فهرس الكتاب

موقفها ومكانتها عند الله عز وجل يوم القيامة

1ـ عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: لفاطمة وقفة على باب جهنم فإذا كان يوم القيامة كتب بين عيني كل رجل: مؤمن أو كافر، فيؤمر بمحب قد كثرت ذنوبه إلى النار، فتقرأ بين عينيه محباً، فتقول: إلهي وسيدي سميتني فاطمة، وفطمت بين من تولاني وتولى ذريتي من النار، ووعدك الحق، وأنت لا تخلف الميعاد.

فيقول الله عز وجل: صدقت يا فاطمة إني سميتك فاطمة، وفطمت بك من أحبك وتولاك وأحب ذريتك وتولاهم من النار، ووعدي الحق وأنا لا أخلف الميعاد، وإنما أمرت بعبدي هذا إلى النار لتشفعي فيه، فأشفعك، ليتبين لملائكتي وأنبيائي ورسلي وأهل الموقف موقفك مني ومكانتك عندي، فمن قرأت بين عينيه مؤمناً فجذبت بيده وأدخلته الجنة(1).

2ـ عن النبي صلى الله عليه وآله قال: إن الله تعالى إذا بعث الخلائق من الأولين والآخرين نادى منادي ربنا من تحت عرشه: يا معشر الخلائق غضوا أبصاركم لتجوز فاطمة بنت محمد سيدة نساء العالمين على الصراط، فتغض الخلائق كلهم أبصارها، فتجوز فاطمة على الصراط، لا يبقى أحد في القيامة إلا غض بصره عنها إلا محمد وعلي والحسن والحسين والطاهرين من أولادهم، فإنهم أولادها، فإذا دخلت الجنة بقي مرطها(2) ممدوداً على الصراط، طرف منه بيدها وهي في الجنة، وطرف في عرصات القيامة، فينادي منادي ربنا: يا أيها المحبون لفاطمة تعلقوا بأهداب(3) مرط فاطمة سيدة نساء العالمين. فلا يبقى محب لفاطمة إلا تعلق بهدب من أهداب مرطها حتى يتعلق بها أكثر من ألف فئام وألف فئام. قالوا: كم فئام واحد؟ قال: ألف ألف، ينجون بها من النار(4).

3ـ عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إذا كان يوم القيامة نصب لفاطمة عليها السلام قبة من نور، وأقبل الحسين صلوات الله عليه، رأسه في يده، فإذا رأته شهقت شهقة لا يبقى في الجمع ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا عبد مؤمن إلا بكى لها(5).

4ـ عن الصادق عليه السلام قال: قال جابر لأبي جعفر عليه السلام: جعلت فداك يا ابن رسول الله حدثني بحديث من فضل جدتك فاطمة إذا أنا حدثت به الشيعة فرحوا بذلك. قال أبو جعفر عليه السلام: حدثني أبي، عن جدي، عن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: إذا كان يوم القيامة نصب للأنبياء والرسل منابر من نور، فيكون منبري أعلى منابرهم يوم القيامة، ثم يقول الله: يا محمد اخطب، فأخطب بخطبة لم يسمع أحد من الأنبياء والرسل بمثلها، ثم ينصب للأوصياء منابر من نور، وينصب لوصيي علي بن أبي طالب في أوساطهم منبر من نور فيكون منبره أعلى منابرهم، ثم يقول الله: يا علي اخطب، فيخطب بخطبة لم يسمع أحد من الأوصياء بمثلها، ثم ينصب لأولاد الأنبياء والمرسلين منابر من نور فيكون لابني وسبطي وريحانتي أيام حياتي منبر من نور، ثم يقال لهما: اخطبا، فيخطبان بخطبتين لم يسمع أحد من الأولاد الأنبياء والمرسلين بمثلها.

ثم ينادي المنادي وهو جبرائيل عليه السلام: أين فاطمة بنت محمد؟ أين خديجة بنت خويلد؟ أين مريم بنت عمران؟ أين آسية بنت مزاحم؟ أين أم كلثوم أم يحيى بن زكريا؟ فيقمن، فيقول الله تبارك وتعالى: يا أهل الجمع لمن الكرم اليوم؟ فيقول محمد وعلي والحسن والحسين: لله الواحد القهار، فيقول الله تعالى: يا أهل الجمع إني قد جعلت الكرم لمحمد وعلي والحسن والحسين وفاطمة، يا أهل الجمع طأطئوا الرؤوس، وغضوا الأبصار، فإن هذه فاطمة تسير إلى الجنة. فيأتها جبرائيل بناقة من نوق الجنة مدبحة الجنبين، خطامها من اللؤلؤ الرطب، عليها رحل من المرجان، فتناخ بين يديها فتركبها، ويبعث الله مائة ألف ملك ليسيروا عن يمينها. ويبعث الله مائة ألف ملك ليسيروا عن يسارها، ويبعث إليها مائة ألف ملك يحملونها على أجنحتهم، حتى يصيروها على باب الجنة.

