(30)
مفتاح العلوم عند أمير المؤمنين عليه السلام
قال أبان: قال سليم: سمعت ابن عباس يقول: سمعت من علي عليه السلام حديثا لم أدر ما وجهه ولم أنكره. سمعته يقول: (إن رسول الله صلى الله عليه وآله أسر إلي في مرضه، فعلمني مفتاح ألف باب من العلم يفتح كل باب ألف باب).
وإني لجالس بذي قار في فسطاط علي عليه السلام وقد بعث الحسن عليه السلام وعمارا إلى أهل الكوفة يستنفران الناس، إذ أقبل علي علي عليه السلام فقال: يا بن عباس، يقدم عليك الحسن ومعه أحد عشر ألف رجل غير رجل أو رجلين. (1) فقلت في نفسي: إن كان كما قال فهو من تلك الألف باب.
فلما أظلنا الحسن عليه السلام بذلك الجند استقبلتهم، فقلت لكاتب الجيش الذي معه أسمائهم: كم رجل معكم؟ فقال: أحد عشر ألف رجل غير رجل أو رجلين.
____________
(1). الترديد من الراوي، ورواه في البحار: ج 41 ص 300 بتفصيل أكثر هكذا: قال أمير المؤمنين عليه السلام بذي قار وهو جالس لأخذ البيعة: يأتيكم من قبل الكوفة ألف رجل لا يزيدون رجلا ولا ينقصون رجلا، يبايعوني على الموت. قال ابن عباس: فجزعت لذلك وخفت أن ينقص القوم من العدد أو يزيدوا عليه فيفسدوا الأمر علينا. وإني أحصي القوم فاستوفيت عددهم تسعمائة ر جل وتسعة وتسعين رجلا، ثم انقطع مجئ القوم. فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون. ما ذا حمله على ما قال؟ فبينما أنا مفكر في ذلك إذ رأيت شخصا قد أقبل حتى دنا، وهو رجل عليه قباء صوف ومعه سيف وترس وإداوة. فقرب من أمير المؤمنين عليه السلام فقال: امدد يديك لأبايعك. قال علي عليه السلام: وعلى ما تبايعني؟ قال: على السمع والطاعة والقتال بين يديك أو يفتح الله عليك. فقال: ما اسمك؟ قال: أويس القرني، قال: نعم، الله أكبر فإنه أخبرني حبيبي رسول الله صلى الله عليه وآله أني أدرك رجلا من أمته يقال له (أويس القرني)، يكون من حزب الله، يموت على الشهادة، يدخل في شفاعته مثل ربيعة ومضر. قال ابن عباس: فسري عنا.
(31)
سلوني قبل أن تفقدوني
قال أبان عن سليم، قال: جلست إلى علي عليه السلام بالكوفة في المسجد والناس حوله.
فقال: سلوني قبل أن تفقدوني. سلوني عن كتاب الله، فوالله ما نزلت آية من كتاب الله إلا وقد أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وآله وعلمني تأويلها.
فقال ابن الكواء: فما كان ينزل عليه وأنت غائب؟
فقال عليه السلام: بلى، يحفظ علي ما غبت عنه، فإذا قدمت عليه قال لي: (يا علي، أنزل الله بعدك كذا وكذا) فيقرأنيه، (وتأويله كذا وكذا) فيعلمنيه.
(32)
افتراق الأمم
قال أبان: قال سليم: سمعت عليا عليه السلام وهو يقول لرأس اليهود: كم افترقتم؟ فقال:
على كذا وكذا فرقة. فقال علي عليه السلام: كذبت!
ثم أقبل على الناس فقال: والله لو ثنيت لي الوسادة لقضيت بين أهل التوراة بتوراتهم وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم وبين أهل القرآن بقرآنهم.
افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، سبعون منها في النار وواحدة في الجنة وهي التي اتبعت يوشع بن نون وصي موسى. وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، إحدى وسبعون فرقة في النار وواحدة في الجنة وهي التي اتبعت شمعون وصي عيسى عليه السلام. وتفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، اثنتان وسبعون فرقة في النار وواحدة في الجنة وهي التي اتبعت وصي محمد صلى الله عليه وآله - وضرب بيده على صدره -.
ثم قال: ثلاث عشرة فرقة من الثلاث والسبعين كلها تنتحل مودتي وحبي، واحدة منها في الجنة واثنتا عشرة منها في النار.
