فاطمة الزهراء من المهد إلى اللحد

تأليف العلامة الخطيب السيد محمد كاظم القزويني

 

الإهداء

إلى سَيّدنا ومَولانا بقيّة العتْرَة الطَاهِرة الإِمَام المهدي المنْتظر (عليه السلام). إليْه أهدي هذه الصفحات المشرقة المتلألئة بحياة جدّته الصدّيقة الطّاهرة، ملكة الإسلام فاطمة الزهراء (صلوات الله عليها). وأنا واثق أن هذهِ الخِدْمَة الضئيلة ستقع منه موقع الرضَا والقَبول بإذن الله تعالى.

العراق كربلاء

محمد كاظم القزويني

 

المقَدمة

الحمد لله حمداً كثيراً كما يرضى، وصلى الله على سيدنا محمد المصطفى وآله الطاهرين سادات الورى.

وبعد: انقضت سنوات وأنا أُحدِّث نفسي أن أقوم بتأليف كتاب يتضمن ما تيسَّر من حياة الصدِّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء، عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها الصلاة والسلام.

كنت أشعر بضرورة هذا العمل، وكانت رغبتي ملحَّة جداً، وذلك لما كنت أجده من النقص الذي يشبه الفراغ في المكتبة العربية والإسلامية بالنسبة لهذه الشخصية.

ولا أقصد - بكلامي هذا - انتقاصَ الكتب والمؤلفات التي دوّنت حول ترجمة سيدة نساء العالمين، بل أقصد أن تلك المؤلفات - القديمة منها والحديثة - لا تسد الحاجة، ولا تملأ الفراغ الذي يشعر به كل من يريد الإطلاع على حياة السيدة الزهراء (عليها السلام).

وتلك المؤلفات لا تفي بالغرض، بل هي دون مقام السيدة فاطمة الزهراء ولا تؤدِّي ما تستحقه شخصية عزيزة رسول الله وأحب الناس إليه، لأن شخصية الصدِّيقة الطاهرة تستوجب التنويه والإشادة بها أكثر وأكثر من هذا.

ولا أدَّعي أنني أستطيع النهوض بهذا العبء الثقيل واستيفاء الغرض، وتحصيل الغاية كما ينبغي، بل أعترف بالعجز والقصور الملازمين لفكري ولساني وقلمي.

وهكذا انقضت الأيام والأعوام، والهواجس تعاودني بين فترة وأخرى وهناك العوائق التي تحول دون تحقيق هذه الأمنية.

وقبل فترة غير بعيدة هبَّت عليَّ عاصفة من الحوادث وخيَّمت على حياتي سحائب الهموم، فنذرت لله تعالى: إن كشف عني الضر والسوء أن أبادر إلى تأليف كتابٍ حول حياة الصدِّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام).

فكشف الله عني الضر برحمته، فله الحمد وله الشكر. وها أنا قد شرعت بتحرير هذه السطور والأوراق، وما أدري أين ينتهي بي المطاف، والله المستعان، وهو خير المستعان، وهو حسبي ونعم الوكيل في المبدأ والمآل وهو خير موفق ومعين.

كربلاء - العراق - محمد كاظم القزويني

26 جمادى الثانية 1392هـ.


 

المدْخَل

فاطمة، وما أدراك من فاطمة؟

شخصية إنسان تحمل طابع الأنوثة لتكون آيةً على قدرة الله البالغة واقتداره البديع العجيب، فإن الله تعالى خلق محمداً (صلى الله عليه وآله) ليكون آية قدرته في الأنبياء، ثم خلق منه بضعته وابنته فاطمة الزهراء لتكون علامة وآية على قدرة الله في إبداع مخلوق أُنثى تكون كتلة من الفضائل، ومجموعة من المواهب فلقد أعطى الله تعالى فاطمة الزهراء أوفر حظ من العظمة، وأوفى نصيب من الجلالة بحيث لا يمكن لأية أنثى أن تبلغ تلك المنزلة.

فهي من فصيلة أولياء الله الذين اعترفت لهم السماء بالعظمة قبل أن يعرفهم أهل الأرض، ونزلت في حقهم آيات محكمات في الذكر الحكيم، تتلى آناء الليل وأطراف النهار منذ نزولها إلى يومنا هذا، وإلى أن تقوم القيامة.

شخصية كلما ازداد البشر نضجاً وفهماً للحقائق، واطلاعاً على الأسرار ظهرت عظمة تلك الشخصية بصورة أوسع، وتجلّت معانيها ومزاياها بصُوَر أوضح.

إنها فاطمة الزهراء، الله يثني عليها، ويرضى لرضاها ويغضب لغضبها. ورسول الله (صلى الله عليه وآله) ينوِّه بعظمتها وجلالة قدرها. وأمير المؤمنين (عليه السلام) ينظر إليها بنظر الإكبار والإعظام. وأئمة أهل البيت (عليهم السلام) ينظرون إليها بنظر التقديس والاحترام.

وإنني أعتقد أن الكتاب - بما فيه - يكون عظيم النفع، غزير الفائدة، حلو الحديث، تستأنس به النفس، وتستعذبه الروح إلى غير ذلك مما يدركه القارئ ولا يمكن وصفه.

إذ أن التحدث عن حياة السيدة فاطمة الزهراء يشتمل على حوادث كلها عِبَر وحِكَم ودروس، يتعرف الإنسان بها على حياة أولياء الله وخاصته، وكيفية نظرتهم إلى الحياة، ويطلّع على جانب من التاريخ الإسلامي المتعلق بحياة السيدة فاطمة الزهراء بالرغم من قصر عمرها، وأنها كانت تعيش في خدرها، لا يطلَّع أحد على معاشرتها، وسلوكها في البيت إلا أسرتها وذووها.

وبالرغم من أن التاريخ ظلمها، ولم يُعِر لحياتها وترجمتها اهتماماً لائقاً بها. فالتحدث عن عبقرية السيدة فاطمة الزهراء يعتبر تحدثاً عن المرأة في الإسلام من حيث حفظ كرامتها، والاعتراف باحترامها وشخصيتها. ويشمل التحدث نموذجاً من المرأة بصفتها بنتاً في دار أبيها، وزوجة في دار بعلها، وأمًّا ومربيّة في البيت الزوجي.

ولا يخلو الكلام - هنا - عن التحدث عن المرأة في الإسلام بصفتها إنسانة يُسمح لها بالعمل في الحقل الاجتماعي، ولكن في إطار محدود بحدود الدين والعفة، والمحافظة على الشرف والكيان. ويتَّضح - ضمناً - أن الإسلام لا يحرم المرأة عن العلم والثقافة والأدب والمعرفة ولكن مع رعاية الابتعاد عن التبرج والاستهتار والاختلاط، وما شابه ذلك مما يسبّب الويلات على المرأة المسكينة ويدمِّر كيانها.

إنني أعتقد أن ليس من الممكن أن يوجد في العالم قانون أو نظام أو جهاز يحافظ على حرمة المرأة وكيانها وشرفها أكثر من محافظة الدين الإسلامي لذلك. فالجمعيات والمنظّمات النسائية في البلاد الإسلامية لم تنفع المرأة أبداً بل قد جلبت عليها الشقاء بصورة فظيعة.

وقد قرأت في بعض الصحف أن إحدى المنظَّمات النسائية تطالب حكومتها أن تضع قانوناً لمنع تعدد الزوجات!! إن المنظَّمة تعتبر تعدُّد الزوجات ظلماً واعتداءً على المرأة. فهي تطالب بإيقاف الرجل عند حدِّه، لئلا يطمع في أكثر من امرأة. إن المنظمة جاهلة أو متجاهلة إنها بعملها هذا تفتح على المرأة أبواب الفساد والشقاء، وتغلق عليها أبواب السعادة الزوجية ولذة الأمومة. فإذا خُيِّرت المرأة بين أن تتزوج برجل متزوج أو تبقى جليسة بيتها حتى يبيض شعرها كأسنانها، وإلى أن يأتيها الموت وهي واحدة من اثنتين: إما أن تقضي معظم حياتها - بما في ذلك من عنفوان شبابها - بالكبت والضغط والحرمان من ملاذ الحياة.

وإما إن تفسح لنفسها المجال، وتطلق لنفسها الحرية الكاملة، فتحضر السهرات، وتشترك في الحفلات وتراقص الرجال و و.. ثم تفتح عينها فإذا بها مفقودة الشرف، مسلوبة العفاف، محطّمة الشخصية، ملوثة الساحة، مشوّهة السمعة، يرغب بها الرجال ما دامت طريّة وشهيّة، فإذا فقدت محاسنها، وذبلت مفاتنها يمجّها كل أحد وينبذها كل رجل.

إذا خيّرت المرأة بين عدم الزواج وحياة العزوبة التي تنتهي بها إلى أحد المصيرين المذكورين، وبين أن تتزوج برجل متزوج، وتتمتع بالسعادة الزوجية تحت ظل العدالة الإسلامية، فهي محفوظة الشرف. سليمة العفاف، نزيهة السمعة، طاهرة الصحيفة والساحة تنتج أطفالاً، وتكوِّن أسرة، وتصلح أجزاء المجتمع، أيهما أفضل وأحسن؟؟

هذان طريقان، لا ثالث لهما، فإن عدد النساء في العالم أكثر من عدد الرجال، ولو اكتفى كل رجل بامرأة واحدة لبقيت هناك الملايين من النساء بغير أزواج. ثم هناك رجال لا تكفيهم امرأة واحدة، وهناك نساء لا تنسجم غرائزهن مع غرائز أزواجهن من حيث التجاوب والرغبة. أضف إلى هذا كله أن المرأة في معرض العقم والمرض والسفر إلى غير ذلك مما يطول الكلام بذكره، ولا أقصد في كتابي هذا التطرق إلى هذه المواضيع وإنما الكلام يجرُّ الكلام، والشيء بالشيء يذكر.

أعود - والعود أحمد - إلى حديثي عن الصدِّيقة فاطمة الزهراء، فلا عليك أن تعلم أن من أعجب الغرائب، وأغرب العجائب أن شخصية كشخصية فاطمة الزهراء التي هي في أوج العظمة، وذروة الشرف وقمّة الفضيلة تصبح هدفاً للأقلام المسمومة، والغارات القاسية التي شنّها بعض المسلمين وغيرهم.

ويظهر لك هذا بكل وضوح حينما تراجع كتب الأحاديث الزاخرة بفضائل هذه الشخصية، ترى إلى جانبها أحاديث افتعلتها يد الدسِّ والعداء، واختلقتها ألسنة الشحناء والبغضاء من سماسرة الحديث الوضّاعين الكذّابين، الذين كانوا أبواقاً للسلطات الماضية، ينفثون بما يوحي إليهم شياطينهم من زخرف القول والكذب والزور والبهتان، شأن من يشتري مرضاة المخلوق بسخط الخالق.

إنهم كتبوا بأقلام العداء ومحابر النفاق تلبية لمن اشترى منهم دينهم وضمائرهم، وهم غير مبالين بما في تزويرهم - هذا - من حطِّ مقام صاحب الشريعة النبي الأقدس (صلى الله عليه وآله) غير مكترثين بما في كلامهم ذاك من التناقض للأحاديث المتواترة المدوّنة في صحاحهم في فضل السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) وكأنهم يعجبهم المس بكرامة الصدِّيقة فاطمة الزهراء إجابة لنداء ضمائرهم، وهم يعلمون أنها عترة الرسول، وأحبُّ الناس إليه، وعزيزته وحبيبته وكأنهم لا يستطيعون التصريح بتدنيس ساحة الرسول الأعظم مباشرة فاختاروا الطريق الملتوي غير المباشر، كل ذلك إشباعاً لرغباتهم الجهنَّمية.

وما أدري ما هي الدوافع إلى هذا الهجوم العنيف القاسي على شخصية فاطمة الزهراء؟ وما هي أسباب هذا العداء العميق العجيب؟ أليست ابنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقرّة عينه وثمرة فؤاده، وروحه التي بين جنبيه؟

فهل كانت الزهراء خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فدفعتهم الدوافع للمسّ من كرامتها كما أساءوا إلى زوجها العظيم بنفس تلك الدوافع؟

ثم ما هذا التركيز والإلحاح على محاربة شخصيتها؟

هل لكونها بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟

فلماذا لا نجد هذه الظاهرة في حق سائر بنات النبي؟

أم لأنها زوجة الإمام علي (عليه السلام)؟

فقد تزوَّج الإمام أمير المؤمنين بعدها بأربع نساء، فلماذا لا نجد هذا التهريج والإرجاف في حقهن؟ إنني لا أتصور للسيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) ذنباً سوى أنها كانت أحبُّ الناس إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهي المفضلَّة على بقية بناته وزوجاته وأنها كانت المدافعة والمحامية عن حقوق زوجها. وأنها حضرت في المسجد، وطالبت بحقوقها المغتصبة وأموالها التي جعلتها الله ورسوله لها وأنها احتجت على رئيس الدولة يومذاك[1]. وأمثالها من الفضائل والفواضل التي خصّها الله بها دون النساء. فهل هذه ذنوب تبرّر وتبيح للمسلمين أن يذكروها بما لا يناسب قدسيّتها ونزاهتها؟

وقد كان للمستشرقين الأجانب (من اليهود والنصارى) دور مهم في هذا المجال فلقد حاولوا المسّ بكرامة مقدّسات الإسلام والمسلمين، فالتقطوا الأباطيل والأساطير سقطات القول ونشروها في أوساطهم.

وجاء بعض المسلمين وترجموا تلك الكتب المسمومة وطبعوها ونشروها في البلاد الإسلامية، بدون أي تعليق أو تهذيب أو تنقيح، كأن نواياهم تتفق مع المستشرقين حول محتويات تلك الكتب. والأفضل أن ننقل هنا مثالاً لما نحن فيه عن الجزء الثالث من كتاب الغدير ص10 للمرحوم شيخنا الأميني مع رعاية الاختصار:

كتب مستشرق نصراني يسمىّ (إميل درمنغم) كتاباً سماه (حياة محمد) والكتاب كله كذب وزور وضلال ودسٍّ ودجل، وتهجّم على الإسلام والقرآن والنبي (صلى الله عليه وآله).

وقد ترجم الكتاب أستاذ فلسطيني يسمى (محمد عادل زعيتر) ولم يعلّق على خرافات الكتاب وأساطيره وأكاذيبه، وهو يزعم أنه يراعي أمانة النقل، وليت شعري هل التعليق على الباطل ينافي أمانة النقل؟

ومن جملة أباطيل الكتاب وأضاليله قوله:

(كانت فاطمة عابسة، دون رقية جمالاً، ودون زينب ذكاء، ولم تدار فاطمة حينما أخبرها أبوها من وراء الستر: أن علي بن أبي طالب ذكر اسمها، وكانت فاطمة تعدُّ علياً ذميماً محدوداً مع عظيم شجاعته، وما كان أكثر رغبة فيها من رغبتها مع ذلك.

وكان علي غير بهيِّ الوجه لعينيه الكبيرتين الفاترتين وانخفاض قصبة أنفه، وكبر بطنه وصلعه، وذلك كله إلى أن علياً كان شجاعاً تقياً صادقاً وفياً مخلصاً صالحاً مع توان وتردُّد!

 

أضاليل وأباطيل بعض الكتب المسمومة

وكان علي ينهت فيستقي الماء لنخيل أحد اليهود في مقابل حفنة تمر، فكان إذا عاد بها قال لزوجته عابساً: كلي وأطعمي الأولاد!

وكان علي يحرد بعد كل منافرة، ويذهب لينام في المسجد، وكان حموه يربِّته على كتفه ويعظه ويوفق بينه وبين فاطمة إلى حين، ومما حدث أن رأى النبي ابنته ذات مرة، وهي تبكي من لكم علي لها!!

إن محمداً مع امتداحه قدم علي في الإسلام إرضاءً لابنته كان قليل الالتفات إليه، وكان صهرا النبي الأمويان: عثمان الكريم وأبو العاصي أكثر مداراة للنبي من علي، وكان علي يألم من عدم عمل النبي على سعادة ابنته، ومن عدّ النبي له غير قوّام بجليل الأعمال.

والنبي وإن كان يفوّض إليه ضرب الرقاب كان يتجنب تسليم قيادة إليه.. وأسوأ من ذلك ما كان يقع عند مصاقبة علي وفاطمة لعدَّواتهما أزواج النبي وتنازع الفريقين، فكانت فاطمة تعتب على أبيها متحسرة، لأنه كان لا ينحاز إلى بناته.. إلى غير ذلك من جنايات تاريخية سوداء سوَّد بها الرجل صحيفة كتابه.

وهنا يجب شيخنا الأميني (رضوان الله عليه) على مفتريات هذا النصراني: (أنا لا ألوم المؤلف - جدع الله مسامعه - وإن جاء بأذني عناق[2] إذ هو من قوم حناق على الإسلام، وهو مع ذلك جرف منهال وسحب منجال[3]، ينمُّ كتابه عن عجزه وبحره، وإنما العتب كل العتب على المترجم الجاني على الإسلام والشرق والعرب - وهو يحسب نفسه منهم - نعم، جدب السوء يلتجئ إلى نجعة سوء[4]، والجنس إلى الجنس يميل.

كل ما في الكتاب من تلكم الأقوال المختلفة والنسب المفتعلة إن هي كلم الطائش، تخالف التاريخ الصحيح، وتضاد ما أصفقت عليه الأمة الإسلامية وما أخبر به نبيها الأقدس.

فهل تناسب تقولاته في فاطمة مع قول أبيها (صلى الله عليه وآله): فاطمة حوراء إنسية، كلما اشتقت إلى الجنة قبلّتها[5]؟

أو قوله (صلى الله عليه وآله): ابنتي فاطمة حوراء آدمية[6]؟

أو قوله (صلى الله عليه وآله): فاطمة هي الزهراء[7]؟

أو قول أم أنس بن مالك؟: كانت فاطمة كالقمر ليلة البدر، أو الشمس كفر غماماً، إذا خرج من السحاب، بيضاء مشرّبة حمرة، لها شعر أسود، من أشد الناس برسول الله شبهاً، والله كما قال الشاعر:

بيضاء تسحب من قيام شعرها***وتغيب فيه وهو جثل أسحم[8]

فكأنها فيه نهار مشرق***وكأنه ليل عليها مظلم[9]

ولقبها الزهراء المتسالم عليه يكشف عن جلية الحال.

وهل يساعد تلك التحكُّمات في ذكاء فاطمة وخُلقها قولُ أُم المؤمنين خديجة (رضي الله عنها): كانت فاطمة تُحدِّث في بطن أُمِّها، ولما وُلدت وقعت حين وقعت على الأرض ساجدة، رافعة إصبعها[10]؟!

أو يلائمها قول عائشة: ما رأيت أحداً أشبه سمتاً ودلاًّ وهدياً وحديثاً برسول الله في قيامه وقعوده من فاطمة الزهراء كانت إذا دخلت على رسول الله قام إليها فقبَّلها ورحّب بها، وأخذ بيدها وأجلسها في مجلسه[11]؟!

وفي لفظ البيهقي في (السنن: ج7 ص101): ما رأيت أحداً أشبه كلاماً وحديثاً من فاطمة برسول الله (صلى الله عليه وآله)..

وهل توافق مخاريقه في الإمام علي (صلوات الله عليه) وعدم بهاء وجهه وعدُّ فاطمة له دميماً، وكونه عابساً مع ما جاء في جماله البهي: أنه كان حسن الوجه كأنه قمر ليلة البدر، وكأن عنقه إبريق فضة[12] ضحوك السن[13] فإن تبسّم فعن اللؤلؤ المنظوم[14].

وأين هي من قول أبي الأسود الدؤلي من أبيات له:

إذا استقبلت وجه أبي تراب***رأيت البدر حار الناظرينا[15]

نعم، حسدوا الفتى إذ لم ينالوا فضله***فالناس أعداء له وخصوم

كضرائر الحسناء قلن لوجهها***حسداً وبغضاً: إنه لدميم

أو يخبرك ضميرك الحرُّ في علي ما سلقه الرجل به من (التواني والتردد)؟ وعلي ذلك المقتحم في الأهوال والضارب في الأوساط والأعراض في المغازي والحروب؟

وهو الذي كشف الكُرب عن وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله) في كل نازلة وكارثة منذ صدع بالدين الحنيف إلى أن بات على فراشه، وفداه بنفسه، إلى أن سكن مقرّه الأخير.

أليس علي هو ذلك المناضل الوحيد الذي نزل فيه قوله تعالى:

(أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله)؟

وقوله تعالى: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله)؟[16].

فمتى خلى علي عن مقارعة الرجال، والذبِّ عن قدس صاحب الرسالة حتى يصح أن يُعزى إليه توانٍ أو تردد في أمر من أمور الدين؟!.

غير أن القول الباطل لا حدَّ له ولا أمد.

وهل يتصور في أمير المؤمنين تلك العِشرة السيئة مع حليلته الطاهرة؟! والنبي يقول له: أشبهتَ خَلقي خُلقي وأنت من شجرتي التي أنا منها[17] وكيف يراه النبي (صلى الله عليه وآله) أفضل أمته وأعظمهم حلماً وأحسنهم خلقاً ويقول: علي خير أُمُّتي، وأعلمهم علماً، وأفضلهم حلماً؟[18].

ويقول لفاطمة: إني زوَّجتك أقدم أُمَّتي سلماً، وأكثرهم علماً، وأعظمهم حلماً؟[19].

ويقول لها: زوَّجتك أقدمهم سلماً، وأحسنهم خُلقاً؟[20].

يقول هذه كلها وعشرته تلك كما كانت بمرأى منه ومسمع؟ أفك الدجَّالون، كان علي (عليه السلام) كما أخبر به النبي الصادق الأمين (صلى الله عليه وآله). وهل يقبل شعورك ما قذف به الرجل (فضَّ الله فاه) علياً بلكْم فاطمة بضعة المصطفى؟! وعلي ذاك المقتص أثر الرسول، وملأ مسامعه قوله (صلى الله عليه وآله) لفاطمة: إن الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك[21].

وقوله (صلى الله عليه وآله) وهو آخذ بيدها: من عرف هذه فقد عرفها، ومن لم يعرفها، فهي بضعة مني، هي قلبي وروحي التي بين جنبيَّ، فمن آذاها فقد آذاني[22].

وقوله (صلى الله عليه وآله): فاطمة بضعة مني، يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها[23]. وقوله (صلى الله عليه وآله): فاطمة بضعة مني، فمن أغضبها فقد أغضبني[24].

وقوله (صلى الله عليه وآله): فاطمة بضعة مني، يقبضني ما يقبضها ويبسطني ما يبسطها[25].

وهل يقتصر امتداح النبي علياً بمدح إسلامه؟! حتى يتفلسف في سرِّه، ويكون ذلك إرضاءً لابنته، على أن امتداحه بذلك لو كان لتلك المزعمة لكان يقتصر (صلى الله عليه وآله) على قوله لفاطمة في ذلك، وكان يتأتى الغرض به، فلماذا كان يأخذ (صلى الله عليه وآله) بيد علي في الملأِ الصحابي تارة ويقول: إن هذا أول من آمن بي، وهذا أول من يصافحني يوم القيامة؟

ولماذا كان يخاطب أصحابه أخرى بقوله: أوَّلكم وارداً عليَّ الحوض أوَّلكم إسلاماً: علي بن أبي طالب؟

وكيف خفي هذا السرُّ المختلق على الصحابة الحضور والتابعين لهم بإحسان، فطفقوا يمدحونه بهذه الإثارة كما يروي عن سلمان الفارسي، أنس بن مالك، زيد بن أرقم، عبد الله بن عباس، عبد الله بن حجل، هاشم بن عتبة، مالك الأشتر، عبد الله بن هاشم، محمد بن أبي بكر، عمرو بن الحمق، أبو عمر عدي بن حاتم، أبو رافع، بريدة، جندب بن زهير، أم الخير بنت الحراش[26]؟

وهل القول بقلِّة التفات النبي إلى علي يساعده القرآن الناطق بأنه نفس النبي الطاهر؟! أو جعل مودته أجر رسالته؟!.

أو قوله (صلى الله عليه وآله) في حديث الطير المشوي، المروي في الصحاح والمسانيد: اللهم ائتني بأحبِّ خلقك إليك ليأكل معي.

أو قوله (صلى الله عليه وآله) لعائشة: إنّ علياً أحبُّ الرجال إليَّ، وأكرمهم عليَّ، فاعرفي له حقه، وأكرمي مثواه[27].

أو قوله (صلى الله عليه وآله): أحبُّ الناس إليَّ من الرجال علي[28].

أو قوله (صلى الله عليه وآله): علي خير مَن أتركه بعدي[29].

أو قوله (صلى الله عليه وآله): خير رجالكم علي بن أبي طالب، وخير نسائكم فاطمة بنت محمد[30].

أو قوله (صلى الله عليه وآله): علي خير البشر، فمن أبى فقد كفر![31].

أو قوله (صلى الله عليه وآله): من لم يقل علي خير الناس فقد كفر[32].

أو قوله (صلى الله عليه وآله): في حديث الراية المتفق عليه: لأعطيَّن الراية غداً رجلاً يحبه الله ورسوله، ويحب الله ورسوله.

أو قوله (صلى الله عليه وآله): علي مني بمنزلة رأسي من بدني أو جسدي[33].

أو قوله (صلى الله عليه وآله): علي مني بمنزلتي من ربي[34].

أو قوله (صلى الله عليه وآله): علي أحبَّهم إليَّ، وأحبَّهم إلى الله[35].

أو قوله (صلى الله عليه وآله) لعلي: أنا منك وأنت مني، أو: أنت مني وأنا منك[36].

أو قوله (صلى الله عليه وآله): علي مني وأنا منه، وهو ولي كل مؤمن من بعدي[37].

أو قوله (صلى الله عليه وآله) في حديث البعث بسورة البراءة المجمع على صحته: لا يذهب بها إلا رجل مني وأنا منه[38].

أو قوله (صلى الله عليه وآله): لحمك لحمي ودمك دمي والحق معك[39].

أو قوله (صلى الله عليه وآله): ما من نبي إلاَّ وبه نظير في أُمته، وعلي نظيري[40].

أو ما صحّحه الحاكم وأخرجه الطبراني عن أم سلمة قالت: كان رسول الله إذا أُغضب لم يجترئ أحد أن يكلَّمه غير علي[41].

أو قول عائشة: والله ما رأيت أحداً أحبُّ إلى رسول الله من علي ولا في الأرض امرأة كانت أحبُّ إليه من امرأته[42].

أو قول بريدة وأُبي: أحب الناس إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) من النساء فاطمة، ومن الرجال علي[43].

أو حديث جميع بن عمير، قال: دخلت مع عمتي على عائشة فسألت: أي الناس أحب إلى رسول الله؟! قالت: فاطمة. فقيل: من الرجال؟ قالت: زوجها، إن كان ما علمت صوَّاماً قوَّاماً.

وكيف كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقدِّم الغير على علي في الالتفات إليه؟! وهو أول رجل اختاره الله بعده من أهل الأرض لما اطَّلع عليهم، كما أخبر به (صلى الله عليه وآله) لفاطمة بقوله: إن الله اطلع على أهل الأرض فاختار منه أباك فبعثه نبياً، ثم اطلع الثانية فاختار بعلك فأوحى إليَّ فأنكحته واتخذته وصياً[44].

وبقوله (صلى الله عليه وآله): إن الله اختار من أهل الأرض رجلين أحدهما أبوك والآخر زوجك[45].

إلى آخر ما ذكره شيخنا الأميني (عليه الرحمة) في سرد الأحاديث الصحيحة في تزييف أباطيل ذلك الكتاب التائه.

هذا، والتهجُّمات القاسية ضدَّ آل رسول الله (صلى الله عليه وآله) كثيرة جداً وسنشير أيضاً إلى بعضها في المستقبل بمناسبة المقام إن شاء الله.

وقبل الخوض في صميم البحث لا بأس بذكر مقدمة كمدخل في الموضوع، وحيث أن التحدث في هذا الكتاب إنما هو عن شخصية فوق المستويات التي عرفها البشر فلابدَّ من تمهيد أمور لعلها تعتبر من (الماورائيات) فلا بأس فالشخصية المترجمة عبقرية ماورائية، وسيتَّضح لك صدق هذا القول وصحة هذا الكلام.

 

قانُون الوراثة

من الأمور الثابتة قديماً وحديثاً أنّ صفات الأبوين تنتقل إلى الطفل وترتكز فيه منذ تكوُّنه في صلب أبيه إلى انتقاله إلى بطن أمه، ونشوّه ونُموِّه، وبعد الولادة والنموّ تظهر الصفات تدريجياً. بل وحتى الرضاع له تأثير عجيب في صفات الطفل المرتضع وفي الحديث عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (لا تسترضعوا الحمقاء فإن الرضاع يعدي) وقد كتب الكثيرون حول هذا القانون تفاصيل كثيرة.

على ضوء هذا القانون ينبغي أن أذكر شيئاً من ترجمة حياة والديّ السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) كي نستنتج منها بعض جوانب العظمة التي أحاطت بالسيدة فاطمة من ناحية الوراثة ولكن البحث سيطول، وينتقل الكتاب عن موضوعه إلى موضوع آخر، إلاَّ أننا نلخّص الكلام في هذه الجُمل الموجزة فنقول: سيد الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله) أطهر كائن وأشرف مخلوق، وأفضل موجود في العالم كله، لأجله خلق الله الكائنات، ولا يوجد في الكون شرف أو فضيلة أو مكرمة إلاَّ وأوفى نصيبٍ ممكنٍ منها متوفر في الرسول العظيم.

هذه عصارة الخلاصة مما يمكن أن يقال في حق الرسول، وليس في هذا التعبير شيء من الغلو والمبالغة، بل هو كقولنا: الشمس مشرقة، والعسل حلو.

هذا رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقد انحدرت الزهراء من صلبه.

وأما السيدة خديجة، فكانت امرأة بيضاء، طويلة حسناء، شريفة في قومها، عاقلة في أمورها، لها نصيب وافر من الذكاء، وبصيرة في الأمور، تعتمد على نفسها وشخصها، تدير عجلة التجارة بفكرها الوقَّاد، وتعرف مبادئ الاقتصاد والتصدير والاستيراد.

هذا بصفتها إنسان أو بصفتها امرأة.

وأمَّا بصفتها زوجة فقد بذلت تلك الآلاف المؤلفة من أموالها لزوجها الرسول يتصرّف فيها حسب رأيه، وكان لأموال خديجة كل التأثير في تقوية الإسلام يومذاك إذ كان الدين الإسلامي في دور التكوين، وكان بأمس الحاجة إلى المال، فقيّض الله للإسلام أموال خديجة، وبالفعل تحقق الهدف.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (ما نفعني مالٌ قط مثل ما نفعني مال خديجة) وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يفك من مالها الغارم والعاني، ويحمل الكَلَّ، ويعطي في النائبة ويرفد فقراء أصحابه إذ كان بمكة، ويحمل من أراد منهم الهجرة، وكان ينفق منه ما شاء في حياتها، ثم ورثها هو وولُدها بعد مماتها[46].

وبهذا يتضح كلام الرسول (صلى الله عليه وآله): (ما قام ولا استقام الدين إلاّ بسيف علي ومال خديجة).

وكانت معاشرتها للرسول في حياتها الزوجية تستحق كل تقدير وتعظيم، ولهذا كان الرسول إذا ذكرها أو ذكُرت عنده بعد وفاتها ترحَّم عليها، وانكسر قلبه عليها وربما جرت عبرته على خده حزناً عليها.

وذات يوم ذكر رسول الله (صلى الله عليه وآله) خديجة فقالت عائشة: عجوز كذا وكذا قد أبدلك الله خيراً منها!! فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما أبدلني منها، لقد آمنت بي حين كفر بي الناس، وصدَّقتني حين كذّبني الناس، وأشركتني في مالها حين حرمني الناس، ورزقني الله ولدها، وحرمني ولد غيرها[47].

 

زواج الرّسُول الأعْظم (صلى الله عليه وآله)

تزوّج الرسول العظيم (صلى الله عليه وآله) بالسيدة خديجة الكبرى وهو ابن خمس وعشرين سنة، وهي بنت أربعين سنة، وقيل: ستة وعشرين سنة[48] وقيل: ثمانية وعشرين سنة[49].

ويقال إنها كانت قد تزوّجت قبل الرسول بزوجين متعاقبين، وقيل: بل كانت عذراء يوم تزوجها الرسول[50] ولكنه غير مشهور.

لم يكن زواج الرسول بالسيدة خديجة يشبه الزواج المتعارف بين الناس بل يعتبر هو الزواج الوحيد من نوعه، إذ لم يكن ذلك القرآن الميمون نتيجة حُبٍ وغرام بل لم يكن هناك دافع مادِّي أو ما يشبهه من الأغراض التي كثيراً تحدث في زواج العظماء من جوانب السياسة.