فإذا صارت عند باب الجنة تلتفت، فيقول الله: يا بنت حبيبي ما التفاتك، وقد أمرت بك إلى جنتي؟ فتقول: يا رب أحببت أن يعرف قدري في مثل هذا اليوم. فيقول الله: يا بنت حبيبي ارجعي فانظري من كان في قلبه حب لك أو لأحد من ذريتك خذي بيده فأدخليه الجنة.

قال أبو جعفر عليه السلام: والله يا جابر إنها ذلك اليوم لتلتقط شيعتها ومحبيها كما يلتقط الطير الحب الجيد من الحب الردي. فإذا صار شيعتها معها عند باب الجنة يلقي الله في قلوبهم أن يلتفتوا، فإذا التفتوا يقول الله: يا أحبائي ما التفاتكم، وقد شفعت فيكم فاطمة بنت حبيبي؟ فيقولون: يا رب أحببنا أن يعرف قدرنا في مثل هذا اليوم، فيقول الله: يا أحبائي ارجعوا وانظروا من أحبكم لحب فاطمة، انظروا من أطعمكم لحب فاطمة، انظروا من كساكم لحب فاطمة، انظروا من سقاكم شربة في حب فاطمة، انظروا من رد عنكم غيبة في حب فاطمة، فخذوا بيده وأدخلوه الجنة.

قال أبو جعفر عليه السلام: والله لا يبقى في الناس إلا شاك أو كافر أو منافق، فإذا صاروا بين الطبقات نادوا كما قال الله تعالى: (فما لنا من شافعين، ولا صديق حميم)(6) فيقولون: (فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين)(7). قال أبو جعفر عليه السلام: هيهات هيهات منعوا ما طلبوا، (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون)(8) (9).

5 ـ عن ابن عباس قال: سمعت أمير المؤمنين عليه السلام يقول: دخل رسول الله صلى الله عليه وآله ذات يوم على فاطمة وهي حزينة، فقال لها: ما حزنك يا بنية؟ قالت: يا أبت ذكرت المحشر ووقوف الناس عراة يوم القيامة، فقال: يا بنية إنه ليوم عظيم ولكن قد أخبرني جبرائيل عن الله عز وجل أنه قال: أول من ينشق عنه الأرض يوم القيامة أنا، ثم أبي إبراهيم، ثم بعلك علي بن أبي طالب عليه السلام، ثم يبعث الله إليك جبرائيل في سبعين ألف ملك، فيضرب على قبرك سبع قباب من نور، ثم يأتيك إسرافيل بثلاث حلل من نور، فيقف عند رأسك فيناديك: يا فاطمة بنت محمد قومي إلى محشرك.

فتقومين آمنة روعتك، مستورة عورتك، فيناولك إسرافيل الحلل فتلبسينها، ويأتيك روفائيل بنجيبة من نور زمامها من لؤلؤ رطب، عليها محفة(10) من ذهب فتركبينها، ويقود روفائيل بزمامها، وبين يديك سبعون ألف ملك بأيديهم ألوية التسبيح، فإذا جد بك السير استقبلتك سبعون ألف حوراء يستبشرون بالنظر إليك، بيد كل واحدة منهن مجمرة من نور يسطع منها ريح العود من غير نار، وعليهن أكاليل الجوهر مرصعة بالزبرجد الأخضر، فيسرعن عن يمينك.

فإذا سرت من قبرك استقبلتك مريم بنت عمران في مثل من معك من الحور، فتسلم عليك، وتسير هي ومن معها عن يسارك، ثم تستقبلك أمك خديجة بنت خويلد أول المؤمنات بالله وبرسوله، ومعها سبعون ألف ملك بأيديهم ألوية التكبير، فإذا قربت من الجمع استقبلتك حواء في سبعين ألف حوراء، ومعها آسية بنت مزاحم فتسيران هما ومن معهما معك، فإذا توسطت الجمع وذلك أن الله يجمع الخلائق في صعيد واحد فتستوي بهم الأقدام، ثم ينادي مناد من تحت العرش يسمع الخلائق: غضوا أبصاركم حتى تجوز فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله ومن معها. فلا ينظر إليك يومئذ إلا إبراهيم خليل الرحمن، وعلي بن أبي طالب، ويطلب آدم حواء فيراها مع أمك خديجة أمامك.

