وبعد ، فإن الضعف في الإنسان هو الأصل ، والقوة فيه استثناء ( وخلق الانسان ضعيفاً ) .
والظلم والجهل فيه هما الأصل ، والعدل والمعرفة استثناء ( إنه كان ظلوماً جهولاً ) .
فليس عجيبا أن ترى شخصا يضعف أمام ضغوط الدنيا ومغرياتها ، ويرتكب الجهالات ، ويتجاوز على حقوق الناس .
. بل العجيب أن ترى إنساناً قوياً ، يقاوم الضغوط والمغريات ، وينصف الناس من نفسه ، ولا يتصرف إلا بمعرفة ! وكما قال الإمام الصادق عليه السلام ( ما عجبت لمن هلك كيف هلك ، ولكن عجبت لمن نجا كيف نجا ) !
وليس عجيباً أن ترى أن تاريخ الناس يتلخص في ركضهم وراء الحكام والدنيا ، ومعاداتهم للأنبياء والأوصياء . .
بل العجيب أن تجد من الناس أتباعاً للأنبياء ، ثم تجد في أتباع الأنبياء من ثبت بعدهم ولم ينحرف !
إنها حقائق ثقيلةٌ على الفكر ، مُرَّةٌ على القلب ، ولكنها حقائق . .
ولا يجب أن تكون الحقيقة دائماً حلوة . .
وهي في منهج القرآن أبرز الحقائق في تاريخ الأمم والأديان ، لا استثناء فيها
لأمتنا ، وإن كانت خير أمة أخرجت للناس ، بل لقد أكد النبي صلى الله عليه وآله بصراحة على أن أمتنا ليست استثناء فقال ( لتركبن سنن من كان قبلكم ، حذو القذة بالقذة والنعل بالنعل .. ) .
*
وقضية علي وشيعته القلائل الذين التفُّوا حوله في حياة النبي وبعد وفاته ، أنهم استوعبوا هذه
الحقائق وهذه السنن ، وعقدوا عليها القلوب، وعكفوا عليها الضلوع.
. فعندما كان النبي مسجى يودع الأمة ، وأهل الحل والعقد محتشدون حوله ، أمرهم أن يأتوه
هنا رفع الشيعة شعار التمسك بأهل بيت النبي ، والامتثال قوله صلى الله عليه وآله ( إني تارك فيكم الثقلين ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي ) .
ومن يومها الى يومنا هذا، قامت علينا قيامة إخواننا الأكثرية.
. ولم تقعد !
فصرنا روافض ، لأننا امتنعنا عن بيعة الخلفاء من غير أهل بيت النبي !
وصرنا مشركين ، لأننا حفظنا وصية النبي في أهل بيته ، فأحببناهم وقدسناهم !
وأباحوا دماءنا وأموالنا والأعراض ، لأننا لم نعط الشرعية لغير أهل بيت النبي !
ودارت على أجسادنا عجلة التاريخ تطحن ما استطاعت .
. حتى بنوا علينا الجدران ونحن أحياء ، وألقونا في التنانير المسجرة ،
ثم جعلوا عداوتهم إيانا ثقافة ، علموها للناس من على منابر المساجد ، وفي أواوين المدارس ، ثم ملؤوا بها بطون الكتب ، وأورثوها الأجيال !
ثم إذا كتب شيعي كتاباً أو تفوه بكلمة ، فذلك هو الذنب العظيم ، لأنه يخالف قانوناً أجمعت عليه دول الخلافة ، من أول خليفة قرشي الى آخر خليفة عثماني ، مفاده : أنه يحرم على الشيعة أن يدافعوا عن أنفسهم ، حتى لو كان دفاعهم علمياً !
وصار هذا القانون ديناً يتدين به عامة إخواننا الأكثرية ، حتى أنك لتجد أذهانهم في عصرنا مسكونة بأن الاستماع الى حجة الشيعي ذنب ، وقراءة كتاب للشيعة ذنب أعظم !
فكل إنسان ، حتى عابد الوثن ، له حق التعبير عن معتقده ، إلا الشيعي .