بل لم يكن هناك تناسب بين الرسول وبين السيدة خديجة من حيث الحياة الاقتصادية، فالرسول العظيم كان يعيش تحت كفالة عمِّه الفقير أبي طالب.

والسيدة خديجة هي أثرى وأغنى امرأة في مكة، فهناك بون شاسع في مستوى المعيشة بين هذا وتلك. ولكن السيدة خديجة كانت قد علمت أو سمعت أن للرسول مستقبلاً متلألئً واسع النطاق، ولعلَّ غلامها ميسرة هو الذي حدَّثها بما جرى للرسول في أثناء رحلته إلى الشام قصد التجارة بأموال خديجة، أو بلغها كلام راهب دير بُصرى قرب الشام في حق الرسول.

فهنا اقترحت السيدة خديجة قضية الزواج، وفاتحت الرسول، وطلبت منه أن يطلب يدها من والدها خويلد أو عمَّها (على قولٍ).

لكن الرسول كان يفضِّل أن يتزوَّج بامرأة فقيرة تنسجم حياتها مع حياة الرسول، واعتذر من خديجة، وامتنع من تلبية طلبها لهذا السبب.

لكن السيدة خديجة العاقلة اللبيبة الفاضلة أجابته بأنها تهب نفسها للنبي فهل يصعب عليها أن تبذل أموالها له، وتجعلها تحت تصرُّف الرسول؟

وطلبت من الرسول أن يرسل أعمامه إلى أبيها خويلد ليخطبوها.

فوجئ أعمام الرسول بهذا النبأ الوحيد من نوعه واستولت الدهشة على عمات الرسول حينما سمعن منه الخبر، إنّه لعجيب!!.

سيدة تملك الآلاف من الأموال، ويعيش العشرات والمئات من العملاء والأجراء من بركات أموالها وتجارتها القائمة صيفاً وشتاءً، بين اليمن ومكة وبين مكة والشام.

سيدة خطبها الأمراء والأشراف فرفضتهم، سيدة هكذا تقدِّم نفسها هبةً لشاب فقير يعيش تحت كفالة عمِّه الفقير أبي طالب.

فيا ترى هل صدقت خديجة في تقديم نفسها للرسول؟ وهل لهذا الخبر نصيب من الحقيقة؟ قامت صفية بنت عبد المطلب (عمة النبي) وتوجهت إلى دار خديجة للتحقيق عن الخبر، وإذا بها تجد الترحيب والاستعداد بجميع معنى الكلمة.


 

 

السَيّدة خَديجة على أبواب السّعَادة

رجعت صفية إلى أخوتها (أعمام النبي) وأخبرتهم بصدق الخبر، واستولت الفرحة على أعمام النبي، فرحة ممزوجة بالتعجب والدهشة والذهول.

فإن خديجة خطبها الأمراء وأشراف العرب فرفضت ولم توافق، إذ إنها لم ترهم لها أكفاءً، فما الذي دعاها إلى انتخاب هذا الزوج الفقير الذي لا يملك من حطام الدنيا تبراً، ولا من الأرض البسيطة شبراً؟ يا للعجب العجاب!.

قام أعمام النبي وقصدوا دار خديجة، وخطبوها من أبيها خويلد أو عمِّها، فامتنع ثم وافق بعد ذلك. ثم لابدَّ من تقديم مبلغ من المال صداقاً يليق بمقام خديجة، فكيف يمكن تحصيل هذا المال؟ ومن أين؟ ومن الذي يتبرع بالصداق؟

وإذا بالسيدة خديجة تباغتهم مرة أخرى، وتدفع إلى الرسول أربعة آلاف دينار هدية، وتطلب منه أن يجعل ذلك المبلغ صداقاً لها ويقدِّمه إلى أبيها خويلد.

وفي رواية: أن أبا طالب هو الذي دفع الصداق من ماله.

إن كانت السيدة خديجة تؤمن بالقيَم، وتضحَّي بالمادة في سبيل تحصيل الشرف فإن أباها خويلد لم يكن يحمل هذه الفكرة، وكثيراً ما تجد التفاوت الكثير بين ثقافة الأب وابنه أو ابنته.

وهذا الاختلاف في التفكير موجود بين طبقات الناس، وحتى بين الأخ وأخيه، والرجل وزوجته، والأب وما ولد.

كانت هذه المبادرة نادرة عجيبة جداً، فلم يعهد أحد في العرب أن المرأة تقدِّم الصداق لزوجها، فلا عجب إذا هاج الحسد بأبي جهل وقال: (يا قوم رأينا الرجال يمهرون النساء، وما رأينا النساء يمهرون الرجال!).

فيجيبه أبو طالب مغضباً: (ما لك؟ يا لكع الرجال! مثل مُحمد يُحمل إليه ويُعطى، ومثلك يُهدي ولا يُقبل منه) أو قال: (إذا كانوا مثل ابن أخي هذا طلبت الرجال بأغلى الأثمان وأعظم المهر، وإذا كانوا أمثالكم لم يزوَّجوا إلاَّ بالمهر الغالي).

وتمَّ الزواج المبارك الميمون على أحسن ما يرام، وانتقل الرسول إلى دار السيدة خديجة، فكانت خديجة تشعر أنها في أسعد أيام حياتها إذ أنها وصلت إلى أغلى أمانيها وأحلى أحلامها.

وأنجبت السيدة خديجة أولاداً ماتوا كلهم في أيام الصغر، وأنجبت بنات أربع: زينب وأم كلثوم ورقية وفاطمة الزهراء، وكانت فاطمة أصغرهنَّ سناً وأجلَّهنَّ شأْناً وأعظمهنَّ قدراً. وهناك اختلاف بين المؤرخين والمحدّثين حول البنتين الأوليين، فقيل: إنهما ليستا من بنات النبي، والصحيح أنهما من بناته وصلبه، وسيأتي الكلام حول ذلك في المستقبل بالمناسبة بإذن الله[51].


 

 

كَلِمَة خَاطِفَة حَوْلَ (المَاوَرَائيات)

هذه هي السيدة خديجة الكبرى، وهذا بعض مناقبها وفضائلها التي تعتبر كل فضيلة منها مثالاً رائعاً للإنسان الكامل، وهذه السيدة هي التي أنجبت السيدة فاطمة الزهراء، وأرضعتها اللبن الممزوج بالمواهب والفضائل.

وفاطمة الزهراء سليلة أبوين هذا بعض ما يتعلق بحياتهما ومحاسنهما، وهذه نظرة خاطفة أو صورة مصغّرة يمكن لنا أن ننظر منها إلى عبقرية سيدتنا فاطمة الزهراء وبذلك تظهر لنا زاوية من حياتها على ضوء الوراثة.

وهناك حقائق ثابتة لا يمكن إنكارها، وقد صرحت بذلك أحاديث شريفة كثيرة متواترة عن الرسول الأقدس وأهل بيته الطاهرين (عليهم السلام) لم يكتشفها العلم الحديث ولم تصل إليها الاكتشافات الحديثة بالرغم من سعتها وانتشارها، وبالرغم من وصولها إلى الذرة فما فوقها وإلى الكواكب فما دونها.

تلك الحقائق لا مجال للآلات والمجاهر أن تغزوها وتحيط بها علماً، ولا طريق لعدسات المصوِّرين أن تلتقطها ولو بالأشعة البنفسجية وما فوق البنفسجية.

وتفشل دون إدراكها مقاييس الطبيعة والمنطق، فالحقيقة فوق إدراك المادة والموازين المنطقية، فلا تدرك بالحواس الخمس (الباصرة، السامعة، الذائقة، الشامّة، اللامسة) بل هي من أسرار الله المودعة في الكائنات، وإن شئت أن تسمّيها بـ(الماورائيات) فلك ذلك.

وقبل عرض تلك الحقائق لابدّ من تمهيد مقدمة موجزة فنقول: إن النطفة التي تنعقد في الرحم ويتكوّن منها الجنين، تتكوّن من الدم، والدم يستخلص من الطعام بعد إنهاء عمليات الهضم والنضج والطبخ في المختبرات التي يحتويها الجسم، فلا شك أن النطفة المتكونة من الدم المستخلص من لحم الخنزير أو الخمر (مثلاً) تختلف عن النطفة المتكونة من الدم المستخلص من لحم الغنم أو ما أشبه ذلك، لأن نوعية هذا اللحم تختلف اختلافاً كبيراً عن نوعية ذاك، فكذلك تختلف منتجات كل واحد منهما.

وللطعام تأثير خاص في روح الإنسان ونفسه، فهناك أطعمة مفرِّحة للقلب، مهدئة للأعصاب، تخفف عن توترها، وهناك أطعمة مفعولها عكس ذلك.

وللطعام الحلال والطاهر تأثير في نفس الإنسان وروحه، بعكس الطعام النجس كالخمر أو الحرام كالمسروق والمغصوب.

ونفس التأثير يظهر في النطفة التي تنعقد من الطعام الحلال أو الحرام، أو الطاهر أو النجس، ولو أردنا استعراض الشواهد وإقامة الأدلة والبراهين على ذلك لطال بنا الكلام وخرج الكتاب عن أسلوبه وموضوعه المقصود.

وعلى هذا الغرار فللطعام الذي يأكله الأبوان كل التأثير في توجيه الطفل وتسييره نحو الخير والشر، إذ من ذلك الطعام تتكون النطفة، ثم تنتقل من صلب رجل إلى رحم زوجته، وتلتصق بجدار الرحم، وتنمو وتكبر حتى تكمل جنيناً تاماً.

فالطعام من حيث النوعية ومن حيث الحكم الشرعي كالحلال والحرام، والطاهر له تأثير عجيب مدهش في مصير الطفل، وكيفية تفكيره في الأمور واختيار الحياة الدينية، وتوجيهه نحو الاعتدال والاستقامة أو الانحراف والانجراف.

وكذلك الحالة النفسية الموجودة عند الزوجين عند العملية الجنسية لها كل التأثير في مقدّرات الطفل وحالاته ونفسياته في المستقبل.

فالخوف والقلق لهما أسوأ الأثر في مستقبل الطفل المسكين، وبالعكس الطمأنينة والهدوء النفسي له أحسن الأثر في الطفل.

كذلك الرغبة الملحة والشوق الشديد يؤثر في جمال الطفل وحسنه وذكائه، بينما عدم الرغبة وضعف الشهوة بسبب خلاف ذلك.

وانطلاقاً من هاتين النقطتين: نقطة تأثير الطعام ونقطة تأثير الحالة النفسية ننتقل بالقرّاء إلى طائفة من الأحاديث المتواترة، فقد ذكر شيخنا المجلسي (قدّس سره) في السادس من البحار هذا الحديث الشريف:

.. هبط جبرئيل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فناداه يا محمد‍‍! العلي الأعلى يقرأ عليك السلام، وهو يأمرك أن تعتزل خديجة أربعين صباحاً.

فشقّ ذلك على النبي (صلى الله عليه وآله) وكان لها محبّاً وبها وامقاً (محباً) فأقام النبي أربعين يوماً يصوم النهار ويقوم الليل، حتى إذا كان في آخر أيامه تلك. بعث إلى خديجة بعمار بن ياسر وقال: قل لها: يا خديجة لا تظني أن انقطاعي عنك هجرة ولا قلى، ولكن ربي أمرني بذلك لينفّذ أمره، فلا تظني يا خديجة إلاّ خيراً، فإن الله عز وجل ليباهي بك كرام ملائكته كل يوم مراراً.

فإذا جنّك الليل فأجيفي (ردّي) الباب، وخذي مضجعك من فراشك، فإني في منزل فاطمة بنت أسد.

فجعلت خديجة تحزن كل يوم مراراً لفقد رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلما كان في كمال الأربعين هبط حبرئيل فقال: يا محمد! العلي الأعلى يقرئك السلام وهو يأمرك أن تتأهب لتحيَّته وتحفته.

فقال النبي (صلى الله عليه وآله): يا جبرئيل وما تحفة رب العالمين وما تحيته؟ فقال جبرئيل: لا علم لي.

فبينما النبي (صلى الله عليه وآله) كذلك إذ هبط ميكائيل ومعه طبق مغطّى بمنديل سندس أو إستبرق، فوضعه بين يدي النبي (صلى الله عليه وآله) وأقبل جبرئيل (عليه السلام) وقال: يا محمد يأمرك ربك أن تجعل الليلة إفطارك على هذا الطعام.

قال علي بن أبي طالب (عليه السلام): كان النبي (صلى الله عليه وآله) إذا أراد أن يفطر أمرني أن أفتح الباب لمن يرد من الأقطار فلما كان في تلك الليلة أقعدني النبي (صلى الله عليه وآله) على باب المنزل وقال: يا بن أبي طالب إنه طعام محرَّم إلاّ عليَّ.

قال علي (عليه السلام): فجلست على الباب، وخلى النبي (صلى الله عليه وآله) بالطعام، وكشف الطبق، فإذا عذق من رطب، وعنقود من عنب، فأكل النبي (صلى الله عليه وآله) منه شبعاً وشرب من الماء رياً، ومدّ يده للغسل، فأفاض الماء عليه حبرئيل، وغسل يده ميكائيل وتمندله إسرافيل، وارتفع فاضل (باقي) الطعام مع الإناء إلى السماء.

ثم قام النبي (صلى الله عليه وآله) ليصلي فأقبل عليه جبرئيل وقال: الصلاة محرَّمة عليك في وقتك حتى تأتي إلى منزل خديجة فتواقعها، فإن الله عز وجل آلى (حلف) على نفسه أن يخلق من صلبك هذه الليلة ذرية طيّبة.

فوثب النبي (صلى الله عليه وآله) إلى منزل خديجة.

قالت خديجة: وقد كنت قد ألفت الوحدة، فكان إذا جنّني الليل غطّيت رأسي، وسجفت (أرسلت) ستري وغلّقت بابي، وصلّيت وِردي، وأطفأت مصباحي، وآويت إلى فراشي؛ فلما كانت تلك الليلة لم أكن نائمة ولا بالمنتبهة إذ جاء النبي فقرع الباب، فناديت: من هذا الذي يقرع حلقة لا يقرعها إلا محمد؟

فنادى النبي (صلى الله عليه وآله) بعذوبة كلامه وحلاوة منطقه: افتحي يا خديجة فإني محمد. قالت خديجة: فقمت مستبشرة بالنبي، وفتحت الباب، ودخل النبي المنزل، وكان النبي (صلى الله عليه وآله) إذا دخل المنزل دعا بالإناء فتطهر للصلاة ثم يقوم فيصلي ركعتين يوجز فيهما، ثم يأوي إلى فراشه.

فلما كانت تلك الليلة لم يدعُ بالإناء ولم يتأهب للصلاة.. بل كان بيني وبينه ما يكون بين المرأة وبعلها، فلا والذي سمك السماء، وأنبع الماء ما تباعد عني النبي حتى أحسست بثقل فاطمة في بطني.. الخ.

نستفيد من هذا الحديث أموراً:

1 - إن الله تعالى أمر نبيه أن يعتزل خديجة، وأن ينقطع عن رؤيتها لفترة حتى يزداد بها شوقاً ورغبة.

2 - اشتغاله بالمزيد من العبادة للمزيد من روحانية النفس وسمّوها وتعاليها بسبب الاتصال بالعالم الأعلى.

3 - إفطاره بالتحفة السماوية الطاهرة، السريعة التحول إلى النطفة بسبب لطافتها.

4 - تكوّن النطفة من طعام سماوي لطيف، لا يشبه الأطعمة المادية.

5 - التوجه إلى دار خديجة فوراً استعداداً لانتقال النطفة مع تلك المقدمات.

وقد ذكر هذا الحديث - من علماء العامة - بتغيير يسير كلٌّ من:

1 - الخوارزمي في مقتل الحسين ص63 و68.

2 - الذهبي في الاعتدال ج2 ص26.

3 - تلخيص المستدرك ج3 ص156.

4 - العسقلاني في لسان الميزان ج4 ص36.

ثم هناك أحاديث كثيرة بهذا المعنى مع اختلاف يسير في ألفاظها، واتفاقها حول النقطة الجوهرية، وهي انعقاد نطفة السيدة فاطمة الزهراء من طعام الجنة ونذكر من بعض تلك الأحاديث الجملة المرتبطة بالموضوع رعايةً للاختصار، فنقول:

عن الإمام الرضا (عليه السلام) قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله): لما عُرج بي إلى السماء أخذ بيدي جبرئيل فأدخلني الجنة فناولني من رطبها فأكلته، فتحول ذلك نطفة في صلبي فلما هبطت واقعت خديجة، فحملت بفاطمة، ففاطمة حوراء إنسيَّة، فكلما اشتقت إلى رائحة الجنة شممت رائحة ابنتي فاطمة[52].

عن الإمام الباقر (عليه السلام) عن جابر بن عبد الله قال: قيل لرسول الله (صلى الله عليه وآله): إنك لتلثم فاطمة وتلزمها وتدنيها منك.. وتفعل بها ما لا تفعله بأحد من بناتك؟ فقال (صلى الله عليه وآله): إن جبرئيل أتاني بتفاحة من تفاح الجنة فأكلتها فتحول ماءً في صلبي ثم واقعت خديجة فحملت بفاطمة. وأنا أشم منها رائحة الجنة[53].

وعن ابن عباس قال: دخلت عائشة على رسول الله وهو يقبِّل فاطمة، فقالت له: أتحبها يا رسول الله؟ قال: أما والله لو علمت حبِّي لها لازددت لها حباً، إنه لما عرج بي إلى السماء الرابعة.. إلى أن يقول: فإذا برطب ألين من الزبد، وأطيب من المسك، وأحلى من العسل، فأخذت رطبة فأكلتها فتحولت الرطبة نطفة في صلبي، فلما أن هبطت إلى الأرض واقعت خديجة فحملت بفاطمة، ففاطمة حوارء إنسية، فإذا اشتقتُ إلى الجنة شممتُ رائحة فاطمة[54].

وقد روى هذا الحديث بألفاظ مختلفة كلٌّ من:

1 - الخطيب البغدادي في تاريخه ج5 ص87.

2 - الخوارزمي في مقتل الحسين ص63.

3 - محمد بن أحمد الدمشقي في ميزان الاعتدال ج1 ص38.

4 - الزرندي في (نظم درر السمطين).

5 - العسقلاني في لسان الميزان ج5 ص160.

6 - القندوزي في ينابيع المودة.

7 - محب الدين الطبري في ذخائر العقبي ص34 وهذه الأحاديث مروية عن عائشة وابن عباس وسعيد بن مالك وعمر بن الخطاب.

8 - وروى ذلك الشيخ شُعيب المصري في (الروض الفائق ص214) قال: (روى بعض الرواة الكرام: أن خديجة الكبرى (رضى الله عنها) تمنَّت يوماً من الأيام على سيد الأنام أن تنظر إلى بعض فاكهة دار السلام، فأتى جبرئيل إلى المفضّل على الكونين من الجنة بتفاحتين وقال: يا محمد يقول لك من جعل لكل شيء قدراً: كل واحدة وأطعم الأخرى لخديجة الكبرى، وأغشها، فإني خالق منكما فاطمة الزهراء. ففعل المختار ما أشار به الأمين وأمر.. إلى أن قال: فكان المختار كلما اشتاق إلى الجنة ونعيمها قبَّل فاطمة وشمَّ طيب نسيمها، فيقول حين يستنشق نسمتها القدسية: إن فاطمة حوراء إنسية).

وهناك روايات متواترة بهذا المضمون، واكتفينا بما ذكرنا.

بقيت هنا كلمة لا بأس بالإشارة إليها، وهي أن الأحاديث كما تراها تصرح بأن السيدة خديجة حملت بفاطمة (عليها السلام) بعد المعراج مباشرة، وكان المعراج على ما هو المذكور في بعض كتب الحديث في السنة الثالثة من المبعث، وفي بعضها: في السنة الثانية وقيل غير ذلك.

وستأتيك طائفة من الأحاديث من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) تصرح بولادتها بعد المبعث بخمس سنين، ومعنى هذا أنها بقيت في بطن أمها أكثر من عامين، وهذا غير صحيح قطعاً، فكيف يمكن الجمع بين القولين؟

يمكن أن تُحلَّ هذه المشكلة بما يلي:

1 - إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) عُرج به إلى السماء أكثر من مرة كما في كتاب الكافي، وهذا عندي أحسن الوجوه.

2 - الأخذ بالقول المروي بولادتها في السنة الثانية أو الثالثة من المبعث (كما سيأتي) وهذا يتفق مع القول بالمعراج في تلك السنة نفسها، وخاصة بعد الالتفات إلى اختلاف الأقوال حول الشهر الذي كان فيه المعراج.

ومن جملة مزايا السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) أنها كانت تكلم أمها خديجة وهي في بطنها، ولم ينفرد علماء الشيعة بذكر هذه الفضيلة، بل شاركهم كثير من علماء العامة ومحدثيهم، فقد روى عبد الرحمن الشافعي في (نزهة المجالس ج2 ص227): (قالت أمَّها خديجة (رضي الله عنها): لما حملتُ بفاطمة كانت حملاً خفيفاً، تكلِّمني من باطني).

وروى الدهلوي في (تجهيز الجيش) عن كتاب (مدح الخلفاء الراشدين): (أنه لما حملت خديجة بفاطمة كانت تكلمها ما في بطنها، وكانت تكتمها عن النبي (صلى الله عليه وآله) فدخل عليها يوماً وجدها تتكلم وليس معها غيرها، فسألها عمن كانت تخاطبه فقالت: ما في بطني، فإنه يتكلم معي. فقال النبي (صلى الله عليه وآله): أبشري يا خديجة، هذه بنت جعلها الله أم أحد عشر من خلفائي يخرجون بعدي وبعد أبيهم).

وذكر شعيب بن سعد المصري في (الروض الفائق ص214): فلما سأله الكفار أن يريهم انشقاق القمر، وقد بان لخديجة حملها بفاطمة وظهر، قالت خديجة: وا خيبة من كذَّب محمداً وهو خير رسول ربي.

فنادت فاطمة - من بطنها: يا أماه لا تحزني ولا ترهبي، فإن الله مع أبي. فلما تم حملها وانقضى، وضعت فاطمة فأشرق بنور وجهها الفضاء.

وقد مرّ عليك في (المقدمة) الحديث المروي عن السيدة خديجة حول تكلُّم السيدة فاطمة الزهراء وهي في بطن أمَّها.


 

 

فاطمة الزهراء (عليه السلام) تطلُّ على الحياة

من العجب الاختلاف الواضح في تاريخ ولادتها، وأنها هل كانت قبل المبعث أو بعده؟ فإنك تجد طائفة كبيرة من الأحاديث تصرِّح بولادتها بعد المبعث بخمس سنين أو ثلاث سنين، وتجد عدداً من الأقوال التي تلحّ وتركز على ميلادها قبل المبعث بخمس سنين، وتجد القول الأول للشيعة مروياً عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ويوافقهم بعض علماء العامة.

والقول الثاني خاص بعلماء العامة ومحدّثيهم، وإليك بعض تلك الأحاديث حول ميلادها بعد المبعث:

1 - الكافي (للكليني): ولدت بعد النبوة بخمس سنين وبعد الإسراء بثلاث سنين، وقبض النبي ولفاطمة يومئذٍ - ثماني عشرة سنة!.. الخ.

2 - المناقب (لابن آشوب): ولدت فاطمة بعد النبوة بخمس سنين، وبعد الإسراء بثلاث سنين في العشرين من جمادى الآخرة، وأقامت مع أبيها بمكة ثماني سنين ثم هاجرت.. الخ.

3 - في البحار عن الإمام الباقر (عليه السلام): ولدت فاطمة بنت محمد بعد مبعث رسول الله بخمس سنين، وتوفيت ولها ثماني عشرة سنة وخمسة وسبعون يوماً.

4 - روضة الواعظين: ولدت فاطمة بعد مبعث النبي بخمس سنين.. الخ.

5 - إقبال الأعمال: قال الشيخ المفيد في كتاب (حدائق الرياض): يوم العشرين من جمادى الآخرة كان مولد السيدة فاطمة الزهراء سنة اثنتين من المبعث.

6 - مصباح الكفعمي: ولدت في العشرين من جمادى الآخرة يوم الجمعة سنة اثنتين من المبعث، وقيل سنة خمسٍ من المبعث.

7 - المصباحين: في اليوم العشرين من جمادى الآخرة يوم الجمعة سنة اثنتين من المبعث كان مولد فاطمة (عليها السلام) في بعض الروايات، وفي رواية أخرى: سنة خمس من المبعث، والعامة تروي أن مولدها قبل المبعث بخمس سنين.

8 - دلائل الإمامة عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: ولدت فاطمة في جمادى الآخرة العشرين منها سنة خمس وأربعين من مولد النبي... إلخ[55].

هذه نبذة من أقوال أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وقدماء علماء الشيعة (رحمهم الله) حول ولادة السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) بعد المبعث.

 

وأما أقوال علماء العامة:

1 - معرفة الصحابي لأبي نعيم: إن فاطمة كانت أصغر بنات رسول الله سنَّاً، ولدت وقريش تبني الكعبة.

2 - مقاتل الطالبيين لأبي الفرج: كان مولد فاطمة قبل النبوة وقريش حينئذ تبني الكعبة.

3 - ابن الأثير في (المختار من مناقب الأخيار).

4 - الطبري في (ذخائر العقبى).

5 - السيوطي في (الثغور الباسمة).

هذا ولعل الباحث يجد هذا القول في أكثر كتب العامة حول مولد الزهراء.

وقد مرت عليك طائفة من الأحاديث المروية عن كتب العامة حول انعقاد نطفتها من طعام الجنة.

بعد الإطلاع على هذه الأحاديث ولو بصورة موجزة يتضح لنا أنَّ ولادة السيدة الزهراء كانت قبل المبعث. إذ لم يكن قبل المبعث معراج ولا هبوط جبرئيل ولا ميكائيل على النبي بالوحي، وبهذا ينكشف لنا تزوير الأقوال المصرحة بولادتها قبل المبعث بخمس سنين وأن القائلين بذلك لهم غاية تدفعهم، وهدف يدعوهم إلى اختلاق هذا القول، وهو نسف الأحاديث الواردة عن نزول الطعام من السماء وانعقاد نطفة السيدة فاطمة من أطعمة الجنة وثمارها.

وهدف آخر: وهو أنَّهم يحاولون أن يثبتوا أن فاطمة الزهراء كان مزهوداً فيها، ولا يرغب فيها أحد، ولهذا بلغت من العمر ثمانية عشر سنة (على زعمهم) ولم يخطبها أحد في خلال تلك الفترة.

وسيأتي مزيد من القول حول هذا الموضوع في المستقبل في فصل البحث عن زواجها.

وعلى كلٍّ فقد روى الطبري في (ذخائر العقبى) والصفوري الشافعي في (نزهة المجالس) والقندوزي في (ينابيع المودة) عن خديجة (عليها السلام) قالت: فلما قربت ولادتي أرسلت إلى القوابل من قريش فأبين عليَّ لأجل محمد (صلى الله عليه وآله) فبينما أنا كذلك إذ دخل عليَّ أربع نسوة، عليهن من الجمال والنور ما لا يوصف، فقالت إحداهن: أنا أُمكِ حواء. وقالت الأُخرى: أنا آسية. وقالت الأُخرى: أنا أُم كلثوم (كلثم) أُخت موسى، وقالت الأُخرى: أنا مريم، جئنا لنلي أمرك.

الرواية بصورة أُخرى:

فلما أرادت خديجة أن تضع بعثت إلى نساء قريش ليأْتينها فيلين منها ما تلي النساء ممن تلد، فلم يفعلن، وقلن لا نأْتيك، قد صرت زوجة محمد.

فبينما هي كذلك إذ دخل عليها أربع نسوة، عليهن من الجمال والنور ما لا يوصف، فقالت لها إحداهن: أنا أُمُّكِ حواء، وقالت الأُخرى: أنا آسية بنت مزاحم، وقالت الأُخرى: أنا كلثم أُخت موسى وقالت الأُخرى: أنا مريم بنت عمران (أُم عيسى). جئنا لنلي من أمرك ما يلي النساء. قال: فولدت فاطمة.

فوقعت حين وقعت على الأرض ساجدة رافعة إصبعها.

وروى هذا الحديث (بصورة مفصلة) المفضل بن عمرو عن الإمام الصادق (عليه السلام) رواه المجلسي في أول الجزء العاشر من البحار.

وروى ابن عساكر في التاريخ الكبير.. وكانت خديجة إذا ولدت ولداً دفعته لمن يرضعه، فلما ولدت فاطمة لم ترضعها أحد غيرها.

ورواه ابن كثير في البداية والنهاية.

 

التّسمِيَة

تعتبر تسمية الطفل المولود أو التسمية (بصورة عامة) من سنن الله تعالى الأولى وقد سمَّى الله تعالى آدم وحوَّاء يوم خلقهما، وعلَّم آدم الأسماء كلها، وقد سار الناس على هذه السنة أو السيرة. فالتسمية لا بدَّ منها عند البشر المتحضّر، ولعل البشر المتوحش في الغابات بسبب ابتعادهم عن الحضارة لا يعرفون التسمية ولا يسمُّون.

وتختلف أسماء البشر على مرِّ الأجيال والعصور، وعلى اختلاف لغاتها فقد توجد هناك مناسبة بين الاسم والمسمَّى، وقد لا توجد، وقد يكون للإسلام معنى في قاموس اللغة وقد لا يكون له معنى، بل هو اسم مخترع لا من مادة لغوية.

أما أولياء الله فإنَّ التسمية تعتبر عندهم ذات أهمية كبرى، ولا يخلو الأمر عن الحقيقة، أنَّ الإنسان ينادى ويدعى باسمه، فكم هناك فرق بين الاسم الحسن الجيِّد، وبين القبيح السيئ؟

وكم فرق بين تأثير نفس صاحب الاسم بهذا وذاك؟ وهكذا تأثر السامع للاسم؟ فهذه امرأة عمران ولدت بنتاً فقالت: (وإني سميتها مريم).

واختار الله لنبيه يحيى (عليه السلام) هذا الاسم قبل أن تنعقد نطفته في رحم أُمِّه، لأنَّ زكريا سأل ربه قال: (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً * يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيّاً)[56] وأنت إذا أمعنت النظر في قوله تعالى: (لم نجعل له من قبل سمياً) يتضح لك أنَّ تعيين أسماء أولياء الله يكون من عنده عز وجل، وأنَّ الله يتولى تسميتهم ولم يكلها إلى الأبويْن.

إذا عرفت هذا فهلمَّ معي إلى طائفة كبيرة من الأحاديث التي تذكر اسم السيدة فاطمة الزهراء ووجه التسمية، وأنها إنما سميت بفاطمة لأسباب ومناسبات، وليست هذه التسمية ارتجالية، ولا وليدة إعجاب واستحسان فقط، بل روعي فيها مناسبة الاسم مع المسمى، بل صدق الاسم على المسمَّى، وبهذه الأحاديث يتضح ما نقول.

قال الإمام الصادق (عليه السلام): لفاطمة تسعة أسماء عند الله عز وجل: فاطمة والصدِّيقة والمباركة، والطاهرة، والزكية، والراضية والمرضية، والمحدَّثة، والزهراء.. إلخ[57].

 

فَاطمَة (عليها السلام)

1 - في العاشر من البحار عن الغمام أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: لما ولدت فاطمة (عليها السلام) أوحى الله عز وجل إلى ملك فأنطق به لسان محمد (صلى الله عليه وآله) فَسمَّاها فاطمة ثم قال: إني فطمتك بالعلم. وفطمتك عن الطمث ثم قال أبو جعفر (عليه السلام): والله لقد فطمها الله تبارك وتعالى بالعلم وعن الطمث بالميثاق[58].

2 - عن الإمامين: الرضا والجواد (عليهما السلام) قالا: سمعنا المأْمون يحدث عن الرشيد عن المهدي عن المنصور عن أبيه عن جدِّه قال ابن عباس - لمعاوية - : أتدري لِمَ سُمِّيت فاطمة؟ قال: لا: قال: لأنها فطمت هي وشيعتها من النار سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقوله.

3 - عن الإمام الرضا (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال: رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا فاطمة أتدرين لِمَ سُمِّيتِ فاطمة؟ قال علي (عليه السلام): لم سُميت؟ قال: لأنها فُطمت هي وشيعتها من النار.

4 - قال الإمام الصادق (عليه السلام): أتدرون أيُّ شيء تفسير فاطمة؟ قلت: أخبرني يا سيدي قال: فُطمت من الشر. ثم قال: لولا أن أمير المؤمنين تزوَّجها لما كان لها كفء إلى يوم القيامة على وجه الأرض، آدم فمن دونه.

وقد روي هذا الحديث من علماء العامة جماعة. منهم:

ابن شيرويه الديلمي عن أُم سلمة قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لو لم يخلق الله علياً لما كان لفاطمة كفء.

