البر بالوالدين(1)

وبر الوالدين وقاية من السخط(2)

مسألة: البر بالوالدين ـ في الجملة ـ واجب، على ما هو مفصل في الفقه، قال الله تعالى عن لسان النبي عيسى (عليه السلام): (وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً)(3).

وعن يحيى (عليه السلام) قال تعالى: (وبراً بوالديه ولم يكن جباراً عصياً)(4).

وربما يظهر منه إن البر في مقابل التجبر والشقاوة والمعصية، وحيث أن التجبر والعصيان محرم، فالبر واجب، فتأمل.

هذا إضافة إلى وقوعه في سياق الصلاة والزكاة وكونه وصية الله سبحانه الظاهرة ـ لولا القرينة ـ في الوجوب. والآيتان ـ بمعونة استصحاب الشرائع السابقة، بل دلالة الروايات على ذلك ـ كفيلتان بالمطلوب، فتأمل. قال تعالى: (وقضى ربك أ لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً)(5) ولشفع الإحسان بالوالدين بـ (لا تعبدوا إلا إياه) ولقوله: (قضى) أكبر الدلالة، كما لا يخفى.

وقال سبحانه: (أن اشكر لي ولوالديك)(6).

وقال تعالى: (ووصينا الإنسان بوالديه)(7).

نعم من البر ما هو مستحب أيضاً وهو الزائد على القدر الواجب، وقد ذكر هذا المبحث مفصلاً في علمي الأخلاق(8) والفقه.

قال(عليه السلام): (بر الوالدين واجب وان كانا مشركين)(9).

وقال (عليه السلام): (بر الوالدين أكبر فريضة)(10).

وقال (عليه السلام): (بر الوالدين وصلة الرحم يزيدان في الأجل)(11).

إسخاط الوالدين

مسألة: يحرم ما يوجب سخط الوالدين، أو سخط الله سبحانه وتعالى، أو كليهما، لأن الألف واللام في (السخط) قد يكون عوضاً عن المضاف إليه، وهو الله تعالى، أو الوالدين، أو كليهما، أي (وقاية من سخط الله أو الوالدين أو…) أو إنه للجنس مثلا.

قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): (رضا الله مع رضا الوالدين وسخط الله مع سخط الوالدين)(12).

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (يا علي رضا الله كله في رضا الوالدين، وسخط الله في سخطهما)(13).

وقال (عليه السلام): (فان رضاهما رضاء الله وسخطهما سخط الله)(14).

ولا يخفى أن جملة من العلماء ذهبوا إلى عدم وجوب طاعة الوالدين، إلا فيما إذا أوجب عدم الطاعة أذاهما، لا مطلقاً.

ثم المستثنى أيضا ليس على إطلاقه، فلو تأذى الوالدان من تجارة الولد مثلا، ونهياه عن العمل مطلقا، أو عن خصوص التجارة منه مثلأ، أو أمراه بطلاق زوجته، خصوصاً إذا كان له منها أولاد، لا تجب عليه الطاعة حتى لو أدى ذلك إلى سخطهما وأذاهما وعدم رضاهما، لأن إطلاقات أدلة (الطاعة) و(البر) منصرفة عن أمثال ذلك(15).

و(السخط) يعني: الغضب والكره(16).

هذا ويحتمل أن يكون المراد من (السخط) هو السخط التكويني(17) لأن عدم بر الوالدين يؤدي إلى انفصام المجتمع وتشققه وتفككه وكراهية بعضه لبعض، إذ الأبناء اذا لم يبروا آباءهم لم يبرهم أبناهم، بل كان ذلك مقتضياً لعدم تعاون إخوانهم وسائر أقاربهم معهم، وإذا انفصمت العائلة انفصم الاجتماع وتفكك(18)، وهو من أكبر أقسام السخط، ويؤيد الثاني: إن أغلب العلل عقلية، واللام هنا قد تكون للعهد الذهني، فتأمل.

وصلة الأرحام منسأة في العمر ومنماة للعدد(19)

صلة الأرحام

مسألة: تجب صلة الأرحام، وتستحب بعض درجاتها، كما تستحب في بعض الأرحام، أصلاً وفصلاً، قال تعالى: (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام)(20).

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (صلة الرحم تزيد في العمر)(21).

وقال (عليه السلام): (صلة الأرحام تزكي الأعمال)(22).

وقال (عليه السلام): (صلة الأرحام تثمر الأموال وتنسيء في الآجال)(23).

وقال (عليه السلام): (صلة الرحم تزيد في الرزق)(24).

وكل من (الصلة)(25) و(الأرحام)(26) موضوعان عرفيان، بمعنى: أن العرف هـو المرجع في تشخيص ما هو صلة وما ليس بصلة، ومن هو رحم ومن ليس برحم.

نعم لا يبعد الفرق بين الأرحام القريبة والبعيدة(27) وربما يحتمل أن الرحم البعيدة البعيدة جداً ـ مما يصدق عليها مع ذلك رحم لا كمثل القرابة معه في آدم وحواء (عليهما السلام) ـ يستحب صلتها وليست بواجبة.

