الصفحة 41

ليت شعري مالنا عند الله يا أبا حازم؟ فقال: إعرض نفسك على كتاب الله، فإنك تعلم مالك عند الله. قال سليمان: يا أبا حازم، وأين اصيب تلك المعرفة في كتاب الله؟ قال عند قوله تعالى: (إن الابرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم) قال سليمان: يا أبا حازم، فأين رحمة الله؟ قال: (رحمة الله قريب من المحسنين). قال سليمان: يا أبا حازم من أعقل الناس؟ قال أبو حازم: أعقل الناس من تعلم العلم والحكمة وعلمهما الناس. قال سليمان: فمن أحمق الناس؟ فقال: من حط في هوى رجل وهو ظالم، فباع آخرته بدنيا غيره. قال سليمان: فما أسمع الدعاء؟ قال أبو حازم: دعاء المخبتين الخائفين. فقال سليمان: فما أزكى الصدقة عند الله؟ قال: جهد المقل. قال: فما تقول فيما ابتلينا به؟ قال: أعفنا عن هذا وعن الكلام فيه أصلحك الله، قال سليمان: نصيحة تلقيها. فقال: ما أقول في سلطان استولى عنوة بلا مشورة من المؤمنين، ولا اجتماع من المسلمين، فسفكت فيه الدماء الحرام، وقطعت به الارحام، وعطلت به الحدود، ونكثت به العهود، وكل ذلك على تنفيذ الطينة، والجمع لمتاع الدنيا المشينة، ثم لم يلبثوا أن ارتحلوا عنها، فياليت شعري ما تقولون؟ وماذا يقال لكم؟

فقال بعض جلسائه: بئس ما قلت يا أقور، أمير المؤمنين يستقبل بهذا؟

فقال أبو حازم: اسكت يا كاذب، فإنما أهلك فرعون هامان، وهامان فرعون، إن الله قد أخذ على العلماء للناس ولا يكتمونه أي ينبذونه وراء ظهورهم، قال:

سليمان: يا أبا حازم كيف لنا أن نصلح ما فسد منا؟ فقال: المأخذ في ذلك قريب يسيريا أمير المؤمنين، فاستوى سليمان جالسا من اتكائه، فقال: كيف ذلك؟ قال: تأخذ المال من حله، وتضعه في أهله، وتكف الاكف عما نهيت، وتمضيها فيما امرت به. قال سليمان: ومن يطيق ذلك؟ فقال أبو حازم: من هرب من النار إلى الجنة، ونبذ سوء العادة إلى خير العبادة. فقال سليمان:


الصفحة 42
اصحبنا يا أبا حازم، وتوجه معنا تصب منا ونصب منك. قال أبو حازم: أعوذ بالله من ذلك، قال سليمان: ولم يا أبا حازم؟ قال: أخاف أن أركن إلى الذين ظلموا، فيذيقني الله ضعف الحياة، وضعف الممات. فقال سليمان:

فتزورنا. قال أبو حازم: إنا عهدنا الملوك يأتون العلماء، ولم يكن العلماء يأتون الملوك، فصار في ذلك صلاح الفريقين، ثم صرنا الان في زمان صار العلماء يأتون الملوك، فصار في ذلك صلاح الفريقين، ثمك صرنا الان في زمان صار العلماء يأتون الملوك، والملوك تقعد عن العلماء، فصار في ذلك فساد الفريقين جميعا.

قال سليمان: فأوصنا يا أبا حازم وأوجز. قال اتق الله ألا يراك حيث نهاك، ولا يفقدك من حيث أمرك. قال سليمان: ادع لنا بخير. فقال أبو حازم: اللهم إن كان سليمان وليك فبشره بخير الدنيا والاخرة، وإن كان عدوك فخذ إلى الخير بناصيته. قال سليمان: زدني. قال: قد أوجزت، فإن كنت وليه فاغتبط، وإن كنت عدوه فاتعظ، فإن رحمته في الدنيا مباحة، ولا يكتبها في الاخرة إلا لمن اتقى في الدنيا، فلا نفع في قوس ترمي بلا وتر.

فقال سليمان: هات يا غلام ألف دينار، فأتاه بها فقال: خذها يا أبا حازم. فقال: لا حاجة لي بها لاني وغيري في هذا المال سواء، فان سويت بيننا وعدلت أخذت وإلا فلا، لاني أخاف أن يكون ثمنا لما سمعت من كلامي، وأن موسى بن عمران عليه السلام لما هرب من فرعون ورد ماء مدين، فوجد عليه الجاريتين تذودان. فقال: مالكما معين؟ قالتا: لا، فسقى لهما، ثم تولى إلى الظل، فقال: رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير، ولم يسأل الله أجرا، فلما أعجل الجاريتان الانصراف، أنكر ذلك أبوهما، فقال لهما: ما أعجلكما اليوم؟ قالتا: وجدنا رجلا صالحا قويا سقى لنا. قال: ما سمعتماه، يقول؟ قالتا: تولى إلى الظل وهو يقول: رب إني لما أنزلت إلي ما خير فقير، فقال: ينبغي لهذا أن يكون جائعا، تنطلق إحداكما له، فتقول له: إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا. فأتته إحداهما تمشي على استحياء - أي