ثم ينصب لك منبر من النور فيه سبع مراق، بين المرقاة إلى المرقاة صفوف الملائكة، بأيديهم ألوية النور، ويصطف الحور العين عن يمين المنبر وعن يساره، وأقرب النساء منك عن يسارك حواء وآسية، فإذا صرت في أعلى المنبر أتاك جبرائيل فيقول لك: يا فاطمة سلي حاجتك، فتقولين: يا رب أرني الحسن والحسين، فيأتيانك وأوداج الحسين تشخب دماً وهو يقول: يا رب خذ لي اليوم حقي ممن ظلمني. فيغضب عند ذلك الجليل، ويغضب لغضبه جهنم والملائكة أجمعون، فتزفر جهنم عند ذلك زفرة، ثم يخرج فوج من النار ويلتقط قتلة الحسين وأبناءهم وأبناء أبنائهم، ويقولون: يا رب إنا لم نحضر الحسين، فيقول الله لزبانية جهنم: خذوهم بسيماهم بزرقة الأعين، وسواد الوجوه، خذوا بنواصيهم فألقوهم في الدرك الأسفل من النار، فإنهم كانوا أشد على أولياء الحسين من آبائهم الذين حاربوا الحسين فقتلوه. فتسمعين أشهقتهم في جهنم.

ثم يقول جبرائيل: يا فاطمة سلي حاجتك، فتقولين: يا رب شيعتي، فيقول الله: قد غفرت لهم، فتقولين: يا رب شيعة ولدي، فيقول الله: قد غفرت لهم، فتقولين: يا رب شيعة شيعتي، فيقول الله: انطلقي فمن اعتصم بك فهو معك في الجنة. فعند ذلك تود الخلائق أنهم كانوا فاطميين، فتسيرين ومعك شيعتك وشيعة ولدك وشيعة أمير المؤمنين آمنة روعاتهم، مستورة عوراتهم، قد ذهبت عنهم الشدائد، وسهلت لهم الموارد، يخاف الناس وهم لا يخافون، ويظمأ الناس وهم لا يظمئون. فإذا بلغت باب الجنة تلقتك اثنا عشر ألف حوراء لم يتلقين أحداً قبلك ولا يتلقين أحداً كان بعدك، بأيديهم حراب من نور، على نجائب من نور، جلالها من الذهب الأصفر والياقوت، أزمتها من لؤلؤ رطب، على كل نجيب نمرقة من سندس، فإذا دخلت الجنة تباشر بك أهلها، ووضع لشيعتك موائد من جوهر على عمد من نور، فيأكلون منها والناس في الحساب، وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون ـ الحديث(11).

أقول: إن الأخبار الماضية التي تدل على منزلتها وموقفها عليها السلام عند الله تعالى، وأنها تلتقط محبيها وشيعتها من النار كما يلتقط الطير الحب الجديد من الحب الردي، تهديك إلى نكتة لطيفة، وهي أن حبها بذاتها إيمان وحسنة، وبغضها كفر وسيئة، وكذلك حب سائر الأئمة المعصومين عليهم السلام، كما روي: أن حبها عليها السلام إيمان، وبغضها نفاق(12).

وفي خبر عن الصادق عليه السلام في تفسير (حي على خير العمل) قال: خير العمل الولاية. وفي خبر آخر: خير العمل بر فاطمة وولدها(13).

وعن سلمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا سلمان من أحب فاطمة ابنتي فهو في الجنة معي، ومن أبغضها فهو في النار. يا سلمان حب فاطمة ينفع في مائة من المواطن، أيسر ذلك المواطن الموت والقبر والميزان والمحشر والصراط والمحاسبة(14).

وفي حديث طويل: بسم الله الرحمن الرحيم، تحية من الله تعالى إلى محمد المصطفى وعلي المرتضى وفاطمة الزهراء والحسن والحسين سبطي رسول الله صلى الله عليه وآله، وأمان لمحبيهم يوم القيامة من النار(15). وهكذا... إلى كثير من أمثالها.

نقد وتحليل

تقدم منا في كتابنا (الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام) كلمة مع بعض المعاصرين في أن الولاية والاعتقاد بحق الأئمة المعصومين عليهم السلام وحبهم وبغض أعدائهم بنفسها حسنة وبذاتها عبادة، وهي عبادة القلب التي هي أعلى مرتبة وأشد أثراً من عمل الأعضاء. وفي هذا الكتاب لما بلغ الكلام إلى هذا الموقف اضطر بنا البحث إلى نقد ما ذهب إليه العلامة الأستاذ الشهيد المطهري ـ رضوان الله عليه ـ في كتابه القيم (العدل الإلهي)، وهو ما حاصله:

إن الفرق بين الشيعي وغير الشيعي يظهر في جانب الإيجاب والعمل لا في جانب السلب والنفي، يعني إذا فرضنا رجلين مسلمين، أحدهما الشيعي والآخر بخلافه، والحال أنهما عملا عملاً تاماً على وفق مذهبهما فحينئذ يتقدم الشيعي على غيره في الدنيا والآخرة، وأما إذا لم يعملا أصلاً فلا فرق بينهما في السعادة والشقاوة والتقدم والتأخر. ولا يخفى أن محصل هذا الكلام هو أن الاعتقادات الحقة مؤثرة إذا كانت مصحوبة بالعمل، وأما صرفها دون أي انضمام لا أثر لها أصلاً. وهذا بخلاف ما مر عليك من الأخبار الكثيرة والروايات المتواترة. ولسنا بصدد البحث التام عن ذلك، لأنه مضمار حسر همم الفحول عن الجولان فيه فضلاً عنا مع قلة بضاعتنا، والورود في هذا البحث يطلب الفحص عن أخبار الطينة وشرحها وهو خارج عن وسع مثلنا، فلنضرب عنه ونشير إلى مزال الكلام من الأستاذ (ره)، وبعض ما وسعنا من التحقيق، فحسب. ونحن نورد كلامه (ره) بنصه وفصه، ثم نتكلم عليه توضيحاً لمرامنا المتخذ من العقل والنقل:

قال (ره): (إن الفرق بين الشيعي وغيره يظهر عندما يلتزم الشيعي بالبرنامج العملي الذي وضع له من قبل زعمائه، ويلتزم غير الشيعي أيضاً ببرنامجه الديني، حينئذ يصبح الشيعي متقدماً على غيره في الدنيا وفي الآخرة معاً. فالفرق بينهما لا بد أن نبحث عنه في الجانب الإيجابي وليس في الجانب السلبي. ولا ينبغي أن نقول: لا بد أن يوجد اختلاف بين الشيعي وغيره في الوقت الذي يضع كل منهما منهاجه الديني تحت أقدامه. وإذا لم يكن بينهما اختلاف فما الفرق إذن بين الشيعي وغيره؟

وهذه الحالة شبيهة بما إذا راجع مريضان طبيبين، وقد ذهب أحدهما إلى طبيب حاذق، والآخر إلى طبيب غير حاذق، ولكنهما عندما استلما الدواء لم ينفذ أي منهما أوامر الطبيب فيه، بل تركاه خلف ظهورهما، ومن المتيقن حينئذ بقاء كل منهما على حاله إذا لم يزدد سوءً. وعندئذ يحتج المريض الأول قائلاً: ما هو الفرق بيني وبين من راجع الطبيب غير الحاذق؟ لماذا أبقى أنا مريضاً كما بقي هو على مرضه، مع أني راجعت طبيباً حاذقاً، وراجع هو طبيباً غير حاذق؟!

وليس من الصحيح أن نجعل الفرق بين علي عليه السلام وغيره في أننا لو لم نعمل بتعاليمه فسوف لن نرى سوءً، أما الآخرون فإنهم سوف يلقون عذاباً ونكراً، عملوا بنصائح قدوتهم أم لم يعملوا)(16).

أقول: هذا كلامه (ره) وفيه أن تشبيه علي عليه السلام بالطبيب الحاذق في غير موضعه، وأن قياسه قياس مع فارقه وفيه فروق:

1ـ إن الرجوع إلى الطبيب الحاذق له طريقية لا موضوعية، لأنه دال إلى رأي ونظر إن عمل المريض برأيه يرجى أن يبرأ من مرضه، فحسب ولهذا يكون الاختيار للمريض في الرجوع إليه، بخلاف الاعتقاد بالإمام عليه السلام والرجوع إليه، فإنه إلزام وعهد من الله تعالى إلى عباده ليس لهم فيه اختيار، كما أن النبي صلى الله عليه وآله لما ذكر الأئمة عليهم السلام بأسمائهم قال: (المقر لهم مؤمن، والمنكر لهم كافر)(17). وقال صلى الله عليه وآله: (يا حذيفة إن حجة الله بعدي عليك علي بن أبي طالب عليه السلام، الكفر به كفر بالله، والشرك به شرك بالله، والشك فيه شك في الله، والإلحاد فيه إلحاد في الله، والإنكار له إنكار لله، والإيمان به إيمان بالله...)(18).