(33)
أسماء أهل السعادة والشقاوة
قال أبان: قال سليم: قلت لابن عباس: أخبرني بأعظم ما سمعتم من علي بن أبي طالب عليه السلام، ما هو؟
قال سليم: فأتاني بشئ قد كنت سمعته أنا من علي عليه السلام.
قال عليه السلام: دعاني رسول الله صلى الله عليه وآله وفي يده كتاب، فقال: يا علي، دونك هذا الكتاب.
فقلت: يا نبي الله، وما هذا الكتاب؟ قال: كتاب كتبه الله، فيه تسمية أهل السعادة وأهل الشقاوة من أمتي إلى يوم القيامة، أمرني ربي أن أدفعه إليك. (1)
____________
(1). يناسب هنا أن أورد ما رواه في البحار: ج 17 ص 146 ح 40 بأسناده عن أبي جعفر عن آبائه عليهم السلام قال:
خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وفي يده اليمنى كتاب وفي يده اليسرى كتاب. فنشر الكتاب الذي في يده اليمنى فقرأ: (بسم الله الرحمن الرحيم، كتاب لأهل الجنة بأسمائهم وأسماء آبائهم، لا يزاد فيهم واحد ولا ينقص منهم واحد). قال: ثم نشر الذي بيده اليسرى فقرأ: (كتاب من الله الرحمن الرحيم لأهل النار بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم، لا يزاد فيهم واحد ولا ينقص منهم واحد).
وروي في البحار أيضا عن أبي جعفر عليه السلام قال: انتهى النبي صلى الله عليه وآله إلى السماء السابعة وانتهى إلى سدرة المنتهى. قال: فقالت السدرة: ما جازني مخلوق قبلك. ثم دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى.
قال: فدفع إليه كتاب أصحاب اليمين وكتاب أصحاب الشمال. فأخذ كتاب أصحاب اليمين بيمينه وفتحه ونظر فيه، فإذا فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم. قال: وفتح كتاب أصحاب الشمال ونظر فيه فإذا فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم. ثم نزل ومعه الصحيفتان فدفعهما إلى علي بن أبي طالب عليه السلام.
(34)
أخبار ليلة الهرير أشد مراحل حرب صفين
قال أبان: سمعت سليم بن قيس يقول - وسألته (1): هل شهدت صفين؟ فقال: نعم.
قلت: هل شهدت يوم الهرير؟ قال: نعم. قلت: كم كان أتى عليك من السن؟ قال:
أربعون سنة. (2) قلت: فحدثني رحمك الله.
قال: مهما نسيت من شئ من الأشياء فلا أنسى هذا الحديث. ثم بكى وقال:
صفوا وصففنا، فخرج مالك الأشتر على فرس له أدهم مجنب (3) وسلاحه معلق على فرسه وبيده الرمح وهو يقرع به رؤوسنا ويقول: (أقيموا صفوفكم).
فلما كتب الكتائب (4) وأقام الصفوف أقبل على فرسه حتى قام بين الصفين فولى أهل الشام ظهره وأقبل علينا بوجهه، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وآله، ثم قال:
(أما بعد، فإنه كان من قضاء الله وقدره اجتماعنا في هذه البقعة من الأرض لآجال قد اقتربت وأمور تصرمت، يسوسنا فيها سيد المسلمين وأمير المؤمنين
____________
(1). أي وقد سألت سليما، وسيأتي في موارد من هذا الحديث قوله: (قال سليم). ويؤيد ذلك أن سليم كان حاضرا بصفين إلى آخرها كما هو صريح عدة أحاديث في هذا الكتاب.
(2). يستفاد من هذه العبارة أن سليما ولد بسنتين أو أربع سنين قبل الهجرة، وذلك أن وقعة صفين بدئت في سنة 36 وانتهت في سنة 38. فإذا كان عمر سليم آنذاك أربعون سنة يكون ميلاده إما بسنتين قبل الهجرة أو أربع سنوات.
(3). أي كان يقوده إلى جنبه ولم يركبه.
(4). كتب الكتائب أي هيأهم وجعلهم في فئات منظمة.
أيها الناس، غضوا الأبصار وعضوا على النواجذ من الأضراس فإنها أشد لضرب الرأس، واستقبلوا القوم بوجوهكم وخذوا قوائم سيوفكم بأيمانكم، فاضربوا الهام وأطعنوا بالرماح مما يلي الشرسوف(3) (موتورين بآبائهم وبدماء إخوانهم حنقين على عدوهم، قد وطنوا أنفسهم على الموت، لكيلا تذلوا ولا يلزمكم في الدنيا عار).
