ـ لا مقدسات في الحوار.

ـ قد حاور الله تعالى إبليس.

سئل السيد محمد حسين فضل الله:

أشرتم إلى مسألة الحوار بين الأديان، والملاحظ ازدياد الحديث في هذا الموضوع في الآونة الأخيرة، فما رأيكم؟

فأجاب:

"إن الله علمنا أن نحاور كل الناس، ولا توجد مقدسات في الحوار، فقد حاور الله تعالى إبليس، فهل هناك من الناس من هو مثل إبليس؟ كما أن القرآن هو كتاب حوار مع المشركين في توحيد الله، ومع الكافرين في وجود الله وفي نبوة النبي، كما حاور المنافقين، لذلك نعتبر أن عظمة القرآن في أنه كتاب الحوار المقدس الذي يقول لك إن مسألة أن تؤمن هي أن تفكر وتقتنع، وبالتالي أن تحاور.. الخ" [حوارات في الفكر والسياسة والإجتماع ص248]

ونقول:

أولاً: هل حاور الله تعالى إبليس حقاً.. أم أنه ألقى الحجة عليه ثم طرده من رحمته، وأرسل عليه لعنته؟!

إن الحوار يتمثل بتبادل الأفكار التي من شأنها أن تنبه الطرف الآخر إلى خطئه فيما يلتزمه من أفكار، وإلى صوابية الفكر المطروح عليه..

وليس من الحوار ما يكون من قبيل إلقاء الحجة على الطرف الآخر تمهيداً لإصدار القرار الحاسم عليه حتى وإن ظهر بصورة الخطاب مع الآخر ولا معنى، ولا مبرر للخلط بين ما هو خطاب، وبين ما هو حوار، فشتّان بين الإثنين.

والملاحظ في قضية إبليس المذكورة في القرآن هو أنها تقتصر على بيان استكبار إبليس عن السجود لآدم لكونه قد خلق من تراب.. يقابله قرار إلهي بطرده، وإحلال اللعنة عليه إلى يوم الدين..

وقد وردت هذه القضية في أربعة مواضع في القرآن الكريم، هي التالية:

في سورة الأعراف قال تعالى:

{ولقد خلقناكم ثم صورناكم، ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم، فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين. قال: ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك ؟ قال: أنا خير منه، خلقتني من نار، وخلقته من طين. قال: فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبّر فيها، فاخرج إنك من الصاغرين. قال: أنظرني إلى يوم يبعثون. قال: إنك من المنظرين. قال: فبما أغويتني لاقعدن لهم صراطك المستقيم، ثم لآتينهم من بين أيديهم، وعن أيمانهم، وعن شمائلهم، ولا تجد أكثرهم شاكرين. قال: اخرج منها مذءوماً مدحوراً لمن تبعك منهم لأملأنّ جهنم منكم أجمعين} سورة الأعراف الآية 11-18

2 ـ وفي سورة الحجر قال تعالى:

{.. فسجد الملائكة كلهم أجمعون. إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين. قال: يا إبليس مالك ألا تكون مع الساجدين. قال: لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأٍ مسنون. قال: فاخرج منها فإنك رجيم. وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين. قال: رب فأنظرني إلى يوم يبعثون. قال: فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم. قال رب بما أغويتني لازينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين.. إلا عبادك منهم المخلصين. قال: هذا صراط علي مستقيم. إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين، وإن جهنم لموعدهم أجمعين. لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم} سورة الحجر الآية 30-44

3 ـ وفي سورة الإسراء قال تعالى:

{وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس، قال: أأسجد لمن خلقت طيناً؟. قال: أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكنّ ذريته إلا قليلاً. قال: اذهب فمن تبعك منهم، فإن جهنم جزاؤكم جزاءً موفوراً. واستفزز من استطعت منهم بصوتك، وأجلب عليهم بخيلك ورجلك، وشاركهم في الأموال والأولاد، وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا. إن عبادي ليس لك عليهم سلطان، وكفى بربك وكيلا.} سورة الإسراء الآية61-65

4 ـ وفي سورة (ص) يقول سبحانه:

{فسجد الملائكة كلهم أجمعون. إلا إبليس أستكبر، وكان من الكافرين. قال: يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي؟ أستكبرت أم كنت من العالين. قال: أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين. قال: فاخرج منها فإنك رجيم. وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين. قال: رب فأنظرني إلى يوم يبعثون. قال: فإنك من المنظرين. إلى يوم الوقت المعلوم. قال: فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين. قال: فالحق والحق أقول. لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين} سورة ص الآية73-85

وبعد.. فإن هذا هو كل ما ذكره الله تعالى في كتابه الكريم عن تمرد إبليس وهو يتلخص في عدة نقاط هي:

استكبار وتمرد من قبل إبليس.

وطرد من قبل الله له من رحمته.