قطع الرحم

مسألة: وكما تجب صلة الرحم يحرم قطعها، والكلام في القطع هو الكلام في صلة الرحم، من جهة الخصوصيات موضوعاً وحكماً، مضافاً ومضافاً إليه، وقد ذهب العديد من الفقهاء(28) ـ وهو المختار ـ إلى أن قطع الرحم ليست معصية فحسب،بل هي من الكبائر أيضاً، قال تعالى: (فهل عسيتم ان توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم اولئك الذين لعنهم الله)(29).

وقال الصادق (عليه السلام): (لا يجد ريح الجنة عاق ولا قاطع رحم)(30).

وقال (عليه السلام): (من قطع رحمه قطع الله عنه رحمته يوم يلقاه)(31).

وقال (عليه السلام): (ما آمن بالله من قطع رحمه)(32).

السعي لطول العمر(33)

مسألة: يستحب أن يأتي الإنسان بما يؤدي إلى طول عمره، من الأسباب والعوامل الجسمانية والنفسانية والغيبية، إذ قد ذكرت (عليها السلام) أن الله سبحانه جعل لصلة الرحم ـ الواجبة في الجملة والراجحة مطلقا ـ طول العمر ثواباً وجزاءً، وقد تقدم وجه الاستدلال، وقد ورد: (وان تطيل عمري وتمد في أجلي)(34) و: (وان تجعل فيما تقضي وتقدر ان تطيل عمري)(35) و: (اسألك ان تطيل عمري في طاعتك)(36) و: (وان تصلي على محمد وآل محمد وأن تطيل عمري)(37) و: (وطول العمر وحسن الشكر)(38) وما أشبه ذلك.

ولما سئل (صلى الله عليه وآله وسلم) عن السعادة؟ قال: (طول العمر في طاعة الله)(39).

أما سؤال علي (عليه الصلاة والسلام) والزهراء (صلوات الله عليها) من الله تعالى الموت ـ كما هو المشهور(40) فهو للتزاحم من باب قاعدة (الأهم والمهم) ولبيان المظلومية وغير ذلك.

هذا وقد قال تعالى مخاطباً اليهود (قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم انكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولا يتمنونه أبداً بما قدمت أيديهم والله عليهم بالظالمين)(41).

ثم ان تأثير صلة الرحم في طول العمر وزيادة العدد، يمكن أن يكون بالأسباب الغيبية، ويمكن أن يكون بالأسباب الظاهرية، فإن من يصل رحمه يكون مرتاح الوجدان، مطمئن الضمير، واطمئنان الضمير وسكون النفس يوجبان طول العمر، لتأثير كل من الروح والبدن في الآخر، كما ذكرناه في مبحث آخر من هذا الكتاب، إضافـة إلى أن صـلة الرحم يوجب الحيـلولة دون كثير من النزاعات ـ التي تتولد وتتزايد من قطع الرحم واستمراره ـ ومن الواضح تأثير النزاعات على تحطيم الأعصاب وتدمير الصحة، وقد فصلنا البحث في كتاب الآداب والسنن(42)، وربما يشير إلى ذلك قوله (عليه السلام): (صلة الأرحام تحسن الخلق وتسمح الكف وتزيد في الرزق وتنسئ في الأجل)(43).

وكذلك الأمر في تأثير صلة الرحم في تكاثر العدد لما سبق، والظاهر انه لا مانعة من الجمع بين الوجهين السابقين(44).

 

1 - حول هذا المبحث يراجع (الفقه: الواجبات والمحرمات) و(الفقه: الآداب والسنن) و(الفضيلة الإسلامية) و(الاخلاق الاسلامية) للإمام المؤلف.

2 - وفي بعض النسخ: (السخطة) راجع كشف الغمة ج1 ص484 فاطمة عليها السلام.

3 - سورة مريم: الآية 32.

4 - سورة مريم: الآية 14.

5 - سورة الإسراء: الآية 23.

6 - سورة لقمان: الآية 14.

7 - سورة الأحقاف: الآية 15.

8 - راجع (جامع السعادات) للمولى النراقي (قدس سره).

9 - عيون أخبار الرضا(عليه السلام) ج2 ص124 ح1 باب ما كتبه الرضا عليه السلام للمأمون في محض الإسلام وشرايع الدين.

10 - غرر الحكم ودرر الكلم ص407 ح9339 الفصل الثالث في الوالد والولد.

11 - الزهد ص36 ح94 باب بر الوالدين والقرابة والعشيرة والقطيعة.

12 - روضة الواعظين ص368 مجلس في ذكر وجوب بر الوالدين. ومشكاة الأنوار ص162 الفصل الرابع عشر في حقوق الوالدين وبرهما.

13 - جامع الأخبار ص83 الفصل الأربعون في فضيلة بر الوالدين.

14 - تفسير القمي ج2 ص149 سورة العنكبوت.

