاءُ ‏الباطل تختلفُ، وآثارُهُ تتفاوت.‏
وفي المقابل، إذا ما التفتنا إلى أنَّ الحديث في الآية يدور عن القرآن الكريم المطهَّر عن كلِّ دَنَسٍ ‏وعيب، فهل ترى أنه سبحانه يجعله آياتٍ بيناتٍ في صدر مَن للباطل فيه حظٌّ؟!!‏
وهل ترى أنه سبحانه كان ليحفظ كتابه الكريم، إلا في صدور أهل الحقِّ المطهَّرين، وهو عز ‏وجلَّ القائل وقوله الحق {لاَ يَمَسُّهُ إِلاَ الْمُطَهَّرُونَ}
سورة الواقعة الآية 79 ؟!‏
ثم إنَّ مَن كان الكتابُ آياتٍ بيِّناتٍ في صدره، فلا بُدَّ وأن يكون سلوكُهُ على مقتضى ما استوعبه ‏قلبُهُ وصدرُهُ، وما لم يكن على صراط مستقيم ظاهراً وباطناً، فكيف نتعقَّلُ أن يكون الكتابُ آياتٍ ‏بينات في صدره؟!‏
لذا وفي مقام التعرُّف على أصحاب الكتاب الكريم، لا بُدَّ أولاً من معرفة الصراط المستقيم وما ‏يُمثِّلُهُ من حق، ولا نهتدي إلى ذلك إلا من خلال وحي السماء، فإنَّ البشرَ قاصرون عن إدراك ما ‏تُخفِيه الصدور.‏
ولكنك تعرف، أنَّ مَن ليس فيه للباطل أيُّ مطمَعٍ، فلا بُدَّ وأن يكون كلُّهُ حقَّاً، وفي جميع تقلباته لا ‏ترى منه إلا حقاً، ومَن كان كذلك فهو المعصومُ وهو المطهَّرُ.‏
إذن فالمعصومُ وحده مَن يمكن أن يكون الكتابُ الحقُّ آياتٍ بيِّناتٍ في صدره، وإذا ما كان المحلُّ ‏قابِلاً، ولا يُوجد أيُّ مانعٍ، فإنه مأمونٌ عن كلِّ باطل، فلا محالةَ سيكون فعلاً مَن أُوتيَ العلمَ، لأنه ‏تعالى الكريم الجواد، وهل يبخل عن الإعطاءِ وعن التفضُّلِ على المستحِقِّ؟!!‏
ورجعنا إلى التأريخ، فلم نرَ إلا آلَ محمد صلوات الله ربي وسلامه عليه وآله وعليهم أجمعين، مَن ‏افتقر الخلق أزلاً إليهم، ومَن يفتقرُ الخلقُ أبداً إليهم، وهم الأغنياءُ وفي كلِّ شيءٍ عن غيرهم.‏
لم نرَ إلا هم باب مدينة علم المصطفى (صلى الله عليه وآله)، ولم يعرف الناس مَن اجتمعت ‏الكلمةُ عليهم فضلاً وعلماً ومعرفةً سواهم، فكانوا صراطَ الله المستقيم، وسبيلَه القويم، ما زاغ عن ‏الحقِّ مُتَّبِعُهم، وما ضلَّ مَن تمسَّك بهم، وما يغرق مَن ركب ويركب سفينتهم.‏
فكانت الإشاراتُ المولويَّةُ والتصريحاتُ القدسيَّةُ والنصوصُ المحمديَّةُ على الصادع بها وآله آلاف ‏الثناء والسلام والتحية، كانت جميعاً تهدي إليهم وتدلُّ عليهم، وما هذه الآيةُ الكريمة إلا واحدةٌ من ‏تلك الآيات الربانيَّة، أُريدَ بها ومنها ولها أن تقطع عذرَ كلِّ معتذِرٍ عن تَرْكِه الاقتداء بأئمة الهدى ‏من آل محمد (صلى الله عليه وآله).‏
وإنه يكفي لكلِّ متأمِّلٍ في مضمونها إذا ما عطف نظره إلى الواقع الخارجي، أن يهتدي وبيقينٍ إلى ‏الهداة الذين نَصَبَهم المولى سبحانه أعلاماً لدينه، وجعلهم أركاناً لتوحيده.‏