2ـ إن صرف الرجوع إلى الطبيب لا يترتب عليه أثر ما لم يكن العمل بمقتضاه، بخلاف الإذعان والإقرار بالإمامة، فإنه بنفسه عبادة وطاعة، وله أجر على حده، فعليه إن مات الولي قبل العمل بأوامر الإمام عليه السلام والنتهاء بنواهيه يوجر حسب اعتقاده، وإن كان ذلك بعد بعض العذاب لعصيانه. مع أن نفس الولاء للإمام عليه السلام تذيب الأسقام النفسانية وتطهر الأرجاس الروحية، وهي الإكسير الأعظم الذي يقلب الماهية، فيجعل الشقي سعيداً، وهكذا..

فعن عبد الله بن مسعود قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وآله في بعض أسفاره، إذ هتف بنا أعرابي بصوت جهوري فقال: يا محمد، فقال له النبي صلى الله عليه وآله: ما تشاء؟ فقال: إن المرء يحب القوم ولا يعمل بأعمالهم، فقال النبي صلى الله عليه وآله: المرء مع من أحب(19).

وعنه صلى الله عليه وآله: إني لأرجو لأمتي في حب علي كما أرجو في قول لا إله إلا الله(20).

وعنه صلى الله عليه وآله: إن حبه (علي عليه السلام) يذيب السيئات كما تذيب النار الرصاص(21).

وعنه صلى الله عليه وآله: حب علي حسنة لا تضر معها سيئة، وبغضه سيئة لا تنفع معها حسنة(22).

وعن جعفر بن محمد عليهما السلام: حب علي عبادة وأفضل العبادة(23).

هذه وأمثالها أخبار متواترة لا يشك فيها، ونقل عن بعض الأعلام الكبار ـويقال إنه الوحيد البهبهاني(ره)ـ تأويل لها لا نرضاه، وهو: (إن معنى هذا الحديث (حب علي حسنة...) أنك إذا كنت محباً حقيقياً للإمام علي عليه السلام، فإن الذنوب لن تصبك بأذى، أي إذا كنت صادقاً في حبك لعلي عليه السلام أنموذج الإنسانية الكامل، وكانت طاعتك وعبوديتك وأخلاقك سائرة على منهجه بإخلاص دون رياء ولا نفاق، فإن ذلك سيحول بينك وبين ارتكاب الجرائم والذنوب، مثل اللقاح الذي يكسب الإنسان مناعة تحميه من الأمراض الملقح ضدها)(24).

فمحصل هذا القول أن الموالي لعلي عليه السلام لا يرتكب سيئة حتى يضره، وأن موجب هذا الترك حبه له عليه السلام، لكن هذا الوجه لا يغني شيئاً، لأن نفي الضرر المنفي عنه منفي بانتفاء موضوعه، وهذا المعنى لا يحتاج إلى هذا التكلف، ونحن لا ننكر أثر الحب الحقيقي، ولكن البحث فيما إذا كان السيئة موجودة.

قال العلامة المجلسي (ره): في ذيل حديث (لا يضر مع الإيمان عمل، ولا ينفع مع الكفر عمل): أي ضرراً عظيماً يوجب الخلود في النار(25).

نعم، يمكن أن يراد أن الموالين له عليه السلام إن زلت لهم قدم على الضلالة، ثبتت لهم قدم أخرى على الطاعة. والشاهد على ذلك أخبار:

عن أبي جعفر عليه السلام: قال رسول الله صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام: يا علي ما ثبت حبك في قلب امرء مؤمن، فزلت به قدم على الصراط إلا ثبتت له قدم أخرى حتى يدخله الله بحبك الجنة(26).

وعنه صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام: من أحبك ختــــم الله له بالأمن والإيمان، ومن أبغضـــك أماته الله ميتــــة جاهلية(27).

وكم لها من نظير أعرضنا عنها خوف التطويل. ولعل السر في ذلك أن الموالي وإن أمكن أن يرتكب الموبق من الخطايا والذنوب ويعمل عمل فسق وفجور، ولكنه طيب الروح، صافي النفس، طاهر الطينة.

لا يقال: كيف يمكن أن يكون بهذه المنزلة وصدر عنه من الأعمال المنافية؟ فإنه يقال: إن الأعمال الظاهرية وإن كانت غالباً منبعثة من اعتقاد الباطن، وفي الأمثال: (كل إناء يترشح بما فيه)، وأنه لما كانت الروح طيبة غير متلوث صدرت عنها الأعمال الحسنة، ولكن للأمور الخارجية آثار عارضة على النفس بحيث لا يخرجها عن أصلها وقد يغين عليها ويكدرها، فيصدر عنها ما لا يليق بها، ولكن هذه الآثار منشعبة عن تلك الأسباب، فإذا طهره الله تعالى لولايته لأهل الحق عليهم السلام بالتوبة أو بسائر الكفارات من مصيبة بمال أو ولد أو مرض أو رؤيا مهولة أو خوف يرد عليه من دولة الباطل أو التشديد عند الموت (كما ورد في الأخبار) صارت هذه السيئات إلى أصلها، وتبدلت بالحسنات، كما في قوله تعالى: (فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات)(28)، وليس هذا ببدع من إحسان الله تعالى بعباده.