ورواه الخوارزمي في مقتل الحسين ص65.

والترمذي في المناقب. والمناوي في كنوز الحقائق.

والقندوزي في ينابيع المودة عن أُم سلمة وعن العباس عمّ النبي (صلى الله عليه وآله).

5 - وروى الخرگوشي في كتاب (شرف النبي) وابن بطة في كتاب (الإبانة) عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام): هل تدري لِمَ سُمِّيت فاطمة؟ قال علي: لِم سُمِّيت؟ قال: لأنَّها فُطمت هي وشيعتها من النار.

6 - عن الإمام الرضا (عليه السلام) عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليهم السلام) قال: سمعت رسول الله يقول: سُمِّيت فاطمة لأن الله فطمها وذريتها من النار، من لقي الله منهم بالتوحيد والإيمان بما جئتُ به[59].

وقد روى الأحاديث جمع غفير من علماء العامة. منهم:

1 - الخوارزمي في مقتل الحسين ص51 عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إنما سُمِّيت ابنتي فاطمة لأنَّ الله عز وجل فطمها وفطم من أحبَّها من النار.

2 - الطبري في (ذخائر العقبى) والقندوزي في (ينابيع المودة) والصفوري في (نزهة المجالس) عن علي رضي الله عنه: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا فاطمة أتدرين لم سُمِّيت فاطمة؟ قال علي: يا رسول الله لِم سُمِّيت فاطمة؟ قال: إنَّ الله عز وجل قد فطمها وذريَّتها من النار يوم القيامة.

ورواه القندوزي في (ينابيع المودة) ص194.

وكان هذا الاسم محبوباً عند أهل البيت (عليهم السلام) يحترمونه ويحترمون من سُمِّيت به، وسأل الإمام الصادق (عليه السلام) أحد أصحابه - وقد رزقه الله بنتاً - بِم سمَّيتها قال الرجل: سميتها فاطمة. قال الإمام الصادق: فاطمة؟ سلام الله على فاطمة أما إن سميتها فاطمة فلا تلطمها ولا تشتمها وأكرمها.

وفي الوسائل ج7 عن السكوني قال: دخلت على أبي عبد الله - الصادق - (عليه السلام) وأنا مغموم مكروب قال لي: يا سكوني ما غمك؟ فقلت: ولدت لي ابنة.. فقال: ما سمَّيتها قلت: فاطمة قال: آه آه آه ثم قال: أما إذا سميتها فاطمة فلا تسبها ولا تلعنها ولا تضربها.

وفي سفينة البحار عن أبي الحسن (الكاظم) قال: لا يدخل الفقر بيتاً فيه اسم محمد.. وفاطمة من النساء.

إن الحديث الأول الذي مرّ في تسميتها (عليها السلام) بفاطمة، عن الإمام الباقر (عليه السلام) قد ذيّله الإمام بقوله: (والله لقد فطمها الله تبارك وتعالى بالعلم وعن الطمث بالميثاق).

إن المقصود من كلمة (الميثاق) هنا هو عالم الذر، ذلك العالم الذي أشار إليه قوله تعالى: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألستُ بربكم قالوا بلى)[60] وملخص القول: إن الله تعالى أخرج ذرية آدم من صلبه كهيئة الذر، فعرضهم على آدم وقال: إني آخذ على ذريتك ميثاقهم أن يعبدوني ولا يشركوا بي شيئاً وعليَّ أرزاقهم، ثم قال لهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا أنك ربنا فقال للملائكة: اشهدوا فقالوا: شهدنا. وقيل إن الله تعالى جعلهم فهماء عقلاء يسمعون خطابه ويفهمونه ثم ردَّهم إلى صلب آدم، والناس محبوسون بأجمعهم حتى يخرج كل من أخرجه الله في ذلك الوقت، وكل من ثبت على الإسلام فهو على الفطرة الأُولى، ومن كفر وجحد فقد تغيَّر عن الفطرة الأُولى.

وهذا القول مستخلص من طائفة كبيرة من الأحاديث والأخبار المعتبرة وهذا العالم يسمَّى عالم الذر ويسمى عالم الميثاق، والإمام الباقر (عليه السلام) يشير في كلامه إلى أن الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء كانت طاهرة من العادة الشهرية من ذلك العالم ومن ذلك الوقت.

وأما الأحاديث التي تتحدث عن عالم الذر فكثيرة جداً، ونكتفي هنا بذكر بعضها: في تفسير البرهان عن الإمام أبي عبد الله (الصادق) (عليه السلام) قال: سُئل رسول الله (صلى الله عليه وآله): بأي شيء سبقت ولد آدم؟ قال: إنني أول من أقرَّ بربي، إن الله أخذ ميثاق النبيين وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا: بلى. فكنت أول من أجاب.

عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله الصادق (عليه السلام): كيف أجابوا وهم ذر؟ قال: جعل فيهم ما إذا سألهم أجابوه؛ وزاد العياشي: يعني في الميثاق.

وعن زرارة أنه سئل من الإمام الباقر (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم) قال: من ظَهرِ آدم ذريتَه إلى يوم القيامة فخرجوا كالذر، فعرَّفهم وأراهم صنعه، ولولا ذلك لم يعرف أحد ربه.

ولما حج عمر بن الخطاب واستلم الحجر قال: أما والله إني لأعلم أنك حجر، لا تضر ولا تنفع، ولولا أن رسول الله استلمك ما استلمتك فقال له علي: يا أبا حفص لا تفعل فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يستلم إلاَّ لأمر قد علمه ولو قرأت القرآن فعلمت من تأْويله ما علم غيرك لعلمت أنه يضر وينفع، له عينان وشفتان ولسان ذلق يشهد لمن وافاه بالموافاة، فقال له عمر: فأوجدني ذلك في كتاب الله يا أبا الحسن فقال علي (عليه السلام): قوله تبارك وتعالى: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا)، فلما أقروا بالطاعة أنه الرب وأنهم العباد أخذ عليهم الميثاق بالحج إلى بيته الحرام، ثم خلق الله رقا أرقَّ من الماء وقال للقلم: أُكتب موافاة خلقي ببيتي الحرام. فكتب القلم موافاة بني آدم في الرق ثم قيل للحجر: افتح فاك. ففتحه فألقم الرق. ثم قال للحجر: احفظه واشهد لعبادي بالموافاة. فهبط الحجر مطيعاً لله.

يا عمر أو ليس إذا استلمت الحجر قلت: أمانتي أدَّيتها، وميثاقي تعاهدته لتشهد لي بالموافاة؟ فقال عمر: اللهم نعم. فقال له علي: من ذاك.

وإنك تجد طائفة كبيرة من الأحاديث التي تتضمن البحث عن عالم الذر في كتاب الكافي للكليني والبحار للمجلسي وغيرها من موسوعات الأحاديث.

وقد التبس الأمر على بعض علمائنا. فلم يفهموا الآية فجعلوا يشككون في تلك الأحاديث (سامحهم الله) بالرغم من كثرتها بل بالرغم من صريح الآية.

وخلاصة الكلام أن عالم الذر هو عالم الميثاق، ومن ذلك العالم بل وقبل ذلك كانت الأفضلية لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الطاهرين، ومن جملتهم ابن الطاهرة فاطمة الزهراء.

ولا يصعب عليك قبول هذا القول، فإن هناك أحاديث كثيرة رواها علماء الفريقين من الشيعة والسنة قد بلغت أو تجاوزت حدَّ التواتر وهي تؤيِّد هذا الموضوع أما الأحاديث المذكورة في كتب الشيعة فيعسر إحصاؤها وعدُّها، وأما في كتب السنة فقد روى الصفوري الشافعي في (نزهة المجالس ج2 ص223) قال: قال الكسائي وغيره: لما خلق الله آدم.. إلى أن قال: وعليه جارية لها نور وشعاع، وعلى رأْسها تاج من الذهب، مرصَّع بالجواهر لم ير آدم أحسن منها. فقال: يا رب من هذه؟ قال: فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله) فقال: يا رب من يكون بعلها؟ قال: يا جبرئيل افتح له باب قصر من الياقوت. ففتح له، فرأى فيه قبَّةً من الكافور، فيها سرير من ذهب، عليه شاب حسنه كحسن يوسف فقال: هذا بعلها علي بن أبي طالب.. الحديث.

وروى العسقلاني في (لسان الميزان ج3 ص346):

عن الإمام الحسن بن علي العسكري (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) عن جابر بن عبد الله عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): لما خلق الله آدم وحوَّاء تبخترا في الجنة وقالا: من أحسن منَّا؟ فبينما هما كذلك. إذ هما بصورة جارية لم ير مثلها، لها نور شعشعاني يكاد يطفئ الأبصار. قالا: يا رب ما هذه؟ قال: صورة فاطمة سيدة نساء ولدك قال: ما هذا التاج على رأسها قال: علي بعلها. قال فما القرطان قال: ابناها، وجد ذلك في غامض علمي قبل أن أخلقك بألفي عام.

 

الصِّدِّيقة

لقد مرَّ عليك أن من جملة أسمائها (عليها السلام) الصدِّيقة، بكسر الصاد والدال المشدّدة (صيغة المبالغة) في التصديق أي الكثيرة الصدق.

والصِدِّيق أبلغ من الصدوق، وقيل: الصدِّيق: من كثر منه الصدق. وقيل: بل مَن لم يكذب قط. وقيل: الكامل في الصدق، الذي يصدِّق قوله بالعمل، البار، الدائم التصديق وقيل: مَن لم يتأت منه الكذب لتعوِّده الصدق. وقيل: مَن صدق بقوله واعتقاده، وحقق صدقه بفعله. كذا في تاج العروس.

وقيل: المداوم على التصديق بما يوجبه الحق، وقيل: الذي عادته الصدق. وقيل: إنه المصدِّق بكل ما أمر الله به وبأنبيائه، لا يدخله في ذلك شك، ويؤيده قوله تعالى: (والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصدِّيقون). سورة الحديد، الآية: 19.

هذه تعاريف في معنى الصدِّيق، ولكن المستفاد من الآيات الكثيرة والروايات المتعددة أن مرتبة الصدِّيقين في عداد مراتب الأنبياء والشهداء لهم حساب خاص بهم ودرجة مخصوصة بهم. استمع إلى هذه الآيات ليظهر لك ما قلنا:

 (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدِّيقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً) سورة النساء، الآية: 69.

(واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صدِّيقاً نبياً) سورة مريم، الآية: 39.

(واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صدِّيقاً نبياً) سورة مريم، الآية: 56.

(وما المسيح ابن مريم إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صدِّيقة) سورة المائدة، الآية: 75.

وفي تفسير قوله تعالى: (وأُمَّه صدِّيقة) قيل: سُميَّت صدِّيقة لأنها تُصدِّق بآيات ربها، ومنزلة ولدها وتصدِّقه فيما أخبرها به، بدلالة قوله تعالى: (وصدَّقت بكلمات ربها) وقيل: لكثرة صدقها، وعظم منزلتها فيما تصدق به من أمرها.

بعد استعراض هذه الآيات والأقوال يمكن لنا أن نستفيد أن التصديق بالله وبالأنبياء والكتب السماوية والأحكام الشرعية تارة يكون باللسان دون العمل.

ففي الوقت الذي يصدّق الإنسان بأن الله تعالى يراه مع ذلك يعصي الله عز وجل ويعلم بأن الله تعالى قد أوجب عليه حقوقاً مالية أو غير مالية مع ذلك لا يؤدي تلك الحقوق ويعلم بأن الله حرَّم الخمر والربا والزنا ومع ذلك لا يرتدع عن تلك المعاصي فهو مصدّق بالله وبالحلال والحرام، والثواب والعقاب، والجنة والنار، ولكن عمله لا يطابق هذا التصديق، أي لم يبلغ به التصديق درجة المطابقة بين القول والفعل أو بين الاعتقاد والعمل.

ولكنّ الصدِّيقين هم الذين يعتقدون الحق ويؤمنون به، ويعملون على ضوء تلك المعتقدات، وهؤلاء عددهم قليل ونادر في كل زمان وفي كل مكان.

وأنت إذا قارنت بين هذه التعاريف وبين أعمال الناس يظهر لك بكل وضوح أن عدد الصدِّيقين قليل جداً جداً، ولعل في بعض البلاد لا يوجد صدّيق واحد.

وبعد هذا كله سوف يسهل عليك أن تعرف أن السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) قد بلغت مرتبة الصدِّيقين، وسمَّاها رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالصدِّيقة. كما في (الرياض النضرة ج2 ص202) وفي (شرف النبوة) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال لعلي: أُتيتَ ثلاثاً لم يؤتَهن أحد ولا أنا:

أُتيتَ صهراً مثلي ولم أُوت أنا مثلي.

وأُتيتَ زوجة صدِّيقة مثل ابنتي ولم أُوت أنا مثلها زوجة.

وأُوتيتَ الحسن والحسين من صلبك ولم أُوتَ من صلبي مثلهما.

ولكنكم مني وأنا منكم.

وسأل المفضل بن عمرو عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: قلت: من غسَّل فاطمة؟ قال: ذاك أمير المؤمنين فكأنني استعظمت ذلك من قوله، فقال كأنك ضقتَ بما أخبرتك به؟ فقلت: قد كان ذلك جعلت فداك!

قال: لا تضيقنَّ، فإنها صدِّيقة، ولم يغسِّلها إلا صدِّيق، أما علمت أن مريم لم يغسِّلها إلا عيسى.

 

المُبَارَكَة

البركة: النماء والسعادة والزيادة كما في (تاج العروس) وقال الراغب: ولما كان الخير الإِلهي يصدر من حيث لا يحبس، وعلى وجه لا يحصى ولا يحصر قيل - لكل ما يشاهَد منه زيادة محسوسة - : هو مبارك فيه، وفيه بركة.

ولقد بارك الله في السيدة فاطمة أنواعاً من البركات وجعل ذرية رسول الله (صلى الله عليه وآله) من نسلها، وجعل الخير الكثير في ذريَّتها، فإنها ماتت وتركت ولدين وابنتين فقط، وهم: الإمام الحسن والإمام الحسين (عليهما السلام) وزينب وأُم كلثوم، وجاءت واقعة كربلاء، وقتل فيها أولاد الحسين ولم يبق من أولاده إلاَّ علي بن الحسين (زين العابدين).

وقُتل من أولاد الإمام الحسن سبعة (على قول) واثنان من ولد زينب، وأما أُم كلثوم فإنها لم تعقب.

وبعد واقعة كربلاء تكررت الحوادث، وأُقيمت المذابح والمجازر في نسل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وذرية فاطمة الزهراء من واقعة الحرَّة، إلى واقعة زيد بن علي بن الحسين إلى واقعة الفخ إلى مطاردة العلويين في عهد الأُمويين.

وجاء دَور بني العباس، فضربوا الرقم القياسي في مكافحة العلويين وإبادتهم واستئصال شأْفتهم، راجع كتاب (مقاتل الطالبيين) تجد بعض تلك الحوادث.

واستمرت المكافحة أكثر من قرنين حتى قُتل الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) وهو الإمام الحادي عشر مسموماً في مدينة سامراء، ولم يكن صلاح الدين الأيوبي بأقل من العباسيين في إراقة دماء آل رسول الله ودماء شيعتهم، فلقد أقاموا في المغرب العربي مجازر ومذابح جماعية تقشعر منها الجلود.

ومع ذلك كله فقد جعل الله البركة في نسل فاطمة الزهراء، وقد جعل الله منها الخير الكثير.

وفي تفسير قوله تعالى: (إنا أعطيناك الكوثر) أقوال للمفسرين، وإن كان المشهور أن الكوثر هو الحوض المعروف في القيامة، أو النهر المشهور في الجنة ولكن الكوثر على وزن فوعل - هو الشيء الكثير والخير الكثير.

وقد ذكر السيوطي في (الدر المنثور) في تفسير شرح الكوثر: وأخرج البخاري وابن جرير والحاكم عن طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس (رضي الله عنهما) أنه قال: الكوثر: الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه، قال أبو بشر: قلت لسعيد بن جبير فإنّ ناساً يزعمون أنَّه نهر في الجنة. قال: النهر الذي في الجنة هو من الخير الكثير الذي أعطاه.

والأنسب بالمقام. وبمقتضى الحال - كما في التفسير للرازي - أن يكون المقصود من الكوثر هي الصدّيقة فاطمة الزهراء، فقد ذكر الطبرسي في (مجمع البيان) في تفسير سورة الكوثر: قال: قيل: الكوثر هو الخير الكثير، وقيل: هو كثرة النسل والذرية، وقد ظهرت الكثرة في نسله - رسول الله (صلّى الله عليه وآله) - من وُلد فاطمة حتى لا يحصى عددهم، واتصل إلى يوم القيامة مددهم.

وقال الفخر الرازي في تفسيره حول الآية:

(والقول الثالث): الكوثر أولاده، قالوا: لأن هذه السورة إنما نزلت ردَّاً علة من عابه (عليه السلام) بعدم الأولاد، فالمعنى أنه يعطيه نسلاً يبقون على مرِّ الزمان فانظر كم قُتل من أهل البيت؟ ثم العالم ممتلئ منهم، ولم يبق من بني أُمية في الدنيا أحد يُعبأُ به، ثم انظر كم كان فيهم من الأكابر من العلماء كالباقر والصادق والكاظم والرضا (عليهم السلام) والنفس الزكية وأمثالهم.

ووجه المناسبة: أن الكافر شمت بالنبي حين مات أحد أولاده وقال: إن محمداً أبتر، فإن مات، مات ذكره. فأنزل الله هذه السورة على نبيه تسلية له كأنه تعالى يقول: إن كان ابنك قد مات فإنا أعطيناك فاطمة، وهي وإن كانت واحدة وقليلة، ولكن الله سيجعل هذا الواحد كثيراً.

وتصديقاً لهذا الكلام ترى في العالم (اليوم) ذرية فاطمة الزهراء الذين هم ذرية رسول الله (صلى الله عليه وآله) منتشرين في بقاع العالم، ففي العراق حوالي مليون وفي إيران حوالي ثلاثة ملايين، وفي مصر خمسة ملايين وفي الجزائر وفي تونس وليبيا عدد كثير، وكذلك في الأردن وسوريا ولبنان، والسودان وبلاد الخليج والسعودية ملايين، وفي اليمن والهند وباكستان والأفغان وجزر إندونيسيا حوالي عشرين مليوناً.

وقلَّ أن تجد في البلاد الإسلامية بلدة ليس فيها أحد من نسل السيدة فاطمة الزهراء. ويقدَّر مجموعهم بخمسة وثلاثين مليوناً، ولو أجريت إحصائيات دقيقة وصحيحة فلعل العدد يتجاوز هذا المقدار.

هؤلاء ذرية رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهم من صلب علي وفاطمة وفيهم الملوك والأمراء والوزراء والعلماء والكتَّاب والشخصيات البارزة والعباقرة المرموقة.

ومنهم مَن يعتزُّ بهذا الانتساب ويفتخر به، ومنهم مَن يهمله ولا يبالي به، ومنهم مَن يسير على طريقة أهل البيت، ومنهم مَن يسير على خلاف مذهب أهل البيت.

وقد سمعت أنَّ بعض العلويين في إندونيسيا خوارج ونواصب!!

ومن أعجب العجب أن بعض المسلمين ما كان يعجبهم أن يعترفوا بهذا الانتساب أي انتساب ذرية علي وفاطمة على رسول الله (صلى الله عليه وآله) بل يعتبرون هذا الاعتراف كذباً وافتراءً، ويحاربون هذه الفكرة محاربة شعواء لا هوادة فيها، وكانوا يسفكون الدماء البريئة لأجل هذه الحقيقة.

انظر إلى موقف الحَجاج السفَّاك الهتَّاك تجاه هذا الأمر، وهكذا المنصور الدوانيقي، وهارون الرشيد وغيرهم ممن حذا حذوهم وسلك طريقتهم.

وفي العاشر من البحار: عن عامر الشعبي أنه قال: بعث إليَّ الحجاج ذات ليلة فخشيت فقمت فتوضأْت وأوصيت، ثم دخلت عليه، فنظرت فإذا نطع منشور والسيف مسلول، فسلَّمت عليه فردَّ عليَّ السلام فقال: لا تخف فقد أمنتك الليلة وغداُ إلى الظهر، وأجلسني عنده ثم أشار فأُتي برجل مقيَّد بالكبول والأغلال، فوضعوه بين يديه فقال: إن هذا الشيخ يقول: إنَّ الحسن والحسين كانان ابني رسول الله، ليأْتيني بحجة من القرآن وإلاَّ لأضربنَّ عنقه.

فقلت: يجب أن تحلَّ قيده، فإنَّه إذا احتج فإنَّه لا محالة يذهب وإن لم يحتج فإنَّ السيف لا يقطع هذا الحديد.

فحلّوا قيوده وكبوله، فنظرت فإذا هو سعيد بن جبير، فحزنت بذلك، وقلت: كيف يجد حُجَّةً على ذلك من القرآن؟ فقال الحجاج: ائتني بحجة من القرآن على ما ادعيت وإلاَّ أضرب عنقك.

فقال له: انتظر. فسكت ساعة ثم قال له مثل ذلك. فقال: انتظر. فسكت ساعة ثم قال له مثل ذلك فقال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم ثم قال: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب .. إلى قوله: وكذلك نجزي المحسنين) ثم سكت وقال للحجاج: اقرأْ ما بعده. فقرأ: (وزكريا ويحيى وعيسى) فقال سعيد: كيف يليق هاهنا عيسى؟ قال: إنَّه كان من ذريته قال: إن كان عيسى من ذرية إبراهيم ولم يكن له أب بل كان ابن ابنته فنُسب إليه مع بُعده فالحسن والحسين أولى أن يُنسب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) مع قربهما منه.

فأمر له بعشرة آلاف دينار، وأمر أن يحملوه إلى داره وأذن له في الرجوع قال الشعبي: فلما أصبحت قلت في نفسي: قد وجب عليَّ أن آتي هذا الشيخ فأتعلَّم منه معاني القرآن، لأني كنت أظن أني أعرفها، فإذا أنا لا أعرفها. فأتيته فإذا هو في المسجد، وتلك الدنانير بين يديه، يفرِّقها عشراً عشراً، ويتصدق بها ثم قال: هذا كله ببركة الحسن والحسين (عليهما السلام) لئن أغممنا واحداً لقد أفرحنا ألفاً وأرضينا الله ورسوله (صلى الله عليه وآله).

أقول: الآيات التي استدل بها سعيد بن جبير (رضوان الله عليه) هي: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلاّ هدينا ونوحاً هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين) سورة الأنعام؛ الآية: 85.

وهاك حديثاً آخر يكشف لك مدى العناد واللجاج والإلحاح على نفي هذه الفضيلة وتزييفها من الجانب المناوئ.

روى شيخنا المجلسي في البحار عن الاحتجاج وتفسير علي بن إبراهيم عن أبي الجارود عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: قال لي أبو جعفر: يا أبا الجارود ما يقولون في الحسن والحسين (عليهما السلام)؟ قلت: ينكرون علينا أنهما ابنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: فبأي شيء احتججتم عليهم؟

قلت: يقول الله عز وجل في عيسى ابن مريم: (ومن ذريته داود وسليمان إلى قوله وكذلك نجزي المحسنين) وجعل عيسى من ذرية إبراهيم.

قال: فأي شيء قالوا لكم؟

قلت: قالوا: قد يكون ولد الابنة من الوالد ولا يكون من الصلب.

قال: فبأي شيء احتججتم عليهم؟

قال: قلت: احتججنا عليهم بقول الله تعالى: (قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم).

قال: فأي شيء قالوا لكم؟

قلت: قالوا: قد يكون في كلام العرب ابني رجل واحد فيقول: أبناءنا. وإنما هما ابن واحد.

قال: فقال أبو جعفر (عليه السلام): والله يا أبا الجارود لأعطينَّكها من كتاب الله آية تسمّى لصلب رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يردّها إلاَّ كافر.

قال: قلت: جعلت فداك وأين؟

قال: حيث قال الله: (حرّمت عليكم أمهاتكم وبناتكم إلى أن تنتهي إلى قوله: وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم) فسلهم يا أبا الجارود هل حلَّ لرسول الله (صلى الله عليه وآله) نكاح حليلتيهما؟ (أي زوجة الحسن والحسين).

فإن قالوا: نعم، فكذبوا والله وفجروا، وإن قالوا: لا. فهما والله ابناه لصلبه، وما حرمتا عليه إلاّ للصلب.

ولقد جرى حوار بين هارون الرشيد والإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام) ذكره شيخنا المجلسي في البحار نقلاً عن عيون أخبار الرضا (عليه السلام) أن هارون الرشيد قال للإمام موسى بن جعفر (عليه السلام):

لِمَ جوَّزتم للعامة والخاصة أن ينسبوكم إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويقولون لكم يا بني رسول الله، وأنتم بنو علي، وإنما ينسب المرء إلى أبيه، وفاطمة إنما هي وعاء والنبي (صلى الله عليه وآله) جدّكم من قِبَل أُمِّكم؟؟

فقال الإمام: لو أنّ النبي نُشر (أي بعث حياً) فخطب إليك كريمتك هل كنت تجيبه؟

قال الرشيد: سبحان الله! ولِمَ لا أُجيبهُ؟ بل أفتخر على العرب والعجم وقريش بذلك.

فقال الإمام: ولكنه (صلى الله عليه وآله) لا يخطب إليَّ ولا أزوِّجه.

قال الرشيد: ولِمَ؟

قال الإمام: لأني ولدني ولم يلدك.

قال الرشيد: أحسنت يا موسى.

ثم قال الرشيد: كيف قلتم إنا ذرية النبي، والنبي (صلى الله عليه وآله) لم يعقّب؟ وإنما العقب للذكر، لا للأنثى، وأنتم ولد الابنة، ولا يكون لها عقب؟

فاعتذر الإمام عن الإجابة على هذا السؤال المحرج وطلب من الرشيد إعفاءه عن الجواب رعاية للتقية. فقال الرشيد: لا، أو تخبرني بحجتكم فيه يا ولد علي وأنت يا موسى يعسوبهم وإمام زمانهم، كذا أنهي إلي ولست أَعفيك في كل ما أسألك حتى تأْتيني فيه بحجة من كتاب الله، فأنتم تدَّعون - معشر وُلد علي - أنَّه لا يسقط عنكم منه شيء ألِفٌ ولا واو إلاَّ وتأْويله عندكم، واحتججتم بقوله عز وجل: (ما فرَّطنا في الكتاب من شيء) وقد استغنيتم عن رأي العلماء وقياسهم.

فقال الإمام: تأذن لي في الجواب؟

قال الرشيد: هات.

قال الإمام: أعود بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم (ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى)، مَن أبو عيسى؟

قال الرشيد: ليس لعيسى أب.

قال الإمام: إنما ألحقناه بذراري الأنبياء (عليهم السلام) من طريق مريم (عليها السلام) وكذلك أُلحقنا بذراري النبي (صلى الله عليه وآله) من قَبِل أمِّنا فاطمة (عليها السلام).. إلى آخر الحديث.

هذه هي الآيات التي استدل بها الأئمة (عليهم السلام) حول انتسابهم إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن طريق السيدة فاطمة الزهراء، وأما الأحاديث التي تصرّح بهذا المعنى فكثيرة جداً، ونكتفي هنا بما يلي:

1 - الخطيب البغدادي في (تاريخ بغداد ج1ص316).

عن ابن عباس قال: كنت أنا وأبي: العباس بن عبد المطلب جالسين عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذ دخل علي بن أبي طالب فسلّم، فردّ عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبشّ به، فقال العباس: يا رسول الله أتحبّ هذا؟ فقال النبي (صلى الله عليه وآله): يا عمَّ رسول الله! واللهِ اللهُ أشدُّ حُبَّاً له مني، إنَّ الله جعل ذرية كل نبي في صلبه، وجعل ذريتي في صلب هذا.

ورواه الخوارزمي في (المناقب ص229).

عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: إنَّ الله عز وجل جعل ذرية كل نبي في صلبه وجعل ذريتي في صلب علي.

ورواه محب الدين الطبري في (ذخائر العقبى).

والحمويني في (فرائد السمطين).

والذهبي في (ميزان الاعتدال).

وابن حجر في (الصواعق المحرقة ص74).

والمتقي الهندي في (منتخب كنز العمال).

والزرقاني في (شرح المواهب اللدنية).

والقندوزي في (ينابيع المودة ص183).

وذكر النسائي في كتاب (خصائص أمير المؤمنين) عن محمد بن أسامة بن زيد عن أبيه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أما أنت يا علي فختني وأبو ولدي وأنت مني وأنا منك.

وروى أيضاً عن أسامة قال: طرقت باب رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليلة لبعض الحاجة، فخرج وهو مشتمل على شيء لا أدري ما هو؟ فلما فرغت من حاجتي قلت: ما هذا الذي أنت مشتمل عليه؟ فكشفه فإذا هو الحسن والحسين على وركيه، فقال: هذان ابناي، وابنا بنتي، اللهم إنك تعلم أني أحبُّهما فأحبهما.

والأحاديث التي تصرح بأن الحسن والحسين (عليهما السلام) كانا ابني رسول الله (صلى الله عليه وآله) كثيرة جداً، وجاء بعض الجهلاء يتفلسف ليُنكر أبوّة رسول الله (صلى الله عليه وآله) لولديه: الحسن والحسين (عليهما السلام) مستدلاً بقوله تعالى: (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم). فيزعم الجاهل أنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليس بأب أحد، مع العلم أن الآية نزلت حول نفي نسب زيد الذي تبنَّاه رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم زوَّجه زينب بنت جحش ثمّ طلّقها زيد وتزوجها النبي (فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطراً وكان أمر الله مفعولاً)[61] ففي هذا بيان أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليس بأب لزيد حتى تحرم عليه زوجته، فإن تحريم زوجة الابن معلق بثبوت النسب، فمن لا نسب له لا حرمة لامرأته، ولهذا أشار إليهم فقال: (من رجالكم) وقد ولد لرسول الله (صلى الله عليه وآله) أولاد ذكور إبراهيم والقاسم والطيب والمطهر، فكان (صلى الله عليه وآله) أباهم، وقد صح وثبت أنه (صلى الله عليه وآله) قال للحسن (عليه السلام): إن ابني هذا سيد. وقال أيضاً: إن كل بني بنت ينسبون إلى أبيهم إلاَّ أولاد فاطمة فإني أنا أبوهم.

وقيل: أراد بقوله: (من رجالكم) البالغين من رجال ذلك الوقت ولم يكن أحد من أبنائه رجلاً في ذلك الوقت.

وختاماً لهذا الفصل: كل ما تقوله في أبوَّة رسول الله لأولاده الذكور فهو الثابت في أبوَّة رسول الله لولديه الحسن والحسين، والكلام هناك نفس الكلام هنا.

 

الطّاهِرَة

لقد مرّ عليك أن من جملة أسمائها (عليها السلام) هي الطاهرة، وأحسن ما نبحث فيه حول هذا الموضوع هي آية التطهير، وهي قوله تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً). إن هذه الآية الكريمة تعتبر في طليعة الآيات ذات الأهمية الكبرى، وذلك لعظم معناها ومغزاها، لأنها منبع فضائل أهل البيت النبوي لاشتمالها على أمور عظيمة وقد كثرت الأقوال، وجالت الأقلام حول هذه الآية.

ولعل من الصحيح أن نقول: إن آية التطهير معترك الآراء المتضاربة والأقوال المختلفة، وخاصة حول كلمة: (أهل البيت) والمقصود منهم، ومدى شمول هذه الكلمة.

والأمر الذي لا شك فيه أن آية التطهير تشمل الصدِّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) قطعاً، وبإجماع المفسرين والمحدِّثين من الشيعة والسنَّة، إلاَّ من شدَّ وندر.

إذ أن جميع الأحاديث الواردة حول نزول هذه الآية متفقة على شمولها لعليٍ وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) بالقدر المتيقن.

وإن كان هناك قول يشعر بشمولها لزوجات النبي (صلى الله عليه وآله) اعتماداً على ظاهر لفظ (أهل البيت) أو سياق الآية التي سبقتها ولحقتها خطابات لزوجات النبي، فإن جميع الأحاديث تصرّح بأن النبي لم يسمح حتى لزوجته السيدة أم سلمة أن تدخل تحت الكساء قبل نزول آية التطهير.

وقد ذكرنا الشيء اليسير - مما يتعلق بالآية - في كتاب (علي من المهد إلى اللحد) ونذكر هنا بعض الأحاديث ومصادرها من كتب علماء السُّنة، رعاية لأسلوب الكتاب وتتميماً للفائدة، وينبغي أن نعلم أن الذين رووا نزول أية التطهير في حق علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) يعسر إحصاؤهم، ولعلهم يتجاوزون المئات.