ثم التقى القوم فكان بينهم أمر عظيم، فتفرقوا عن سبعين ألف قتيل من جحاجحة العرب (4). وكانت الوقعة يوم الخميس من حيث استقلت الشمس حتى ذهب ثلث الليل الأول. ما سجد لله في ذينك العسكرين سجدة حتى مرت مواقيت الصلوات الأربع:
الظهر والعصر والمغرب والعشاء. (5)
خطبة أمير المؤمنين عليه السلام بعد ليلة الهرير
قال سليم: ثم إن عليا عليه السلام قام خطيبا فقال: (يا أيها الناس، إنه قد بلغ بكم ما قد رأيتم وبعدوكم كمثل فلم يبق إلا آخر نفس، وإن الأمور إذا أقبلت اعتبر آخرها بأولها،
____________
(1). حمى الوطيس أي اشتد الحرب.
(2). الغمغمة: الكلام الذي لا يبين.
(3). الشرسوف: طرف الضلع المشرف على البطن.
(4). أي ساداتهم.
(5). قوله: (ما سجد لله...) أي كانوا يصلون صلاة الخوف حالة القيام، كما ورد ذلك عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: (... وما كانت صلاة القوم يومئذ إلا تكبيرا عند مواقيت الصلاة). راجع أمالي الصدوق:
ص 332 والبحار: ج 32 ص 615 ح 482.
رفع المصاحف
فبلغ ذلك معاوية ففزع فزعا شديدا وانكسر هو وجميع أصحابه وأهل الشام لذلك. فدعا عمرو بن العاص فقال: يا عمرو، إنما هي الليلة حتى يغدو علينا، فما ترى؟ قال: أرى الرجال قد قلوا، وما بقي فلا يقومون لرجاله ولست مثله، وإنما يقاتلك على أمر وأنت تقاتله على غيره: أنت تريد البقاء وهو يريد الفناء. وليس يخاف أهل الشام عليا إن ظفر بهم ما يخاف أهل العراق إن ظفرت بهم. ولكن ألق إليهم أمرا إن ردوه اختلفوا وإن قبلوه اختلفوا دعهم إلى كتاب الله وارفع المصاحف على رؤوس الرماح، فإنك بالغ حاجتك فإني لم أزل أدخرها لك.
كتاب معاوية إلى أمير المؤمنين عليه السلام خديعة
فعرفها معاوية وقال: صدقت، ولكن قد رأيت رأيا أخدع به عليا: (طلبي إليه الشام على الموادعة)، وهو الشئ الأول الذي ردني عنه.
فضحك عمرو وقال: أين أنت يا معاوية من خديعة علي؟ وإن شئت أن تكتب فاكتب.
قال: فكتب معاوية إلى علي عليه السلام كتابا مع رجل من أهل السكاسك يقال له (عبد الله بن عقبة):
(أما بعد، فإنك لو علمت أن الحرب تبلغ بنا وبك ما بلغت وعلمناه نحن، لم يجنها بعضنا على بعض. وإن كنا قد غلبنا على عقولنا فقد بقي منها ما نرم به (1) ما مضى ونصلح ما بقي.
وقد كنت سألتك الشام على أن لا تلزمني لك طاعة ولا بيعة، فأبيت ذلك علي
____________
(1). أي نصلح ونأخذ في ترميمه.
جواب أمير المؤمنين عليه السلام لكتاب معاوية
قال سليم: فلما قرأ علي عليه السلام كتابه ضحك وقال: العجب من معاوية وخديعته لي فدعا كاتبه عبيد الله بن أبي رافع فقال له: أكتب:
أما بعد، فقد جائني كتابك تذكر فيه (أنك لو علمت وعلمنا أن الحرب تبلغ بنا وبك إلى ما بلغت لم يجنها بعضنا على بعض)، وإنا وإياك - يا معاوية - على غاية منها لم نبلغها بعد.
وأما طلبك الشام، فإني لم أعطك اليوم ما منعتك أمس. وأما استواؤنا في الخوف والرجاء، فإنك لست بأمضى على الشك مني على اليقين، وليس أهل الشام أحرص على الدنيا من أهل العراق على الآخرة. وأما قولك (إنا بنو عبد مناف ليس لبعضنا فضل على بعض)، فكذلك نحن ولكن ليس أمية كهاشم ولا حرب كعبد المطلب ولا أبو سفيان كأبي طالب ولا الطليق كالمهاجر ولا المنافق كالمؤمن والمبطل كالمحق. في أيدينا فضل النبوة التي ملكنا بها العرب واستعبدنا بها العجم، والسلام).