وعن زيد النرسي قال: قلت لأبي الحسن موسى عليه السلام: الرجل من مواليكم يكون عارفاً يشرب الخمر، ويرتكب الموبق من الذنب، نتبرأ منه؟ فقال: تبرؤوا من فعله ولا تبرؤوا منه، أحبوه وأبغضوا عمله. قلت: فيسعنا أن نقول: فاسق فاجر؟ فقال: الفاسق الفاجر: الكافر الجاحد لنا، الناصب لأوليائنا، أبى الله أن يكون ولينا فاسقاً فاجراً وإن عمل ما عمل، ولكنكم تقولون: فاسق العمل فاجر العمل، مؤمن النفس، خبيث الفعل، طيب الروح والبدن(29).

وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: لما خلق الله آدم ونفخ فيه من روحه عطس آدم فقال: الحمد لله، فأوحى الله تعالى إليه: حمدني عبدي، وعزتي وجلالي لولا عبدان أريد أن أخلقهما في دار الدنيا ما خلقتك. قال: إلهي فيكونان مني؟ قال: نعم يا آدم، ارفع رأسك وانظر، فرفع رأسه فإذا مكتوب على العرش: (لا إله إلا الله، محمد نبي الرحمة، وعلي مقيم الحجة، من عرف حق علي زكى وطاب، ومن أنكر حقه لعن وخاب، أقسمت بعزتي وجلالي أن أدخل الجنة من أطاعه وإن عصاني، وأقسمت بعزتي أن أدخل النار من عصاه وإن أطاعني)(30).

قال العلامة المظفر (ره) في بيانه: لا شك أن الإقرار بالله وبنبوة محمد صلى الله عليه وآله شرط للإيمان، وكذا الإقرار بإمامة علي عليه السلام، بناء على أن إمامته بنص الله ورسوله، وأنها كالنبوة أصل من أصول الدين، لكن الإقرار بها فرع الإقرار بالله ورسوله، ومن أقر بها تم إيمانه، ومن لم يقر بها كان ناقص الإيمان وإن أقر بالله ورسوله.

فإذا عرفت هذا عرفت أن من أطاع علياً عارفاً بحقه ـ كما هو المراد بالحديث ـ كان مؤمناً مطيعاً لله ورسوله بطاعة علي عليه السلام، لأن طاعته له بما هو إمام من الله تعالى، مستلزمة للإيمان بهما وطاعتهما، فيكون صالحاً لدخول الجنة، وإن عصى الله في بعض الأحكام وعصى بها علياً أيضاً لأن عصيانه حينئذ عصيان مؤمن أهل للغفران.

كما أن من عصى علياً جاحداً لإمامته، عاص لله ورسوله، ومحل لدخول النار، وإن أطاعهما في الظاهر، لأن طاعته لهما ليست طاعة مؤمن حتى تكون مقبولة، كمن أطاع الله في الظاهر، وعصى رسول الله جاحداً لرسالته كأهل الكتاب، فصح ما في الحديث من قوله سبحانه: (أقسمت أن أدخل الجنة من أطاعه وإن عصاني، وأن أدخل النار من عصاه وإن أطاعني) أي في الظاهر.

كما يصح القول بأن من أطاع علياً كان من أهل النجاة والجنة وإن عصى رسول الله صلى الله عليه وآله، وإن من عصى علياً كان من أهل النار وإن أطاع رسول الله في الظاهر، وذلك كله لا ينافي أكرمية محمد صلى الله عليه وآله من علي عليه السلام كما هو ظاهر.

وبالجملة المراد بالحديث أن من أطاع الله في الظاهر، وعصى علياً منكراً لحقه، فهو من أهل النار لعدم إيمانه، وأن من أطاع علياً عارفاً بحقه، فهو من أهل الجنة وإن عصى الله في بعض الفروع، لأن عصيانه عصيان مؤمن، فيكون أهلاً للمغفرة والرحمة.

فذلك إشارة إلى إمامة أمير المؤمنين عليه السلام وأن الإقرار بها شرط للإيمان، وأنه لا عبرة بطاعة المسلمين ظاهراً الذين لم يقروا بالنص على علي عليه السلام واتبعوا غيره وعصوه(31).