وكل إنسان حتىعابد الوثن يجوز الاستماع الى دليله وحجته، إلا الشيعي .
وكل كتاب يباح دخوله الى البلد وقراءته ، حتى كتب الإفساد والإلحاد ، إلا الكتاب الشيعي !
يقول عالم سني من الفيلبين : نشأت من صغري على الحساسية من الشيعة وكرههم والحذر الشديد من كتبهم ، لأنها كتب ضلال ، حرام قراءتها وبيعها وشراؤها .
وفي لحظة فكرت في نفسي وقلت : أليس من المنطقي أن يطلع الإنسان على وجهة النظر الأخرى ويفهمها ، ثم يناقشها ويردها؟ أليس موقفنا شبيهاً بموقف الذين يقول الله تعالى عنهم ( جعلوا أصابعهم في آذانهم ) ؟
ومن ذلك اليوم قررت أن أقرأ كتب الشيعة ، وليقل الناس عني ما يقولون !
إن قراءة الكتاب الشيعي تحتاج الى مثل هذه البطولة من جهاد النفس ، وجهاد الجو الحاكم في بعض الأوساط !
يضاف الى ذلك أن الكتاب الشيعي في عصرنا متهم بالإضرار بالوحدة الاسلامية ، وإثارة الحساسية والتفرقة بين المسلمين ..
*
ما هو الحل إذن ؟
الحل هو الموقف المنطقي العقلاني ، الذي ينبغي أن يتفهمه الطرفان .
. فلا الوحدة تعني ترك الالتزام بالمذهب ، وتحريم البحث العلمي في مسائل العقيدة والشريعة .
ولا حرية البحث العلمي تبررعدم مراعاة الأدب الانساني وأدب الأخوة في الدين . ..
ولهذه الحرية ينبغي أن تتسع الصدور ، وبهذا الأدب ينبغي أن يتأدب المتكلمون والكتاب .
إن الوحدة الإسلامية تعني وحدة المسلمين على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم وقومياتهم في
صف سياسي واحد ، في مواجهة أعدائهم ونصرة قضاياهم ، مع حفظ حرية
التمذهب داخل هذا الصف ، وحفظ حرية التفكير والتعبير ضمن الأدب الإسلامي والإنساني ..
وإذا عودنا جمهورنا المسلم على هذه الحرية وهذا الأدب ، نكون قد روَّضنا جبهتنا الداخلية على التفهم والتفاهم ، وقدمنا الى العالم نموذجاً لحرية الرأي والمعتقد داخل مجتمعاتنا .
فما المانع أن يصلي المسلم السني الى جانب أخيه الشيعي ، ويتحمل أحدهما من أخيه أن يُسْبِل
يديه في صلاته، أو يَكْتَفِهما، أو يرفعهما بالقنوت لربه ، أو يصلي بدون قنوت ؟
وما المانع أن يقرأ السني كتاباً شيعياً يذكر فيه الأدلة على أن هذا الصحابي قد خالف النبي في حياته،
أو انحرف عنه بعد وفاته؟ أو يقرأ الشيعي كتاباً سنياً يذكر فيه الأدلة على عدالة جميع الصحابة
، ووجوب موالاتهم وموالاة أوليائهم ، وأنهم أفضل من أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله ؟
وما المانع أن يقوم السني مع أخيه الشيعي بعملية ضد الاحتلال الصهيوني
فيبدأها الشيعي بنداء ( يا ألله يا محمد يا علي ) ويبدأها السني بنداء ( يا ألله يا محمد يا عمر ) ؟
إن من غير المعقول أن ننتظر من أتباع المذاهب أن يحققوا الوحدة الاسلامية باتباع مذهب واحد .
. فهذه المذاهب ستبقى
*
من هذه الرؤية نبدأ باسم
الله تعالى هذه السلسلة الفكرية التي تبحث في أهم المسائل العقائدية والفقهية والفكرية ، التي
تتعلق بأهل بيت النبي صلى الله عليه
وآله ، ومذهبهم ، وشيعتهم . والتي يقوم بإصدارها ( مركز المصطفى للدراسات
الإسلامية ) الذي تم تأسيسه بأمر سيدنا المرجع :
ونسأل الله تعالى أن تكون مفيدة للجميع ، لالتزامنا
فيها بالبحث العلمي الذي يتحرى الحق ، ويحفظ الحقوق والآداب ، والله المسدد للصواب .