شماتة عمرو بن العاص بمعاوية
قال: فلما انتهى كتاب علي عليه السلام إلى معاوية كتمه عن عمرو، ثم دعاه فأقرأه. فشمت به عمرو، وقد كان نهاه. ولم يكن أحد من قريش أشد تعظيما لعلي عليه السلام من عمرو بعد اليوم الذي صرعه عن دابته. فقال عمرو:
ألا لله درك يا بن هند | ودر المرء ذي الحال المسود |
أتطمع - لا أبا لك - في علي | وقد قرع الحديد على الحديد |
وترجو أن تخادعه بشك | وترجو أن يهابك بالوعيد |
وقد كشف القناع وجر حربا | يشيب لهولها رأس الوليد |
له جاواه مظلمة طحول | فوارسها تلهب كالأسود (1) |
يقول لها إذا رجعت إليه | وقابل بالطعان القوم عودي |
فإن وردت فأولها ورودا | وإن صدرت فليس بذي ورود |
وما هي من أبي حسن بنكر | وما هي من مسائك بالبعيد |
وقلت له مقالة مستكين | ضعيف القلب منقطع الوريد |
طلبت الشام حسبك يا بن هند | من السوءات والرأي الزهيد |
ولو أعطاكها ما ازددت عزا | وما لك في استزادك من مزيد |
فلم تكسر بهذا الرأي عودا | سوى ما كان، لا بل دون عود |
فضيحة معاوية وعمرو بن العاص
فقال معاوية: والله لقد علمت ما أردت بهذا. قال عمرو: وما أردت به؟ قال: عيبك رأيي وخلافك علي وإعظامك عليا، لما فضحك يوم بارزته.
فضحك عمرو وقال: أما خلافك ومعصيتك فقد كانت، وأما فضيحتي فلم يفتضح
____________
(1). جاوى بالإبل: دعاه إلى الماء، والطحول: الملآن.
فسكت معاوية وفشا أمرهما في أهل الشام.
____________
(1). روى العلامة الأميني في الغدير: ج 2 ص 161 عن كتاب صفين لنصر بن مزاحم عن ابن عباس قال: تعرض عمرو بن العاص لعلي عليه السلام يوما من أيام صفين وظن أنه يطمع منه في غرة فيصيبه. فحمل عليه علي عليه السلام، فلما كاد أن يخالطه أذرى نفسه عن فرسه ورفع ثوبه وشغر برجله فبدت عورته فصرف عليه السلام وجهه عنه وقام (أي ابن العاص) معفرا بالتراب هاربا على رجليه معتصما بصفوفه. فقال أهل العراق: يا أمير المؤمنين، أفلت الرجل. فقال: أتدرون من هو؟ قالوا: لا. قال: إنه عمرو بن العاص، تلقاني بسوأته فذكرني بالرحم، فصرفت وجهي عنه. ورجع عمرو إلى معاوية، فقال: ما صنعت يا أبا عبد الله؟ فقال: لقيني علي فصرعني قال: أحمد الله وعورتك!!
(35)
أخبار مقطع من حرب صفين
قال أبان: قال سليم: ومر علي عليه السلام بجماعة من أهل الشام فيهم الوليد بن عقبة بن أبي معيط (1) وهم يشتمونه.
____________
(1). أورد العلامة الأميني في الغدير: ج 8 ص 120 عن الأغاني: أن الوليد بن عقبة كان زانيا شريب الخمر.
فشرب الخمر بالكوفة وقام ليصلي بهم الصبح في المسجد الجامع، فصلى بهم أربع ركعات. ثم التفت إليهم وقال لهم: أزيدكم؟ وتقيأ في المحراب، وقرأ بهم في الصلاة وهو رافع صوته:
علق القلب الربابا | بعد ما شابت وشابا |
وروى عن عدة طرق: أن طلحة والزبير أتيا عثمان فقالا له: قد نهيناك عن تولية الوليد شيئا من أمور المسلمين فأبيت، وقد شهد عليه بشرب الخمر والسكر فاعزله. وقال علي عليه السلام: اعزله وحده إذا شهد الشهود عليه في وجهه. فولى عثمان سعيد بن العاص الكوفة وأمره بإشخاص الوليد. فلما قدم سعيد الكوفة غسل المنبر ودار الإمارة وأشخص الوليد. فلما شهد عليه في وجهه وأراد عثمان أن يحده ألبسه جبة حبر وأدخله بيتا. فجعل إذا بعث إليه رجلا من قريش ليضربه قال له الوليد: أنشدك الله أن تقطع رحمي وتغضب أمير المؤمنين عليك فيكف. فلما رآى ذلك علي بن أبي طالب عليه السلام أخذ السوط ودخل عليه... فجعل يضربه والوليد يسبه!