صحيح بأنَّ القرآنَ الكريم لم يُصرِّح بأسمائهم (عليهم السلام)، غير أنه قلَّما تخلو سورةٌ من السور ‏المباركة، إلا وفيها أكثرُ من آية تُفيد ما يُفيدُهُ التصريحُ بالاسم والتنصيصُ عليه، وإذا ما استعان ‏طالبُ الحقِّ بما ثبت عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) ومن طريق أبناء السُّنة فقط، فإنه ‏يهتدي يقيناً وقطعاً إلى الأئمة الهداة الميامين من آل طه وياسين صلوات الله ربي وسلامه عليهم ‏أجمعين.‏
هذا وإنَّ بعضاً قليلاً مما تقدم منَّا في هذا الكتاب ليكفي لمعرفة مَن يمكن أن يكونوا أولئك الذين ‏أُوتوا العلمَ، ولكن لمزيد التثبُّت نذكر بعض الأخبار.‏
فقد أخرج الصفار في البصائر، والكليني في الكافي، ومحمد بن العباس في تفسيره بإسنادهم عن ‏أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: تلى هذه الآية {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ ‏أُوتُوا الْعِلْمَ} قال: أنتم هم؟ قال أبو جعفر (عليه السلام): مَن عسى أن يكونوا.‏
وبإسنادهم عن عبد العزيز العبدي قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله تعالى {بَلْ هُوَ ‏آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} قال: نحن وإيانا عنى.‏
وأخرج الصفار والكليني بإسنادهما عن هارون بن حمزة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ‏سمعته يقول {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} قال: هم الأئمة خاصةً.‏
وأخرج الصفار ومحمد بن العباس بإسنادهما عن بريد بن معاوية عن أبي جعفر (عليه السلام) ‏قال: قلت له: قول الله {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} قال: إيانا عنى.‏
وأخرج الصفار والكليني بإسنادهما عن ابن الفضيل قال: سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) ‏عن قول الله تعالى {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} قال: هم الأئمة (عليهم ‏السلام) خاصة.‏
وأخرج الصفار بإسناده عن الحسن الصيقل قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) بَلْ هُوَ آيَاتٌ ‏بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} قال: نحن وإيانا عنى.‏
وأخرج الصفار يإسناده عن ابن كثير عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله عزَّ وجل {بَلْ هُوَ ‏آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} قال: إيانا عنى.‏
أقول: وورد بالإسناد عن خيثمة وعن أسباط، وعن حمران، وعن عبد الله بن عجلان، وعن عبد ‏الرحمن، وعن الحسن الصيقل، وعن سدير، وعن عمر بن أذينه، وعن علي بن أسباط، وعن ‏غيرهم فراجع ‏
بصائر الدرجات ص 224 إلى 227 ؛ الكافي ج 1 ص 213 ـ 214 ؛ دعائم الاسلام ج 1 ص 22و36 و79 ؛ شرح الأخبار ج ‏‏2 ص 216 ؛ مناقب آل ابي طالب ج 3 ص 403 و485 و522 ؛ بحار الأنوار ج 23 ص 189 إلى 204 وج 24 ص 122؛ تفسير ‏القمي ج 2 ص 151 تفسير فرات الكوفي ص 319 ؛ تفسير مجمع البيان ج 8 ص 33 ؛ تأويل الآيات ج 1 ص 432؛ التفسير ‏الصافي ج 1 ص 20 وج 4 ص 120 ؛ التفسير الأصفى ج 2 ص 948 ؛ تفسير نور الثقلين ج 4 ص 161 ـ 165

العودة