15 - راجع موسوعة الفقه، ج93 كتاب المحرمات ص259 وفيه: (ثم انهما اذا تأذيا لعدم اطاعة الولد لهما، فالظاهر انه اذا كان أمرهما يوجب هدم حياة الولد العادية لم تجب الطاعة،و الا وجبت، لانصراف النصوص عن مثل ذلك، فاذا قال الوالدان لولدهما: تزوج بالبنت الفلانية، او لا تسافر في تجارتك الكذائية، او افتح دكانا في المحل الفلاني لا المحل الفلاني، أو طلق زوجتك، او ما اشبه ذلك، لم يجب على الولد الطاعة، بل له المخالفة وجريه العادي، لكن مع التأدب في الكلام و الملايمة في التخلص، والبحث بالنسبة الى حقوق الوالدين وعقوقهما طويل والروايات في الأمرين كثيرة، نكتفي منه بهذا القدر). انتهى

16 - وفي لسان العرب مادة (سخط): (السٌخط والسَخط: ضد الرضا.. وسخط الشيء سخطاً: كرهه، وسخط أي غضب فهو ساخط، وأسخطه: اغضبه، تقول: اسخطني فلان فسخطت سخطاً.. السَخط والسخط: الكراهية للشيء وعدم الرضا به).

17 - فينبغي على هذا، تفسير السخط بـ (الكره) كما هو أحد معانيه، لا (الغضب) فتأمل.

18 - ‎راجع كتاب (العائلة) للإمام المؤلف (دام ظله).

19 - وفي بعض النسخ: (وصلة الأرحام منماة للعدد وزيادة في العمر) راجع دلائل الإمامة ص33 حديث فدك.

20 - سورة النساء: الآية 1.

21 - غوالي اللئالي ج1 ص46 الفصل الرابع. وكنز الفوائد ص157 فصل في الكلام في الآجال.

22 - تحف العقول ص 229.

23 - غرر الحكم ودرر الكلم ص406 ح9308، الفصل الثاني في الرحم.

24 - معاني الأخبار ص264 ح1 باب معنى تثقل الرحم.

25 - الصلة هنا بمعنى: البر [مجمع البحرين].

26 - الرحم: من يجمع بينك وبينه نسب[مجمع البحرين] فيخرج بذلك الترابط السبـبي كأقارب الزوجة للزوج وبالعكس، وفي (لسان العرب): (الرحم: القرابة، وذو الرحم هم القرابة، وخصها البعض بالقرابة من جهة الأب)، وقيدها بعض بنمط آخر: (المحارم الذين يحرم التناكح بينهم)، والصحيح ما ذهب إليه المؤلف، والذي يبدو أن المعنى العرفي له: هو القرابة النسبية بمعنى كل ذي رحم وإن بعد ولكن إلى الحد الذي يسميه العرف رحماً، راجع سفينة البحار مادة (رحم).

27 - أي في مراتب الاستحباب مثلاً.

28 - ومنهم الشهيد (قدس سره) في القواعد. وراجع أيضاً موسوعة الفقه ج93 كتاب المحرمات ص305، وفيه: (لا اشكال في ان قطع الرحم من الكبائر، وكل واحد من الرحم والقطع موضوعان عرفيان، وفي مورد الشك المرجع الأصول).

29 - سورة محمد: الآيتان 22 و23.

30 - وسائل الشيعة: ج3 ص369 ب23 ح11. ومستطرفات السرائر ص595. ومثله في معاني الأخبار ص330 ح1 باب معنى الحيوف والزنوق والجواض والجعظري. وارشاد القلوب ص179 ب51.

31 - فضائل الأشهر الثلاثة ص77 ح61 كتاب فضائل شهر رمضان. وروضة الواعظين ص345 مجلس في ذكر فضل شهر رمضان.

32 - غرر الحكم ودرر الكلم ص407 ح9327 الفصل الثاني في الرحم.

33 - راجع موسوعة الفقه: كتاب (المسائل المتجددة).

34 - العدد القوية ص381.

35 - المقنعة ص341 باب الدعاء في كل يوم منه وشرحه. والإقبال ص24 دعاء بعد كل فريضة. والبلد الأمين ص226 دعاء السحر لعلي بن الحسين(عليه السلام).

36 - الإقبال ص25.

37 - الإقبال ص26.

38 - المقنعة ص192 باب دعاء الوداع، وتدعو في آخر ليلة من الشهر.

39 - مجموعة ورام ج1 ص92.

40 - راجع بحار الأنوار ج43 ص177 ب7 ح15 عن فضة ان فاطمة الزهراء عليها السلام كانت تقول: (يا الهي عجل وفاتي سريعا). وفي علل الشرايع ص43 باب38: عن نبي من الأنبياء انه قال: (سيدي قد ترى ضيق مكاني وشدة كربتي، فارحم ضعف ركني وقلة حيلتي وعجل بقبض روحي ولا تؤخر إجابة دعائي).

41 - سورة الجمعة: الآية 6 و 7.

42 - راجع موسوعة الفقه ج94-97 كتاب الآداب والسنن.

43 - الكافي: ج2 ص151 ح6 باب صلة الرحم.

44 - أي القول بأن تأثير صلة الرحم في طول العمر وزيادة العدد لأسباب غيبية أو لأسباب ظاهرية.