الصفحة 43
على إجلال له - قالت: إن أبي يدعوك ليجزيك أجرما سقيت لنا، فجزع موسى من ذلك، وكان طريدا في الفيافي والصحاري، فقال لها: قولي لابيك إن الذي سقى يقول: لا أقبل أجرا على معروف اصطنعته، فانصرفت إلى أبيها فأخبرته. فقال: اذهبي فقولي له: أنت بالخيار بين قبول ما يعرض عليك أبي وبين تركه، فأقبل فإنه يحب أن يراك، ويسمع منك، فأقبل والجارية بين يديه، فهبت الريح فوصفتها له، وكانت ذات خلق كامل. فقال لها: كوني ورائي وأريني سمت الطريق، فلما بلغ الباب قال: استأذني لنا، فدخلت على أبيها، فقالت: إنه مع قوته لامين. فقال شعيب وكيف علمت ذلك؟ فأخبرته ما كان من قوله عند هبوب الريح عليها، فقال ادخليه، فدخل فإذا شعيب قد وضع الطعام، فلما سلم رحب به وقال: أصب من طعامنا يافتى. فقال موسى: أعوذ بالله. قال شعيب: لم؟ قال لاني من بيت قوم لانبيع ديننا بملء الارض ذهبا. قال شعيب: لا والله ما طعامي لما تظن، ولكنه عادتي وعادة آبائي نقري الضيف، ونطعم الطعام، فجلس موس فأكل، وهذه الدنانير إن كانت ثمنا لما سمعت من كلامي، فإن أكل الميتة والدم في حال الضرورة أحب إلي من أن آخذها.

فأعجب سليمان بأمره إعجابا شديدا، فقال بعض جلسائه: يا أمير المؤمنين، إن الناس كلهم مثله؟ قال: لا. قال الزهري: إنه لجاري منذ ثلاثين سنة، ما كلمته قط، فقال أبو حازم: صدقت لانك نسيت الله ونسيتني، ولو ذكرت الله لذكرتني، قال الزهري: أتشتمني؟ قال له سليمان: بل أنت شتمت نفسك، أو ما علمت أن للجار على الجار حقا؟ قال أبو حازم: إن بني إسرائيل لما كانوا على الصواب كانت الامراء تحتاج إلى العلماء، وكانت العلماء تفر بدينها من الامراء، فلما رؤي قوم من أراذل النسا تعلموا العلم، وأتوا به الامراء، استغنت الامراء عن العلماء، واجتمع القوم على المعصية، فسقطوا وهلكوا،

الصفحة 44
ولو كان علماؤنا هؤلاء يصونون علمهم، لكانت الامراء تهابهم، وتعظمهم.

فقال الزهري: كأنك إياي تريد وبي تعرض؟ قال: هو ما تسمع. قال سليمان: يا أبا حازم عظني وأوجز. قال: حلال الدنيا حساب، وحرامها عذاب، وإلى الله المآب، فاتق عذابك أو دع. قال: لقد أوجزت، فأخبرني ما مالك؟ قال: الثقة بعدله، والتوكل على كرمه، وحسن الظن به، والصبر إلى أجله، واليأس مما في أيدي الناس. قال: يا أبا حازم إرفع إلينا جوائجك.

قال: رفعتها إلى من لا تخذل دونه، فما أعطاني منها قبلت، وما أمسك عني رضيت، مع أني قد نظرت فوجدت أمر الدنيا يؤول إلى شيئين: أحدهما لي، والاخر لغيري. فأما ما كان لي، فلو احتلت عليه بكل حيلة ما وصلت إليه قبل أوانه وحينه الذي قد قدر لي. وأما الذي لغيري فذلك لا أطمع فيه، فكما منعني رزق غيري، كذلك منع غيري رزقي، فعلام أقتل نفسي في الاقبال والادبار؟

قال سليمان: لابد أن ترفع إلينا حاجة نأمر بقضائها، قال: فتقضيها؟ قال:

نعم، قال: فلا تعطني شيئا حتى أسألكه، ولا ترسل إلي حتى آتيك، وإن مرضت فلا تعدني، وإن مت فلا تشهدني. قال سليمان: أبيت يا أبا حازم أبيت.

قال: أتأذن لي أصلحك الله في القيام فإني شيخ قد زمنت. قال سليمان:

يا أبا حازم مسألة ما تقول فيها؟ قال: إن كان عندي علم أخبرتك به وإلا فهذا الذي عن يسارك يزعم أنه ليس شئ يسأل عنه إلا وعنده له علم، يريد محمد الزهري، فقال له: الزهري: عائذ بالله من شرك أيها المرء. قال: أما من شري فستعفي، وأما من لساني فلا. قال سليمان: ما تقول في سلام الائمة من صلاتهم أواحدة أم اثنتان، فإن العلماء لدينا قد اختلفوا علينا في ذلك أشد الاختلاف؟ قال: على الخبير سقطت، أرميك في هذا بخبر شاف:

حدثني عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه سعد، أنه شهد رسول الله صلى الله عليه وآله يسلم في الصلاة عن يمينه حتى يرى بياض خده الايمن،

الصفحة 45
ثم يسلم عن يساره حتى يرى بياض خده الايسر، سلاما يجهر به. قال عامر:

وكان أبي يفعل ذلك. (1).

(731)
حسني ورجل من قريش

وفي الاغاني: سب رجل من قريش في أيام بني امية بعض ولد الحسن - عليه السلام - فأغلظ له وهو ساكت، والناس يعجبون من صبره عليه، فلما أطال أقبل الحسني عليه متمثلا بقول ابن ميادة:

اظنت سفاها من سفاهة رأيها * أن أهجوها لما هجتني محارب
فلا نوأبيها، إنني بعشيرتي * ونفسي عن ذاك المقام لراغب

فقام القرشي خجلا، وما رد عليه (2).