ولو أردنا استعراض أقوال المفسرين والمحدثين حول الآية لطال بنا الكلام، وخرج الكتاب عن أسلوبه، ولكننا نذكر هنا عشرين مصدراً من مشاهير مؤلفات علماء العامة وحفّاظهم ومفسريهم ومحدّثيهم، وفي ذلك كفاية لكل منصف:

1 - الخطيب البغدادي في تاريخه (ج10) بإسناده عن أبي سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وآله) في قوله تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً) قال: جمع رسول الله (صلى الله عليه وآله) علياً وفاطمة والحسن والحسين، ثم أدار عليهم الكساء فقال: هؤلاء أهل بيتي، اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، وأم سلمة على الباب فقالت: يا رسول الله ألست منهم؟ فقال: إنك لعلى خير أو: إلى خير.

2 - الزمخشري في تفسيره (الكشاف ج1 ص193).

روى عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) خرج وعليه مرط مرجَّل من شعر أسود موشى منقوش، فجاء الحسن بن علي فأدخله. ثم جاء الحسين فدخل معه، ثم جاءَت فاطمة فأدخلها، ثم جاء علي فأدخله ثم قال: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً).

3 - الإمام الرازي في تفسيره (ج2 ص700 طبع الأستانة).

روى أنه (عليه السلام) لما خرج في المرط الأسود، فجاء الحسن فأدخله، ثم جاء الحسين فأدخله ثم فاطمة ثم علي ثم قال: إنما يريد الله..الخ.

4 - ابن الأثير الجزري في كتابه: (أسد الغابة في معرفة الصحابة ج2 ص12): عن عمر بن أبي سلمة (ربيب النبي (صلى الله عليه وآله)) قال: لما نزلت هذه الآية على النبي (صلى الله عليه وآله): (إنما يريد الله.. ) في بيت أم سلمة فدعا النبي (صلى الله عليه وآله) فاطمة وحسناً وحسيناً فجللّهم بكساءٍ وعليّ خلف ظهره ثم قال: هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً. قالت أم سلمة: وأنا معهم يا رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ قال: أنتِ على مكانك، أنت في خير.

5 - سبط ابن الجوزي في (تذكرة الأئمة ص244) عن واثلة بن الأسقع قال: أتيت فاطمة (عليها السلام) أسألها عن علي فقالت: توجَّهَ إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله). فجلست أنتظره فإذا برسول الله قد أقبل ومعه علي والحسن والحسين، قد أخذ بيد كل واحدٍ منهم حتى دخل الحجرة فأجلس الحسن على فخذه اليمنى، والحسين على فخذه اليسرى، وأجلس علياً وفاطمة بين يديه ثم لفَّ عليهم كساه أو ثوبه ثم قرأ: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت..) ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي حقاً.

6 - الإمام الواحدي في كتابه: (أسباب النزول) بسنده إلى أم سلمة زوج النبي (صلى الله عليه وآله) ذكرت أن رسول الله كان في بيتها، فأتته فاطمة ببرمة فيها حريرة فدخلت بها عليه فقال لها: ادعي لي زوجك وابنيك، قال: فجاء علي الحسن والحسين فدخلوا، فجلسوا يأكلون من تلك الحريرة، وهو على دكان[62]. وتحته كساء خيبري قالت: وأنا في الحجرة أصلّي، فأنزل الله تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً)؛ قال: فأخذ فضلَ الكساء فغشّاهم به، ثم أخرج يديه فأَلوى بهما إلى السماء ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي وحامتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً. قالت: فأدخلت رأسي البيت فقلت: أنا معكم يا رسول الله؟ قال: آئل إلى خير، آئل إلى خير.

ونقل الترمذي في صحيحه: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان من وقت نزول هذه الآية إلى قريب ستة أشهر إذا خرج إلى الصلاة يمر بباب فاطمة يقول: الصلاة أهل البيت إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس.. الخ.

7 - ابن الصباغ المالكي في كتابه: (الفصول المهمة ص7) يروي عن الواحدي قريباً من الحديث الذي مرّ، وذيّله بقوله: وقال بعضهم في ذلك شعراً:

إن النبي ووصيّه وابنيه***وابنته البتول الطاهرة

أهل العباء فإنني بولائهم***أرجو السلامة والنجاة في الآخرة

8 - أبو بكر السيوطي في كتابه: (الدر المنثور ج5 ص198) و(الخصائص الكبرى ج2 ص 264) و(الإتقان ج2 ص200) روى هذا الحديث بطرق كثيرة، متعددة الأسانيد تنتهي أسانيدها إلى كل من أم سلمة وعائشة وأبي سعيد الخدري وزيد بن أرقم وابن عباس، والضحاك بن مزاحم، وأبي الحمراء وعمر بن أبي سلمة وغيرهم:

إن النبي (صلى الله عليه وآله) دعا فاطمة وعلياً وحسناً وحسيناً. لمّا نزلت: إنما يريد الله، فجلّلهم بكساء وقال: والله هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.

9 - الطبري في (ذخائر العقبى ص21): روى عن عمر بن أبي سلمة نزول الآية في الخمسة الطيبة، وروى عن أم سلمة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أخذ ثوباً وجلّله فاطمة وعلي والحسن والحسين وهو معهم، وقرأ هذه الآية: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً). قالت: فجئت أدخل معهم فقال: مكانك إنك على خير.

وعنها أيضاً: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال لفاطمة: ائتي بزوجك وابنيك. فجاءت بهم وأَكفأ عليهم كساء فدكياً، ثم وضع يده عليهم، ثم قال: اللهم هؤلاء آل محمد، فاجعل صلواتك وبركاتك على آل محمد إنك حميد مجيد. قالت أم سلمة: فرفعت الكساء لأدخل معهم فجذبه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقال: إنك على خير.

10 - محمد بن أحمد القرطبي في كتابه: (الجامع لأحكام القرآن ج14 ص182) روى نزول الآية في حق أهل البيت (عليهم السلام).

11 - ابن العربي في كتابه: (أحكام القرآن ج2 ص166).

12 - ابن عبد البر الأندلسي في كتابه: (الاستيعاب ج2 ص460).

13 - البيهقي في كتابه: (السنن الكبرى ج2 ص149).

14 - الحاكم النيسابوري في كتابه: (المستدرك على الصحيحين ج2 ص416) روى عن أم سلمة قريباً ممّا تقدَّم.. إلى أن قالت: فقال (صلى الله عليه وآله): اللهم هؤلاء أهل بيتي قالت أم سلمة: يا رسول الله ما أنا من أهل البيت؟ قال: إنك أهلي إلى خير، وهؤلاء أهل بيتي.. الخ.

15 - الإمام أحمد بن حنبل في (مسند ج1 ص 331).

16 - النسائي في كتابه: (الخصائص ص4).

17 - محمد بن جرير الطبري في تفسيره (ج22 ص5).

18 - الخوارزمي في: (كتاب المناقب ص35).

19 - الهيثمي في: (مجمع الزوائد 9 ص166).

20 - ابن حجر الهيثمي في (الصواعق المحرقة ص 85).

انتخبنا هذا العدد وهذه العدة من جماعة كثيرة من المفسرين والمحدّثين، ولولا الخوف من الملل لأسهبنا في ذكر المصادر، وفي هذا المقدار تبصرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

لا أراني بحاجة إلى المزيد من التحدّث حول الموضوع بعد شهادة آية التطهير التي يستفاد منها أن الزهراء طاهرة - بجميع معنى الكلمة - وستأتيك الأحاديث الكثيرة حول كونها بتولاً ورعاية لأسلوب الكتاب وبمناسبة اسمها (الطاهرة) نذكر ما تيسّر:

لقد طهرّها الله عن العادة الشهرية، وعن كل دنس ورجس، وعن كل رذيلة، والرجس: كل أمر تستقذره الطباع، ويأمر به الشيطان، ويحق لأجله العذاب، ويشين السمعة وتقترف به الآثام، وتمجّه الفطرة، وتسقط به المروءة.

وذكر ابن العربي في (الفتوحات المكية باب 29) إن (الرجس فيها عبارة عن كل ما يشين الإنسان) وهذا معنى العصمة التي تعتقد به الشيعة في الأنبياء والأئمة والسيدة فاطمة الزهراء، وهي مرتبة عظيمة، ومنزلة سامية خصّ بها بعض عباده.

وليس من لوازم العصمة تبليغ الأحكام، فإن كانت العصمة لازمة للنبي والإمام لقيامهما بأعباء التبليغ فليس معنى ذلك أن غيرهما لا يتصف بالعصمة.

وقد احتج الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) على عصمة السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) بآية التطهير، في حوار جرى بينه وبين أبي بكر، نذكر بعضه شاهداً لما نحن فيه:

قال علي (عليه السلام) لأبي بكر: يا أبا بكر أتقرأ كتاب الله؟ قال: نعم، قال: أخبرني عن قول الله عز وجل: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً). فيمن نزلت؟ فينا أو في غيرنا؟ قال: بل فيكم. قال: فلو أن شهوداً شهدوا على فاطمة بنت رسول الله بفاحشة ما كنت صانعاً؟ قال: كنت أقيم عليها الحدَّ كما أقيم على نساء المسلمين!! قال: كنت إذن عند الله من الكافرين. قال: ولِم؟ قال لأنك رددت شهادة الله لها بالطهارة، وقبلت شهادة الناس عليها.. الخ[63].

ومن لوازم هذه الطهارة عدم التنجس بالموت مع العلم أن كل إنسان مهما بلغ في التقوى والعبادة إذا مات نجس جسمه نجاسة مشدّدة، بحيث يجب الغسل على مَن مسَّ ذلك الميت بعد برده، ولا يطهر الميت إلا بالتغسيل، ولكن المعصومين كانوا مطهرين في حياتهم وبعد موتهم، ففي الوسائل عن الحسن بن عبيد قال: كتبت إلى الصادق (عليه السلام): هل اغتسل أمير المؤمنين حين غسَّل رسول الله (صلى الله عليه وآله) عند موته؟ فأجاب: (النبي طاهر مطهَّر، ولكن فعل أمير المؤمنين وجرت به السُنة).

وسيأتيك المزيد من التفصيل في أواخر هذا الكتاب في باب تغسيلها، إن شاء الله. وقد روى في كتب الشيعة حول نزول آية التطهير حديث اشتهر بحديث الكساء وهو كما في عوالم الكبير عن جابر بن عبد الله الأنصاري:

عن فاطمة الزهراء بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنها قالت: دخل عليَّ أبي رسول الله (صلى الله عليه وآله) في بعض الأيام فقال: السلام عليك يا فاطمة. فقلت: وعليك السلام. فقال: إني أجد في بدني ضعفاً. فقلت له: أعيذك بالله يا أبتاه من الضعف. فقال: يا فاطمة ائتيني بالكساء اليماني وغطِّني به. قالت فاطمة (عليها السلام) فأتيته بالكساء اليماني فغطَّيته به وصرت أنظر إليه وإذا وجهه يتلألأ كأنه البدر في ليلة تمامه وكماله.

قالت فاطمة: فما كانت إلاَّ ساعة وإذا بولدي الحسن (عليه السلام) قد أقبل وقال: السلام عليك يا أماه. فقلت: وعليك السلام يا قرة عيني وثمرة فؤادي. قال لي: يا أماه إني أشم عندك رائحة طيبة كأنها رائحة جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقلت: نعم يا ولدي إن جدك نائم تحت الكساء فأقبل الحسن (عليه السلام) نحو الكساء وقال: السلام عليك يا جداه، السلام عليك يا رسول الله أتأذن لي أن أدخل معك تحت الكساء؟ فقال: وعليك السلام يا ولدي وصاحب حوضي قد أذنت لك. فدخل معه تحت الكساء.

قالت: فما كان إلاّ ساعة وإذا بولدي الحسين (عليه السلام) قد أقبل وقال: السلام عليك يا أماه. فقلت: وعليك السلام يا قرة عيني وثمرة فؤادي فقال لي: يا أماه إني أشم عندك رائحة طيبة كأنها رائحة جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقلت: نعم، إن جدَّك وأخاك تحت الكساء. فدنى الحسين (عليه السلام) نحو الكساء وقال: السلام عليك يا جدَّاه السلام عليك يا من اختاره الله أتأذن لي أن أكون معكما تحت هذا الكساء؟ قال (صلى الله عليه وآله): وعليك السلام يا ولدي وشافع أمتي قد أذنت لك. فدخل معهما تحت الكساء.

قالت فاطمة (عليها السلام) فأقبل عند ذلك أبو الحسن علي بن أبي طالب (عليه السلام) وقال: السلام عليك يا بنت رسول الله فقلت: وعليك السلام يا أبا الحسن يا أمير المؤمنين فقال: يا فاطمة إني أشم عندك رائحة طيبة كأنها رائحة أخي وابن عمي رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقلت: نعم، هاهو مع ولديك تحت الكساء. فأقبل أمير المؤمنين (عليه السلام) نحو الكساء وقال: السلام عليك يا رسول الله أتأذن لي أن أكون معك تحت هذا الكساء؟ قال له: وعليك السلام يا أخي وخليفتي وصاحب لوائي قد أذنت لك. فدخل علي (عليه السلام) تحت الكساء.

ثم أتت فاطمة (عليها السلام) وقالت: السلام عليك يا أبتاه السلام عليك يا رسول الله أتأذن لي أن أدخل معكم تحت هذا الكساء؟ قال لها: وعليك السلام يا بنتي وبضعتي قد أذنت لكِ. فدخلت فاطمة معهم.

فلما اكتملوا واجتمعوا تحت الكساء أخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) بطَرفي الكساء وأومأ بيده اليمين إلى السماء وقال: اللهم إن هؤلاء أهل بيتي وخاصَّتي وحامَّتي لحمهم لحمي، ودمهم دمي، يؤلمني ما يؤلمهم ويُحرجني ما يُحرجهم، أنا حرب لمن حاربهم، وسلم لمن سالمهم، وعدوٌ لمن عاداهم، ومحب لمن أحبَّهم، إنَّهم مني وأنا منهم، فاجعل صلواتك وبركاتك ورحمتك وغفرانك ورضوانك عليَّ وعليهم، وأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.

قال الله عز وجل: يا ملائكتي ويا سكان سماواتي إني ما خلقت سماءً مبنية، ولا أرضاً مدحيَّة، ولا قمراً منيراً، ولا شمساً مضيئة، ولا فلكاً يدور، ولا بحراً يجري، ولا فُلكاً تسري إلاَّ في محبّة هؤلاء الخمسة الذين هم تحت الكساء.

فقال الأمين جبرئيل: يا رب من تحت الكساء؟ فقال الله عز وجل: هم أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة، هم فاطمة وأبوها وبعلها وبنوها.

فقال جبرئيل: يا رب أتأذن لي أن أهبط إلى الأرض لأكون لهم سادساً؟ فقال الله عز وجل: قد أذنت لك. فهبط الأمين جبرئيل فقال: السلام عليك يا رسول الله!‍ العلي الأعلى يقرئك السلام، ويخصّك بالتحية والإكرام ويقول لك: وعزتي وجلالي! إني ما خلقت سماءً مبنية، ولا أرضاً مدحيَّة، ولا قمراً منيراً ولا شمساً مضيئة، ولا فلكاً يدور، ولا بحراً يجري ولا فُلكاً تسري إلاَّ لأجلكم، وقد أذن لي أن أدخل معكم تحت الكساء، فهل تأذن لي أن أدخل أنت يا رسول الله؟

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): وعليك السلام يا أمين وحي الله قد أذنت لك. فدخل جبرئيل معهم تحت الكساء فقال: إن الله قد أوحى إليك يقول: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً.

فقال علي بن أبي طالب: يا رسول الله أخبرني ما لجُلُوسِنا هذا تحت الكساء من الفضل عند الله؟ فقال النبي (صلى الله عليه وآله): والذي بعثني بالحق نبياً، واصطفاني بالرسالة نجياً ما ذُكر خبرنا هذا في محفل من محافل أهل الأرض وفيه جمع من شيعتنا ومحبّينا إلاَّ ونزلت عليهم الرحمة وحفّت بهم الملائكة، واستغفرت لهم إلى أن يتفرقوا.

فقال علي (عليه السلام): إذن - والله فزنا - وفازت شيعتنا وربِّ الكعبة، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): والذي بعثني بالحق نبياً، واصطفاني بالرسالة نجياً ما ذكر خبرنا هذا في محفل من محال أهل الأرض وفيه جمع من شيعتنا ومحبّينا وفيهم مهموم إلاَّ وفرّج الله همَّه، ولا مغموم إلاَّ وكشف الله غمه، ولا طالب حاجة إلاَّ وقضى الله حاجته.

فقال علي (عليه السلام) إذن - والله - فُزنا وسعدنا وكذلك شيعتنا فازوا وسعدوا في الدنيا والآخرة.

وقد نظم هذا الحديث الشريف السيد الأجل السيد محمد القزويني بن السيد مهدي القزويني النجفي الحلي:

روت لنا فاطمة خير النساء***حديث أهل الفضل أصحاب الكساء

تقول: إن سيد الأنام***قد جاءني يوماً من الأيام

فقال لي: إني أرى في بدني***ضعفاً أراه اليوم قد أنحلني

قومي عَليَّ بالكساء اليماني***وفيه غطيني بلا تواني

قالت: فجئته وقد لبيته***مسرعةً وبالكساء غطيّته

وكنت أرنو وجهه كالبدر***في أربع بعد ليال عشر     

فما مضى إلاَّ يسير من زمن***حتى أتى أبو محمد الحسن

فقال: يا أماه إني أجد***رائحة طيبة أعتقد

بأنها رائحة النبيِّ***أخ الوصي المرتضى علي

قلت: نعم هاهو ذا تحت الكسا***مدثَّرٌ به، مغطىً واكتسى

فجاء نحوه ابنه مسلماً***مستأذناً قال له: أدخل مكرماً

فما مضى إلاَّ القليل إلاَّ***جاء الحسين السبط مستقلا

فقال يا أم أشمّ عندكِ***رائحة كأنها المسك الذكي

وحقِّ من أولاك منه شرفاً***أظنها ريح النبي المصطفى

قلت: نعم تحت الكساء هذا***بجنبه أخوك فيه لاذا

فأقبل السبط له مستأذناً***مسلّماً قال له: أدخل معنا

وما مضى من ساعة إلاًَّ وقد***جاء أبوهما الغضنفر الأسد

أبو الأئمة الهداة النُّجبا***المرتضى رابع أصحاب الكسا

فقال يا سيدة النساء***ومن بها زُوِّجتُ في السماء

إني أشمّ في حماك رائحة***كأنها الورد النديّ فايحة

يحكي شذاها عَرف سيد البشر***وخير من لبَّى وطاف واعتمر

قلت: نعم تحت الكساء التحفا***وضمّ شبليك وفيه اكتنفا

فجاء يستأذن منه سائلاً***منه الدخول قال: فأدخل عاجلا

قالت: فجئت نحوهم مسلّمة***قال: ادخلي محبوّة مكرّمة

فعندما بهم أضاء الموضع***وكلّهم تحت الكساء اجتمعوا

نادى إله الخلق جل وعلا***يُسمع أملاك السماوات العلى

أقسم بالعزة والجلال***وبارتفاعي فوق كل عالي

ما من سما رفعتها مبنية***وليس أرض في الثرى مدحية

ولا خلقت قمراً منيرا***كلاًّ ولا شمساً أضاءت نورا

وليس بحر في المياه يجري***كلاًّ ولا فُلك البحار تسري

إلاَّ لأجل من هم تحت الكسا***من لم يكن أمرهم ملتبسا

قال الأمين: قلت: يا رب ومن***تحت الكسا؟ بحقهم لنا أبِن

فقال لي: هم معدن الرسالة***ومهبط التنزيل والجلالة

وقال: هم فاطمة وبعلها***والمصطفى والحسنان نسلها

فقلت: يا رباه هل تأذن لي***أن أهبط الأرض لذاك المنزل

فأغتدي تحت الكساء سادساً***كما جعلتُ خادماً وحارسا؟

قال: نعم. فجاءهم مسلّما***مسلماً يتلو عليهم إنما

يقول: إنَّ الله خصّكم بها***معجزة لمن غدا منتبها

أقرأكم ربُّ العلا سلامه***وخصّكم بغاية الكرامة

وهو يقول معلناً ومفهما***أملاكه الغر بما تقدما

قال علي: قلت: يا حبيبي***ما لجلوسنا من النصيب؟

قال النبي: والذي اصطفاني***وخصّني بالوحي واجتباني

ما إن جرى ذكر لهذا الخبرِ***في محفل الأشياع خير معشر

إلاَّ وأنزل الإله الرحمة***وفيهم حفَّت جنود جمَّة

من الملائكة الذين صدقوا***تحرسهم في الدهر ما تفرقوا

كلاًّ وليس فيهم مغموم***إلاَّ وعنه كُشفت هموم

كلاَّ ولا طالب حاجة يرى***قضاءها عليه قد تعسّرا

إلاَّ قضى الله الكريم حاجته***وأنزل الرضوان فضلاً ساحته

قال عليٌ: نحن والأحباب***أشياعنا الذين قدماً طابوا

فُزنا بما نلنا وربِّ الكعبة***فليشكرنَّ كلُ فَردٍ ربَّه

يا عجباً يستأذنُ الأمين***عليهم ويهجمُ الخئون

قال سُليمٌ: قلتُ: يا سلمان***هل دخلوا ولم يك استئذان

فقال: أي وعزَّة الجبار***ليس على الزهراءِ من خمار

لكنها لاذت وراء الباب***رعاية للستر والحجابِ

فمذ رأوها عَصَروها عصرة***كادت - بروحي - أن تموت حسرة

تصيح: يا فضةُ أسنديني***فقد وربي قتلوا جنيني

فأسقطت بنت الهدى واحزنا***جنينها ذاك المسمَّى مُحسنا

 

 

الزّكِيّة

الزكاة: النموّ والزيادة، وقد ذكرنا الشيء اليسير مما يتعلق بهذا الموضوع حول اسمها (عليها السلام): المباركة.

 

الراضِيَة

الرضا بما قدَّر الله تعالى لعبده يعتبر من أعلى درجات الإيمان بالله عز وجل، وقد رضيت السيدة فاطمة الزهراء بما قدر لها من مرارة الحياة، وهذا الكتاب كله يحدثك عن المصائب والنوائب التي انصبّت على فاطمة الزهراء منذ نعومة أظافرها إلى أن فارقت الحياة في عنفوان شبابها، وهي في جميع تلك المراحل راضية بما كتب الله لها من خوف واضطهاد وحرمان وفقر وأحزان وهموم وغموم ومآسي وآلام، وستجد شيئاً من تلك المكاره التي امتزجت بحياتها تجدها في هذا الكتاب، ويجدر بها أن يشملها قوله تعالى: (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية) لأنها راضية بثواب الله، راضية عن الله بما أعد الله لها، راضية بقضاء الله في الدنيا حتى رضي الله عنها.

 

المرضية

إن درجة المرضيين عند الله تعالى درجة عالية، ومنزلة سامية فهناك القليل من عباد الله الذين رضي الله عنهم فكانوا مرضيين عند الله تعالى بسبب اعتدالهم واستقامتهم، ومن جملة الذين فازوا بتلك المنزلة الرفيعة والدرجة الراقية هي سيدتنا فاطمة الزهراء (عليها السلام) فإن الله تعالى قد رضى عنها، فكانت مرضية عند الله عز وجل، مرضية أعمالها التي عملتها مرضية رضي عنها ربها بما عملت من طاعته.

 

المُحَدّثَة

قبل كل شيء ينبغي أن نعلم: هل تتحدث الملائكة مع غير النبي؟ وهل يراهم غير النبي؟ أو يسمع أصواتهم؟

للإجابة على هذه الأسئلة نراجع القرآن الكريم للتحقيق عن الجواب الصحيح:

1 - قال تعالى: (وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهَّرك واصطفاك على نساء العالمين يا مريم اقنتي لربِّك واسجدي واركعي مع الراكعين) (سورة آل عمران: 43).

إن صريح هذه الآية أن الملائكة خاطبت مريم بما مرّ عليك من كلمات الثناء والأوامر الإلهية، وباليقين أنها كانت تسمع نداءهم وتفهم خطابهم وإلا فما فائدة هذا الخطاب؟ وقيل: الذي خاطبها هو جبرئيل وحده[64].

2 - (واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً فاتخذت من دونهم حجاباً فأرسلنا إليها روحنا فتمثَّل لها بشراً سويا قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً قال إنما أنا رسول ربِّك لأهب لك غلاماً زكياً قالت أنِّي يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أكُ بغيّاً قال كذلك قال ربك هو عليَّ هيِّن ولنجعله آية للناس ورحمةً وكان أمراً مقضياً)[65].

لقد أجمع المفسرون أن المقصود من (روحنا) هو جبرئيل، تمثّل لها بصورة آدمي صحيح، لم ينقص منه شيء فانتصب بين يديها، وجرى بينهما الكلام والحوار.

3 - (وامرأته قائمة فضحكت فبشّرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب قالت يا ويلتي أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً إنّ هذا لشيء عجيب قالوا أتعجبين من أمر رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد)[66].

إن هذه الآيات تتعلق بمجيء الملائكة إلى دار إبراهيم الخليل (عليه السلام) لتبشّره بالولد، وكانت زوجته سارة تخدم وتحمل الطعام إليهم ظناً منها أنهم ضيوف فلقد تكلمت مع الملائكة، وخاطبتها الملائكة بما مرّ عليك من الآيات.

4 - (وأوحينا إلى أمّ موسى أن أرضعيه فإذا خفتِ عليه فألقيه في اليم) (سورة القصص: 7) وقد ذكر المفسرون معنى (أوحينا) أي ألهمنا، وقذفنا في قلبها، وعلى قول: إنها نوديت بهذا الخطاب.

وقد ذكر المنّاوي في شرح الجامع الصغير ج2 ص270 عن القرطبي قال: (محدَّثون) بفتح الدال اسم مفعول، جمع محدَّث أي مُلهَم، أو صادق الظن وهو مَن أُلقي في نفسه شيء على وجه الإلهام والمكاشفة من الملأ الأعلى، أو مَن يجري الصواب على لسانه بلا قصد، أو تكلِّمه الملائكة بلا نبوة، أو من إذا رأى رأْياً أو ظنَّ ظناً أصاب كأنه حُدِّث به وألقي في روعه من عالم الملكوت، فيظهر على نحو ما وقع له، وهذه كرامة يكرم الله بها من يشاء من صالحي عباده، وهذه منزلة جليلة من منازل الأولياء.

أقول: بعد هذه المقدمات سوف لا يصعب عليك أن تعرف أن السيدة فاطمة الزهراء كانت محدَّثة، إذ ليست سيدة نساء العالمين وبنت سيدة الأنبياء والمرسلين بأقلِّ شأناً من مريم بنت عمران أو سارة زوجة إبراهيم أو أم موسى، وليس معنى ذلك أن مريم أو سارة أو أم موسى كنَّ من الأنبياء، وهكذا ليس معنى ذلك أن السيدة فاطمة الزهراء كانت نبية.

وقد روى الشيخ الصدوق في (علل الشرائع) عن زيد بن علي قال: سمعت أن أبا عبد الله (الصادق) يقول إنَّما سمِّيت فاطمة محدَّثة (بفتح الدال) لأن الملائكة كانت تهبط من السماء فتناديها كما تنادي مريم بنت عمران، فتقول الملائكة: يا فاطمة إن الله اصطفاك وطهَّرك واصطفاك على نساء العالمين.

وفي البحار (ج10) قال الإمام الصادق (عليه السلام) لأبي بصير: وإن عندنا لمصحف فاطمة، وما يدريهم ما مصحف فاطمة؟ قال: فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات، والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد وإنما هو شيء أملاه الله عليها وأوحى إليها.. الخ.

إن هذا الحديث يكشف لنا أموراً قد تحتاج إلى بحث وتحقيق، فكلام الإمام (عليه السلام): (فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات) يريد بذلك حجم المصحف، وكمية المواد الموجودة فيه، وحيث أن القرآن كتاب معروف ومشهور عند جميع المسلمين في كل زمان ومكان من حيث الحجم والسور والآيات والكمية ولهذا جعل الإمام (عليه السلام) القرآن مقياساً وميزاناً يقيس عليه مصحف فاطمة (عليها السلام) من حيث الحجم وكمية المواد.

فمثلاً: لو أن قرآناً طبع بحروف متوسطة، وصفحات حجمها متوسط، فلنفرض أن عدد تلك الصفحات تبلغ خمسمائة صفحة فلو طبعنا مصحف فاطمة (عليها السلام) بنفس تلك الحروف ونفس حجم تلك الصفحات لبلغ عدد صفحات مصحف فاطمة (عليها السلام) ألفاً وخمسمائة صفحة، أي ثلاثة أضعاف صفحات القرآن، وهذا معنى كلام الإمام (عليه السلام): (فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات) وليس معناه أن القرآن الموجود بين أيدينا ناقص، وأن مصحف فاطمة مكمِّل له، كلاّ وألف كلاّ، وليس معناه أن الله أنزل على السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) قرآناً، وكل من ادَّعى غير هذا فهو إمَّا جاهل أو معاند مفتر كذّاب.

وأما كلمة: المصحف (وإن كان هذا الاسم) يستعمل في زماننا هذا اسماً للقرآن ولكنه في اللغة يستعمل في الكتب.

قال الرازي في مختار الصحاح: (والمصحف - بضم الميم وكسرها - وأصله الضم، لأنه مأخوذ من (أصحف) أي جُمعت فيه الصحف).

وفي المنجد: المَصحف والمُصحف جمعه مصاحف: ما جُمع من الصحف بين دفَّتي الكتاب المشدود.

وفي صراح اللغة: مصحف بالكسر والضم كراسة قال الفراء وقد استثقلت العرب الضمة في حروف فكسروا ميمها وأصلها الضم من ذلك مصحف ومخدع ومطرف.. لأنها في المعنى مأخوذة من أصحف أي جمعت فيه الصحف.

وفي المصباح المنير: والصحيفة قطعة من جلد أو قرطاس كتب فيه.. والجمع صُحُف بضمتين وصحائف.. والمصحف بضم الميم أشهر من كسرها.

وفي أقرب المُوارد: المُصحف اسم مفعول.. وحقيقتها مجمع الصحف أو ما جمع منها بين دفتي الكتاب المشدود.. وفيه لغتان أخريان وهما المِصحف والمَصحف ج مصاحف.

وفي لسان العرب: المُصحف والمِصحف الجامع للصُّحف المكتوبة بين الدفتين كأنه أُصحِف، والكسر والفتح فيه لغة.

وهذا حديث آخر يفسر معنى المصحف بمزيد من التوضيح:

في العاشر من البحار أيضاً: وسأله بعض أصحابه عن مصحف فاطمة، فسكت الإمام طويلاً، ثم قال: إنكم لتبحثون عما تريدون وعما لا تريدون!

‍إن فاطمة مكثت بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) خمسة وسبعين يوماً، وكان دخلها حزن شديد على أبيها، وكان جبرئيل يأتيها فيحسن عزاها على أبيها، ويطيب نفسها ويخبرها عن أبيها ومكانه ويخبرها بما يكون بعدها، وكان علي (عليه السلام) يكتب ذلك، فهذا مصحف فاطمة.

والحسين بن أبي العلا يروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: .. ومصحف فاطمة، ما أزعم أن فيه قرآناً، وفيه ما يحتاج الناس إلينا، ولا نحتاج إلى أحد، حتى أن فيه الجلد بالجلدة، ونصف الجلدة، وربع الجلدة وأرش الخدش.. الخ.

وفي حديث آخر قال (عليه السلام): وأما مصحف فاطمة (عليها السلام) ففيه ما يكون من حادث، وأسماء من يملك إلى أن تقوم الساعة.

بقي الكلام حول جملة (أوحى إليها) فالمستفاد من القرآن أن الوحي من الله لا يختص بالأنبياء، بل يوحي الله تعالى إلى غير الأنبياء أيضاً، استمع إلى هذه الآيات البيِّنات:

(فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبّحوا بكرة وعشيا)[67].

(فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها)[68].

(وإذا أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي)[69].

(إذ يوحي ربّك إلى الملائكة أني معكم فثبَّتوا الذين آمنوا)[70].

(وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً)[71].

(وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه)[72].

(وإذ أوحينا إلى أمك ما يوحى)[73].

هذه بعض الآيات التي تصرح بأن الوحي لا يختص بالأنبياء، بل لا يختص بالبشر، فلقد أوحى الله تعالى إلى كل سماء، وأوحى إلى الحواريين وإلى الملائكة وإلى النحل وإلى أم موسى، فلا يصعب عليك أن تقبل بأنَّ الله تعالى أوحى إلى سيدة نساء العالمين وبنت سيد الأنبياء والمرسلين فاطمة الزهراء (عليها السلام) وكما تقول في تفسير الوحي إلى أم موسى قل في تفسير الوحي إلى فاطمة الزهراء.