ثم طلب إبليس من الله أن ينظره إلى يوم القيامة.

واستجابة الله له.

ثم توعد إبليس بإضلال الناس كلهم.

ثم تهديد الله له ولمن تبعه بالعذاب في نار جهنم.

فأين هو الحوار يا ترى، وأين تجد تبادل الأفكار؟!

ثانياً: إن السيد محمد حسين فضل الله يتحدث عن قيمة الحوار في القرآن فيقول:

"إن قيمته هي في أنه لم يحدد موضوعات الحوار، ولم يحدد الإنسان المحاور، فلا مشكلة في الحوار مع أي إنسان كان، لأن القضية هي أن هناك حقيقة لا بد أن نتعاون على اكتشافها، والوصول إليها، ليكون الحوار وسيلة تعاون لاكتشاف هذا المجهول، لا لتسجيل النقاط السلبية الآخر بطريقة جلية منغلقة (وفي الطبعة الخامسة ط سنة 1996 (على بعضنا البعض)"  [حوار في القرآن ص32 مقدمة الطبعة السادسة ط سنة 2001م]

 

ويتحدث عن مهمة الحوار، وأنه ليس مجرد إيصال القضايا التي يختلفون فيها إلى وضوح الرؤية لإيجاد قناعة مشتركة حولها.

بل هو أيضاً يساهم في تبريد الأجواء النفسية لدى المتحاورين.. لالتقائهم على المفاهيم المشتركة، أو المعاني المتقاربة مما يخلق مشاعر حميمة فيما بينهم.

كما أنه يخلق حركة فكرية تكون سبباً في تعميق الوعي، وشمولية النظرة.

كما أنه يمكن أن نجعل من الحوار منهج تربية في تكوين القناعات بشكل تدريجي.

ثم قال:

"إذا كان القرآن يتحدث بأسلوب العنف عن بعض هؤلاء الذين ينطلقون من موقع الفكرة المضادة لفكره، فلم يكن ذلك نتيجة للروح العدوانية التي ترفض الخلاف بالقوة، بل كان لامتناعهم عن الدخول في أجواء الحوار، وابتعادهم عن استعمال الأدوات التي أتاحها الله لهم للمعرفة وللتفكير.. وهذا ما نريد إثارته: الحوار لمن يريد الحوار. والعنف العقلاني لمـن يتخذ العـنف وسيلة لاضطهاد الفـكـر وإسقاطه.." الخ [حوار في القرآن ص13و14و15 مقدمة الطبعة الثانية]

وبعدما تقدم نقول:

هل ترى هذه المعايير، والفوائد التي ذكرها للحوار منطبقة على حديث القرآن عن حوار الله تعالى مع إبليس ؟

الجواب: لا، فإن الله سبحانه إنما أقام الحجة على إبليس ثم طرده ولعنه.. إذن فخطابه سبحانه لإبليس لا يدخل في هذا الإطار بلا شك.

أو هل ترى أن الحوار المزعوم بين الله سبحانه وإبليس هو من مفردات وموارد العنف العقلاني، لمن يتخذ العنف وسيلة لاضطهاد الفكر الآخر وإسقاطه؟!

والجواب أيضاً بلا.. لأن إبليس قد قدم عذره ـ الباطل ـ لامتناعه عن السجود لآدم، وهو أنه مخلوق من نار، وآدم مخلوق من طين، ولكن الله سبحانه بادره باللعنة وبالطرد..

فكلا الحالتين لا تنطبقان على قضية إبليس وهكذا تتعقد المشكلة إذا أردنا أن نلتزم بما يقوله هذا البعض، ونقف عنده ولا نتعداه..

ثالثاً: إن الحقيقة هي أن الله سبحانه لا يهادن الفكر المنحرف، الذي ينطلق من إرادة تبرير الإنحراف، وذر الرماد في العيون عن سابق معرفة وإدراك لحقيقة الخطأ، وتمييع القضايا بصورة وقحة، فإن هذا النوع لا يصح، بل لا يجوز الحوار معه، لأن حواراً كهذا لسوف يستبطن المماشاة بل الإعتراف بهذا الفجور الإعلامي الذي يراد تسويقه على أنه فكر، ورأي واستدلال.. ولأجل ذلك كان القمع الإلهي لهذا الفجور الخبيث، ولم يكن ثمة من حوار مع إبليس، ما دام أن الحوار مع إبليس سقوط خطير، وانتصار لأطروحة إبليس، ومساعدة له على تحقيق مراميه الخطيرة والخبيثة.

بل هو كما قلنا ـ احتجاج من الله سبحانه عليه، وفيه من التأنيب والتقريع، والإنكار والتوبيخ ما لا يخفى على من له أدنى معرفة بلغة العرب، ثم كان الطرد، وكانت اللعنة، فهل يصح اعتبار ذلك حواراً بعد هذا كله ؟!

العودة