من الأمور التي لفتت نظري أثناء مطالعة الفكر السياسي عندنا أهل السنة بقاؤه على
سذاجته خلال كل العصور رغم تقدم الفكر الإسلامي في العلوم والطب والعمارة والفنون
والإجتماع وغير ذلك من ضروب المعرفة ، على النحو المفصل في الكتب المعنية .
وحين اطلعت أكثر ، كدت
أوقن أن ذلك لم يكن عيباً فينا بقدر ما كان رغبة في الحكومات التي حكمتنا باسم الإسلام
، وسياسة مبرمجة للابقاء على هذا الجمهور معصوب العينين، حتى لا يفهم، وإن كان قد
سمح له أن يتقدم في غير ذلك من ضروب المعرفة ، يعمل فيها عقله ، ويرى فيها رأيه .
ثم إني رأيت من تناولوا الحديث
في مسائل السياسة عند هذا الجمهور لم يدخروا وسعاً في الحفاظ على البَلَه السياسي الذي
وقد دفعتني هذه الظاهرة الى
استطلاع ما كتبه العلماء في مسألة واحدة من مسائل علم السياسة وهي : تعيين القيادة ، أو
انتاج الأمة لقيادتها فحسب ، دون التطرق الى غير ذلك من أصول وفروع العلم السياسة .
ولما استسخفت ما هو مكتوب وما أريد لنا تقديسه بلانقاش، طالعت ما عند الشيعة ،
فليس تاريخ المسلمين ولا دينهم ولا كتابهم ولا نبيهم ورسالته حكراً على فرقة دون أخرى ،
حتى يحق لها وحدها أن ترى فيه رأيها ، وتسلطه في كثير من الأحيان على كل المسلمين .
وانتهيـت في هذه المسـألة ـ تعيين القيـادة في
الأمة الإسلاميـة ـ الى آراء تختلف عما نشأت عليه في البيت والمدرسة والمسجد والمجتمع .
ولا أزعم أني سكن ما بي ، كما أني لا أريد أن ألزم الناس بما انتهيت إليه ، خصوصاً وأن
أشباه القناعات التي انتهيت اليها ثقلت بي حتى أمالتني إلى وجهة قد يحسها القارىء أو يراها رأي العين .
من هنا رأيت أن أدع هذا الكتاب يجد طريقه الى الناس عله يكون بداية سلسلة أبحاث
جادة تنير الطريق ، وتنزع البراقع السميكة التي فرضت على وجه الحقائق دون شرع .
أسأل الله العون والتوفيق .د . أحمد عزالدين
مشكلة القيادة في العمل الإسلامي من المشكلات التي صاحبت هذا
العمل منذ بدايته بعد انقطاع الوحي بوفاة مؤسس الدولة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولأن القيادة صمام الأمان في كل مجتمع
، وجدنا مجتمعاتنا فوضى ، تعمل ولا نتيجة لعملها ، وتزرع ولا تجني إلا قبض الريح .
ويميل بعض علماء
السياسة والإجتماع الى رد الفشل في إفراز قيادة واحدة واعية إلى سوء الشعب أو ( القوم )
نفسه ، بينما يرى البعض الآخر عكس ذلك ، أي أن فشل القوم أساسه سوء القيادة وفشلها .
وكل من هؤلاء وأولئك يسوق لتأييد رأيه أدلة وبراهين .
والحقيقة أن العلاقة بين القيادة والشعب أو الجمهور
أو القوم أو غير ذلك من مترادفات اصطلاحية سياسية للتعبير عن ( الناس ) إنما هي علاقة
ولقد ظهرت مشكلة القيادة في المجتمع الإسلامي بعد وفاة مؤسس الدولة وواضع منهجها والمشرف على
سيرها رسول الله عليه وآله الصلاة والسلام ، ثم اختلفت المذاهب الإسلامية
بشأنها على النحو الموضح في كتب الكلام والعقيدة والسياسة لدى كل منها .