وختاماً لهذا البحث: إن مصحف السيدة فاطمة الزهراء كتاب ضخم، يحتوي على جميع الأحكام الشرعية بالتفصيل، ويستوعب قانون العقوبات في الإسلام، حتى بعض المخالفات التي عقوبتها جلدة واحدة أو نصف جلدة أو ربع جلدة، بل وحتى غرامة من خدش جسم أحد من الناس خدشة واحدة.

وفيه أسماء ملوك العالم الذين حكموا البلاد من ذلك اليوم وسيحكمون إلى قيام القيامة، كل ذلك كان في علم الله الذي هو بكل خلق عليم وبكل شيء خبير بصير محيط.

وفيه ذكر الحوادث المهمة من الملاحم والمجازر التي تحدث في الكون وغير ذلك من القضايا الهامة.

وليس فيه شيء من القرآن كما هو صريح الحديث.

ولقد أطلنا البحث والكلام حول هذا الموضوع لأن بعض أصحاب النفوس المريضة والقلوب السقيمة اعتبروا هذا الحديث مرتعاً خصباً للتهريج والتشنيع ضد الشيعة والتشيّع، كـأنهم لم يقرأوا هذه الآيات أو لم يفهموها أو تناسوها فهاجموا الشيعة مهاجمة شعواء فقالوا ما قالوا، وحسابهم على الله يوم فصل القضاء.

 

الزّهرَاء

في العاشر من البحار عن أمالي الصدوق (عليه الرحمة) عن ابن عباس قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): وأما ابنتي فاطمة فإنها سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، وهي بضعة مني وهي نور عيني، وهي ثمرة فؤادي وهي روحي التي بين جنبيّ، وهي الحوراء الإنسية متى قامت في محرابها بين يدي ربها (جل جلاله) زهر نورها لملائكة السماوات كما يزهر نور الكواكب لأهل الأرض.

وبهذا الحديث اتضح لنا سبب تسميتها (عليها السلام) الزهراء، وهناك أحاديث أخرى بهذا المضمون، وإنها كانت تتمتع بوجه مشرق مستنير زاهر، وفيما ذكرنا كفاية.

ولسيدتنا فاطمة الزهراء (عليها السلام) أسماء غير التي مرّت عليك وكل اسم يدل على فضيلة ومزية امتازت بها السيدة الزهراء منها: البتول، العذراء الحانية (من الحنان) بسبب كثرة حنانها على أولادها، وكنيتها، أم أبيها، وهي من أفضل كناها.

 

البَتُول

اعلم أنَّ الله تعالى قد جعل في مخلوقاته - من الجماد والنبات والحيوان والإنسان - قوانين وسُنَن، وجعل تلك المخلوقات خاضعة لتلك القوانين. فالنار طبيعتها الإحراق وهذه سُنّة الله في النار.

والنبات يحتاج إلى زمان محدود ومكان معيّن بشروط خاصة حتى ينمو ويكبر ويثمر، أنظر إلى الحبة التي تزرع، والعوامل التي تساعدها على أن تنبت من الأرض، والزمان المعيّن لنموِّها، وهذه سُنّة الله في النباتات.

وكذلك الحيوانات جعلها الله خاضعة لقوانين خاصة وأحجامها وألوانها وغير ذلك.

والإنسان كذلك خاضع لقوانين كونية، وطبائع جسمية ونفسية وروحية، ولكن الله تعالى جعل أولياءه فوق تلك القوانين والسنن في ظروف خاصة لحكمته البالغة.

وبعبارة أخرى: جعل الله تلك القوانين هي الخاضعة لأوليائه بإذنه.

أنظر إلى النار المحرقة، التي تحرق كل ما أصابته، ولكن الله تعالى جعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم الخليل (عليه السلام).

وكذلك أنبت الله على نبيه يونس (عليه السلام) شجرة من يقطين، بعد أن نبذه الحوت بالعراء وهو سقيم، مع العلم أن حبة اليقطين تحتاج إلى مدة غير قصيرة، حتى تنبت وتورق وتستر بوَرقها جسم إنسان أو غير إنسان، وهكذا جعل الله النبات خاضعاً لوليه يونس (عليه السلام).

والتناسل لا يمكن إلاّ بالتلقيح، وانتقال نطفة الرجل إلى رحم المرأة، وتطوُّر النطفة إلى علقة إلى مضغة إلى عظام إلى خلق آخر، وإلى أن يكمل الجنين خلال ستة أشهر على أقل التقادير، أو تسعة أشهر كما هو الغالب.

هذه سنة الله في قانون التناسل بين البشر، ولكن هذه السُنة وهذا القانون كان خاضعاً لمريم إذ حملت بعيسى (عليه السلام) ولم يمسسها بشر، وحملت وبلدها فانتبذت به مكاناً قصياً، فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة، فوضعت بعيسى، كل ذلك خلال تسع ساعات أو ست ساعات فقط[74].

وعلى هذا الغرار كانت المعجزات تصدر عن الأنبياء والأوصياء عن طريق خرق العادة والطبيعة.

هذا والأمثلة كثيرة جداً، تجد في القرآن الكريم طائفة كبيرة من القصص التي تحدّى فيها الأنبياء والأوصياء قانون الطبيعة، كهبوط آدم من الجنة إلى الأرض، وفوران التنور بالماء في قصة نوح (عليه السلام) وحمْل سارة بإسحاق (عليه السلام) بعد أن كانت عجوزاً عقيماً، وانقلاب العصا حيَّة تسعى في قصة موسى (عليه السلام) وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى في قصة عيسى (عليه السلام) وقصة الإسراء والمعراج في قصة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وغير ذلك من القضايا الخارقة للعادة والطبيعة، وقد ذكرت هذه الفقرات كمقدمة تمهيدية لما يلي:

إن العادة الشهرية التي تراها المرأة في كل شهر منذ بلوغها حدِّ الأنوثة إلى الخمسين أو الستين من العمر ما هي إلاَّ دم فاسد، قد تخزنه في الأوعية والأجهزة التي جعلها الله في جسم المرأة ليكون ذلك الدم غذاء للجنين، فإذا لم يكن جنين في الرحم سال الدم إلى الخارج، وربما انقلب إلى اللبن إذا كانت المرأة مرضعة.

قال تعالى: (ويسألونك عن المحيض قل هو أذىً) أي إن دم الحيض مادة ضارّة، مؤذية في جسم المرأة، فلابدَّ من خروجها لتنجو المرأة من أمراض وأعراض.

وفي فترة العادة الشهرية تحدث حوادث جسمية وروحية للمرأة تغيِّر ملامحها، ولون وجهها، بل وأخلاقها ونفسيِّتها ومن الممكن معرفة الحائض من ملامح وجهها وعينيها، بل من نظراتها وحركاتها، وهذا النزيف لا يشبه النزيف الطبيعي العادي الذي يصاب به الإنسان، بل يختلف عن ذلك اختلافاً كبيراً.

إن العادة الشهرية حينما تحدث للمرأة تشعر بشيء من الانفعال والخجل والانكسار وإن كان الأمر خارجاً عن إرادتها واختيارها، ولكنها تتألم بهذا الحادث الذي لا يحسن التصريح به لكل أحد، وخاصة للرجال، والنزيف وحالة الانفعال توجد في المرأة ضعفاً وانكساراً في جسمها وروحها.

ولهذا سقط عنها حكم الصلاة والصوم خلال فترة العادة، وحرَّم الله عليها اللبث في المساجد ودخول المسجد الحرام والمسجد النبوي وقراءة سُوَر العزائم الأربع وهي السور التي فيها آيات السجدة الواجبة وغير ذلك مما هو مذكور في الكتب الفقهية.

ونفس هذه الأحكام تجري في أيام النفاس لنفس الأسباب التي مرّ ذكرها، ولكن الله تعالى كره لسيدة النساء فاطمة الزهراء أن تتلوّث بهذه القذارة المعنوية، فأذهب الله عنها الرجس وطهَّرها تطهيراً.

وهاك طائفة من الأحاديث الصحيحة التي تصرّح بهذا المعنى:

1 - روى القندوزي في ينابيع المودة ص260 عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): إنما سمِّيت فاطمةُ البتول لأنها تبتَّلت في الحيض والنفاس.

2 - روى محمد صالح الكشفي الحنفي في (المناقب) عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: وسميت فاطمة بتولاً لأنها تبتلت وتقطَّعت عما هو معتاد العورات في كل شهر.

3 - روى الأمرتسري في (أرجح المطالب): أن النبي (صلى الله عليه وآله) سئل عن بتول وقيل: إنَّا سمعناك - يا رسول الله - تقول: مريم بتول وفاطمة بتول؟ فقال: البتول التي لم تر حمرة قط، أي لم تحض، فإن الحيض مكروه في بنات الأنبياء. أخرجه الحاكم.

4 - وروى الحافظ أبو بكر الشافعي في (تاريخ بغداد ج13 ص331) عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ابنتي حوراء آدمية لم تحض ولم تطمث.. الخ ورواه النسائي أيضاً.

5 - وروى ابن عساكر في (التاريخ الكبير ج1 ص391) عن أنس بن مالك عن أم سليم قالت: لم تر فاطمة (رضي الله عنها) دماً في حيض ولا في نفاس.

6 - الحافظ السيوطي: ومن خصائص فاطمة (رضى الله عنها) أنها كانت لا تحيض، وكانت إذا ولدت طهرت من نفاسها بعد ساعة حتى لا تفوتها صلاة.

7 - وروى الرافعي في التدوين عن أم سلمة (رضي الله عنها) قالت: ما رأت فاطمة (رضي الله عنها) في نفاسها دماً ولا حيضاً.

8 - روى الطبري في (ذخائر العقبى) عن أسماء بنت عُميس قالت: قبلت (أي ولدت) فاطمة بالحسن فلم أر لها دماً في حيض ولا نفاس، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): أما علمت أن ابنتي طاهرة مطهرة، لا يُرى لها دمٌ في طمث ولا ولادة، ورواه الصفوري في (نزهة المجالس) ص227.

وفي العاشر من البحار عن أبي بصير عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: حرَّم الله عز وجل على علي النساء ما دامت فاطمة حيَّة (في قيد الحياة) قلت: وكيف؟ قال: لأنها طاهرة لا تحيض.

قال شيخنا المجلسي: هذا التعليل يحتمل وجهين:

الأول: أن يكون المراد أنها لما كانت لا تحيض حتى يكون له عذر في مباشرة غيرها فلذا حرَّم الله عليه غيرها رعاية لحرمتها.

الثاني: أن جلالتها منعت من ذلك، وعبَّر عن ذلك ببعض ما يلزمه من الصفات التي اختصت بها.

أقول: ونزاهة السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) عن هذه الدماء تُعتبر من مصاديق آية التطهير التي تُصرِّح بإذهاب الرجس عنهم وتطهيرهم تطهيراً.

 

العَذْرَاء

لقد مرّ عليك أن من جملة أسمائها: العذراء أي أنها كانت عذراء دائماً، وقد مرّت عليك أحاديث كثيرة تصرِّح بأنَّ السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) خُلقت من طعام الجنة، وصرَّح النبي (صلى الله عليه وآله) بأنها حوراء إنسية، وليس في هذا التعبير شيء من المجاز أو الغلوّ، بل هي الحقيقة والحق، ونجد إلى جانب تلك الأحاديث قوله تعالى: (إنَّا أنشأناهن إن شاء فجعلناهنَّ أبكاراً) ومعنى ذلك أنَّ الحور العين أبكار دائماً، وفي مجمع البيان في تفسير الآية: لا يأتيهن أزواجهن إلاّ وجدوهن أبكاراً.

وهذا حديث يفسِّر الموضوع تفسيراً كاملاً، فقد سأل رجل من الإمام الصادق (عليه السلام) في ضمن مسائل - قال: فكيف تكون الحوراء في كل ما أتاها زوجها - عذراء؟ قال: لأنها خلقت من الطيب، لا يعتريها عاهة ولا تخالط جسمها آفة.. ولا يدنسها حيض، فالرحم ملتزقة.. الخ[75].

 

حَيَاتها وَنَشْأَتُهَا

لقد فتحت السيدة فاطمة الزهراء عينها في وجه الحياة، وفي وجه أبيها الرسول ترتضع من أمِّها السيدة خديجة اللبن المزيج بالفضائل والكمال.

وكانت تنمو في بيت الوحي نموًّا متزايداً، وتنبت في مهبط الرسالة نباتاً حسناً، يزقّها أبوها الرسول (صلى الله عليه وآله) العلوم الإلهية، ويفيض عليها المعارف الربانية، ويعلّمها أحسن دروس التوحيد، وأرقى علوم الإيمان وأجمل حقائق الإسلام.

ويربّيها أفضل تربية وأحسنها، إذ وجد الرسول في ابنته المثالية كامل الاستعداد لقبول العلوم ووعيها، ووجد في نفسها الشريفة الطيبة كل الروحانية والنورانية، والتهيؤ لصعود مدارج الكمال.

إلى جانب هذا شاءت الحكمة الإلهية للسيدة فاطمة الزهراء أن تكون حياتها ممزوجة بالمكاره، مشفوعة بالآلام والمآسي منذ صغر سنّها، فإنها فتحت عينها في وجه الحياة وإذا بها ترى أباها خائفاً، يحاربه الأقربون والأبعدون ويناوئه الكفّار والمشركون.

فربما حضرت فاطمة في المسجد الحرام فرأت أباها جالساً في حِجر إسماعيل (عليه السلام) يتلو القرآن، وترى بعض المشركين يوصلون إليه أنواع الأذى، ويحاربونه محاربة نفسية.

وحضرت يوماً فنظرت إلى بعض المشركين وهو يُفرغ سلا الناقة، (هو الكيس الذي يتكون فيه الجنين) على ظهر أبيها الرسول وهو ساجد.

كانت الزهراء تشاهد ذلك المنظر المؤلم، وتمسح ذلك عن ظهر أبيها وثيابه وتوسعهم سباً وشتماً، وهم يضحكون من سبابها وشتائمها، شأن السفلة الأوباش.

وعن ابن عباس: إن قريشاً اجتمعوا في الحجر، فتعاقدوا باللات والعزّى ومناة: لو رأينا محمداً لقمنا مقام رجل واحد، ولنقتلنّه، فدخلت فاطمة (عليها السلام) على النبي (صلى الله عليه وآله) باكية، وحكت مقالهم.. الخ.

واشتدت الأزمة وزادت المحنة حتى اضطر الرسول (صلى الله عليه وآله) أن يختفي في شعب أبي طالب، ورافقته عائلته، وآل أبي طالب إلى ذلك المكان، وكانوا يعيشون في جو من الإرهاب والإرعاب. ففي كل ليلة يتوقعون هجوم المشركين عليهم وخاصة بعد أن كتب المشركون الصحيفة القاطعة، وحاصروا بني هاشم حصاراً اقتصادياً فلا يدعونهم يبيعون ولا يشترون شيئاً حتى المواد الغذائية، بل ومنعوا إيصال الطعام إليهم، فاستولى الجوع عليهم، وأثَّر في الأطفال أكثر وأكثر، فلا عجب إذا كانت أصوات بكاء الأطفال تصل إلى مسامع أهل مكة، فبين شامت بهم مسرور، وبين متألِّم حزين.

وطالت المدة ثلاث سنين وشهوراً، وكانت السيدة فاطمة من الذين شملتهم هذه المأساة، وهذه المآسي أيقظت في السيدة فاطمة روح الجهاد والاستقامة والمثابرة، وكأنها كانت فترة التمرين والتدريب للمستقبل القريب.

ومما كان يهوِّن الخطب، ويجبر خاطر السيدة فاطمة الزهراء ويقرّ عينها أنها كانت ترى البطل الشهم أبا طالب يقف ذلك الموقف المشرِّف في نصرة أبيها الرسول فكان تارة يحمل سيفه ويرافقه أخوه حمزة ويمشيان خلف الرسول نحو المسجد الحرام ليعلن مؤازرته ومناصرته للرسول، وكأنهما جنديان مسلحان في حالة الإنذار، وربما انضمّ إلى أبي طالب بعض عبيده ومواليه يمشون خلف الرسول وكأنهم مفرزة عسكرية أو سرية جيش.

وتارة أخرى كان يصرّح بتجاوبه وانحيازه إلى الرسول، فكان بعلن إسلامه إظهاراً للحقيقة، فينظم القصائد التي كان لها أحسن أثر في ذلك اليوم في دعم الرسول (صلى الله عليه وآله)، ومنها:

ما رواه الطبري بإسناده أن رؤساء قريش لما رأوا دفاع أبي طالب عن النبي (صلى الله عليه وآله) اجتمعوا إليه، وقالوا: جئناك بفتى قريش جمالاً وجوداً وشهامة: عمارة بن الوليد، ندفعه إليك وتدفع إلينا ابن أخيك الذي فرّق جماعتنا، وسفّه أحلامنا فنقتله!!

فقال أبو طالب: ما أنصفتموني! تعطوني ابنكم فأغذوه، وأعطيكم ابني فتقتلونه؟ بل، فليأت كل امرئ بولده فأقتله، وقال:

منعنا الرسول رسول المليك***ببيض تلألأ كلمع البروق

أذود وأحمي رسول المليك***حماية حام عليه شفيق

وأقواله وأشعاره المنبئة عن إسلامه كثيرة لا تحصى فمن ذلك قوله:

ألم تعلموا أنا وجدنا محمداً***نبياً كموسى خطَّ في أول الكتب؟

أليس أبونا هاشم شدَّ أزره***وأوصى بنيه بالطعان وبالحرب؟

وقوله من قصيدة:

وقالوا لأحمد: أنت امرؤ***خلوف اللسان ضعيف السبب

ألا: إن أحمد قد جاءهم***بحق، ولم يأتهم بالكذب

 

وقوله في حديث الصحيفة، وهو من معجزات النبي (صلى الله عليه وآله):

وقد كان أمر الصحيفة عبرة***متى ما يخبِّر غائب القوم يعجبِ

محا الله منها كفرهم وعقوقهم***وما نقموا من ناطق الحق معربِ

وأمسى ابن عبد الله فينا مصدِّقاً***على سخط من قومنا غير معتب

وقوله من قصيدة يخصّ أخاه حمزة على اتباع النبي والصبر في طاعته:

صبراً أبا يعلي على دين أحمد***وكن مظهراً للدين وُفّقت صابرا

فقد سرني إذ قلت أنك مؤمن***فكن لرسول الله في الله ناصراً

وقوله يحض النجاشي (ملك الحبشة) على نصر النبي:

تعلَّم[76] مليك الحبش أن محمداً***وزير كموسى والمسيح ابن مريم

أتى بهدىً مثل الذي أتيا به***وكلّ بأمر الله يهدي ويعصم

وإنكم تتلونه في كتابكم***بصدق حديث، لا حديث المرجّم

فلا تجعلوا لله نداً، وأسلموا***وإن طريق الحق ليس بمظلم

وقال أيضاً:

لقد أكرم الله النبي محمداً***فأكرم خلق الله في الناس أحمد

وشقّ له من اسمه ليجلّه***فذو العرش محمود، وهذا محمد[77]

وقال أيضاً:

كذبتم وبيتِ الله نبزي محمداً***ولما نطاعن دونه ونناضلِ

ونُسلمه حتى نُصرَّع حوله***ونذهل عن أبنائنا والحلائل

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه***ثمال اليتامى عصمة للأرامل

يلوذ به الهَّلاك من آل هاشم***فهم عنده في رحمة وفواضل

ألم تعلموا أن ابننا لا مكذَّب***لدينا، ولا نعبأ بقول الأباطل

فأيَّده ربّ العباد بنصره***وأظهر ديناً حقه غير باطل

أُقيمُ على نصر النبي محمد***أُقاتل عنه بالقنا والقنابل[78]

إلى غير ذلك من مواقفه وتصريحاته ومساندته للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) ولولا إيمانه بالله واعتقاده بالإسلام لما قام تلك المواقف، ولما غامَرَ بنفسه وبأولاده في سبيل نصرة النبي وتقوية دينه.

ولم يكن ذلك التفادي والمخاطرة بدافع القرابة، فلقد كان للرسول ثمانية أعمام (غير أبي طالب) فلماذا لم يسجِّل التاريخ لهم تلك المواقف المشرِّفة، بل سجل التاريخ عن بعض أعمام النبي مواقف مخزية كمواقف عمِّه أبي لهب.

 

وَفَاةُ السَيِّدَةِ خَديجَة الكُبْرى

كانت الأعوام تَمُرّ، والسنوات تنقضي، وحياة الزهراء مشفوعة بالحوادث والمآسي، وقد بلغت السابعة من عمرها أو قاربت الثامنة وإذا بفاجعة تطلُّ على حياتها، وتخيِّم الهموم وتتراكم الأحزان على قلبها، وهي وفاة أُمها السيدة خديجة، تلك الأُم البارَّة الحنون التي كانت تنظر إلى ابنتها الصغيرة فاطمة العزيزة نظرة حزن وتألم وتأثر لأنها تعلم أن الزهراء ستفجع بأُمها العطوفة الرؤوفة.

كانت السيدة خديجة طريحة الفراش، وقد خيَّم عليها شبح الموت، فدخل عليها رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهي تعالج سكرات الموت فقال لها: بالرغم منَّا ما نرى بك يا خديجة، فإذا قدمت على ضرائرك فاقرئيهن السلام! قالت: من هنَّ يا رسول الله؟ قال (صلى الله عليه وآله): مريم بنت عمران، وكلثم أُخت موسى، وآسية امرأة فرعون. فقالت: بالرفاء يا رسول الله[79].

وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: أُمرت أن أُبشِّر خديجة ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب[80].

قال ابن الأثير في (النهاية): القصب - في هذا الحديث - : لؤلؤ مجوَّف واسع كالقصر المنيف. والصخب: الضجة واضطراب الأصوات للخصام.

كانت السيدة خديجة تتأوه وتبكي فقالت لها أسماء بنت عميس: أتبكين وأنت سيدة نساء العالمين؟ وأنت زوجة النبي؟ مبشَّرة على لسانه بالجنة؟ فقالت: ما لهذا بكيت، ولكن المرأة ليلة زفافها لا بدَّ لها من امرأة تفضي إليها بسرِّها وتستعين بها على حوائجها، وفاطمة حديثة عهد بصبا، وأخاف أن لا يكون لها من يتولى أمرها حينئذ!

فقالت أسماء: يا سيدتي لك عهد الله إن بقيت إلى ذلك الوقت أن أقوم مقامك في هذا الأمر.. إلخ.

وفارقت السيدة خديجة الحياة، وعمرها ثلاث وستون سنة (على قول) فكانت وفاتها ضربة مؤلمة على قلب الرسول، وخاصة وأن النبي قد فجع بعمِّه أبي طالب بعد أيام أو شهور من وفاة السيدة خديجة فازداد حزناً، حتى سمَّى تلك السنة (عام الحزن) لأنه أصيب بمصيبتين عظيمتين على قلبه البار:

مصيبة زوجته خديجة، لا لأنها زوجته فقط، بل لأنها أَول من صدَّقته بالنبوة، ولأنها كانت زوجة ومعاضدة ومساعدة ومحامية لزوجها، لأنها وهبت الآلاف المؤلفة من أموالها في سبيل الإسلام، ولأنها كانت تحمل شخصية فريدة من نوعها في مكة، بل في نساء العرب.

ودُفنت في الحَجون، فنزل رسول الله (صلى الله عليه وآله) في قبرها. وكانت السيدة فاطمة (عليها السلام) تلوذ برسول الله (صلى الله عليه وآله) وتدور حوله وتسأله: يا رسول الله أين أُمي؟ فجعل النبي لا يجيبها، وهي تدور على من تسأله، فهبط عليه جبرئيل فقال: إن ربك يأْمرك أن تقرأ على فاطمة السلام وتقول لها: أُمك في بيت من قصب، كعابه من ذهب، وأعمدته من ياقوت أحمر، بين آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران فقالت فاطمة: إن الله هو السلام ومنه السلام، وإليه يعود السلام.

والمصيبة الأخرى مصيبة عمِّه أبي طالب الذي كفل النبي من يوم وفاة جده عبد المطلب، وهو ابن ثمان سنوات، واستمرت الكفالة حتى بلغ النبي من العمر ثلاثاً وخمسين سنة، وهي السنة التي مات فيها أبو طالب.

ولأبي طالب حقوق وخدمات ومواقف تجاه النبي طيلة هذه السنوات تعتبر في قمة فضائله وفواضله، ولولاه لمات الدين الإسلامي وهو في المهد:

ولولا أبو طالب وابنه***لَما مَثُل الدين شخصاً فقاما

فهذا بمكة آوى وحاما***وهذا بيثرب جسَّ الحِماما

ولله ذا فاتحاً للهدى***ولله ذا للمعالي ختاما

وكان لهاتين الفاجعتين أكبر الأثر في حياة الرسول وتغيير مجراها، لولا موت أبي طالب لما هاجر من مكة، لأنَّه حينذاك شعر بفقدان الناصر والكفيل والمحامي ولم يكن في أعمامه مَن يقوم مقام أبي طالب حتى عمه حمزة يومذاك.

وقد رثاه ابنه الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) بأبيات:

أبا طالب عصمة المستجير***وعيث المحول ونور الظُّلَم

لقد هدَّ فقدك أهل الحفاظ***فصلَّى عليك ولي النعم

ولقَّاك ربك رضوانه***فقد كنت للطهر من خير عم[81]

 

فَاطِمَةُ الزّهْرَاء (عليها السلام) والهِجْرَة

ولما أصيب رسول الله (صلى الله عليه وآله) بوفاة السيدة خديجة وعمه أبي طالب عزم على الهجرة من مكة، وأمر عليّاً أن يبيت على فراشه تلك الليلة، وسُمّيت تلك الليلة: (ليلة المبيت) وهي الليلة التي اجتمع فيها حوالي أربعين أو أربعة عشر رجلاُ من المشركين، وطوَّقوا بيت الرسول، وهم يريدون الهجوم على النبي ليقتلوه في بيته، فخرج النبي إلى الغار، وبقيت السيدة فاطمة في البيت، وهي تتوقع هجوم الأعداء على دارها في كل ساعة وتستمع إلى هتافات الكفر والإلحاد ضد الرسول، ويعلم الله مدى الخوف والقلق المسيطر عليها طيلة تلك الليلة، وهي تعلم خشونة طباع المشركين وقساوة قلوبهم، فيكون أسوأ الاحتمالات عندها أقرب الاحتمالات.

وإلى أن الصباح من تلك الليلة، وهجم القوم في الدار شاهرين سيوفهم كأنهم ذئاب ضارية أو كلاب مستسبعة تطلب فريستها، وقصدوا نحو فراش النبي فلم يجدوه بل وجودوا عليّاً (عليه السلام) راقداً في فراش النبي، ملتحفاً بردة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فخابت ظنونهم، وخرجوا من الدار فاشلين، وكادوا أن يتفجَّروا حقداً وغيظاً وغضباً.

فكانت تلك الساعات من أحرج الساعات وأكثرها خوفاً وفزعاً على قلب السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام).

ويا ليت الأمر كان ينتهي هنا، ولكن أحقاد الكفر كانت كامنة في الصدور كأنها جمرة تحت رماد، ولما خرج أمير المؤمنين (عليه السلام) بالفواطم من مكة وهُنَّ: فاطمة الزهراء بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وفاطمة بنت أسد (أم أمير المؤمنين) وفاطمة بنت الزبير بن عبد المطلب، فلحقهم العدو، واعترضهم في أثناء الطريق للحيلولة دون الهجرة، وكان الموقف حرجاً، واستولى الرعب والفزع على قلوب الفواطم من الأعداء، وكادت أن تقع هناك كارثة أو كوارث لولا حفظ الله وعنايته، ثم بسالة الإمام علي وبطولته المشهورة، وكفاهم الله شر الأعداء، ونجى علي والفواطم بقدرة الله تعالى.

وصلت الفواطم إلى المدينة، وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد سبقهم إليها، وكان ينتظرهم، ولما وصلوا دخل النبي المدينة ونزل في دار أبي أيوب الأنصاري، والتحقت به ابنته فاطمة الزهراء، ونزلت على أُم أبي أيوب الأنصاري.

كانت السيدة الزهراء تعيش تحت ظل والدها الرسول في المدينة بعد أن مرَّت بها عواصف شديدة وحوادث مؤلمة، من موت أُمها خديجة وهجرة أبيها الرسول من وطنه ومسقط رأْسه، وهجوم الأعداء على الدار، وهجرتها من مكة إلى المدينة، ومطاردة الأعداء لها، فهل انتهت تلك الحوادث والمصائب؟

كلا، بل كانت تلك القضايا بداية مآسي أخرى، وكوارث متسلسلة متعاقبة، إذ ما مضت سنة واحدة على الهجرة وإذا بالمشركين يجتمعون في مكة ويقصدون التوجه إلى المدينة لمحاربة الرسول والمسلمين، فنول جبرئيل وأخبر النبي بالمؤامرة، وخرج الرسول بالمسلمين من أهل المدينة وبمن التحق به من المهاجرين من أهل مكة، خرج بهم ليستقبل العدو في أثناء الطريق قبل وصولهم المدينة، فوصلوا إلى منطقة بين المدينة ومكة يقال لها: (بدر).

وهناك التقوا بالمشركين، وكان عدد المشركين ثلاثة أضعاف المسلمين، ولكن كانت الغلبة والانتصار للمسلمين والهزيمة والاندحار للمشركين، فرجع النبي إلى المدينة مظفَّراً منصوراً.

 

فَاطِمَةُ الزّهْرَاءُ (عليها السلام) يَوْم أُحُد

وبعد سنة واحدة وشهر وقعت غزوة أُحد، وقُتل فيها من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) سبعون رجلاً كانوا هم الصفوة والزبدة من أصحابه، وفي طليعتهم عمّه سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، وأُصيب رسول الله (صلى الله عليه وآله) بحجر انكسرت منه جبهته الشريفة، وحجر أصاب فمه الطاهر وانكسرت منه ثناياه، وتخثَّر الدم على لحيته كأنه حِنّاء أو خضاب.

وفي تلك الآونة صاح إبليس صيحة سمعها المسلمون في أُحد، وسمعها أهل المدينة، صاح: (قُتل محمد).

اضطربت القلوب في جبهة القتال، وانهزم المنهزمون، وثبت المؤمنون حقاً، ولم يكن اضطراب العوائل في المدينة بأقل من اضطراب المسلمين في ساحة القتال.

وقد خرجت صفية بنت عبد المطلب (عمة النبي) وفاطمة الزهراء إلى أحد، فصاحت فاطمة، ووضعت يدها على رأسها، وخرجت تصرخ، وخرجت كل هاشمية وقريشية، واضعة يدها على رأسها.

وكان وصول فاطمة الزهراء وصفية إلى أُحد بعد أن وضعت الحرب أوزارها، وبعد أن قُتل من قُتِل، وجُرحَ من جُرح، وكان النبي يتفقد القتلى ويبحث عن المفقودين من أصحابه.

وهو إذ ذاك قد وصل إلى مصرع حمزة، فوجده بحالة لا توصف، فقد مثّلوا به أقبح وأبشع مُثلة، فقد قطعوا أصابع يديه ورجليه، وجدعوا أنفه وأذنيه وشقّوا بطنه، وأخرجوا كبده، وقطعوا عورته، وتركوه بهذه الحالة.

كان هذا المنظر المشوَّه مؤلماً ومخدشاً لقلب الرسول، إذ هو نكاية وتنكيل من المشركين لعمِّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) وناصره والمدافع عنه.

كان الحزن والغيظ قد أخذ من الرسول كل مأْخذ، فبينما هو كذلك وإذا به يرى عمَّته صفية وابنته فاطمة قد توجَّهتا نحو تلك المنطقة، فغطى الرسول جثمان حمزة بردائه، وستَرَه من القرن إلى القدم كي لا يُرى شيء من مواضع المثلة.

وأقبلت صفية وفاطمة تعدُوان، وجلستا عند مصرع حمزة، وشرعتا بالبكاء والنحيب، ورسول الله يساعدهما على البكاء، ويشاركهما في الأنين والنحيب، ثم نظرت فاطمة إلى جراحة جبهة الرسول، وإلى الدماء المتخثرة على وجهه الطاهر ولحيته الشريفة، فصاحت وجعلت تمسح الدم وتقول: اشتدّ غضب الله على من أَدمى وجه رسول الله.

فغسلت الدماء عن وجه أبيها، وكان علي يصبّ الماء بالمجن، فلما رأت فاطمة أنَّ الماء لا يزيد الدم إلاَّ كثرة عمدت إلى قطعة حصيرة فأحرقتها، وجعلت رمادها ضماداً على جبهة أبيها، وألزمته الجرح، فاستمسك الدم.