(732)
اسحاق ويزيد

قال سبط ابن الجوزي: قال الكلبي في مثالبه: جرى بن يزيد وبين اسحاق ابن طابة بن عبيدة كلام بن يدي معاوية، فقال يزيد له: إن خيرا لك أن يدخل بنو حرب كلهم الجنة - أشار إلى أن ام إسحاق كانت تتهم ببعض بني حرب - فقال له اسحاق: إن خيرا لك أن يدخل بنو العباس كلهم الجنة.

قال: فلم يفهم يزيد قوله، وفهمه معاوية فلما قام إسحاق، قال معاوية ليزيد: كيف تشاتم الرجال قبل أن تعلم ما يقال فيك؟ قال: قصدت شين إسحاق. قال: وهو أيضا قصد شينك. قال: وكيف؟ قال: أما علمت أن

____________

(1) الامامة والسياسة: ج 2 / 88 - 91. قال الاحمدي: نقل ابن عبد ربه في العقد الفريد: ج 1 / 32 وج 3 / 163 جمل من هذه المحاورة، ونقل في ص 200 محاورة أبي حازم مع هشام بن عبد الملك، فراجع.

(2) بهج الصباغة: ج 3 / 139.

الصفحة 46
بعض قريش في الجاهلية يزعمون أني للعباس، فسقط في يدي يزيد (1).

(733)
عمار مع قريش

عن الجوهري في سقيفته قال: ونادى عمار بن ياسر ذلك اليوم - يعني يوم الشورى - وقال:

يا معشر المسلمين، إنا قد كنا، وما كنا نستطيع الكلام قلة وذلة، فأعزنا الله بدينه، وأكرمنا برسوله، فالحمد لله رب العالمين، يا معشر قريش، إلى متى تصرفون هذا الامر عن أهل بيت نبيكم، تحولونه هاهنا مرة، وهاهنا مرة، ما أنا آمن أن ينزعه الله منكم، ويضعه في غيركم، كما نزعتموه من أهله، ووضعتموه في غير أهله.

فقال له هاشم بن الوليد بن المغيرة: يا ابن سمية، لقد عدوت طورك، وما عرفت قدرك ما أنت، وما رأت قريش لانفسها، أنك لست في شئ من أمرها وإمارتها، فتنح عنها.

وتكلمت قريش بأجمعها، فصاحوا بعمار وانتهروه.

فقال: الحمد لله رب العالمين، ما زال أعوان الحق أذلاء، ثم قام فانصرف (2).

(734)
جابر ومرواني

روى أمالي ابن الشيخ في جزئه الثامن عشر في خبره الثاني عن الحسين بن زيد قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن سن جدنا علي بن الحسين

____________

(1) بهج الصباغة: ج 3 / 209 وج 7 / 51، وقاموس الرجال: ج 1 / 489.

(2) شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 2 / 412، وج 3 / 172، وفي ط بتحقيق أبي الفضل ابراهيم: ج 9 / 58، والبحار: ج 8 / 307، ويهج الصباعة: ج 3 / 372.

الصفحة 47
عليهما السلام، فقال: أخبرني ابي عن أبيه، قال: كنت أمشي خلف عمي الحسن وأبي الحسين عليهما السلام في بعض طرقات المدينة في العام الذي قبض فيه عمي، وأنا يومئذ غلام لم اراهق أوكدت، فلقاهما جابر بن عبد الله وأنس ابن مالك في جماعة من قريش والانصار، فماتمالك جابر، حتى أكب على أيديهما وأرجلهما يقبلهما.

فقال رجل من قريش كان نسيبا لمروان لجابر: أتصنع هذا وأنت في سنك هذا، وموضعك من صحبة النبي صلى الله عليه وآله؟ وكان جابر شهد بدرا.

فقال له: إليك عني، فلو علمت يا أخا قريش من فضلهما ما أعلم لقبلت ما تحت أقدامهما من التراب. ثم أقبل جابر على أنس فقال له: أخبرني النبي صلى الله عليه وآله فيهما بأمر، ما ظننت أنه يكون في بشر.

قال له أنس: وبماذا أخبرك.

قال علي بن الحسين عليهما السلام: فانطلق الحسن والحسين عليهما السلام وبقيت أنا أسمع محاورة القوم، فأنشأ جابر يحدث، قال: بينما النبي صلى الله عليه وآله ذات يوم في المسجد، وقد حف بمن حوله، إذ قال لي: ادع لي حسنا وحسينا، وكان شديد الكلف بهما، فانطلقت فدعوتهما، وأقبلت أحمل هذا مرة وهذا اخرى، حتى جئت بهما إليه، فقال لي وأنا أعرف السرور في وجهه لما رأى من تكريمي لهما: أتحبهما؟ قلت: وما يمنعني من ذلك، وأنا أعرف مكانهما منك؟ قال: أفلا اخبرك عن فضلهما؟ قلت: بلى، بأبي أنت وامي.