وفي رواية البحار: ج 8 طبع قديم ص 302: (فأقبل الوليد يروغ من علي عليه السلام. فاجتذبه وضرب به الأرض وعلاه بالسوط).
وابن النابغة هو عمرو بن العاص، وأمه كانت بغيا من ذوات الرايات من طوائف مكة. فوقع عليها ستة من قريش في طهر واحد فولدت عمرا فاختصم القوم جميعا فيه فألحقته النابغة بالعاص بن وائل. راجع الغدير: ج 2 ص 121.
وأما أبو الأعور الأسلمي فهو عمرو بن سفيان كان ممن شهد معاهدة المنافقين ضد أمير المؤمنين عليه السلام بالمدينة قبيل وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله. ولم يزل معاديا لأمير المؤمنين عليه السلام حتى صار من أمراء جند معاوية بصفين وكان على مقدمته.
وأما مروان بن الحكم فهو الذي أخرجه رسول الله صلى الله عليه وآله مع أبيه من المدينة وطرده عنها، فنزل الطائف. ولما أدخل مروان - حين ولد - على النبي صلى الله عليه وآله قال: هو الوزغ بن الوزغ، الملعون بن الملعون. راجع الغدير:
ج 8 ص 244 و 260.
(انهضوا إليهم وعليكم السكينة وسيماء الصالحين ووقار الإسلام. إن أقربنا من الجهل بالله والجرأة عليه والاغترار لقوم رئيسهم معاوية وابن النابغة وأبو الأعور السلمي وابن أبي معيط شارب الخمر والمجلود الحد في الإسلام والطريد مروان، وهم هؤلاء يقومون ويشتمون. وقبل اليوم ما قاتلوني وشتموني وأنا إذ ذاك أدعوهم إلى الإسلام وهم يدعونني إلى عبادة الأوثان فالحمد لله قديما وحديثا على ما عاداني الفاسقون المنافقون. إن هذا الخطب لجليل، إن فساقا منافقين كانوا عندنا غير مؤتمنين وعلى الإسلام متخوفين، خدعوا شطر هذه الأمة وأشربوا قلوبهم حب الفتنة واستمالوا أهوائهم إلى الباطل. فقد نصبوا لنا الحرب وجدوا في إطفاء نور الله، والله متم نوره ولو كره الكافرون).
ثم حرض عليهم وقال: (إن هؤلاء لا يزالون عن موقفهم هذا دون طعن دراك (1) تطير منه القلوب، وضرب يفلق الهام وتطيح منه الأنوف والعظام وتسقط منه المعاصم، وحتى تقرع جباههم بعمد الحديد وتنشر حواجبهم على صدورهم والأذقان والنحور. أين أهل الدين، طلاب الأجر)؟
حملة محمد بن الحنفية بأربعة آلاف على عسكر معاوية
فثارت عليه عصابة نحو أربعة آلاف، فدعا محمد بن الحنفية فقال: (يا بني، امش نحو هذه الراية مشيا وئيدا على هينتك (2) حتى إذا شرعت في صدورهم الأسنة فامسك
____________
(1). قوله (دراك) أي متواصل.
(2). أي بتمهل وتأني.
وأعد علي عليه السلام مثلهم، فلما دنا محمد وأشرع الرماح في صدورهم أمر علي عليه السلام الذين كان أعدهم أن يحملوا معهم. فشدوا عليهم ونهض محمد ومن معه في وجوههم فأزالوهم عن مواقفهم وقتلوا عامتهم.
(36)
دعاء رسول الله صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام
أبان عن سليم، قال: سألت المقداد عن علي عليه السلام، قال: كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وآله - وذلك قبل أن يأمر نساءه بالحجاب - وهو يخدم رسول الله صلى الله عليه وآله ليس له خادم غيره، وكان لرسول الله صلى الله عليه وآله لحاف ليس له لحاف غيره، ومعه عائشة.