أترى كيف انقضت تلك الساعات على قلب فاطمة؟ فقد تداخلها الحزن العظيم والخوف الشديد وهي البنت البارَّة بأبيها، العارفة بحقه.

ولما رجع علي (عليه السلام) من أُحد ناولَ فاطمة سيفه، وقال: خذي هذا السيف، فلقد صدقني اليوم، وأنشأ يقول:

أفاطم هاكِ السيف غير ذميمِ***فلستُ برعديدٍ، ولا بلئيم

لعمري لقد أعذرتُ في نصر أحمد***وطاعة ربٌ بالعباد عليم

أُريد ثواب الله لا شيء غيره***ورضوانه في جنة ونعيم

وكنتُ امرأً يسمو إذ الحرب شمُّرت***وقامت على ساق بغير مليم

أممت بن عبد الدار حتى جرحته***بذي رونق يفري العظام صميم

فغادرته بالقاع فارفضَّ جمعه***عباديد مما قانط وكليم

وسيفي بكفّي كالشهاب أهزُّه***أحزُّ به من عاتقِ وصميم

فما زلت حتى فضَّ ربي جموعهم***وأشفيت منهم صدر كل حليم

أَميطي دماء القوم عنه فإنه***سقى آل عبد الدار كأْس حميم

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): خذيه يا فاطمة فقد أدَّى بعلك ما عليه، قتل الله صناديد قريش بيديه[82].

لقد مرَّ عليك أن السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) حضرت في أُحد، بعد أن وضعت الحرب أوزارها، ولما نظرت إلى جراحة أبيها غسلت الدماء بالماء، وأحرقت قطعة حصيرة وجعلت رمادها على جبهة أبيها الرسول.

هذه الواقعة كما ذكرها المؤرخون، ولكن في زماننا - هذا - جاءت طائفة من الناس، واعتبروا هذه الواقعة ساحة لمسرحياتهم الشاذة، فكتبوا بكل إصرار وإلحاح وتكرار أن فاطمة كانت تحضر جبهات القتال وتضمِّد الجرحى، وتداويهم وتسعفهم!!!

أنا ما أدري ما يقصد هؤلاء الشواذ من اختلاق هذه الأكذوبة؟

إذا قامت سيدة بتضميد جراحة أبيها فقط وفقط في العمر مرة واحدة بعد انتهاء القتال هل يقال عنها: أنها كانت تحضر جبهات القتال وتضمد الجرحى وتداويهم؟؟

أنا ما أدري ما هدف هؤلاء من ترويج هذا الباطل وإشاعة هذا الافتراء؟

هل يريدون المسَّ بقدسيَّة السيدة فاطمة الزهراء ونزاهتها؟

أم يريدون فتح الطريق للاختلاط بين الجنسين.

ولنفرض أن نسيبة بنت كعب حضرت يوم أُحد لتضميد الجرحى فهل معنى ذلك أن نعتبر السيدة فاطمة الزهراء وهي سيدة نساء العالمين في العفاف والحياء والحشمة والنزاهة والعصمة نعتبرها كالموظفات في المستشفيات والمستوصفات ومؤسَّسات الإسعاف الدولية؟؟

أنا ما أدري ولعلهم يدرون ويعرفون ما يبرِّر لهم هذه الأكذوبة.

 

مَشَاكِلُ السَيدَةِ فَاطِمَة في دَارِ أبيهَا

ومن المشاكل التي عكَّرت - على السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) - حياتها أنها ابتليت ببعض زوجات أبيها الرسول، من اللواتي قد تكوَّنت عندهنَّ عقدة نفسية، فكنَّ يحسدن السيدة فاطمة الزهراء على مواهبها وفضائلها، وخاصة وأن الرسول (صلى الله عليه وآله) كان يغمر السيدة فاطمة بألطافه ويمطر عليها عواطفه، ويحبها حباً عجيباً يهيِّج في قلوب بعض نسائه الحسد الكامن.

فقد روى شيخنا المجلسي (عليه الرحمة) في السادس من البحار عن كتاب الخصال عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله) منزله، فإذا عائشة مقبلة على فاطمة تصايحها، وهي تقول: والله يا بنت خديجة ما ترين إلا أنّ لأُمُّك علينا فضلاً، وأي فضل كان لها علينا؟ وما هي إلاَّ كبعضنا!!

فسمع النبي مقالتها لفاطمة، فلما رأت فاطمة رسول الله (صلى الله عليه وآله) بكت، فقال: ما يبكيك يا بنت محمد؟ قالت: ذكرت عائشة أُمي فنقّصتها فبكيتُ. فغضب رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم قال: مَه يا حميراء! فإن الله تبارك وتعالى باركَ في الودود الولود وإن خديجة (رحمها الله) ولدت مني طاهراً (وهو عبد الله) وهو المطهّر، ووَلدت مني القاسم ورقية وأم كلثوم وزينب، وأنت ممن أعقم الله رَحِمه. فلم تلدي شيئاً.

ولعائشة مواقف غير مشكورة تجاه السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) تدل على جانب كبير من انحرافها العميق العريق المتواصل، بحيث لم يُعهد تلك المواقف المتطرفة من بقية زوجات الرسول تجاه سيدة العالمين.

وفي هذا الحديث تصريح بأن بنات السيدة خديجة الكبرى كلهن من رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا من زوج آخر وليس هذا الحديث هو الدليل الوحيد على ذلك بل توجد أدلَّة وبراهين قطعية على أنَّهن كنَّ بنات رسول الله (صلى الله عليه وآله) حقيقة، ومن صلبه، إلا أن المجال - في هذا الكتاب - لا يسع للشرح والتفصيل أكثر من هذا، ولعلنا نلتقي - إن شاء الله - بالقراء في غير هذا الكتاب حول هذا الموضوع، ونؤدي بعض ما يتطلبه البحث والتحقيق.

 

فَاطِمَةُ الزهْرَاءُ (عليها السلام) عَلَى أعتَابِ الزواج

كانت السيدة فاطمة الزهراء (عليه السلام) قد بلغت من العمر تسع سنوات، ولكنها كانت تتمتّع بالنمو الجسمي، بل الكمال الجسماني، وكانت تمتاز من صغر سنِّها بالنضج الفكري والرشد العقلي المبكر، وقد وهب الله لها العقل الكامل والذهن الوقاد، والذكاء الذي لا يوصف، ولها أوفر نصيب من الحس والجمال والملاحة، خلقةً ووارثة، فمواهبها كثيرة وفوق العادة وفضائلها الموروثة والمكتسبة تمتاز عن كل أنثى وعن كل ابن أنثى.

وأما ثقافتها الدينية والأدبية فحدِّث ولا حرج، وسيتضح لك أنها أعلم امرأة وأفضلها في العالم كله، ولم يشهد التاريخ امرأة حازت الثقافة والعلم والأدب بهذا المستوى، مع العلم أنها لم تدخل في مدرسة ولم تتخرج من كلية سوى مدرسة النبوة وكلية الوحي والرسالة.

فلا عجب إذا خطبها مشاهير أصحاب النبي، وكان النبي يعتذر إليهم ويقول: أمرها إلى ربها، إن شاء أن يزوِّجها زوَّجها.

وروى شعيب بن سعد المصري في (الروض الفائق): (فلما استنارت في سماء الرسالة شمس جمالها، وتم في أفق الجلالة بدر كمالها، امتدت إليها مطالع الأفكار وتمنّت النظر إلى حسنها أبصار الأخيار، وخطبها سادات المهاجرين والأنصار، ردَّهم (المخصوص من الله بالرضا) وقال: إني أنتظر بها القضاء).

وخطبها أبو بكر وعمر فقال النبي (صلى الله عليه وآله): إنها صغيرة[83] وخطبها عبد الرحمن بن عوف، فلم يجبه النبي بل أعرض عنه.

بعد الانتباه إلى هذه الجملة وهي قوله (صلى الله عليه وآله): (أنها صغيرة) يتضح لنا تزوير الأقوال المروية بولادتها قبل المبعث بخمس سنين، إذ لو كان الأمر هكذا لكان عمرها يومذاك ثمانية عشر سنة كيف تكون صغيرة؟ وقد تزوَّج رسول الله (صلى الله عليه وآله) عائشة وعمرها على أكثر التقادير عشر سنوات، ولم يعتبرها الرسول صغيرة فكيف تكون ابنته الشابة صغيرة لا تصلح للزواج؟

ثم لو كان الأمر كما يزعمون وإنها ولدت قبل المبعث بخمس سنين لكان عمرها يوم كانت في مكة - قبل الهجرة - بين السادسة عشرة والسابعة عشرة، وهذه الفترة من العمر أحسن أوقات الزواج، فكيف لم يخطبها أحد في مكة، لا من بني هاشم ولا من غيرهم بل لم يُسمع أنها كانت في مظنة الخطبة والزواج؟؟

وقد روى علي بن المتقي في كتابه: (كنز العمال ج2 ص99) عن أنس بن مالك قال: جاء أبو بكر إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقعد بين يديه فقال: يا رسول الله قد علمت مناصحتي وقِدَمي في الإسلام وأني وأني.. قال: وما ذاك؟ قال: تزوجني فاطمة. فسكت عنه أو قال: فأعرض عنه، فرجع أبو بكر إلى عمر فقال: هلكتُ وأهلكت. قال: وما ذاك قال: خطبت فاطمة إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فأعرض عني قال عمر: مكانك حتى آتي النبي فأطلب منه مثل الذي طلبت. فأتى عمر النبي (صلى الله عليه وآله) فقعد بين يديه فقال: يا رسول الله قد علمت مناصحتي وقِدَمي في الإسلام وأني وأني.. قال: وما ذاك؟ قال: تزوجني فاطمة. فأعرض عنه، فرجع عمر إلى أبي بكر فقال: إنه ينتظر أمر الله فيها.

وروى الهيثمي في (مجمع الزوائد): أن كُلاً من أبي بكر وعمر أمر ابنته أن تخطب فاطمة من رسول الله، فذكرت كل واحدة منهما فاطمة لأبيها، فأجابها رسول الله: حتى ينزل القضاء، فتمنَّت كل واحدة منهما أنهما لم تكن ذكرت للنبي شيئاً.

ولعل الرسول ما يكن يحب أن يصارحهم بأنه يدخرها لكفوها، وما أحب أن يصارحهم بأنهم ليسوا بأكفاء لها أو يفاجئهم بأن مستوى ابنته فوق المستويات.

كان الرسول يرى أن تجري الأشياء على مجراها الطبيعي، وكان الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) قد نزل في بيت سعد بن معاذ (على قول) منذ وصوله إلى المدينة، فجاء إليه سعد بن معاذ وهو في بعض بساتين المدينة وقال: ما يمنعك أن تخطب فاطمة من ابن عمك؟

وفي (منتخب العمال): انطلق عمر إلى علي رضي الله عنه فقال: ما يمنعك من فاطمة فقال: أخشى أن لا يزوِّجني! قال: فإن يزوِّجك فمن يزوج؟ وأنت أقرب خلق الله إليه.. إلخ.

إن علياً لم يذكر فاطمة طيلة حياته لأي أحد، ولم يذكر رغبته حياءً من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم ظروفه الاقتصادية يومذاك كانت قاسية جدّاً، فما كان يملك من حطام الدنيا أموالاً ولا يملك في المدينة داراً ولا عقاراً، فكيف يتزوج؟ وأين يتزوج؟ وأين يسكن؟

وليست السيدة الزهراء بالمرأة التي يستهان بها في زواجها!

ولكن، لما كان المقصود من الزواج تشكيل البيت الزوجي وتأْسيس الصرح العائلي، ولم تكن قضية الجنس في طليعة الهدف بل كانت في ضمن الزواج فقد جاء الإسلام ليفتح الأغلال والتقاليد التي حبست على الناس سنّة الزواج، وشدّدت عليهم هذا الأمر الذي يعتبر من ضروريات الفطرة، ومن لوازم نظام البقاء والحياة الزوجية والعائلية.

فقد أصبح الزواج - بفضل الإسلام - أمراً سهلاً مستسهلاً، فالتعصب القِبَلي والعنصري قد أشرف على الزوال، وكان الرسول في دَور التكوين، وهو القدوة والأسوة للمسلمين، وحركاته وسكناته، وأعماله وأفعاله ستكون حجة ودليلاً عند المسلمين، فكان الرسول يحارب تقاليد الجاهلية وعادات الكفر باللسان واليد، قولاً وفعلاً.

فقد أتاه علي يخطب منه ابنته فاطمة، والنبي (صلى الله عليه وآله) له الولاية العامة على جميع المسلمين والمسلمات، وعلى ابنته ومن عداها، ولكنه (صلى الله عليه وآله) حفظ لفاطمة كرامتها، ولم يعلن موافقته للزواج قبل الاستئذان من فاطمة، وبعمله هذا أعلن أنه لابد من موافقة البنت لأنها هي التي تريد أن تعيش مع زوجها، وتكون شريكة حياته، ويكون شريك حياتها.

إن تزويج البنت بغير إذنها أو موافقتها إهدار لكرامتها وتحقير لنفسيتها، وتحطيم لشخصيتها، وتصريح عملي لها أنها لا يحق لها إبداء رأيها حول انتخاب الزوج فكأنها بهيمة أو داجنة تباع وتوهب بلا إذن منها أو موافقة.

فقال الرسول: يا علي قد ذكراها قبلك رجال، فذكرت ذلك لها، فرأيت الكراهة في وجهها، ولكن على رِسلك حتى أخرج إليك.

قام الرسول وترك علياً جالساً ينتظر النتيجة. ودخل على ابنته فاطمة، وأخبرها بأن علياً جاء يطلب يدها؛ ربما يحتاج الأب إلى أن يخبر ابنته عمن جاء يخطبها ويذكر لها أوصافه من حيث العمر والمهنة وبقية الخصوصيات إذا لم يكن معروفاً، لتكون البنت على علم وبصيرة.

ولكن هنا لا حاجة إلى ذلك، فعليّ (عليه السلام) أعرف من أن يعرّف، وفاطمة تعرف علياً وتعرف سوابقه ومواهبه وفضائله، ولا تجهل شيئاً. فاكتفي الرسول بأن قال: يا فاطمة إن علي بن أبي طالب مَن قد عرفتِ قرابته وفضله وإسلامه، وإني قد سألت ربي أن يزوِّجك خير خلقه، وأحبَّهم إليه، وقد ذكر عن أمرك شيئاً، فما ترين؟

فسكتت، ولم تولّ وجهها، ولم ير فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله) كراهة، فقام وهو يقول: الله أكبر! سكوتها إقرارها.

اعتبر الرسول سكوتها موافقة ورضي منها على الزواج، إذ لا ينتظر من الفتاة البكر الحييّة (ذات الحياء) أن تصرّح بموافقتها، بل ينتظر منها التصريح بالمخالفة والرفض عند عدم الموافقة، لأن الحياء يمنع التصريح بالموافقة، ولا يمنع التصريح بالرفض.

ورجع النبي إلى علي وهو ينتظر، فأخبره بالموافقة، وسأله عن مدى استعداده لاتخاذ التدابير اللازمة لهذا الشأن، إذ لابد من الصداق ودويّ على مر الأجيال، فلابدّ من رعاية جميع جوانبه، ولا يصح إهمال أي ناحية منه مع رعاية البساطة:

فقال النبي لعلي: هل معك شيء أزوجك به؟

فقال علي: فداك أبي وأمي! والله لا يخفى عليك من أمري شيء، أملك سيفي ودرعي وناضحي!![84].

هذه ثروة علي، وجميع ما يملكه من حطام الدنيا وهو مقبل على الزواج.

تلقّى كلامه برحابة صدر، وقال: يا علي! أما سيفك فلا غنى بك عنه، تجاهد به في سبيل الله، وتقاتل به أعداء الله، وناضحك تنضح به على نخلك وأهلك، وتحمل عليه رحلك في سفرك، ولكني قد زوجتك بالدرع ورضيت بها منك، بِع الدرع وائتني بثمنه!!

كان علي (عليه السلام) قد أصاب هذه الدرع من مغانم غزوة بدر كان كما ذكره العسقلاني في (الإصابة ج4 ص365) وقد كان النبي أعطاه إياها، وكانت تسمَّى (الحطمية) لأنها كانت تحطِّم السيوف أي تكسِّرها، كما في (لسان العرب).

باع علي (عليه السلام) الدرع بأربعمائة وثمانين أو بخمسمائة درهم، وجاء بالدراهم إلى النبي (صلى الله عليه وآله) وطرحها بين يديه، وتمَّ الوفاق على أن يكون ثمن الدرع صداقاً لأشرف فتاة في العالم، وأفضل أنثى في الكون، وهي سيدة نساء العالمين، وبنت سيد الأنبياء والمرسلين وأشرف المخلوقين!!

زوَّج رسول الله (صلى الله عليه وآله) ابنته الطاهرة من علي بن أبي طالب بهذه البساطة والسهولة ليفكِّك أغلال التقاليد التي قيَّد الناس بها أنفسهم، لقد صنع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما صنع ليقتدي به الناس الذين هم دونه في الشرف والمنزلة بملايين الدرجات.

وزوَّج ابنته وهي سيدة نساء العالمين بمهر قليل كي لا تستنكف الفتاة المسلمة أن تتزوج بمهر قليل.

وغير ذلك من الحِكَم والفوائد التي لا مجال لذكرها هنا، فقد جرى كل هذا في الأرض.

ولكن الله تعالى حفظ لسيدة النساء كرامتها، فقد زوَّج الله فاطمة الزهراء من علي بن أبي طالب قبل أن يزوِّجها أبوها رسول الله (صلى الله عليه وآله) من علي، وليس ذلك ببعيد، فقد زوَّج الله من هي دون فاطمة الزهراء بدرجات ومراتب كثيرة، أليس الله قد زوَّج زينب بنت جحش من رسول الله بقوله تعالى: (فلما قضى زيد منها وطراً زوّجناكها).

أليس الله قد زوج رسوله امرأة مؤمنة وهبت نفسها للنبي؟ فما المانع أن ينعقد مجلس العقد أو حفلة القِران في السماوات العلى، ويحضرها الملائكة المقرّبون كما صرَّحت بذلك الأحاديث؟

كل ذلك كرامة لها ولأبيها، وبعلها وبنيها الذين سيولدون منها، وهم حجج الله على الخلق أجمعين.

كانت حفلة القِران التي أقيمت في السماء الرابعة عند البيت المعمور وحيدة من نوعها فريدة بمزاياها، لم يشهد الكون مثلها، فقد اجتمع ملائكة السماوات كلها في السماء الرابعة ونُصب منبر الكرامة، وهو منبر من نور، وأوحى الله تعالى إلى مَلَكِ من ملائكة حُجُبه يقال له: (راحيل) أن يعلو ذلك المنبر، وأن يحمده بمحامده، ويمجِّده بتمجيده، وأن يثني عليه بما هو أهله، وليس في الملائكة أحسن منطقاً ولا أحلى لغةً من راحيل المَلَك، فعلا المنبر وقال:

(الحمد لله قبل أزليَّة الأولِّين، الباقي بعد فناء العالمين، نحمده إذ جعلنا ملائكة روحانيين، وبربوبيته مذعنين، وله على ما أنعم علينا شاكرين، وحَجَب عنا النهم للشهوات، وجعل نهمتنا وشهوتنا في تقديسه وتسبيحه).

الباسط رحمته، الواهب نعمته، جلَّ عن إلحاد أهل الأرض من المشركين وتعالى بعظمته عن إفك الملحدين ثم قال - بعد كلام - :

اختار الله الملك الجبار صفوة كرمه، وعبد عظمته لأمَته سيدة النساء، بنت خير النبيين وسيد المرسلين وإمام المتقين، فوصل حبله بحبل رجل من أهله، صاحبه المصدّق دعوته، المبادر إلى كلمته، على الوَصول بفاطمة البتول ابنة الرسول.

ثم أعقبه جبرئيل عن الله تعالى قوله: (الحمد ردائي، والعظمة كبريائي، والخلق كلهم عبيدي وإمائي، زوّجت فاطمة أمَتي من علي صفوتي اشهدوا يا ملائكتي)[85].

وقد روى هذا الحديث جمع من علماء العامة منهم:

عبد الرحمن الصفوري في (نزهة المجالس ج2 ص223) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: دخلت أم أيمن على النبي (صلى الله عليه وآله) وهي تبكي، فسألها عن ذلك، فقالت: دخل عليَّ رجل من الأنصار وقد زوَّج ابنته، وقد نثر عليها اللوز والسكر، فتذكرت تزويجك فاطمة ولن تنثر عليها شيئاً. فقال: والذي بعثني بالكرامة، وخصني بالرسالة إن الله لما زوج علياً فاطمة وأمر الملائكة المقربين أن يحدقوا بالعرش، فيهم جبرئيل وميكائيل وإسرافيل، وأمر الطيور أن تغني، فغنّت، ثم أمر شجرة طوبى أن تنثر عليهم اللؤلؤ الرطب مع الدر الأبيض مع الزبرجد الأخضر مع الياقوت الأحمر.

وفي رواية: إن الزواج عند سدرة المنتهى ليلة المعراج وأوحى الله إليها أن أنثري ما عليك فنثرت الدر والجوهر والمرجان.

وذكر الحافظ أبو نعيم في (حلية الأولياء ج5 ص59): عن عبد الله بن مسعود.. ثم أمر الله شجرة الجنان فحملت الحلي والحلل، ثم أمرها فنثرته على الملائكة، فمن أخذ منهم شيئاً يومئذ أكثر مما أخذ غيره افتخر به إلى يوم القيامة.

ورواه جماعة كالخوارزمي في (مقتل الحسين)، والعسقلاني في (لسان الميزان) و(تهذيب التهذيب) والقندوزي في (ينابيع المودة).

وفي نزهة المجالس عن أنس بن مالك رضي الله عنه: بينما النبي (صلى الله عليه وآله) في المسجد إذ قال لعليِّ: هذا جبرئيل أخبرني أن الله قد زوَّجك فاطمة؛ وأشهد على تزويجها أربعين ألف ملَك، وأوحى إلى شجرة طوبى أن أنثري عليهم الدرَّ والياقوت والحلي والحلل، فنثرت عليهم، فابتدرت الحور العين يلتقطن من أطباق الدر والياقوت والحلي والحلل، فهم يتهادونه إلى يوم القيامة. ورواه السيوطي في (تحذير الخواص).

وأجرى الرسول (صلى الله عليه وآله) صيغة العقد في المسجد وهو على المنبر، بمرأى من المسلمين ومسمع، وهكذا سنَّ رسول الله الإعلان والإشهاد في عقد النكاح، وكميَّة الصداق كي يقتدي به المسلمون فلا يغالوا في الصداق وقال (صلى الله عليه وآله): (لا تغالوا في الصداق فتكون عداوة). وجعل النبي (صلى الله عليه وآله) المهر الذي جرت عليه السنَّة خمسمائة درهم، وتزوَّج رسول الله بزوجاته بهذا المبلغ من الصداق وكذلك الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) كانوا لا يتعدون هذا المبلغ في الزواج.

باع عليّ (عليه السلام) الدرع، وجاء بالثمن للرسول، فقسّم النبي (صلى الله عليه وآله) المبلغ أثلاثاً: ثلثا لشراء الجهاز، وثلثا لشراء الطيب والعطر للزفاف، وثلثا تركه أمانة عند أم سلمة ثم ردّه إلى عليٍ قبيل الزفاف إعانةً ومساعدة منه إليه لطعام وليمة الزفاف.

من الطبيعي أن زواج علي (عليه السلام) من السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) كان سبب هياج الحسد والعداء في بعض القلوب، وخاصة وأن بعضهم كان قد خطب فاطمة من أبيها فرفض طلبه، وأعرض عنه، فلا عجب إذا جاء إلى الرسول أناس من قريش فقالوا: إنك زوّجت علياً بمهر خسيس فقال لهم: ما أنا زوّجت علياً، ولكن الله زوَّجه ليلة أسرى بي عند سدرة المنتهى.. الخ[86].

وقال (صلى الله عليه وآله): إنما أنا بشر مثلكم، أتزوج فيكم وأزوِّجكم إلاَّ فاطمة، فإن تزويجها نزل من السماء[87].

ودفع الرسول شيئاً من المال لأبي بكر ليشتري لفاطمة متاعاً لبيتها الزوجي وبعث معه بلالاً، وسلمان ليُعيناه على حمل ما يشتري، وقيل: أردفه بعمار بن ياسر وجماعة، وقال لأبي بكر: اشترِ بهذه الدراهم لابنتي ما يصلح لها في بيتها.

قال أبو بكر: وكانت الدراهم التي أعطاني إياها ثلاثة وتسعين درهماً، فحضروا السوق فكانوا يعترضون الشيء مما يصلح، فكان ما اشتروه:

1 - فراشان من خيش مصر، حشو أحدهما ليف، وحشو الآخر من جز الغنم.

2 - نطع من أدم (جلد).

3 - وسادة من أدم حشوها من ليف النخل.

4 - عباءة خيبرية.

5 - قربة للماء.

6 - كيزان (جمع كوز) وجرار (جمع جرة) وعاء للماء.

7 - مطهرة للماء مزفّتة.

8 - ستر صوف رقيق.

9 - قميص بسبعة دراهم.

10 - خمار بأربعة دراهم.

11 - قطيفة سوداء.

12 - سرير مزمّل بشريط.

13 - أربعة مرافق من أدم الطائف حشوها إذخر (نبات معروف).

14 - حصير هجري.

15 - رحى لليد.

16 - مخضب من نحاس.

17 - قعب للبن.

18 - شنٌّ للماء.

حتى إذا استكمل الشراء حمل أبو بكر بعض المتاع وحمل أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) الباقي، فلما عرض المتاع على رسول الله وكان في حجرة أم سلمة جعل يقلّبه بيده ويقول: بارك الله لأهل البيت. وفي رواية: رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم بارك لقوم جُلُّ آنيتهم الخزف..

هذا جميع الأثاث والمتاع الذي اشتروه لابنة سيد الأنبياء، وهي أشرف أنثى، وسيدة نساء العالمين.

نعم، إن السعادة الزوجية لا تحصل عن طريق البذخ والترف والسرف، فإن الملابس الفاخرة، والكراسي الثمينة، والأحجار الكريمة وأواني الذهب والفضة، والفرش الغالية والستائر القيمة، والقصور الشاهقة والسيارات الضخمة، ووسائل التنوير والتبريد والتدفئة، وغيرها ليست من أسباب السعادة الزوجية التي يتصورها البسطاء من الناس.

فكم من امرأة ترفل في ثيابها وبدلاتها، وتجلس على فراش وثير، وتتلألأ الحلي - المرصّع بالمجوهرات - على جيدها ومعصميها، وشحمة أذنيها، ومع ذلك كله تشعر بأنها في جحيم، وتعتبر نفسها شقية في الحياة غير سعيدة في دنياها.

وكم من امرأة تعيش في كوخ أو بيت متواضع، تطحن وتعجن وتخبز وتغسل وتكنس وترضع وتتعب وتعيش بكل بساطة، محرومة عن مئات الوسائل مع ذلك تشعر بأنها سعيدة في حياتها، وكأن بيتها الصغير الضيّق البسيط جنة عدن.

ونفس هذا الكلام يجري في الرجال، فترى القصر المنيف المشيَّد الشامخ جحيماً على الرجل، يدخله كرهاً، وكأنَّه في قفص، ويحاول الخروج منه ساعة قبل ساعة.

وترى البيت المتواضع الحقير يأوي إليه الرجل بكل شوق ورغبة، ولا يحب مغادرة بيته حينما يرى البيت الزوجي مبنياً على أسس السعادة والخير.

ولكن مع الأسف أن ملايين الفتيان والفتيات يتصورون أن السعادة الزوجية والحياة السعيدة تحصل عن طريق الثروة والأثرياء، ويعتبرون البساطة في المعيشة من وسائل الشقاء وعلائم الحرمان.

فيبقى هؤلاء المساكين غير متزوجين وغير متزوجات، ينتظرون السعادة الزوجية تطرق باب دارهم!!

 

مِنْ صدَاقِ فَاطِمَة (عليها السلام) الشّفَاعَة يَوْم القيَامَة

إن كانت السيدة فاطمة (عليها السلام) قد تزوّجت بهذا المهر القليل نزولاً عند رغبة أبيها الرسول - حتى يقتدي به المسلمون - وتحقيقاً لأهدافه الحكيمة، فليس معنى ذلك أن تنسى السيدة فاطمة نفسها، أو تنسى عظمتها، بل لابدّ من المحافظة على مقامها الأسمى وحقيقتها الشريفة، ومكانتها العليا، وطموحها نحو الفضائل والقيم، ولهذا فقد روى أحمد بن يوسف الدمشقي في: (أخبار الدول وآثار الأول) قال: (وقد ورد في الخبر أنها لما سمعت بأن أباها زوّجها وجعل الدراهم مهراً لها فقالت: يا رسول الله إن بنات الناس يتزوّجن بالدراهم فما الفرق بيني وبينهن؟ أسألك أن تردها، وتدعو الله تعالى أن يجعل مهري الشفاعة في عصاة أمتك، فنزل جبرئيل (عليه السلام) ومعه بطاقة من حرير مكتوب فيها: (جعل الله مهر فاطمة الزهراء شفاعة المذنبين من أمة أبيها) فلما احتضرت أوصت بأن توضع تلك البطاقة على صدرها تحت الكفن. فوضعت، وقالت: إذا حشرت يوم القيامة رفعت تلك البطاقة بيدي وشفعت في عصاة أمة أبي[88].

إن هذا الحديث - كما تراه - يدل على ما كانت تتمتع به السيدة فاطمة الزهراء من علو الهمة وسموّ النفس، وعظمة الشخصية، وبُعد المدى، وجلالة القدر، فإنها تطلب من أبيها الرسول أن يدعو الله تعالى أن يمنحها هذا الحق العظيم وهو الشفاعة في يوم القيامة. وأستجيب دعاء الرسول ونفِّذ طلبه، ونزل صك من السماء إجابة لهذا الطلب، وستبرز السيدة فاطمة ذلك الصك عند الحاجة، كما روى الصفوري في (نزهة المجالس) قال: قال النسفي: سألت فاطمة رضي الله عنها النبي (صلى الله عليه وآله) أن يكون صداقها شفاعة لأمته يوم القيامة، فإذا صارت على الصراط طلبت صداقها.

وقد وردت روايات كثيرة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) حول أن الله تعالى جعل الشفاعة يوم القيامة من صداق السيدة فاطمة الزهراء.

 

الزّفَافُ وَمُقدّمَاتُه

وقعت فترة بين العقد والزفاف بدون قصد بل إن علياً (عليه السلام) كان يستحي أن يطالب رسول الله (صلى الله عليه وآله) بزوجته، وكان الرسول أيضاً يحافظ على كرامة السيدة فاطمة فما ينبغي له أن يزف ابنته قبل مطالبة زوجها ذلك.

وطالت تلك الفترة شهراً أو شهوراً، وبقي الأمر مسكوتاً عنه، وأخيراً جاء عقيل إلى علي يسأله عن سبب السكوت والقعود، ويستنهضه للقيام بمقدمات الزفاف وكان علي (عليه السلام) يستحي من رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يطالبه أن يزفّ السيدة فاطمة ولكن عقيلاً ألح عليه، فخرجا يريدان الدخول على الرسول للمذاكرة حول الموضوع.

التقت أم أيمن بهما، وسألت منهما عدم التدخل مباشرةً، وتكفّلت هي إنهاء الأمر، ولهذا ذهبت إلى أم سلمة فأعلمتها بذلك، وأعلمت نساء النبي، فاجتمعن عند الرسول وكان في بيت عائشة فأحدقن به، وقلن: فديناك بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله! قد اجتمعنا لأمر لو أن خديجة في الأحياء لقرَّت بذلك عينها!!

فلما سمع النبي اسم خديجة بكى، ثم قال: خديجة وأين مثل خديجة؟ صدَّقتني حين كذّبني الناس، وآزرتني على دين الله، وأعانتني عليه بمالها!!

إن الله عز وجل أمرني أن أبشّر خديجة ببيت في الجنة من قصب الزمرد، لا صخب فيه ولا نصب.

قالت أم سلمة: فقلنا: فديناك بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله إنك لم تذكر من خديجة أمراً إلاَّ وقد كانت كذلك، غير أنها مضت إلى ربها، فهنَّأها الله بذلك، وجمع بيننا وبينها في درجات جنته ورضوانه ورحمته.

يا رسول الله! هذا أخوك في الدنيا، وابن عمك في النسب، علي بن أبي طالب يحب أن تُدخل عليه زوجته فاطمة تجمع بها شمله.

وفي رواية: إن المتكلمة هي أم أيمن قالت: يا رسول الله! لو أن خديجة باقية لقرَّت عينها بزفاف فاطمة، وإن علياً يريد أهله، فقرِّ عين فاطمة ببعلها، واجمع شملهما، وقرِّ عيوننا بذلك.