قال: إن الله تعالى لما احب أن يخلقني خلقني نطفة بيضاء طيبة، فأودعها صلب أبي آدم عليه السلام فلم يزل ينقلها من صلب طاهر إلى رحم طاهر إلى عبد المطلب، ثم افترقت تلك النطفة شطرين إلى عبد الله وأبي طالب، فولدني أبي فختم الله بي النبوة، وولد علي فختم الله به الوصية، ثم اجتمعت النطفتان مني ومن علي، فولدنا الجهر والجهير الحسنان، فختم بهما أسباط النبوة، وجعل

الصفحة 48
ذريتي منهما، ومن ذرية هذا - وأشار إلى الحسين عليه السلام - رجل يخرج في آخر الزمان، يملأ الارض عدلا كما ملئت ظلما وجورا، فهما طاهران مطهران، وهما سيدا شباب أهل الجنة، طوبى لمن أحبهما وأباهما وامهما، وويل لمن حاربهم وأبغضهم (1).

(735)
ابن قبة مع شيخ معتزلي

ذكرت بحضرة الشيخ أبي عبد الله - أدام الله عزه - ما ذكره أبو جعفر محمد بن عبد الرحمان بن قبة الرازي - رحمه الله - في كتاب الانصاف حيث ذكر: أن شيخا من المعتزلة أنكر أن تكون العرب تعرف المولى سيدا، وأما ما قال فأنشدته قول الاخطل:

فما وجدت فيها قريش لامرها * أعف وأولى من أبيك وامجدا
وأورى بزنديه ولو كان غيره * غداة اختلاف الناس اكدى وأصلدا
فأصبحت مولاها من الناس كلهم * وأحرى قريش أن تهاب وتحمدا

قال أبو جعفر: فاسكت الشيخ، كانما القم حجرا، وجعلت استحسن ذلك (2).

(736)
زيد وقوم

حدثني الشيخ - أدام الله عزه - قال: وحدث عن الحسين بن زيد، قال:

حدثني مولاي، قال: كنت مع زيد بن علي عليه السلام بواسط، فذكر قوم أبا بكر وعمر وعليا عليه السلام، فقدموا أبا بكر وعمر عليه، فلما قاموا قال لي زيد - رحمه الله -: قد سمعت كلام هؤلاء، وقد قلت أبياتا، فادفعها إليهم وهي:

____________

(1) بهج الصباغة: ج 3 / 238 - 239.

(2) الفصول المختارة: ص 4.

الصفحة 49

ومن شرف الاقوام يوما برأيه * فإن عليا شرفته المناقب
وقول رسول الله، والحق قوله * وإن رغمت منهم منهم انوف كواذب
بأنك مني يا علي معالنا * كهارون من موسى أخ لي وصاحب
دعاه ببدر فاستجاب لامره * وما زال في ذات الاله يضارب
فما زال يعلوهم به وكأنه * شهاب تلقاه القوابل ثاقب (1)

(737)
المفيد وابن الدقاق

حضر الشيخ - أدام الله عزه - مجلسا للنقيب أبي الحسن العمري - أدام الله عزه - وكان بالحضرة جمع كثير، وفيه القاضي أبو محمد العماني، وأبو بكر بن الدقاق، فتخاوضوا في ضروب من الحكايات، فجرى ذكر الحسد:

فقال أبو بكر سئل الحسن البصري فقيل له: أيها الشيخ هل يكون في أهل الايمان حسد؟ فقال: سبحان الله أما علمتم، ما جرى بين اخوة يوسف ويوسف عليه السلام، أو ما قرأتم قصتهم في محكم القرآن، فكيف يجوز أن يخرج الحسد عن الايمان؟

فاستحسن هذه الحكاية أبو محمد العماني، وهو معتزلي المذهب، والحاكي أيضا من المعتزلة.

فقال الشيخ - أدام الله عزه - لهم: إن نفس هذا الاستدلال الذي استحسنتموه، يوجب أن تكون كبائر الذنوب لا تخرج أيضا عن الايمان وذلك:

أنه لا خلاف أن ما صنعه اخوة يوسف عليه السلام بأخيهم من إلقائه في غيابة الجب، وبيعه بالثمن البخس، وكذبهم على الذئب، وما أوصلوه إلى قلب أبيهم نبي الله يعقوب عليه السلام من الحزن، كان كبيرا من الذنوب، وقد

____________

(1) الفصول المختارة: ص 7.

الصفحة 50
قص الله تعالى قصتهم، وأخبر عن سؤالهم إياهم الاستغفار عن توبتهم وندمهم، فإن كان الحسد لا يخرج عن الايمان، بما حكي عن الحسن من الاستدلال، فالكبير من الذنوب أيضا لا يخرج من الايمان بذلك بعينه، وهذا نقض مذهب أهل الاعتزال.

فلم يرد أحد منهم جوابا (1).

(738)
المفيد والمخالف

سئل الشيخ - أيده الله - في مجلس لبعض القضاة، وكان فيه جمع كثير من الفقهاء والمتكلمين، فقيل له: ما الدليل على إبطال القياس في الاحكام الشرعية؟

فقال الشيخ - أدام الله عزه -: الدليل على ذلك أنني وجدت الحكم الذي تزعم خصومي أنه أصل يقاس عليه ويستخرج منه الفرع، قد كان جائزا من الله سبحانه التعبد في الحادثة التي هو حكمها بخلافه مع كون الحادثة على حقيقتها وبجميع صفاتها، فلو كان القياس صحيحا لما جاز في العقول التعبد في الحادثة بخلاف حكمها، إلا مع اختلاف حالها، وتغير الوصف عليها، وفي جواز ذلك على ما وصفناه، دليل على إبطال القياس في الشرعيات.