وعلى هذا البيان يكون فرق عظيم بين الشيعي وغيره في جانب السلب والنفي أيضاً، وهو واضح بحمد الله. وليعلم أن الأخبار والأحاديث في أن الشيعة مغفور لها، وأنهم فائزون بالجنة، وأن الله يصفح عنهم، وأن شفاعة الأئمة عليهم السلام تشملهم، وأن سيئاتهم تتبدل حسنات، و... أكثر من أن تحصى، ولولا خوف الإطالة والخروج عن وسع المقالة لذكرنا شطراً معتداً به، ومن أراد الاطلاع عليها فليراجع (البحار) أبواب المعاد وأبواب الولاية في شتى مجلداته لا سيما ج68 منه.

الأخبار التقريعية

وهنا نكتة وهي أن الأئمة عليهم السلام سيواجهون كثيراً من الناس يعيبون على شيعتهم بأشياء منكرة لأعراض فاسدة، ثم يردونهم بجد بكلمات تبكيتية تكبتهم على وجوههم المنكوسة وأدبارهم المتبوبة، فمن تعجبه الاطلاع عليها فليراجع (البحار) ج68.

الجمع بين أخبار الباب

إن قيل: إن في قبال هذه الأخبار أخباراً تنافيها وتعارضها، وتعطي الأصالة بالعمل فحسب، كقول أمير المؤمنين عليه السلام: (إن ولي محمد صلى الله عليه وآله من أطاع الله وإن بعدت لحمته، وإن عدو محمد من عصى الله وإن قربت قرابته)(32). وكحديث جابر المذكور في (الكافي) ج2، ص74 باب الطاعة والتقوى، ونظائره، فكيف الجمع؟

قلنا: أما كلام أمير المؤمنين عليه السلام ففيه تعريض على الذين زعموا أنهم أولى بالخلافة لقرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وآله، كما قاله العلامة المغنية في شرحه ج4، ص273، والعلامة الخوئي في شرحه ج21، ص143، فإنه قال: فبين عليه السلام أن أولى الناس بمحمد صلى الله عليه وآله من أطاع الله، وأشار إلى أن استحقاقه للخلافة ليس باعتبار صلته المادية بالنبي صلى الله عليه وآله فقط، ولا تكون القرابة هي المناط التامة لاستحقاق الخلافة كما ادعاه قريش والمخالفين، بل القرابة الروحية والصلة المعنوية هي المناط في تصدي مقام الولاية والخلافة.

وأما سائر الأخبار فعمدة الغرض منها وجهان:

أحدهما : رعاية التقية وحسن المعاشرة مع المخالفين لئلا يصير سبباً لنفرتهم عن أئمتهم عليهم السلام وسوء القول فيهم، كما يستفاد ذلك من بيانات العلامة المجلسي (ره) في (البحار) و(المرآة) ذيل تلك الأخبار، والعلامة المولى محسن الفيض (ره).

والثاني هو عندي موجه بل هو الوجه فيها: أنهم عليهم السلام يرون من أمرهم إرشاد الناس ـ لا سيما أشياعهم ـ إلى إصلاح الأخلاق والعمل والسلوك إلى الله تعالى، وإصلاح اجتماعهم وابتنائها على تقوى من الله وإقامة العدل وانتشار الحسن وإيجاد التعاون وغيرها مما هو غرض الشارع وهدف الرسالة وإنزال الكتب، وإن هذه كلها أليق بشيعتهم وأحرى لهم وهو المتوقع منهم لأنها تناسب طينتهم وتوافق روحياتهم، بل الإشكال يتوجه إلى مخالفيهم النصاب بأنه كيف يصدر منهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأعمال الحسنة ظاهراً مع خبث طينتهم ورجس سريرتهم! فأمرهم عليهم السلام شيعتهم بالمعروف أمر طبيعي ليس بغريب، وإنما الكلام في الأخبار الرجائية لهم، وقد تكلمنا عليه بما يوضح المراد والحمد لله. هذا، فعلينا إن نضطر إلى التمثيل أن نمثل رجلين كلاهما ركبا الطريق إلى مقصد واحد، فأحدهما أخطأ الطريق، ويجد فيه ويسير بطمأنينة ووقار، والثاني أصاب ولكن يسير فيه بهزل وخبط، ومعلوم أن الأول لا ينال المقصد أصلاً بل كلما أسرع أبعد، والثاني يناله وإن كان بعد تعب ومشقة. وهذا مثل المخالف والشيعي، لا ما مثله الأستاذ (ره).