فقال (صلى الله عليه وآله): فما بال علي لا يسألني ذلك؟

قالت: الحياء منك يا رسول الله!!

فقال - لأم أيمن - : انطلقي إلى علي فائتيني به.

خرجت أم أيمن، فإذا علي ينتظر ليسألها عن جواب رسول الله، وحضر علي (عليه السلام) عند الرسول (صلى الله عليه وآله) وجلس مطرقاً رأسه نحو الأرض حياءً منه، فقال له: أتحب أن تدخل عليك زوجتك؟ قال: نعم، فداك أبي وأمي! قال: نعم، وكرامة، أدخلها عليك في ليلتنا هذه أو ليلة غد إن شاء الله.

هيئ منزلاً حتى تحوِّل فاطمة إليه.

قال علي: ما هاهنا منزل إلاَّ منزل حارثة بن النعمان، فقال النبي: لقد استحينا من حارثة بن النعمان، قد أخذنا عامة منازله!!

وصل الخبر إلى حارثة، فجاء النبي وقال: يا رسول الله! أنا ومالي لله ولرسوله والله ما شيء أحبّ إلي مما تأخذه، والذي تأخذه أحب إليَّ مما تتركه!!

يا لروعة الإيمان بالله والرسول.

يا لجمال الاعتقاد بالآخرة والأجر والثواب!!

جعل حارثة أحد منازله تحت تصرّف علي، وقام علي بتأثيث حجرة العروس وتجهيزها، فقد بسط كثيباً (رملاً) في أرض الحجرة، ونصب عوداً يوضع عليه القربة واشترى جرّة وكوزاً، ونصبوا خشبة من حائط إلى حائط للثياب!!، وبسط جلد كبش، ومخدّة ليف!

هذا جميع ما كان يتمتع به علي (عليه السلام) من متاع الحياة الدنيا وزخرفها!! لقد مرّ عليك أن الصداق الذي استلمه النبي من علي قسّمه أثلاثاً: ثلثاً اشترى به المتاع، وثلثاً للطيب بمناسبة الزفاف، وثلثاً تركه أمانة عند السيدة أم سلمة، استرجع النبي الثلث الأخير من الصداق، وسلَّمه إلى علي كمساعدة، حيث أنه في مقتبل حياة جديدة، والحاجة ماسَّة إلى المال كما لا يخفى، وقال: يا علي إنه لابدّ للعروس من وليمة:

يا لشرف الإنسانية!!

يا لعظمة الأخلاق!!

يا لصدق المحبة والعاطفة!!

وتقدّم بعض الأصحاب إلى علي ببعض الهدايا، وأمر النبي (صلى الله عليه وآله) علياً أن يصنع طعاماً فاضلاً، أمره بالوليمة لأن الله تعالى يحب إطعام الطعام، لأن الوليمة فيها خير كثير، وفائدة عامة ومنافع جمة، فهي إشباع البطون الجائعة، وغرس المحبة في القلوب، وقبل كل شيء فيها رضى الله سبحانه.

ولكننا - يا للأسف - استبدلنا الوليمة بحفلة القِران واستبدلنا الإطعام بتناول بعض المرطبات والحلويات التي لا تسمن ولا تغني من جوع!!

ومن الضروري أن لا ننسى أن السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) قد ضربت الرقم القياسي في الإنفاق في سبيل الله، والإيثار ابتغاء وجه الله، ولعلك لا تجد مثيلة لهذه المكرمة في تاريخ النساء! فقد روى الصفوري في (نزهة المجالس ج2 ص226) عن ابن الجوزي أن النبي (صلى الله عليه وآله) صنع لها قميصاً جديداً ليلة عرسها وزفافها وكان لها قميص مرقوع وإذا بسائل على الباب يقول: أطلب من بيت النبوة قميصاً خَلِقاً، فأرادت أن تدفع إليه القميص المرقوع، فتذكرت قوله تعالى: (لن تنالوا البرَّ حتى تنفقوا مما تحبون). فدفعت له الجديد، فلما قرب الزفاف نزل جبرئيل قال: يا محمد! إن الله يقرؤك السلام، وأمرني أن أسلِّم على فاطمة، وقد أرسل لها معي هدية من ثياب الجنة من السندس الأخضر.. الخ.

لقد تهيأ طعام الوليمة، فلقد طبخ اللحم، وحضر الخبز، والتمر والسمن، وأقبل رسول العظمة (صلى الله عليه وآله) وحسر عن ذراعيه، وجعل يشدخ التمر في السمن ليكونا بمنزلة الحلويات والفطائر، وأمر النبي علياً أن يدعو الناس إلى وليمته.

أقبل علي (عليه السلام) إلى المسجد، والمسجد غاص بالمسلمين وهناك أهل الصَّفة وهم المهاجرون الذين ما كانوا يملكون يومذاك شيئاً. وهناك أهل المدينة من الأنصار وغيرهم وليسوا من الأغنياء، فما يصنع علي بهذا العدد الكثير مع الطعام القليل؟

ونفسيته الطاهرة الشريفة لا تسمح له أن يدعو قوماً ولا يدعو قوماً آخرين فالكل يحبون أن يأكلوا من وليمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) والجميع يرغبون إلى الحضور في تلك المأدبة المباركة.

لكن إيمان علي بقدرة الله تعالى، واعتقاده ببركات يمين رسول الله (صلى الله عليه وآله) هوَّن عليه كل شيء، فصعد على مكان عال، يسمعه كل أحد، ونادى: (أيها الناس أجيبوا إلى وليمة فاطمة بنت محمد).

وصل صوت علي حتى إلى بساتين المدينة ومزارعها، وأقبل الناس رجالاً ونساءً وحتى أهل البساتين، يأكلون ويشربون، ويحملون معهم من ذلك الطعام.

وهنا ظهرت بركة رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذ أن الطعام لم ينفذ، بل وكأنه لم ينقص، ودعا رسول الله بالأواني فملئت بالطعام، ووجَّه بها إلى بيوت زوجاته وأخذ صفيحة (آنية) وقال: هذه لفاطمة وبعلها!!

وغابت الشمس من ذلك اليوم، واقترب زفاف السيدة فاطمة إلى دار زوجها.

فهنا اتخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) جميع التدابير اللازمة لزفاف ابنته فاطمة وبالرغم من أن زواج السيدة فاطمة كان يمتاز بالبساطة والسهولة والابتعاد عن التكليف والترف، وما أشبه ذلك إلاَّ أنه كان محاطاً بآيات العظمة والجلالة والجمال حتى روى الهيثمي في مجمع الزوائد عن جابر أنه قال: حضرنا عرس علي وفاطمة رضي الله عنهما فما رأينا عرساً كان أحسن منه.. الخ.

أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) زوجاته بتزيين السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) استعداداً للزفاف، فقامت النسوة فضمَّخنها بالطيب، وألبسنها الحلي، فكانت إحداهن تمشط شعرها، والأخرى بتزيينها ولبست الحلَّة التي جاء بها جبرئيل من الجنة، وكانت الحلَّة لا تُقوَّم بقيمة، ولا تثمَّن بثمن.

وإنما بذل الرسول (صلى الله عليه وآله) هذه العناية الخاصة، وخصَّ ابنته السيدة فاطمة الزهراء بعواطفه الغزيرة دون سائر بناته لأسباب، منها:

فضائلها الشخصية، ومزاياها النفسية.

وأن زوجها علي بن أبي طالب صاحب المواهب والسوابق وهو ابن عم الرسول، ولم يكن في أصهاره من له تلك القرابة القريبة والمنزلة الخصيصة.

وأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) يعلم أن ابنته الطاهرة ستشملها آية التطهير وآية المباهلة والقربى.

وأنها أم اللأئمة الطاهرين إلى يوم القيامة.

لقد جاءت تلك الليلة التي ستشعر السيدة فاطمة بأنها يتيمة، وتشعر بفقدان أمها خديجة، والأم لها دور مهم في ليلة عرس ابنتها، ولكن أين خديجة هذه الليلة؟

ولما انصرفت الشمس نحو الغروب دعا الرسول بابنته الطاهرة ودعا بصهره العظيم فأقبلت السيدة فاطمة وقد لبست ثوباً طويلاً، تجرّ ذيلها على الأرض، وقد تصبّبت عرقاً حياءً من أبيها سيد الأنبياء.

وقد شاء الله تعالى أن يكون زواج السيدة فاطمة ممتازاً من جميع الجوانب والنواحي وهكذا أراد رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن لا تشعر ابنته العزيزة باليتم، ولهذا، ولغير ذلك أتى النبي ببغلته الشهباء، وثنى عليها قطيفة، وقال لفاطمة: اركبي.

وأمر النبي (صلى الله عليه وآله) سلمان أن يقود البغلة، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يسوقها[89].

بالله عليك - أيها القارئ - هل سمعت أو قرأت في تاريخ عظماء الدنيا - من أنبياء وملوك ووزراء وسلاطين - أن بنتاً تزف إلى دار زوجها، وسيِّد الأنبياء يسوق بغلتها؟

نعم، لقد اشترك أهل السماء مع أهل الأرض في زفاف الإنسية الحوراء فقد روى الخطيب البغدادي في (تاريخ بغداد ج5 ص7) والحمويني في (درر السمطين) والذهبي في (ميزان الاعتدال) والعسقلاني في (لسان الميزان) والقرماني في (أخبار الدول) والقندوزي في (ينابيع المودة) عن ابن عباس أنه قال:

لمّا زفت فاطمة إلى علي كان النبي (صلى الله عليه وآله) قُدامها، وجبرئيل عن يمينها، وميكائيل عن يسارها، وسبعون ألف ملك خلفها، يسبّحون الله ويقدّسونه حتى طلع الفجر.

وهكذا اجتمع رجالات بني هاشم يمشون في موكب السيدة. وأمر النبي (صلى الله عليه وآله) بنات عبد المطلب (عماته) ونساء المهاجرين والأنصار أن يرافقن فاطمة في تلك المسيرة وكانت زوجات الرسول (صلى الله عليه وآله) يمشين قُدَّامها، ويرجزن فكانت أم سلمة تقول:

سِرنَ بعون الله جاراتي***واشكرنه في كل حالات

واذكرن من أنعم رب العلى***من كشف مكروه وآفات

فقد هدانا بعد كفر، وقد***أنعشنا ربّ السماوات

وسرن مع خير نساء الورى***تُفدى بعمَّاتٍ وخالات

يا بنت من فضله ذو العلى***بالوحي منه والرسالات

ثم قالت عائشة:

يا نسوة استترن بالمعاجز***واذكرن ما يحسن في المحاضر

واذكرن ربِّ الناس إذ يخصنا***بدينه مع كل عبد شاكر

والحمد لله على أفضاله***والشكر لله العزيز القادر

سرن بها فالله أعطى ذكرها***وخصّها منه بطهر طاهر

ثم قالت حفصة:

فاطمة خير نساء البشر***ومن لها وجه كوجه القمر

فضَّلك الله على كل الورى***بفضل من خصَّ بآي الزمَّر

زوَّجك الله فتىً فاضلاً***أعني علياً خير من في الحضر

فَسرن جاراتي بها إنها***كريمة بنت عظيم الخطر

ثم قالت معاذة أم سعد بن معاذ:

أقول قولاً فيه ما فيه***وأذكر الخير وأبديه

محمد خير بني آدم***ما فيه من كبرٍ ولا تيه

بفضله عرَّفنا رشدنا***فالله بالخير يجازيه

ونحن مع بنت نبي الهدى***ذي شرف قد مكنت فيه

في ذروة شامخة أصلها***فما أرى شيئاً يدانيه

وكانت النسوة يرجّعن أول بيت من كل رجز، ودخلن الدار، ثم أنفذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى علي ودعاه ثم دعا فاطمة فأخذ يدها ووضعها في يد علي وقال: بارك الله في ابنة رسول الله.

يا علي! هذه فاطمة وديعتي عندك!

يا علي! نعم الزوجة فاطمة!

ويا فاطمة! نعم البعل علي!!

اللهم بارك فيهما، وبارك عليهما، وبارك لهما في سبيلهما، اللهم إنهما أحب خلقك إلي فأحبهما، واجعل عليهما منك حافظاً، وإني أعيذهما بك وذريتهما من الشيطان الرجيم.

ثم دعا بماءٍ فأخذ منه جرعة فتمضمض بها، ثم مجها في القعب، ثم صبّها على رأس فاطمة وعلى صدرها وبين كتفيها ثم دعا علياً فصنع به كما صنع بها.

وأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) النساء بالخروج فخرجن، وبقيت أسماء بنت عميس، فلما أراد رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يخرج رأى سواداً فقال: من أنت؟ قالت: أسماء بنت عميس! قال: ألم آمرك أن تخرجي؟ قالت: بلى يا رسول الله! فداك أبي وأمي، وما قصدت خلافك، ولكني أعطيت خديجة عهداً - وحدثَتْه - فبكى رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذ هاجت عواطفه من حديث خديجة، وإنها كانت تتفكر حول تلك الليلة، وأن فاطمة - الليلة - منكسرة القلب.

فقال لها: بالله لهذا وقفت؟ قالت أسماء: نعم، والله! فقال (صلى الله عليه وآله): يا أسماء، قضى الله لك حوائج الدنيا والآخرة.

 

الأقَوالُ حَوْلَ سَنَةِ زَوَاجهَا

اختلف المؤرخون والمحدثون في تاريخ سنة زواج السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) فقد روى السيد ابن طاووس في الإقبال بإسناده إلى الشيخ المفيد: إن زواجها كان ليلة إحدى وعشرين من المحرم سنة ثلاث من الهجرة.

وفي المصباح: في أول يوم من ذي الحجة، وروي أنه كان يوم السادس منه.

وفي الأمالي: أن زواجها كان بعد وفاة رقية زوجة عثمان بستة عشر يوماً وذلك بعد رجوعه من بدر، وذلك لأيام خلت من شوال.

 

مُشكِلَةُ أسْمَاء بنْتِ عُميس وَأمّ سَلمَة

إن أسماء بنت عُميس كانت زوجة جعفر بن أبي طالب وقد هاجر جعفر إلى الحبشة مع زوجته وعدد من المسلمين قبل الهجرة من مكة بسنوات، ورجع جعفر من الحبشة إلى المدينة يوم فتح خيبر في السنة الخامسة من الهجرة.

هذا هو المتفق عليه بين المؤرخين، ولكنك تجد حديثاً يصرّح به بحضور أسماء بنت عُميس عند السيدة خديجة الكبرى ساعة وفاتها في مكة كما مر عليك.

وتجد الأحاديث الكثيرة التي تصرِّح بحضورها في زواج السيدة فاطمة الزهراء تجد التصريح باسمها واسم أبيها واللقب: (أسماء بنت عُميس الخثعمية).

وقد روى صاحب كشف الغمة حضور أسماء بنت عُميس الخثعمية في زواج السيدة فاطمة، ورواه الحضرمي في (رشفة الصادي ص10) وأحمد بن حنبل في (المناقب) والهيثمي في (مجمع الزوائد) والنسائي في (الخصائص ص31) ومحب الدين الطبري في (ذخائر العقبى) عن ابن عباس، وعن الخوارزمي عن الحسين بن علي (عليهما السلام) وعن السيد جلال الدين عبد الحميد بن فخار الموسوي، وعن الدولابي وعن الإمام الباقر عن آبائه (عليهم السلام).

وروى عن بعض هؤلاء شيخنا المجلسي في العاشر من البحار، مع العلم أن زواج السيدة فاطمة كان بعد واقعة بدر، وقبل واقعة أحد، أي في السنة الأولى أو الثانية من الهجرة، فكيف الجمع بين هذين القولين؟

وهذه مشكلة تاريخية لم يجد المؤرخون لها حلاً مقبولاً صحيحاً، وقد تكلَّف شيخنا المجلسي في العاشر من البحار ببعض التأويلات أو التصرفات. ولكنها لا تتفق مع التصريح باسم أسماء بنت عُميس الخثعمية.

وأعجب من هذا ما ذكره القمي في سفينة البحار في مادة (ك ذ ب) عن مجاهد قال: قالت أسماء بنت عُميس: كنت صاحبة عائشة التي هيأتها وأدخلتها على رسول الله، ومعي نسوة، وقالت: فوالله ما وجدنا عنده قوتاً إلاَّ قدحاً من لبن، فشرب ثم ناوله عائشة، فاستحيت الجارية فقلت لها: لا تردي يد رسول الله، خذي منه فأخذته على حياء فشربت منه، ثم قال: ناولي صواحبك فقلن: لا نشتهيه. فقال: لا تجمعن جوعاً وكذباً، قالت: فقلت: يا رسول الله إن قالت إحدانا - لشيء - : لا نشتهيه أيعدُّ ذلك كذباً؟ قال (صلى الله عليه وآله): إن الكذب ليكتب حتى يكتب الكذيبة كذيبة.

كان المقصود من ذكر هذا الحديث هو حضور أسماء بنت عميس في زواج الرسول بعائشة وكان ذلك قبل زواج السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام).

أضف إلى هذا أنه قد اشتهر بالتواتر حضور أسماء بنت عميس عند ولادة الإمام الحسين (عليه السلام) في السنة الرابعة أو الخامسة من الهجرة، وكل ذلك قبل فتح خيبر، أي قبل رجوع جعفر بن أبي طالب من الحبشة.

وقد روى شيخنا المجلسي في العاشر من البحار عن محمد بن يوسف الكنجي في كتابه: (كفاية الطالب) حضور أسماء بنت عميس في زواج السيدة فاطمة الزهراء، قال محمد بن يوسف: هكذا رواه ابن بطة، وهو حسن عال، وذكر أسماء بنت عميس في هذا الحديث غير صحيح لأن أسماء هذه امرأة جعفر بن أبي طالب.. إلى أن قال: وأسماء التي حضرت في عرس فاطمة (عليها السلام) إنما هي أسماء بنت يزيد ابن السكن الأنصاري، وأسماء بنت عميس كانت مع زوجها جعفر بالحبشة، وقدم بها يوم فتح خيبر سنة سبع، وكان زواج فاطمة (عليها السلام) بعد وقعة بدر بأيام يسيرة، فصحَّ بهذا أن أسماء المذكورة في هذا الحديث إنما هي بنت يزيد.. الخ.

أقول: لو لم يكن في الأحاديث تصريح باسم أسماء واسم أبيها ولقبها لأمكن هذا التوجيه أو التأويل، ولكن كيف يصح هذا التكلف والتعسّف في التأويل في مقابل هذا النص الصريح، وهو: (أسماء بنت عميس الخثعمية)؟

وأما أسماء بنت يزيد الأنصاري كيف كانت أنصارية أي يوم توفيت السيدة خديجة مع العلم أنها أنصارية أي من أهل المدينة؟ والحال أن أسماء التي حضرت وفاة خديجة في مكة هي التي حضرت زواج فاطمة الزهراء في المدينة.

وإنني أظن أن الكنجي إنما قال هذا لوجود المشاركة في الاسم بين أسماء بنت عميس وأسماء بنت يزيد، ولم يذكر أحد من المؤرخين حضور أسماء الأنصارية في مكة عند وفاة السيدة خديجة.

والذي يقوى عندي أن الحل الصحيح والجواب المعقول: أن أسماء هذه هي أسماء بنت عميس الخثعمية زوجة جعفر بن أبي طالب، وأنها هاجرت مع زوجها إلى الحبشة، ولكنها رجعت إلى مكة وهاجرت إلى المدينة، ولعلها كررت سفرها إلى الحبشة لأن المسافة من جدة إلى الحبشة هي مسافة عرض البحر الأحمر، وليس قطع هذه المسافة بالصعب المستصعب ذهاباً وإياباً، وإن كان التاريخ لم يذكر ذلك لأسماء فإن التاريخ أيضاً لن يذكر لأبي ذر الغفاري قوله: كنت أنا وجعفر بن أبي طالب مهاجرين إلى بلاد الحبشة.. الخ روى ذلك الشيخ المجلسي عن كتاب: (علل الشرائع) للصدوق.

وقد ظفرت برواية رواها المجلسي في العاشر من البحار في باب تزويج السيدة فاطمة (عليها السلام) عن كتاب (مولد فاطمة) عن ابن بابوية: أمر النبي بنات عبد المطلب.. إلى أن يقول: والنبي (صلى الله عليه وآله) وحمزة وعقيل و(جعفر) وأهل البيت يمشون خلفها.. إلخ.

فالتصريح بوجود جعفر يحل هذه المشكلة.

بقيت هنا كلمة: وهي أن هجرة الرسول (صلى الله عليه وآله) كانت بعد وفاة السيدة خديجة الكبرى قطعاً، على اختلاف في تاريخ وفاتها في الشهور والأعوام قبل الهجرة.

ولكن الظاهر أن السيدة خديجة توفيت قبل الهجرة بأقل من سنة، ومن ناحية أُخرى كانت هجرة جعفر بن أبي طالب إلى الحبشة مرتين، وهجرته الثانية كانت بعد وفاة السيدة خديجة، وقبل هجرة الرسول إلى المدينة، والدليل على ذلك هو الخبر المروي: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم كان في الغار قال: (إني أرى سفينة جعفر تعوم في البحر).

ومن هنا يسهل علينا أن نعرف بأنَّ بنت عميس كانت في مكة يوم وفاة خديجة، وأنها قد حضرت عند وفاتها.

وأما مشكلة أُم سلمة، فإننا نجد اسم السيدة أُم سلمة في الأيام التي سبقت زواج السيدة فاطمة الزهراء، فقد كان النبي (صلى الله عليه وآله) في بيتها يوم خطبة علي (عليه السلام) من فاطمة الزهراء، وقد سمعت أن النبي أودع عندها شيئاً من صداق فاطمة الزهراء وكانت مرجع النساء في قضايا زواج السيدة فاطمة.

مع العلم أن المؤرخين ذكروا أن الرسول (صلى الله عليه وآله) تزوجها في السنة الرابعة من الهجرة، وزواج السيدة فاطمة كان في السنة الثانية من الهجرة بعد بدر وقبل أُحد، فكيف كانت أُم سلمة في هذه المراحل مع العلم أنها لم تكن زوجة للنبي (صلى الله عليه وآله) يومذاك.

نجيب عن هذا الكلام بما يلي:

أولاً: المناقشة في سنة زواجها من الرسول (صلى الله عليه وآله) فلعل الرسول تزوجها في أوائل الهجرة، أو أن زواج السيدة فاطمة الزهراء كان في السنة الرابعة من الهجرة وهذا احتمال بعيد وقول ضعيف لا يُعبأُ به.

ثانياً: إن السيدة أُم سلمة هي بنت عمة النبي (صلى الله عليه وآله) فلا مانع أن تساهم في مراحل زواج السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) بحيث أن النبي يستودعها صداق فاطمة الزهراء، أو يكون لها اقتراح ورأي في تعجيل زفاف السيدة فاطمة الزهراء.

هذا ما يتبادر إلى ذهني والله العالم بحقائق الأمور.

 

بَيْتُ فَاطِمَة (عليها السلام)

إن الحضارة - اليوم - بدأت تشعر بضرورة احترام بعض المساكن والمباني والأراضي، وذلك بعد أن شعرت باحترام الفضيلة وأهلها، والتقدير عن الشرف والعلم والقيم.

وعلى هذا الأساس أحدثت الحضارة قانوناً بل قوانين بهذا الشأن، ورعاية لهذا الأمر، فالصيانة الدبلوماسية التي منحها القانون لمباني السفارات والهيئات الدبلوماسية وهكذا القوانين التي تفرض احترام الجامعات والمعاهد العلمية والمساجد والمعابد تقديراً للعلم والدين والثقافة هي من نتائج الشعور بهذا المعنى.

ولكن هذه الحقيقة كانت ثابتة عند الله تعالى، وعند أوليائه من أهل السماوات والأرض منذ الأزل، وانطلاقاً من هذه الحقيقة نجد الأحكام الواردة حول احترام المساجد وخاصة المسجد الحرام، وتحريم الدخول فيه على بعض الأفراد كالمشركين أو المجنب أو الحائض، وتحريم تنجيسها، أو إتيان ما ينافي قدسيتها واحترامها، أو الصيد في الحرم (وهو المناطق المحيطة بمكة من جميع الجوانب، حسب حدود معينة مذكورة في كتب الفقه).

بعد ذكر هذه المقدمة اعلم أن البيت الذي كانت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) تسكن وتعيش فيه كان محاطاً بالقداسة والروحانية والنور، كان ذلك البيت مبنياً بمواد الاحترام والتقدير، والتجليل والتبجيل، يعرف حق ذلك البيت كل من يعرف حق فاطمة وأبيها، وبعلها وبنيها.

وقد روى شيخنا المجلسي (عليه الرحمة) عن أنس بن مالك وعن بريدة قال: قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله): في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبّح له بالغدو والآصال. فقام رجل فقال: أي بيوت هذه يا رسول الله؟ فقال: بيوت الأنبياء. فقام إليه أبو بكر، فقال: يا رسول الله! هذا البيت منها؟ وأشار إلى بيت علي وفاطمة، قال: نعم، من أفضلها!!

وعن ابن عباس قال: كنت في مسجد رسول الله، وقد قرأ القارئ: (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه..) فقلت: يا رسول الله! ما البيوت؟ فقال: بيوت الأنبياء. وأومأ بيده إلى منزل فاطمة!

وفي الكافي عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) يريد فاطمة (عليها السلام) وأنا معه، فلما انتهينا إلى الباب وضع يده عليه فدفعه، ثم قال: السلام عليكم. فقالت فاطمة (عليها السلام): عليك السلام يا رسول الله، قال: أأدخل؟ قالت: أدخل يا رسول الله قال: أدخل أنا ومن معي؟ فقالت: يا رسول الله ليس علي قناع، فقال: يا فاطمة خذي فضل ملحفتك، فقنّعي به رأسك. ففعلت. ثم قال: السلام عليكم. فقالت: وعليك السلام يا رسول الله قال: أأدخل؟ قالت: نعم يا رسول الله قال: أنا ومَن معي؟ قالت: أنت ومَن معك.. إلخ

 

حيَاتُهَا الزّوْجيّة

انتقلت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) إلى البيت الزوجي، وكان انتقالها من بيت الرسالة والنبوة إلى دار الإمامة والوصاية والخلافة والولاية، وحصل تطور في سعادة حياتها، فبعد أن كانت تعيش تحت شعاع النبوة صارت تعيش قرينة الإمام.

كانت حياتها في البيت الزوجي تزداد إشراقاً وجمالاً إذ كانت تعيش في جوٍّ تكتنفه القداسة والنزاهة، وتحيط به عظمة الزهد وبساطة العيش، وكانت تعين زوجها على أمر دينه وآخرته، وتتجاوب معه في اتجاهاته الدينية، وتتعاون معه في جهوده وجهاده.

وما أحلى الحياة الزوجية إذا حصل الانسجام بين الزوجين في الاتجاه والمبدأ ونوعية التفكير، مبنياً على أساس التقدير والاحترام من الجانبين.

وليس ذلك بعجيب، فإن السيدة فاطمة الزهراء تعرف لزوجها مكانته العظمى ومنزلته العليا عند الله تعالى، وتحترمه كما تحترم المرأة المسلمة إمامها، بل أكثر وأكثر، فإن السيدة فاطمة كانت عارفة بحق علي حق معرفته، وتقدره حق قدره، وتطيعه كما ينبغي، لأنه أعز الخلق إلى رسول الله.

لأنه صاحب الولاية العظمى، والخلافة الكبرى والإمامة المطلقة.

لأنه أخو رسول الله وخليفته، ووارثه ووصيه.

لأنه صاحب المواهب الجليلة، والسوابق العظيمة.

وهكذا كان علي (عليه السلام) يحترم السيدة فاطمة الزهراء احتراماً لائقاً بها، لا لأنها زوجته فقط:

بل لأنها أحب الخلق إلى رسول الله.

لأنها سيدة نساء العالمين.

لأن نورها من نور رسول الله.

لأنها من الذين بهم فتح الله كتاب الإيجاد والوجود، لأنها كتلة من العظمة.

لأنها مجموعة من الفضائل متوفرة في امرأة واحدة لاستحقت التقدير والتعظيم.

فكيف بفاطمة الزهراء، وقد اجتمعت فيها من المزايا والمواهب والفضائل والمكارم ما لم تجتمع في أية امرأة في العالم كله، من حيث النسب الشريف الأرفع، والروحانية والقدسية، من حيث بدء الخلقة ومنشأ إيجادها وكرامتها عند الله، وعبادتها وعلمها وديانتها، وزهدها وتقواها وطهارتها ونفسيتها وشخصيتها، وغير ذلك من مئات المزايا مما يطول الكلام بذكرها.

بعد ما قصصنا ولم نقصص عليك يمكن لك أن تدرك الجوّ الذي كان الزوجان السعيدان يعيشانه، والحياة الطيبة السعيدة الحلوة (بجميع معنى الكلمة) التي كانا يتمتعان بها:

حياة لا يعكِّرها الفقر، ولا تغيّرها الفاقة، ولا تضطرب بالحوادث.

حياة يهب عليها نسيم الحب والوئام، وتزينها العاطفة بجمالها المدهش.

وفي البحار عن المناقب قال علي (عليه السلام): فوالله ما أغضبتها ولا أكرهتها على أمر حتى قبضها الله عز وجل، ولا أغضبتني ولا عصت لي أمراً، لقد كنت انظر إليها فتنكشف عني الهموم والأحزان.

وفي تفسير العياشي عن الإمام الباقر (عليه السلام): أن فاطمة (عليها السلام) ضمنت لعلي (عليه السلام) عمل البيت والعجين والخبز، وقمَّ البيت، وضمن لها علي (عليه السلام) ما كان خلف الباب: نقل الحطب وأن يجيء بالطعام.

لم يُعلم بالضبط مدة إقامة الإمام والسيدة فاطمة (عليهما السلام) في دار حارثة بن النعمان، إلاّ أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بنى لها بيتاً ملاصقاً لمسجده، له باب شارع إلى المسجد، كبقية الحجرات التي بناها لزوجاته، وانتقلت السيدة إلى ذلك البيت الجديد الملاصق لبيت الله، المجاور لبيت رسول الله (صلى الله عليه وآله).

 

أُكْذُوبَةُ التَاريخ في حَقِّ عَليّ (عليه السلام)

لقد تكرر منّا الكلام أن بعض حَمَلة الأقلام أساءوا إلى السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) في شتى الميادين ومختلف المجالات، وقد تقدم منا الكلام أن زواج الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بالسيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) قد هيَّج الأحقاد في قلوب الحاسدين، فجعلوا يتشبثون بشتى الوسائل لتعكير حياة الزوجين السعيدين، وإثارة الفتن والمشاغبات، كما هو شأن المفسدين الذين تتكون عندهم عقدة الحقارة النفسية بسبب الفشل في الحياة.

ومن جملة تلك المشاغبات أنهم أشاعوا أن عليّاً قد خطب ابنة أبي جهل، ووصل الخبر إلى السيدة فاطمة الزهراء أن زوجها قد خطب بنت رئيس المشركين وقطب الكافرين أبي جهل.

فتأثرت السيدة فاطمة وذهبت إلى حجرة أبيها الرسول (صلى الله عليه وآله) ولكن سرعان ما انكشف الأمر، واتضحت الحقيقة، وظهر تزوير هذا الخبر.

هذه خلاصة الحديث على فرض صحته.

ولكن هلم معي إلى بعض المؤلفين والكُتّاب كيف اتخذوا هذه التهمة مرتعاً خصباً للتهريج والتشنيع ضد الإمام أمير المؤمنين، فجعلوا يطبّلون ويزمّرون من حيث يشعرون أو لا يشعرون.

ومن جملة المطبّلين والمزمّرين هي الكاتبة المصرية التي كتبت ما كتبت وهي غير مبالية بما تكتب، أو متعمدة فيما تكتب، فإنها اعتبرت هذه الأكذوبة حقيقة ثابتة عندها، لا شك فيها ولا ريب.

وهنا نقتطف بعض ما كتبته الكاتبة المصرية في كتابها: (بنات النبي) ص167.

(لقد همّ علي بالزواج على فاطمة.. دون أن يخطر بباله أن في هذا ما تنكره بنت نبي الإسلام).

أنا لا أدري بماذا أُجيب على هذه الكلمة الهوجاء التائهة؟

وهل يوجد في العالم كله رجل لا يشعر أن زوجته تكره الضرّة؟ وتكره أن يتزوج عليها زوجها؟

إنَّ أقلَّ الناس إدراكاً ومعرفة بالأمور يشعر بهذا الأمر، ولكن الكاتبة تقول: (دون أن يخطر بباله (ببال علي) أن في هذا ما تنكره بنت نبي الإسلام)!!

وتقول بعد ذلك: (ألا ليت علياً قد صبر على واحدة).