والحقيقة أن مطالعة ما عند الفرق الإسلامية من بضاعة في
موضوع الإمامة أو الخلافة كما سموها يؤكد أن أهل السنة يخلطون الإمامة بالخلافة برئاسة
الجمهورية ، وأنهم استخدموا اصطلاح الإمامة حيناً والخلافة أحياناً للتعبير عن معنى
واحد هو رئاسة الدولة ، فالإصطلاح عندهم غير محدد يستوى في ذلك القدماء
كالماوردي وابن خلدون ، والمحدثون كالمودودي ورشيد رضا وأبي زهرة .
لكننا لا نقف على شيء من هذا الخلط عند الشيعة قديماً وحديثاً فنظرية
الإمامة عندهم ـ والقيادة جزء منها ـ مؤصلة مؤطرة .
وما يهمنا في هذا كله ـ لوقد أغمضنا العين عن رؤية الخلط ـ حكم الإمامة
أو القيادة
الشرعي عند كليهما ، فهي عند الشيعة أصل من أصول الدين (1) يسوقون في تأييده
أدلة عقلية ونقلية كثيرة لا يهمنا إيرادها هنا فالمجال مختصر
محدود ، وهي عند السنة
أما الدليل على أنها فرض كفاية، فليس عندهم غير إجماع الصحابة، دون نص من كتاب أو سنة .
ولست أبغي ـ في هذا المجال الضيق ـ استقصاء
آراء الأصوليين في هذه النقطة ، وهل يتقرر الفرض فرضاً بإجماع الصحابة فعلاً أو
قولاً أو تقريراً ، وأسأل : إذا كان الصحابة رضوان الله عليهم قد شعروا بخطورة هذا
المنصب وأهميته فأجمعوا على ضرورة إيجاده ـ وهذا كله عملية عقلية محضة ناتجة
عن إعمال العقل والفكر في غياب النص ـ فهل يتوقع منهم كمال العقل وإدراك
حاجة الدولة ونظامها ، ولا يتوقع ذلك من الله ورسوله وهو الذي نص على
أن الدين قد اكتمل ، والكتاب قد تم ( اليوم أكملت لكم دينكم ) المائدة ـ 3
( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) الأنعام ـ 38 .
وأختلف بشدة مع ابن خلدون في أن الخـلافـة ـ
وهي عندي كما قلـت
قيادة ـ لم تكن مهمة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) ومن ثم لم يترك فيها
شيئاً .
ومع أن أبا يعلى يقول أن طريق وجوبها السمع لا العقل (2) إلا أنه لم يقدم لنا نصاً مسمو
عاً يؤيد مذهبه ، إلا أن يكون قد أراد سماع أحداث السقيفة وما تلاها فنعود الى نفس العقدة ،
وهي محل ألف نظر.
.
كما أن أحكام مشايخنا ـ نحن أهل السنة ـ واعتبارهم
القيادة من أمور الدنيا
والمصالح العامة المتروكة للخلق يفعلون بها ما شاؤوا (3) تتناقض وتاريخنا ،
ولولا أن القيادة حجر زاوية في ديننا
لما استشهد في سبيل تطهيرها من دنس الطواغيت
أبرارنا منذ
إن هذا الأمر يحتاج الى صرخة قوية في وجه علمائنا أن يجتهدوا ويبينوا
لنا وفق روح العصر حكم الإسلام في القيادة التي هي أهم أمر في جميع الدول وأنظمتها ، ولئن كنت
أعتقد أن قحط الرجال قد عم وغلب ، لكني لا أعتقد أن البقية الباقية من الرجال قد ابتليت بقحط الفكر .
ولقائل أن يقول إن شيخ
الإسلام ابن تيمية اعتبرها من أعظم واجبات الدين ، وأقول : صحيح وقد قال ( إن ولاية أمر الناس
*