فلم يفهم السائل معنى هذا الكلام، ولا عرفه، والتبس على الجماعة كلها طريقه، ولم يلح لاحد منهم، ولا فطن به، وخلط السائل وعارض على غير ما سلف، فوافقه الشيخ أدام - الله عزه - على عدم فهمه للكلام، وكرره عليه، فلم يحصل له معناه.

قال الشيخ - أيده الله -: فاضطررت إلى كشفه على وجه لا يخفى على

____________

(1) الفصول المختارة: ص 11.

الصفحة 51
الجماعة، فقلت: إن النبي صلى الله عليه وآله نص على تحريم التفاضل في البر، فكان النص في ذلك أصلا، زعمتم أيها القايسون، أن الحكم بتحريم التفاضل في الارز مقيسا عليه وأنه الفرع له، وقد علمنا أن في العقل يجوز إن كان يتعبد القديم سبحانه وتعالى بإباحة التفضل في البر، وهو على جميع صفاته بدلا من تعبده بخظره فيه، فلو كان الحكم بالخظر لعلة في البر، أو صفة هو عليها لاستحال ارتفاع الخظر إلا بعد ارتفاع العلة أو الوصف، وفي تقديرنا وجوده على جميع الصفات والمعاني التي يكون عليها مع الخظر عند الاباحة، دليل على بطلان القياس فيه، ألا ترى أنه لما كان وصف المتحرك إنما لزمه لوجود الحركة، أو لقطعه المكانين استحال توهم حصول السكون له في الحقيقة مع وجود الحركة، أو قطعه للمكانين، وهذا بين لمن تدبره، فلم يأت القوم بشئ يجب حكايته.

قال الشيخ - أدام الله عزه -: ثم جرى هذا الاستدلال في مجلس آخر فاعترض بعض المعتزلة فقال: ما أنكرت على من قال لك: إن هذا الدليل إنما هو على من زعم أن الشرعيات علل موجبة كعلل العقليات، وليس في الفقهاء من يذهب إلى ذلك، وإنما يذهبون إلى أنها سمات وعلامات غير موجبة، لكنها دالة على الحكم، ومنبئة عنه، وإذا وكانت سمات وعلامات لم يمتنع من تقدير خلاف الحكم على الحادثة، مع كونها على صفاتها، وذلك مسقط لما اعتمدت عليه.

قال الشيخ أيده - الله تعالى -: فقلت له: ليس مناقضة الفقهاء الذين أو مأت إليهم حجة علي فيما أعتمدته، وقد ثبت أن القياس هو حمل الشئ على نظيره في الحكم بالعلة الموجبة له في صاحبه، فإذا وضع هؤلاء القوم هذه السمة على غير الحقيقة فأخطأوا، لم يخل خطأهم بموضع الاعتماد، مع أن الذي قدمته يفسد هذا الاعتراض أيضا، وذلك أن السمة والعلامة إذا كانت تدل على حكم

الصفحة 52
من الاحكام فمحال وجودها، وهي لا تدل، لان الدليل لا يصح ان يخرج عن حقيقته، فيكون تارة دليلا، وتارة ليس بدليل، وإذا كنتم تزعمون أن العلامة هي صفة من صفات المحكوم عليه بالحكم الذي ورد به النص فقد جرت مجرى العلة في استحالة وجودها مع عدم مدلولها، كما يستحيل وجود العلة مع عدم معلولها، وليس بين الامرين فصل.

فخلط هذا الرجل تخليطا بينا، ثم ثاب إليه فكره، فقال: هذه السمات عندنا سمعية طارئة على الحوادث، ولسنا نعلمها عقلا ولا اضطرارا، وإنما نعلمها سمعا وبدليل السمع، وعندنا مع ذلك أن العلل السمعية والادلة السمعية قد تخرج أحيانا عن مدلولها ومعلولها، وهي كالاخبار العامة التي تدل على استيعاب الجنس بإطلاقها، ثم تكون خاصة عند قراينها، وهذا فرق بين الامور العقلية والسمعية.

قال الشيخ - أيده الله -: فقلت له: إن كانت هذه السمات سمعية طارئة على الحوادث، وليست من صفاتها اللازمة لها، وإنما هي معان متجددة فيجب أن يكون الطريق إليها السمع خاصة دون العقل والاستنباط، لانها حينئذ تجري مجرى الاسماء التي هي الالقاب، فلا يصل عاقل إلى حقايقها إلا بالسمع الوارد بها، ولو كان ورد بها سمع البطل القياس، لانه كان حينئذ يكون نصا على الحمل، كقول القائل: اقطعوا زيدا فقد سرق من حرز، وإنما استحق القطع، لانه سرق من حرز لا لغير ذلك من شئ يضاد هذا الفعل أو يقاربه، وهذا نص على قطع كل سارق من حرز إذا كان التقييد فيه على ما بيناه فإن كنتم تذهبون في القياس إلى ما ذكرناه، فالخلاف بيننا وبينكم في الاسم دون المعنى، والمطالبة لكم بعده بالنصوص الواردة في سائر ما استعملتم فيه القياس، فإن ثبت لكم زال المراء بيننا وبينكم، وإن لم يثبت علمتم أنكم إنما تدفعون عن مذاهبكم بغير أصل معتمد، ولا برهان يلجأ إليه. فقال: لسنا نقول: إن

الصفحة 53
النص قد ورد في الاصول حسما ذكرت، وإنما ندرك السمات بضرب من الاستخراج والتأمل.