فكان رسول الله صلى الله عليه وآله ينام بين علي وعائشة ليس عليهم لحاف غيره، فإذا قام رسول الله صلى الله عليه وآله من الليل يصلي حط بيده اللحاف من وسطه بينه وبين عائشة حتى يمس اللحاف الفراش الذي تحتهم، ويقوم رسول الله صلى الله عليه وآله فيصلي.
فأخذت عليا عليه السلام الحمى ليلة فأسهرته، فسهر رسول الله صلى الله عليه وآله لسهره، فبات ليله مرة يصلي ومرة يأتي عليا عليه السلام يسليه وينظر إليه حتى أصبح. فلما صلى بأصحابه الغداة قال:
(اللهم اشف عليا وعافه، فإنه قد أسهرني مما به من الوجع). فعوفي، فكأنما أنشط من عقال ما به من علة.
ما سأل رسول الله صلى الله عليه وآله ربه لعلي عليه السلام
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله: أبشر يا أخي قال ذلك وأصحابه حوله يسمعون. فقال علي عليه السلام: بشرك الله بخير يا رسول الله وجعلني فداك. قال: إني لم أسأل الله الليلة شيئا إلا أعطانيه ولم أسأل لنفسي شيئا إلا سألت لك مثله. إني دعوت الله أن يواخي بيني وبينك ففعل، وسألته أن يجعلك ولي كل مؤمن بعدي ففعل، وسألته إذا ألبسني ثوب النبوة والرسالة أن يلبسك ثوب الوصية والشجاعة ففعل، وسألته أن يجعلك وصيي ووارثي
فقال رجل لصاحبه: أرأيت ما سأل؟ فوالله لو سأل ربه أن ينزل عليه ملكا يعينه على عدوه أو يفتح له كنزا ينفقه هو وأصحابه - فإن به حاجة - كان خيرا له مما سأل وقال الآخر: والله لصاع من تمر خير مما سأل!
(37)
1
ما قاله أصحاب الصحيفة الملعونة عند موتهم (1)
كلام معاذ بن جبل وما رآه عند الموت
عن أبان قال: سمعت سليم بن قيس يقول: سمعت عبد الرحمن بن غنم الأزدي ثم الثمالي (2) ختن معاذ بن جبل - وكانت ابنته تحت معاذ بن جبل - وكان أفقه أهل الشام وأشدهم اجتهادا. قال:
مات معاذ بن جبل بالطاعون (3)، فشهدته يوم مات - وكان الناس متشاغلين بالطاعون - قال: فسمعته حين احتضر وليس في البيت معه غيري - وذلك في خلافة عمر بن
____________
(1). ينبغي أن نورد علي عليه السلام: (وما هم بخارجين من النار).
راجع عن تفصيل معاقدة أصحاب الصحيفة وأسمائهم: الحديث 4 من هذا الكتاب. وراجع عن سائر ما قاله أبو بكر وعمر عند مماتهم: البحار ج 8 طبع قديم ص 196 ب 18.
(2). عبد الرحمن بن غنم أسلم زمن رسول الله صلى الله عليه وآله ولم يره ولم يفد إليه. ولزم معاذ بن جبل منذ بعثه رسول الله صلى الله عليه وآله إلى اليمن إلى أن مات معاذ في خلافة عمر. وكان يعرف بصاحب معاذ وكان أفقه أهل الشام وهو الذي فقه عامة التابعين من أهل الشام.
وكانت له جلالة وقدر وهو الذي عاتب أبا الدرداء وأبا هريرة بحمص لما انصرفا من عند علي عليه السلام رسولين لمعاوية. توفي عبد الرحمن سنة 78.
(3). وذلك في سنة 18 الهجرية.
فقلت له: تهذي رحمك الله؟ فقال: لا.
فقلت: فلم تدعو بالويل؟ قال: لموالاتي عدو الله على ولي الله!
فقلت له: من هو؟ قال: لموالاتي عدو الله عتيقا وعمر على خليفة رسول الله ووصيه علي بن أبي طالب.
فقلت: إنك لتهجر؟ فقال: يا بن غنم، والله ما أهجر هذا رسول الله وعلي بن أبي طالب يقولان: يا معاذ بن جبل، أبشر بالنار أنت وأصحابك الذين قلتم: (إن مات رسول الله أو قتل زوينا الخلافة عن علي فلن يصل إليها)، أنت وعتيق وعمر وأبو عبيدة وسالم.