بقي هنا أمران:

الأول ـ عندي أن الأستاذ الشهيد المطهري (ره) مع ما نعرف منه من التتبع واجتهاده في المعارف الإلهية والفلسفة الدينية ومع ما نعلم منه من التعمق والتدبر، لبعيد منه أنه لم ير هذه الأخبار ولم يتلق هذه الأحاديث الشاحنة كتب الأخبار، كيف؟ وقد تعرض لبعض منها في كتابه القيم (جاذبه ودافعه علي عليه السلام) القسم الأول في قوة الجاذبة لعلي عليه السلام ص35ـ104، وبحث عن دور المحبة في تكوين الشخصية والملكات بما لا مزيد عليه، ولكن نظريته هذه في المسألة ناشئ عن سيطرة روحية الإصلاح في المجتمع الإسلامي وابتنائها على الأساس القويم عليه، وقد رأى أن الطريق الوحيد في هذا الغرض ما ذكره، وقد غفل عن لازم قوله المنافي لمرامه (ره). وإني لآ أعلمه إلا متفانياً في حب آل البيت عليهم السلام ومتمسكاً بحبل ولائهم الوثيقة.

الثاني ـ وصيتي إلى إخواني المحبين، وهي أنه لا تكن هذه الأخبار والأبحاث سبباً لغرورهم وموجباً لافتتانهم ومنشأ لجرأتهم على الله تعالى، بل عليهم أن يلازموا التقوى، ويركبوا طريق الاجتهاد، ويتأسوا بعلي وفاطمة وأولادهم المعصومين عليهم السلام بما أنهم مثل للإنسانية الكاملة، وأن لا يخطر ببالهم طائف العصيان فضلاً عن إتيانه، ولا يظهروا مودتهم ويخالفوهم بأعماله، فإن أعمالهم تعرض على الحجة المنتظر عليه السلام كل يوم، وقد يسوءه عليه السلام ما يرى في كتب الأعمال من السيئات. ولعمري لقد أجاد مولانا الصادق عليه السلام على ما حكي عنه:

تــــعصى الإله وأنت تظهر حبه          هذا لعمـــــرك فــي الفعال بديع

لو كــــان حـــبك صادقاً لأطعته          إن المحب لمن يحب مطيع(33)

وفي ختام البحث نتبرك بحديثين شريفين باعثين على العمل والاجتهاد:

1ـ عن الصادق عليه السلام: إن أحق الناس بالورع آل محمد وشيعتهم، كي تقتدي الرعية بهم(34).

2ـ وعنه عليه السلام: إذا أردت أن تعرف أصحابي فانظر إلى من اشتد ورعه، وخاف خالقه، ورجا ثوابه. فإذا رأيت هؤلاء، فهؤلاء أصحابي(35).

 

1 - البحار: ج8، ص51. 

2 - المرط، بالكسر: كساء من صوف أو غيره تلقيه المرأة على رأسها.

3 - الأهداب: جمع هدبة بالضم، طرة الثوب.

4 - البحار: ج8، ص68. 

5 - المصدر، ج43، ص221. 

6 - سورة الشعراء: الآيتان 100 ـ102. 

7 - الشعراء: الآيتان 100 ـ102. 

8 - الأنعام: الآية28. 

9 - البحار: ج8، ص51 ـ52. 

10 - بكسر الميم: مركب للنساء كالهودج.

11 - البحار: ج8، ص53 ـ55. 

12 - شرح الحديدي: ج16، ص282. 

13 - التوحيد: للصدوق، ص241. 

14 - مقتل الحسين عليه السلام، للخوارزمي، ص59، (ينابيع المودة) ص263. 

15 - المصدر، ص95. 

16 - العدل الإلهي: ص381 ـ383، تعريب محمد عبد المنعم الخاقاني.

17 - الوسائل: ج18، ص562. راجع أيضاً كتابنا (الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام) ص138 ـ144. 

18 - كتاب الطهارة، للشيخ الأعظم الأنصاري (ره) ص329. النظر السادس في النجاسات، فصل طهارة المخالف.

19 - البحار: ج27، ص102. 

20 - البحار: ج39، ص249. 

21 - المناقب المرتضوية، للعلامة الكشفي، ص123. وفي معناه (لسان الميزان) ج1، ص185. 

22 - ينابيع المودة: ص91، (البحار) ج39، ص304. 

23 - تاريخ بغداد: ج12، ص351. 

24 - العدل الإلهي: المعرب، ص383. 

25 - البحار: ج68، ص103. 

26 - البحار: ج39، ص305. 

27 - إحقاق الحق: ج7، ص138. 

28 - سورة الفرقان: الآية70. 

29 - البحار: ج68، ص147. 

30 - المستدرك: للحاكم النيسابوري، ج3، ص141، (ينابيع المودة) ص11 دون ذيله.

31 - دلائل الصدق: ج2، ص503 ـ504. 

32 - نهج البلاغة: قسم الحكم، الرقم 95. 

33 - البحار: ج47، ص24. 

34 - البحار: ج68، ص167 و190. 

35 - البحار: ج68، ص167 و190.