قال الشيخ: - أيده الله -: هذا هو الذي يعجز عنه كل أحد إلا أن يلجأ إلى استخراج عقلي، وقد أفسدنا ذلك فيما سلف، والان فإن كنت صادقا فتعاط ذلك، فإن قدرت عليه، أقررنا لك بالقياس الذي أنكرناه، وإن عجزت عنه بأن ما حكمنا به عليك من دفاعك عن الاصل المعروف، فقال: لا يلزمني ذكر طريق الاستخراج، وجعل يضجع في الكلام، وبان عجزه.

فقال أبو بكر ابن الباقلاني: لسنا نقول هذه العلامات مقطوع بها، ولا معلومة فنذكر طريق استخراجها، ولكن الذي أذهب إليه وهو مذهب هذا الشيخ وأومأ إلى الاول: القول بغلبة الظن في ذلك، فما غلب في ظني عملت عليه، وجعلته سمة وعلامة، وإن غلب في ظن غير ي سواه، وعمل عليه أصاب ولم يخطئ، وكل مجتهد مصيب، فهل معك شئ على هذا المذهب؟

فقلت: هذا أضعف من جميع ما سلف وأوهن، وذلك: أنه إذا لم يكن لله تعالى دليل على المعنى ولا السمة، وإنما تعبدك على ما زعمت بالعمل على غلبة الظن، فلا بد أن يجعل لغلبة الظن سببا ولا لم يحصل ذلك في الظن، ولم يكن لغلبته طريق، وهب أنا سلمنا لك التعبد بغلبة الظن في الشريعة، ما الدليل على أنه قد يغلب فيما زعمت؟ وما السبب الموجب له؟ أرناه، فإنا نطالبك به، كما طالبنا هذا الرجل بجهة الاستخراج للسمة والعلة السمعية كما وصف فإن أوجدتنا ذلك ساغ لك، وإن لم توجدناه بطل ما اعتمدت عليه.

فقال: أسباب غلبة الظن معروفة، وهي كالرجل الذي يغلب في ظنه إن سلك هذا الطريق نجا، وإن سلك غيره هلك، وإن اتجر في ضرب من المتاجر ربح، وإن اتجر في غيره خسر، وإن ركب إلى ضيعة والسماء متغيمة (معتمة خ ل) مطر، وإن ركب وهي مصحية سلم، وإن شرب هذا الدواء انتفع، وإن

الصفحة 54
عدل إلى غيره استضر وما أشبه ذلك.

ومن خالفني في أسباب غلبة الظن قبح كلامه، فقلت له: إن هذا الذي أوردته لا نسبة بينه وبين الشريعة وأحكامها، وذلك أنه ليس شئ منه إلا وللخلق فيه عادة وبه معرفة، فإنما يغلب ظنونهم حسب عاداتهم، وأمارات ذلك ظاهرة لهم، والعقلاء يشتركون في أكثرها، وما اختلفوا فيه فلاختلاف عاداتهم خاصة، وأما الشريعة فلا عادة فيها ولا أمارة من درية ومشاهدة، لان النصوص قد جاءت فيها باختلاف المتفق في صورته وظاهر معناه، واتفاق المختلف في الحكم، وليس للعقول في رفع حكم منها وإيجابه مجال، وإذا لم يكن فيها عادة بطل غلبة الظن فيها.

ألا ترى أنه من لاعادة له بالتجارة، ولا سمع بعادة الناس فيها، لا يصح أن يغلب ظنه في نوع منها بربح ولا خسران، ومن لا معرفة له بالطرقات ولا بأغيارها ولا عادة له في ذلك، ولا سمع بعادة أهلها فليس يغلب ظنه بالسلامة في طريق دون طريق. ولو قدرنا وجود من لاعادة له بالمطر، ولا سمع بالعادة فيه لم يصح أن يغلب في ظنه مجئ المطر عند الغيم دون الصحو، وإذا كان الامر كما بيناه، وكان الاتفاق حاصلا على أنه لاعادة في الشريعة للخلق بطل ما ادعيت من غلبة الظن، وقمت مقام الاول في الاقتصار على الدعوى، فقال: هذا الان رد على الفقهاء كلهم، وتكذيب لهم فيما يدعونه من غلبة الظن، ومن صار إلى تكذيب الفقهاء كلهم قبحت مناظرته، فقلت له: ليس كل الفقهاء يذهب مذهبك في الاعتماد في المعاني والعلل على غلبة الظن، بل أكثرهم يزعم أنه يصل إلى ذلك بالاستدلال والنظر، فليس كلامنا ردا على الجماعة، وإنما رد عليك وعلى فرقتك خاصة فإن كنت تقشعر من ذلك فما ناظرناك إلاا له، ولا خالفناك إلا من أجله، مع أن الدليل إذا أكذب اكذب الجماعة، فلا حرج علينا في ذلك ولا لوم، بل اللوم لهم إذا صاروا إلى ما تدل الدلائل على بطلانه،

الصفحة 55
وتشهد بفساده، وليس قولي: إنكم معشر المتفقهة تدعون غلبة الظن، وليس الامر كذلك بأعجب من قولك وفرقتك أن الشيعة، والمعتزلة، وأكثر المرجئة، وجمهور الخوارج فيما يدعون العلم به من مذهبهم في التوحيد والعدل مبطلون كاذبون مغرورون، وأنهم في دعواهم العلم بذلك جاهلون، فأي شناعة تلزم في ما وصفت به أصحابك مع الدليل الكاشف عن ذلك، فلم يأت بشئ (1).