فقلت: يا معاذ، متى هذا؟ فقال: في حجة الوداع، قلنا: (نتظاهر على علي فلا ينال الخلافة ما حيينا). فلما قبض رسول الله قلت لهم: (أنا أكفيكم قومي الأنصار، فاكفوني قريشا). ثم دعوت على عهد رسول الله إلى الذي تعاهدنا عليه بشير بن سعيد وأسيد بن حضير (1)، فبايعاني على ذلك.
فقلت: يا معاذ، إنك لتهجر؟ قال: (ضع خدي بالأرض). فما زال يدعو بالويل والثبور حتى قضى.
كلام أبي عبيدة بن الجراح وسالم مولى أبي حذيفة عند الموت
قال سليم: قال لي ابن غنم: ما حدثت به أحدا قبلك قط - لا والله غير رجلين، فإني فزعت مما سمعت من معاذ. فحججت فلقيت الذي ولى موت أبي عبيدة بن الجراح
____________
(1). بشير بن سعيد كان رئيس الخزرج. قتل في إمارة أبي بكر باليمن. وأسيد بن حضير بن سماك بن عتيك الأوسي الأنصاري الأشهلي كان رئيس الأوس. مات سنة 20، وهو ممن حمل الحطب إلى بيت فاطمة عليها السلام لإضرامه. فأصحاب الصحيفة لما يئسوا من سعد بن عبادة رئيس الأنصار أجمع تعاهدوا مع هذين اللذين كان كل واحد منهما رئيسا لنصف قبائل الأنصار.
كلام أبي بكر عند الموت
قال أبان: قال سليم: فحدثت بحديث ابن غنم هذا كله محمد بن أبي بكر. فقال:
اكتم علي، وأشهد أن أبي عند موته قال مثل مقالتهم، فقالت عائشة: إن أبي ليهجر!
كلام عمر عند الموت
قال محمد: فلقيت عبد الله بن عمر في خلافة عثمان فحدثته بما قال أبي عند موته وأخذت عليه العهد والميثاق ليكتمن علي. فقال لي ابن عمر: اكتم علي، فوالله لقد قال أبي مثل مقالة أبيك ما زاد ولا نقص. (2) ثم تداركها عبد الله بن عمر وتخوف أن أخبر بذلك علي بن أبي طالب عليه السلام، لما قد علم من حبي له وانقطاعي إليه، فقال: إنما كان أبي يهجر!
توثيق أمير المؤمنين عليه السلام لهذا الحديث
فأتيت (3) أمير المؤمنين عليه السلام فحدثته بما سمعت من أبي وبما حدثنيه ابن عمر عن أبيه، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: قد حدثني بذلك عن أبيه وعن أبيك وعن أبي عبيدة وعن سالم وعن معاذ من هو أصدق منك ومن ابن عمر. فقلت: من هو ذاك يا أمير المؤمنين؟ فقال: بعض من يحدثني. قال: فعلمت من عنى. فقلت: صدقت يا أمير المؤمنين، إنما حسبت إنسانا حدثك، وما شهد أبي - وهو يقول هذا - غيري. (4)
____________
(1). مات أبو عبيدة في سنة 18 الهجرية في مدينة حمص بالشام، وقتل سالم في سنة 12 في وقعة اليمامة.
(2). راجع عن كلام عبد الله بن عمر عن أبيه: الحديث 11 من هذا الكتاب.
(3). هذا من كلام محمد بن أبي بكر.
(4). معناه: إني ظننت أولا أن الذي أخبرك عما جرى كان شخصا من الأشخاص، وحيث لم يكن عند قول أبي في ساعات موته أحدا غيري وأنت قلت (بعض من يحدثني) علمت أن الذي أخبرك لم يكن من البشر.
2
بعض ما جرى عند موت أبي بكر
فلقيت محمد بن أبي بكر فقلت: هل شهد موت أبيك غير أخيك عبد الرحمن وعائشة وعمر؟ قال: لا. قلت: وهل سمعوا منه ما سمعت؟ قال: سمعوا منه طرفا فبكوا وقالوا: يهجر. فأما كل ما سمعت أنا فلا.
أبو بكر يشاهد رسول الله وعليا عليهما السلام عند الموت
قلت: والذي سمعوا منه ما هو؟ قال: دعا بالويل والثبور، فقال له عمر: يا خليفة رسول الله، ما لك تدعو بالويل والثبور؟ قال: هذا رسول الله وعلي معه يبشرني بالنار ومعه الصحيفة التي تعاهدنا عليها في الكعبة وهو يقول: (لعمري لقد وفيت بها فظاهرت على ولي الله أنت وأصحابك، فأبشر بالنار في أسفل السافلين).
فلما سمعها عمر خرج وهو يقول: إنه ليهجر. قال: لا والله ما أهجر، أين تذهب؟
قال عمر: أنت ثاني اثنين إذ هما في الغار. قال: الآن أيضا؟ أو لم أحدثك: أن محمدا - ولم يقل رسول الله - قال لي وأنا معه في الغار: (إني أرى سفينة جعفر وأصحابه تعوم في البحر). فقلت: أرنيها. فمسح وجهي فنظرت إليها فاستيقنت عند ذلك أنه
____________
(1). الدبيلة مصغرة: الطاعون وخراج ودمل يظهر في الجوف ويقتل صاحبه غالبا.
فقال عمر: (يا هؤلاء إن أباكم يهجر فاخبوه واكتموا ما تسمعون منه لا يشمت بكم أهل هذا البيت). ثم خرج وخرج أخي وخرجت عائشة ليتوضأوا للصلاة، فأسمعني من قوله ما لم يسمعوا.
إقرار أبي بكر بدخوله في تابوت جهنم
فقلت له لما خلوت به: يا أبه، قل: (لا إله إلا الله). قال: (لا أقولها أبدا ولا أقدر عليها حتى أرد النار فأدخل التابوت. فلما ذكر التابوت ظننت أنه يهجر. فقلت له: أي تابوت؟
فقال: تابوت من نار مقفل بقفل من نار، فيه اثنا عشر رجلا، أنا وصاحبي هذا. قلت:
عمر؟ قال: نعم، فمن أعني؟ وعشرة في جب في جهنم عليه صخرة إذا أراد الله أن يسعر جهنم رفع الصخرة.
لعن عمر على لسان أبي بكر
قلت: تهذي؟ قال: (لا والله ما أهذي. لعن الله ابن صهاك. هو الذي صدني عن الذكر بعد إذ جاءني فبئس القرين (2)، لعنه الله، الصق خدي بالأرض)، فألصقت خده بالأرض
____________
(1). روي في البحار: ج 8 ص 109 ح 10 بأسناده عن خالد بن نجيح، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: جعلت فداك، سمى رسول الله صلى الله عليه وآله أبا بكر الصديق؟ قال: نعم. قلت: فكيف؟ قال: حين كان معه في الغار قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إني لأرى سفينة جعفر بن أبي طالب تضطرب في البحر ضالة. قال: يا رسول الله، وإنك لتراها؟ قال: نعم. قال: فتقدر أن ترينيها؟ فقال: ادن مني. قال: فدنا منه فمسح على عينيه، ثم قال: أنظر.
فنظر أبو بكر فرأى السفينة وهي تضطرب في البحر. ثم نظر إلى قصور أهل المدينة. فقال في نفسه: الآن صدقت أنك ساحر فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: الصديق أنت!
(2). قال الله تعالى في سورة الفرقان: الآيات 31 - 27: (ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلانا خليلا، لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جائني وكان الشيطان للإنسان خذولا، وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا، وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا).
وقال تعالى في سورة زخرف: الآيات 39 - 36: (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين، وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون، حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين، ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون).
وروي في الكافي - كتاب الروضة - ص 27 في حديث طويل بأسناده عن الإمام الباقر عليه السلام: أن أمير المؤمنين عليه السلام خطب الناس بالمدينة بعد سبعة أيام من وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله، وذلك حين فرغ من جمع القرآن وتأليفه، فقال:... ولئن تقمصها دوني الأشقيان ونازعاني فيما ليس لهما بحق وركباها ضلالة واعتقداها جهالة فلبئس ما عليه وردا ولبئس ما لأنفسهما مهدا، يتلاعنان في دورهما ويتبرء كل واحد منهما من صاحبه. يقول لقرينه إذا التقيا: (يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين).
فيجيبه الأشقى على رثوثة: (يا ليتني لم أتخذك خليلا، لقد أضللتني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان
الشيطان للإنسان خذولا). فأنا الذكر الذي عنه ضل والسبيل الذي عنه مال والإيمان الذي به كفر والقرآن
الذي إياه هجر والدين الذي به كذب والصراط الذي عنه نكب. ولئن رتعا في الحطام المنصرم والغرور
المنقطع وكانا منه على شفا حفرة من النار، لهما على شر ورود في أخيب وفود وألعن مورود، يتصارخان
باللعنة ويتناعقان بالحسرة، ما لهما من راحة ولا عن عذابهما من مندوحة...