(739)
هشام والسائل

ومن حكايته - أي الشيخ المفيد رحمه الله - قال - أدام الله عزه -: سئل هشام ابن الحكم - رحمه الله - عما ترويه العامة من قول أمير المؤمنين عليه السلام لما قبض عمر، وقد دخل عليه وهو مسجى: (لوددت أن ألقى الله بصحيفة هذا المسجى) وفي حديث آخر لهم: (إني لارجو أن القى الله بصحيفة هذا المسجى).

فقال هشام: هذا حديث غير ثابت، ولا معروف الاسناد، وإنما حصل من جهة القصاص وأصحاب الطرقات، ولو ثبت لكان المعنى فيه معروفا، وذلك أن عمر واطأ أبا بكر والمغيرة وسالم مولى أبي حذيفة وأبا عبيدة على كتب صحيفة بينهم، يتعاقدون فيها على أنه إذا مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يورثوا أحدا من أهل بيته، ولم يولوهم مقامه من بعده، فكانت الصحيفة لعمر، إذ كان عماد القوم، والصحيفة التي ود أمير المؤمنين عليه السلام ورجا أن يلقى الله بها هي هذه الصحيفة فيخاصمه بها ويحتج عليه بمتضمنها.

والدليل على ذلك ماروته العامة عن ابي بن كعب أنه كان يقول في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله بعد أن أفضى الامر إلى أبي بكر بصوت

____________

(1) الفصول المختارة: ص 50 - 55.

الصفحة 56
يسمعه أهل المسجد: ألا هلك أهل العقدة، والله ما آسي عليهم، إنما آسي على من يضلون من الناس، فقيل له: يا صاحب رسول الله من هؤلاء أهل العقدة؟

وما عقدتهم؟ فقال: قوم تعاقدوا بينهم إن مات رسول الله لم يورثوا أحدا من أهل بيته ولا ولوهم مقامه، أما والله لئن عشت إلى يوم الجمعة لاقومن فيهم مقاما أبين به للناس أمرهم.

قال: فما أتت عليه الجمعة (1).

(740)
المفيد مع شيخ معتزلي

قال الشيخ - أيده الله -: قال لي شيخ من حذاق المعتزلة، وأهل التدين بمذهبه منهم: اريد أن أسألك عن مسألة كانت خطرت ببالي، وسألت عنها جماعة ممن لقيت من متكلمي الامامية بخراسان وفارس والعراق، فلم يجيبوا فيها بجواب مقنع. فقلت: سل على اسم الله، إن شئت.

فقال: خبرني عن الامام الغائب عندكم، أهو في تقية منك كما هو في تقية من أعدائه؟ أم هو في تقية من أعدائه خاصة؟

فقلت له: الامام عندي في تقية من أعدائه لا محالة وهو أيضا في تقية من كثير من الجاهلين به ممن لا يعرفه، ولا سمع به فيعاديه أو يواليه هذا على غالب الظن والعرف، ولست أنكر أن يكون في تقية من جماعة ممن تعتقد إمامته الان، فأما أنا فإنه لا تقية عليه مني، بعد معرفته بي على حقيقة المعرفة والحمد لله.

فقال: هذا والله جواب طريف لم أسمعه من أحد قبلك، فاحب أن تفصل لي وجوهه، وكيف صار في تقية ممن لا يعرفه، وفي تقية من جماعة تعتقد إمامته الان، وليس هو في تقية منك إذ عرفك؟

____________

(1) الفصول المختارة: ص 58، وراجع بهج الصباغة: ج 4 / 610.

الصفحة 57
فقلت له: أما تقيته من أعدائه، فلا حاجة لي إلى الكلام فيها لظهور ذلك، وأما تقيته ممن لا يعرفه، فإنما قلت ذلك على غالب الظن وظاهر الحال، وذلك أنه ليس يبعد أن لو ظهر لهم لكانوا بين امور: إما أن يسفكوا دمه بأنفسهم لينالوا بذلك المنزلة عند المتغلب على الزمان، ويجوزوا به المال والرياسة، أو يسعوا به إلى من يحل هذا الفعل به، أو يقبضوا عليه ويسلموه إليه، فيكون في ذلك عطبه وفي عطبه وهلاكه عظيم الفساد، وإنما غلب في الظن ذلك، لان الجاهل لحقه ليس يكون معه المعرفة التي تمنعه من السعي على دمه، ولا يعتقد في الكف عنه ما يعتقده المتدين بولايته، وهو يرى الدنيا مقبلة إلى من أوقع الضرر به، فلم يبعد منه ما وصفناه، بل قرب وبعد منه خلافه.

وأما وجه تقيته من بعض من يعتقد إمامته الان، فأن المعتقدين بذلك ليسوا بمعصومين من الغلط، ولا مأمونا عليهم الخطأ، بل ليس مأمونا عليهم العناد والارتداد، فلا ينكر أن يكون المعلوم منهم أنه لو ظهر لهم الامام عليه السلام أو عرفوا مكانه أن تدعوهم دواعي الشيطان إلى الاغراء به، والسعي عليه، والاخبار بمكانه، طمعا في العاجلة، ورغبة فيها، وإيثارا لها على الاجلة، كما دعت دواعي الشيطان امم الانبياء إلى الارتداد عن شرايعهم، حتى غيرها جماعة منهم، وبدلها أكثرهم، وكما عاند قوم موسى نبيهم وإمامهم هارون، وارتدوا عن شرعه الذي جاء به هو وأخوه موسى عليهما السلام واتبعوا السامري، فلم يلتفتوا إلى أمر هارون ونهيه، ولا فكروا في وعظه وزجره، وإذا كان ذلك على ما وصفت، لم ينكر أن تكون هذه حال جماعة من منتحلي الحق في هذا الزمان لارتفاع العصمة عنهم.

وأما حكمي لنفسي، فإنه ليس يختصني، لانه يعم كل من شاركني في المعنى الذي من أجله حكمت، وإنما خصصت نفسي بالذكر، لانني لا أعرف غيري عينا على اليقين مشاركا لي في الباطن فادخله معي في الذكر، والمعنى

الصفحة 58
الذي من أجله نفيت أن يكون صاحب الامر عليه السلام متقيا مني عند المعرفة بحالي لانني أعلم أنني عارف بالله عزوجل وبرسوله صلى الله عليه وآله وسلم وبالائمة أجمعين عليهم السلام، وهذه المعرفة تمنعني من إيقاع كفر غير مغفور، والسعي على دم الامام عليه السلام، بل إخافته عندي كفر غير مغفور، وإذا كنت على ثقة تعصمني من ذلك إلى ما أذهب إليه في الموافاة، فق أمنت أن يكون الامام في تقية مني، أو ممن شاركني فيما وصفت من إخواني، وإذا تحقق امورنا على ما ذكرت فلا يكون في تقية مني بعد معرفته أني على حقيقة المعرفة، إذ التقية إنما هي الخوف على النفس، والاخافة للامام لا تقع من عارف با لله عزوجل على ما قدمت.

فقال: فكأنك إنما جوزت تقية الامام من أهل النفاق من الشيعة، فأما المعتقدون للتشيع ظاهرا وباطنا فحالهم كحالك، وهذا يؤدي إلى المناقضة، لان المنافق ليس بمعتقد للتشيع في الحقيقة، وأنت قد أجزت ذلك على بعض الشيعة في الحقيقة، فكيف يكون هذا؟

فقلت له: ليس الامر كما ظننت، وذلك أن جماعة من معتقدي التشيع عندي غير عارفين في الحقيقة، وإنما يعتقدون الديانة على ظاهر القول بالتقليد والاسترسال دون النظر في الادلة، والعمل على الحجة، ومن كان بهذه المنزلة لم يحصل له الثواب الدائم، المستحق للمعرفة، المانع بدلالة الخبر به عن إيقاع كفر من صاحبه، فيستحق به الخلود في الجحيم، فتأمل ذلك.

قال: فقد اعترض الان هاهنا سؤال في غير الغيبة احتاج إلى معرفة جوابك عنه، ثم ارجع إلى المسألة في الغيبة: خبرني عن هؤلاء المقلدين من الشيعة الامامية أنهم كفار يستحقون الخلود بالنار؟ فإن قلت ذلك، فليس في الجنة من الشيعة الامامية إذا غيرك، لانا لا نعرف أحدا منهم على تحقيق النظر سواك، بل إن كان فيهم فلعلهم لا يكونون عشرين نفسا في الدنيا كلها، وهذا ما أظنك

الصفحة 59
تذهب إليه، وإن قلت: إنهم ليسوا بكفار، وهم يعتقدون التشيع ظاهرا وباطنا فهم مثلك، وهذا مبطل لما قدمت.

فقلت له: لست أقول: إن جميع المقلدة كفار، لان فيهم جماعة لم يكلفوا المعرفة ولا النظر في الادلة، لنقصان عقولهم عن الحد الذي به يجب تكليف ذلك، وإن كانوا مكلفين عندي للقول والعمل، وهذا مذهبي في جماعة من أهل السواد والنواحي الغامضة والبوادي والاعراب والعجم والعامة، فهؤلاء إذا قالوا وعملوا كان ثوابهم على ذلك كعوض الاطفال والبهائم والمجانين، وكان ما يقع منهم من عصيان يستحقون عليه العقاب في الدنيا، وفي يوم المآب طول زمان الحساب، أو في النار أحقابا، ثم يخرجون إلى محل الثواب. وجماعة من المقلدة عندي كفار، لان فيهم من القوة على الاستدلال ما يصلون به إلى المعارف، فإذا انصرفوا عن النظر في طرقها، فقد استحقوا الخلود في النار.

فأما قولك: إنه ليس في الدنيا أحد من الشيعة ينظر حق النظر إلا عشرون نفسا أو نحوهم، فإنه لو كنت صادقا في هذا المقال ما منع أن يكون جمهور الشيعة عارفين، لان طرق المعرفة قريبة يصل إليها كل من استعمل عقله، وإن لم يكن يتمكن من العبارة عن ذلك، ويسهل عليه الجدل، ويكون من أهل التحقيق في النظر، وليس عدم الحذق في الجدل، وإحاطة العلم بحدوده، والمعرفة بغوامض الكلام ودقيقه، ولطيف القول في المسألة دليلا على الجهل بالله عزوجل.

فقال: ليس أرى أن أصل معك الكلام في هذا الباب الان، لان الغرض هو القول في الغيبة، ولكن لما تعلق بمذهب غريب أحببت أن أقف عليه، وأنا أعود إلى مسألتي الاولى، واكلمك في هذا المذهب بعد هذا يوما آخر. أخبرني الاذان إذا لم يكن الامام في تقية منك، فما باله لا يظهر لك فيعرفك نفسه بالمشاهدة، ويريك معجزة، ويبين لك كثيرا من المشكلات، ويؤنسك بقربه،