ثم إنّها ملأت صفحات من كتابها في ذم أبي جهل ومواقفه ضد الإسلام، ثم قارنت بين بنت أبي جهل وبين بنت الرسول، وهي بهذه المقارنة تقصد التشنيع والتهريج ضدّ هذا الزواج المزعوم.

ومن العجب أن الكاتبة نفسها تبدي استيائها من بعض المستشرقين المسيحيين المتعصبين الذين تلاعبوا بالتاريخ الإسلامي، وتخص الكاتبة منهم (لامانس) المبشّر المسيحي المعادي.

ومع الأسف أن الكاتبة نفسها نسيت التريّث والتروّي حول هذه المفتريات، واعتبرتها وحياً يوحى.

واستعانت الكاتبة بنسيج خيالها ووصفها الروائي الذي هو عادة مؤلفي الأساطير.

وهنا يجيب العلامة المعاصر السيد حسن الأمين - عن هذه المفتريات - في الجزء الثالث من كتابه (دائرة المعارف الإسلامية الشيعية ص10) تحت عنوان: دسائس على النبي وعليّ وفاطمة: ورد في كتاب ذخائر العقبى أن علياً أراد أن يتزوج بنت أبي جهل على فاطمة، وأن النبي غضب لذلك وصعد المنبر محتداً ناقماً على هذا الأمر، شاجباً له، بالتفاصيل المزرية التي وردت في الكتاب مما هو طعن صريح بمحمد، فضلاً عن أنه طعن بعليٍّ وفاطمة.

أمّا أنه طعن بمحمد، فذلك أنه أظهره بمظهر من يرفض أن يطبّق الشريعة على نفسه وعلى من يتصل به في حين أنه يفرض على غيره تطبيقها.

فهو يبيح للناس تعدد الزوجات، ولكن يأبى أن ينطبق هذا التعدد على ابنته.

وهذا من أفظع ما يوجَّه إلى النبي (صلى الله عليه وآله) من مطاعن ولكن أعداء محمد استطاعوا أن يفعلوا ذلك، وأن يستغلوا ذوي النظر القصير، فيروونه في كتبهم ولا يرون فيه شيئاً.

أمّا أنه طعن في علي، فذلك بإظهاره بمظهر من أغضب فاطمة وأغضب النبي نفسه.

وأمّا أنه طعن فاطمة، لأنها ترفض أن تطبِّق شريعة الله التي جاء بها أبوها على نفسها.

نحن لن نتعرض لسند الخبر، فإن هذا الخبر بادئ الفساد من نفسه ولكننا نتساءل: لماذا خصّ رواة الخبر بنت أبي جهل بهذا الشرف؟

ولماذا لم ينسبوا إلى علي محاولته التزوج على فاطمة من غير بنت أبي جهل؟

أكان ذلك لأن بنت أبي جهل كانت من الجمال والكمال بحيث لم تكن أي فتاة عربية غيرها على شيء من مثلها؟

إنما خصُّوا بذلك بنت أبي جهل ليكون الطعن في علي (عليه السلام) أبلغ وأنفذ، فهو لم يختر لإغاظة النبي وابنته فاطمة إلاّ بنت أعدى عدوٍّ للنبي والإسلام.

كشفتْ الدسيسة عن نفسها، وفضحت مخترعيها ولو كانوا أكثر ذكاءً لخففّوا من غلوائهم، ولم يمدحوا أنفسهم وهم يشتمون محمداً وابنته وابن عمه.

فقد أوردوا في القصة هذا النص عن لسان النبي: (ذكر - النبي - صهراً له من بني عبد شمس فأثنى عليه في مصاهرته فأحسن).

قال - النبي - : (حدَّثني - أي ذلك الصهر من بني عبد شمس - فصدَّقني، ووعدني فأوفاني).

ومعنى هذا الكلام أن النبي يثني على صهره الأموي من بني عبد شمس ويقول عنه: أنّه حدّثه فصدقه في حديثه، ووعده فوفى بما وعد!

والنتيجة الحتمية لهذا الكلام أن صهر النبي الآخر (علي بن أبي طالب) حدَّث النبيَّ وكذب، ووعد النبي فغدر ولم يفِ، وأن النبي ذمَّه في مصاهرته إياه!!

وهكذا - كما قلنا - فضحت الدسيسة نفسها بنفسها وأظهرت زيفها دون أن تحوجنا في ذلك إلى كثير عناء.

أُريدَ لهذا الخبر الزائف غاية أُخرى مضافة إلى غاية الطعن في النبي وفي علي وفاطمة، هذه الغاية هي صرف الأنظار عن حقيقة الذين أغضبوا فاطمة، وجعل المقصود بذلك هو علي بن أبي طالب.

فقد أورد مدبّرو الخبر ومنظّموه - أوردوه بعدَّة نصوص ليكون في كل نصٍ غاية مستقلة.

ومن النصوص التي أوردها قولهم: قال النبي: (فاطمة بضعة مني، يريبني ما رابها، ويؤذيني ما يؤذيها).

ثم فسّروا هذا الحديث بأن قالوا: إن المقصود منه أنَّ الله حرَّم على علي أن يتزوج على فاطمة ويؤذي رسول الله.

 

ولاَدَةُ الإمَام الحَسَن (عليه السلام)

وحملت السيدة فاطمة الزهراء بولدها الحسن (عليه السلام) وعمرها اثنتا عشرة سنة وانتقل شيء من نور الإمام والإمامة من صلب علي إلى فاطمة، ومن الطبيعي أن النور يتجلى في وجهها، ويزهر وجهها كي يصدق عليها اسم (الزهراء).

واقتربت الولادة، واتفقت للرسول سفرة جاء يودّع ابنته فاطمة، فأوصاها بوصايا تتعلق بالمولود المنتظر ومنها: أن لا يلفّوه في خرقة صفراء.

ووضعت فاطمة ولدها الأول في النصف من شهر رمضان (على قول) سنة ثلاث من الهجرة، فكان يوماً عظيماً، وقد حضرت عند الولادة أسماء بنت عميس فلفّوه في خرقة صفراء، لا تعمداً ومخالفة للرسول، بل سهواً وغفلة أو جهلاً من النسوة اللاتي حضرن الولادة.

فأقبل النبي (صلى الله عليه وآله) وقال: أروني ابني، ما سميتموه؟

وكانت فاطمة قالت لعلي (عليه السلام): سمِّه. فقال علي: ما كنت لأسبق باسمه رسول الله فلما جاء النبي وأخذ المولود قال: ألم أنهكم أن تلفوه في خرقة صفراء؟ ثم رمى بها، وأخذ خرقة بيضاء فلفَّه بها.

ثم قال لعلي (عليه السلام): هل سميّته: قال علي: ما كنت لأسبقك باسمه. فقال النبي (صلى الله عليه وآله): وما كنت لأسبق ربي عز وجل.

فأوحى الله إلى جبرئيل: أنه قد وُلد لمحمد ابن، فاهبط، فأقرأه السلام، وهنأه وقل له: إن علياً منك بمنزلة هارون من موسى، فسمِّه باسم ابن هارون.

فهبط جبرئيل فهنأه من الله عز وجل، ثم قال: إن الله تبارك وتعالى يأمرك أن تسميه باسم ابن هارون. فقال النبي (صلى الله عليه وآله): وما كان اسمه؟ قال جبرئيل: شبَّر فقال النبي: لساني عربي[90] قال جبرئيل: سمّه الحسن. فسمَّاه الحسن، وأذَّن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أذنه اليمنى وأقام في اليسرى. فلما كان يوم السابع عقّ النبي (صلى الله عليه وآله) بكبشين أملحين، وأعطى القابلة فخذاً وديناراً. وحلق رأسه، وتصدّق بوزن الشعر فضّة، وطلى رأسه بالخلوق (طيب مركّب من الزعفران وغيره) وقال: يا أسماء الدم فعل الجاهلية. أي إن أهل الجاهلية كانوا يطلون رأس المولود بالدم.

وكان الرسول يقبّله: ويُدخل لسانه في فم الحسن فيمصّه الحسن وقيل: كان ذلك كله يوم السابع من الولادة[91].

 

ولاَدَةُ الإمَام الحُسَين (عليه السلام)

حملت السيدة فاطمة الزهراء بطفلها الثاني، ومضت ستة أشهر على الحمل، وإذا بها تشعر بعلائم الولادة. وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد بشَّر بولادة الحسين كما قال الإمام الصادق (عليه السلام) قال: أقبل جيران أم أيمن إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقالوا: يا رسول الله إن أم أيمن لم تنم البارحة من البكاء، لم تزل تبكي حتى أصبحت. فبعث رسول الله إلى أم أيمن فجاءته فقال لها: يا أم أيمن! لا أبكى الله عينيك! إن جيرانك أتوني وأخبروني أنك لم تزل الليل تبكين أجمع، فلا أبكى الله عينيك ما الذي أبكاك؟ قالت: يا رسول الله، رأيت رؤيا عظيمة شديدة، فلم أزل أبكي الليل أجمع فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله): فقصِّيها على رسول الله، فإن الله ورسوله أعلم. فقالت: تعظم عليَّ أن أتكلم بها. فقال لها: إن الرؤيا ليست على ما تُرى، فقصِّيها على رسول الله.

فقالت: رأيت ليلتي هذه كأن بعض أعضائك ملقىً في بيتي! فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله): نامت عينك ورأيت خيراً، يا أم أيمن تلد فاطمة الحسين فتربينه وتلبينه فيكون بعض أعضائي في بيتك.

فلما ولدت فاطمة الحسين (عليهما السلام) أقبلت به أُم أيمن إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: مرحباً بالحامل والمحمول يا أُم أيمن هذا تأويل رؤياك.

ورأت أُم الفضل زوجة العباس (عم النبي) رؤيا شبيهة برؤيا أُم أيمن.

وحضرت النسوة وقت الولادة، منهن: صفية بنت عبد المطلب (عمة النبي) وأسماء بنت عميس وأُم سلمة، فلما وُلد الحسين قال النبي (صلى الله عليه وآله): يا عمة هلمِّي إليّ ابني فقالت: يا رسول الله إنّا لم ننظفه بعد. فقال: يا عمة أنت تنظّفينه؟ إن الله تبارك وتعالى قد نظّفه وطهّره.

وهبط جبرئيل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمره أن يسميه: الحسين باسم ابن هارون، وكان اسمه بالعبرية (شبير) ومعناها بالعربية: الحسين.

وهبط على النبي (صلى الله عليه وآله) أفواج من الملائكة لتُهنّئه بولادة الحسين وتعزّيه بشهادته، وأخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) الحسين، فجعل لسانه في فمه، فجعل الحسين يمص وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يأتيه كل يوم. فيلقمه لسانه فيمصّه الحسين حتى نبت لحمه واشتد عظمه من ريق رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم يرتضع الحسين (عليه السلام) من أُمّه، ولا من امرأة أُخرى!

 

قال سيدنا بحر العلوم (عليه الرحمة):

لله مرتضع لن يرتضع أبداً***من ثدي أُنثى ومن طه مراضعه

يعطيـه إبهامـه آناً فآونةً***لسانـه فاستـوت منه طبائعـه

وفي اليوم السابع من ولادته أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) فحلق رأس الحسين، وتصدّق بوزن شعره فضة، وعقّ عنه[92] هذا وتجد التفصيل في كتابنا: (الحسين من المهد إلى اللحد) إن شاء الله تعالى.

 

ولاَدَةُ السَيّدَةُ زَيْنَب الكُبرى (عليها السلام)

من الصحيح أن نقول أن ولادة السيدة زينب الكبرى (عليها السلام) كانت بعد ولادة الحسين (عليه السلام) وبعبارة أخرى: أن السيدة زينب هي الطفل الثالث للسيدة فاطمة الزهراء بإجماع أكثر المؤرخين والمحدّثين، إلاّ من شذّ وندر من المؤرخين المتطرفين الذين جعلوها الطفل الرابع، زاعمين أن السيدة فاطمة الزهراء حملت بزينب بعد سقوط جنين لها، وهم بذلك يقصدون تغطية الجريمة وستر المأساة التي حدثت عند باب دار السيدة فاطمة الزهراء بعد وفاة الرسول، مما أدّى ذلك إلى سقوط جنينها.

ومن جملة من أعجبهم هذا القول الشاذ هي بنت الشاطئ المصرية في كتابها: (بطلة كربلاء) وإليك نص كلامها:

(إنها الزهراء بنت النبي، توشك أن تضع في بيت النبوة مولوداً جديداً بعد أن أقرّت عيني الرسول بسبطيه الحبيبين: الحسن والحسين، وثالث لم يقدّر له أن يعيش هو المحسن بن علي.. الخ[93].

ولا يُهمّنا - الآن - النقاش حول هذه المغالطة، لأن لنا مجالاً واسعاً - في المستقبل - حول المحسن بن علي، وأنه هو الطفل الأخير لفاطمة الزهراء (عليها السلام) وأنه مات جنيناً في بطن أُمه على أثر الصدمة والضغطة التي حدثت بين الحائط وبين باب بيت فاطمة.

وإنما نذكر هنا نبذة مختصرة من حياة السيدة زينب الكبرى رعاية لأسلوب الكتاب، وأرجو الله تعالى أن يوفقني لأكتب كتاباً مستقلاً حول حياة السيدة زينب الكبرى (عليها السلام) فإن حياتها المشرقة جديرة بالبحث والتحليل والإشادة والتنويه، ونذكر هنا الشيء اليسير اليسير عن مولدها ونشأتها، ونرجئ التفصيل إلى كتاب آخر إن شاء الله:

وُلدت السيدة زينب الكبرى في السنة الخامسة من الهجرة، وهي المولود الثالث للبيت النبوي العلوي الشريف الأرفع.

وإنني أراها - هنا - في غنى عن التعريف والوصف، وما عساني أن أقول في سيدة أبوها: الإمام المرتضى علي بن أبي طالب (عليه السلام) وأمها التي أنجبتها: سيدة نساء العالمين الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء بضعة الرسول (صلى الله عليه وآله) وأخواها سيدا شباب أهل الجنة الإمامان: الحسن والحسين (عليهما السلام) فهي حصيلة الفضائل، ونتيجة العظمة، محاطة بهالة من الشرف الرفيع من جميع جوانبها.

فلا تسأل عن صدرٍ أرضعها، وحجرٍ رباها، وتربية شملتها، ورعاية أحاطت بها، والبيت الذي فتحت فيه عينها.

ولا تسأل عن عوامل الوراثة، وتفاعل التربية، وتأثير الجو العائلي المقدس في نفسية السيدة زينب، مضافة إلى أخلاقها المكتسبة، ومواهبها التي ظهرت من الإمكان إلى الفعل.

وكم يؤلمني أن أقول بأن التاريخ قد ظلم السيدة زينب كما ظلم أباها وأمها وأسرتها أجمعين. إذ لم يعبأ بها التاريخ كما ينبغي، ولم يتحدث عنها كما تقتضيه وتتطلبه شخصية سيدة مثل زينب الكبرى عقيلة الهاشميين، حفيدة رسول الله (صلى الله عليه وآله).

سمّاها جدّها الرسول زينباً، والكلمة مركبة من: (زين الأب) وقد ذكر الشيخ محمد جواد مغنية في كتابه: (الحسين وبطلة كربلاء) نقلاً عن جريدة الجمهورية المصرية 13/10/72 مقالاً للكاتب المصري يوسف محمود، نقتطف منه موضع الحاجة:

وُلدت في شعبان من السنة الخامسة للهجرة، فحملتها أمها، وجاءت بها إلى أبيها (علي) وقالت: سمِّ هذه المولودة.

فقال لها - رضي الله عنه - : ما كنت لأسبق رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكان في سفر له، ولما جاء النبي وسأله عن اسمها قال: ما كنت لأسبق ربي.

فهبط جبرئيل يقرأ على النبي السلام من الله الجليل وقال له:

اسم هذه المولودة زينب، فقد اختار الله لها هذا الاسم.

هذا ما ذكره صاحب المقال بدون تعرّض لسند هذا الحديث، ذكرته بالمعنى الواحد.

وللسيدة زينب الكبرى حياة مشرقة وتاريخ حافل بالمكارم والفضائل ومليء بالمآسي في أدوار حياتها في عهد الطفولة ودور الصبا، من افتجاعها بجدّها الرسول الأقدس (صلى الله عليه وآله) وأمها الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) والأحداث التي عاشتها السيدة زينب طيلة ربع قرن الفترة التي كان أبوها المرتضى علي (عليه السلام) جليس البيت مسلوب الإمكانيات. ثم هجرتها من المدينة إلى الكوفة عاصمة أبيها يومذاك، وشاءت الإرادة الإلهية أن تفجع السيدة زينب بأبيها العظيم الإمام علي (عليه السلام) تلك الكارثة التي اهتزت لها السماوات العلا، وأعقبت ذلك أحداث من الحرب التي قامت بين أخيها الإمام الحسن (عليه السلام) وبين معاوية، وأنتجت تلك النتائج وإلى أن انتهت الفترة بوفاة الإمام الحسن (عليه السلام) مسموماً، وانقضت سنوات وإذا بالسيدة زينب تواجه كارثة أخرى هي أعظم فاجعة عرفها التاريخ تلك فاجعة كربلاء الدامية ذات المسيرة الطويلة والأبعاد العديدة فكانت السيدة زينب تعيش تلك الأحداث بدون أن يعتريها انهيار أو ارتباك، لم تفقد أعصابها، ولم يختل وعيها، وإلى أن رجعت إلى المدينة، وحكمت السلطة عليها بالإبعاد، فاختارت مصر، وقدّر الله لها أن تفارق حياتها، تلك الحياة المدهشة في أرض النيل فيكون مثواها ملاذاً ومعاذاً ومهوى أفئدة الملايين على مرّ القرون وإلى يومنا هذا وإلى يوم يعلمه الله.

هذه نبذة موجزة ولمحة خاطفة تعتبر عصارة وخلاصة لحياة سيدتنا زينب الكبرى (عليها وعلى جدها وأمها وأبيها وأخويها الصلاة والسلام).

وإلى اللقاء في كتاب: (زينب الكبرى من المهد إلى اللحد) إن شاء الله.

 

السَيّدَة أمّ كُلثُوم

استقبل بيت السيدة فاطمة الزهراء وعلي (عليهما السلام) بنتهما الثانية وطفلهما الرابع بما استقبل به من سبقها من الأطفال من الفرح والسرور.

وقد شاركت السيدة أم كلثوم أختها زينب في النسب الشريف والتربية الممتازة والأحداث كلها، وإن اختلفت عنها في بعض جوانب حياتها.

وهي أيضاً من الذين شملهم ظلم التاريخ، كما شملتها المآسي التي لا يتحملها أقوياء الرجال.

ولعلنا نتطرق إلى نبذة من جوانب حياتها أثناء التحدث عن شقيقتها زينب الكبرى، ونؤدي بعض ما يتطلبه البحث والتحقيق إن شاء الله.

 

فَاطِمَةُ الزهْراء (عليها السلام) في آيَةِ القُرْبى

وهي في قوله تعالى: (قل لا أسألكم عليه أجراً إلاَّ المودة في القربى ومَن يقترف حسنة نزد له فيها حسناً إن الله غفور شكور) (سورة الشورى؛ الآية: 23).

والآية كما تراها خطاب من الله العظيم إلى نبيه الكريم (قل) يا محمد لأمتك: (لا أسألكم عليه) على أداء الرسالة (أجراً) شيئاً من الأجر (إلاَّ المودة في القربى) أي إلاَّ أن تودّوا قرابتي، وقد اتفقت كلمات أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وكلمات أتباعهم أن المقصود من القربى هم أقرباء النبي، وهناك أحاديث متواترة مشهورة في كتب الشيعة والسُنة حول تعيين القربى بأفرادهم وأسمائهم، ومن جملة الأحاديث التي ذكرها علماءُ السنة في صحاحهم وتفاسيرهم هذا الحديث:

لما نزلت هذه الآية قالوا: يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال (صلى الله عليه وآله): علي وفاطمة وابناهما.. الخ.

ذكر هذا الحديث طائفة من علمائهم، منهم:

1 - ابن الحجر في الصواعق المحرقة له.

2 - الثعلبي في تفسيره.

3 - السيوطي في الدر المنثور.

4 - أبو نعيم في حلية الأولياء.

5 - الحمويني الشافعي في فرائده.

وحديث آخر رواه الطبري وابن حجر أيضاً: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: إن الله جعل أجري عليكم المودة في أهل بيتي، وإني سائلكم غداً عنهم.

هؤلاء بعض الرواة الذين ذكروا ونقلوا هذا الحديث بصورة إجمالية.

وإليك بعض الأحاديث التي تصرّح باحتجاج أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بهذه الآية على أن المقصود من القربى هم:

في الصواعق المحرقة لابن حجر: عن علي (عليه السلام): فينا في آل حم، لا يحفظ مودّتنا إلاَّ كل مؤمن ثم قرأ: (قل لا أسألكم عليه أجراً إلاَّ المودة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسناً إن الله غفور شكور).

وفي الصواعق أيضاً: عن الإمام الحسن (عليه السلام) أنه خطب خطبة قال فيها: وأنا من أهل البيت الذين افترض الله عز وجل مودتهم وموالاتهم، فقال فيما أنزل على محمد (صلى الله عليه وآله): (قل لا أسألكم عليه أجراً إلاَّ المودة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسناً) واقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت.. الخ.

وفي الصواعق أيضاً عن الإمام زين العابدين علي بن الحسين (عليهما السلام) أتاه رجل من أهل الشام، وهو (عليه السلام) أسير، وقد أقيم على باب الجامع الأموي بدمشق فقال له الشامي: الحمد لله الذي قتلكم.. الخ. فقال له: أما قرأت (قل لا أسـألكم عليه أجراً إلاَّ المودة في القربى).

وإلى هذا أشار الشاعر الكميت الأسدي بقوله:

وجدنا لكم في آل حم آية***تأوّلها منَّا تقي ومعربُ

وعن جابر بن عبد الله قال: جاء إعرابي إلى النبي (صلى الله عليه وآله). قال: يا محمد أعرض عليَّ الإسلام. فقال: تشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له. وأن محمداً عبده ورسوله. قال: تسألني عليه أجراً؟ قال: لا، إلاَّ المودة في القربى. قال: قرابتي أو قرابتك؟ قال: قرابتي. قال: هات أبايعك، فعلى من لا يحبّك ولا يحب قرابتك لعنة الله. فقال النبي (صلى الله عليه وآله): آمين. رواه الكنجي في (كفاية الطالب) ص31.

وذكر ابن حجر في الصواعق ص101 هذين البيتين لابن العربي:

رأيت ولائي آل طه فريضة***على رغم أهل البعد يورثني القربا

فما طلب المبعوث أجراً على الهدى***بتبليغه إلاَّ المودة في القربى

وهذين البيتين للإمام الشافعي:

يا أهل بيت رسول الله حبّكم***فرض من الله في القرآن أنزله

كفاكم من عظيم القدر أنكُمُ***مَن لم يصلّ عليكم لا صلاة له

وقد ذكر شيخنا الأميني (عليه الرحمة) في الجزء الثالث من الغدير خمسة وأربعين مصدراً حول نزوله هذه الآية في شأن علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) وهي:

الإمام أحمد، ابن المنذر، ابن أبي حاتم، الطبري، ابن مردويه، الثعلبي، أبو عبد الله الملا، أبو الشيخ النسائي، الواحدي، أبو نعيم، البغوي، البزار، ابن المغازلي، الحسكاني، محب الدين، الزمخشري، ابن عساكر، أبو الفرج، الحمويني، النيسابوري، ابن طلحة، الرازي، أبو السعود، أبو حيان، ابن أبي الحديد، البيضاوي، النسفي، الهيثمي، ابن الصباغ، الكنجي، المناوي، القسطلاني، الزرندي، الخازن، الزرقاني، ابن حجر، السمهودي، السيوطي، الصفوري، الصبان، الشبلنجي، الحضرمي، النبهاني.

 

فَاطِمَةُ الزهَراء (عليها السلام) في آيَةِ المُباهَلَة

قال الله تعالى: (فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين) (سورة آل عمران؛ الآية: 61).

تعتبر هذه الواقعة من الوقائع المشهورة، والحوادث المعروفة عند المسلمين من يوم وقوعها إلى يومنا هذا، ولا أراني بحاجة إلى ذكر المصادر والمدارك لها، ويكفي أن أقول: إن جميع المفسرين والمحدّثين (إلاَّ من شذَّ وندر) قد اتفقت كلمتهم على نزول هذه الآية على رسول الله (صلى الله عليه وآله) حينما جرى الحوار بينه وبين النصارى حول عيسى ابن مريم (عليه السلام) وإليك الواقعة بصورة موجزة مروية عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) كما في السادس من البحار:

قدم على النبي (صلى الله عليه وآله) وفد من نصارى نجران، ويتقدمهم ثلاثة من كبارهم: العاقب، ومحسن، والأسقف، ورافقهم رجلان من مشاهير اليهود، جاءوا ليمتحنوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال له الأسقف: يا أبا القاسم فذاك موسى من أبوه؟

النبي (صلى الله عليه وآله): عمران.

الأسقف: فيوسف من أبوه؟

النبي (صلى الله عليه وآله): يعقوب.

الأسقف فداك أبي وأمي: فأنت من أبوك؟

النبي (صلى الله عليه وآله): عبد الله بن عبد المطلب.

الأسقف: فعيسى مَن أبوه؟

فسكت النبي (صلى الله عليه وآله) فنزل جبرئيل فقال: هو روح الله وكلمته.

الأسقف: يكون روح بلا جسد؟

فسكت النبي (صلى الله عليه وآله) فأوحى الله إليه: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) فوثب الأسقف وثبة إعظام لعيسى أن يقال له من تراب ثم قال: ما نجد هذا - يا محمد - في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور، ولا نجد هذا إلا عندك فأوحى الله إليه: (فقل تعالوا ندع.. الخ) فقالوا: أنصفتنا يا أبا القاسم فمتى موعدك؟ فقال: بالغداة إن شاء الله. فلما صلى النبي (صلى الله عليه وآله) الصبح أخذ بيد علي وجعله بين يديه، وأخذ فاطمة (عليها السلام) فجعلها خلف ظهره، وأخذ الحسن والحسين عن يمينه وشماله، وقال لهم: إذا دعوتُ فأمِّنوا. ثم برك لهم باركاً. فلما رأوه قد فعل ذلك ندموا وتآمروا فيما بينهم وقالوا: والله إنه لَنبي، ولئن بَاهَلَنا ليستجيب الله له علينا، فيهلكنا، ولا ينجينا شيء منه إلاَّ أن نستقيله.

وذكر الرازي في تفسيره: قال أسقف نجران: يا معشر النصارى! إني لأرى وجوهاً لو سألوا الله أن يزيل جبلاً لأزاله بها، فلا تباهلوهم فتهلكوا، ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة.

فأقبلوا حتى جلسوا بين يديه ثم قالوا: يا أبا القاسم أقِلنا. قال: نعم. قد أقلتكم، أما والذي بعثني بالحق لو باهلتكم ما ترك الله على ظهر الأرض نصرانياً إلاّ أهلكه.

ذكرنا هذه الواقعة مع رعاية الاختصار، وقد ذكرنا ما تيسّر حول الآية في كتاب (علي من المهد إلى اللحد).

ويكون حديثنا - هنا - حول قوله تعالى: (ونساءنا ونساءكم) فقد أجمع المسلمون أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يأخذ معه من الرجال إلاَّ علياً، ومن الأبناء إلاَّ الحسن والحسين، ومن النساء إلاَّ ابنته فاطمة الزهراء، ولم يأخذ معه أحداً من زوجاته، وهنَّ في حجراته ولم يأخذ معه إحدى عمّاته كصفية بنت عبد المطلب التي كانت شقيقة أبيه عبد الله، ولم يصطحب معه أم هاني بنت أبي طالب، ولا دعا غيرهن من الهاشميات ولا من نساء المهاجرين والأنصار، فلو كانت في نساء المسلمين امرأة كفاطمة الزهراء في الجلالة والعظمة والقداسة والنزاهة لدعاها رسول الله (صلى الله عليه وآله) لترافقه للمباهلة، مع العلم أن الله تعالى أمر نبيه أن يدعو نساءه بقوله تعالى: (ونساءنا) ولكنه (صلى الله عليه وآله) لم يجد امرأة تليق بالمباهلة سوى ابنته الصدّيقة الطاهرة. ولهذا انتخبها[94].

 

فَاطِمَةُ الزهْرَاء (عليها السلام) في سُورَة هَلْ أتى

قال الله تبارك وتعالى: في سورة الدهر:

(إن الأبرار يشربون من كأس مزاجها كافوراً عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيراً) إلى قوله (وكان سعيكم مشكوراً).

نزلت هذه الآيات حينما تصدّقت السيدة فاطمة الزهراء وزوجها الإمام أمير المؤمنين وولداها الإمامان: الحسن والحسين (عليهم السلام).

وقد ذكر الواحدي في كتابه (البسيط) والثعلبي في تفسيره الكبير وأبو المؤيد موفق في كتاب الفضائل وغيرهم أن الآيات نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام).

ونكتفي هنا بما ذكره الزمخشري في تفسيره (الكشاف) ما لفظه: وعن ابن عباس (رضي الله عنه): إن الحسن والحسين مرضا. فعادهما رسول الله (صلى الله عليه وآله) في ناس معه فقالوا: يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك. فنذر علي وفاطمة وفضة (جارية لهما): إن برئا (الحسن والحسين) مما بهما أن يصوموا ثلاثة أيام. فشفيا، وما معهم شيء (طعام) فاستقرض علي من شمعون الخيبري اليهودي ثلاثة أصوع من شعير، فطحنت فاطمة صاعاً واختبزت خمسة أقراص على عددهم فوضعوها بين أيديهم ليفطروا، فوقف عليهم سائل فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد، مسكين من مساكين المسلمين، أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة، فآثروه وباتوا لم يذوقوا إلاَّ الماء، وأصبحوا صياماً، فلما أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم فآثروه. ووقف عليهم أسير في الثالثة ففعلوا مثل ذلك. فلما أصبحوا أخذ علي (رضي الله عنه) بيد الحسن والحسين. وأقبلوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلما أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع قال: ما أشدَّ ما يسوءني ما أرى بكم.

وقام فانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها قد التصق بطنها بظهرها، وغارت عيناها فساءه ذلك، فنزل جبرئيل (عليه السلام) وقال: خذها يا محمد، هنَّاك الله في أهل بيتك. فأقرأه السورة.

وأما تفسير الآيات مع رعاية الاختصار والإيجاز:

(إن الأبرار) الأبرار: جمع بارّ أو برّ، وهم علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) (يشربون من كأس) هي الزجاجة إذا كان فيها الشراب أو المراد من الكأس نفس الشراب لا الزجاجة (كان مزاجها) الذي تمزج به من عين في الجنة تسمى (كافوراً) لأن ماءها في بياض الكافور وبرودته لا في خواصه وآثاره، ومن الممكن أن كافور اسم عين في الجنة بدليل قوله تعالى (عيناً) كأنها عطف أو بدل من كافور أي تفسير له (يشرب بها عباد الله) الكاملون في العبادة الذين ذكرهم في كتابه (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً) (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً) إلى آخر الآيات الدالة على الصفات الكاملة.

(يفجرونها) يفجرونها حيث شاءوا (تفجيراً) سهلاً يسيراً (يوفون بالنذر) إنهم استحقوا هذا الجزاء بسبب وفائهم بالنذر، لأن النذر هو ما يوجبه الإنسان على نفسه فإذا وفى بالنذر فهو بما أوجب الله عليه كان أوفى (ويخافون يوماً كان شره مستطيراً) منتشراً (ويطعمون الطعام على حبه) أي بالرغم من حبِّهم للطعام لشدَّة جوعهم بسبب الصوم (مسكيناً ويتيماً وأسيراً) كل ذلك حباً للخير وإيثاراً على أنفسهم، وإشفاقاً على المسكين ورأفة باليتيم وعطفاً على الأسير (إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً) بفعل تفعلونه (ولا شكوراً) بقول تقولونه، قال مجاهد: إنهم لم يقولوا حين أطعموا الطعام شيئاً، وإنما علمه الله منهم فأثنى عليهم.

(إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريراً) شديد العبوس تشبيهاً له في تخويفه بالأسد العبوس أو الحاكم المتنمر العبوس.

(فوقاهم الله شر ذلك اليوم) تأميناً لهم من شره وضره (ولقَّاهم نصرةً) في وجوههم (وسروراً) في قلوبهم (وجزاهم بما صبروا) على الإيثار مع شدة الجوع (جنة وحريراً) ثم ذكر الله أحوالهم في الجنة (متكئين فيها على الأرائك) في منتهى الراحة والرفاهية (لا يرون فيها شمساً) يؤذي حرّها (ولا زمهريراً) يؤذي برده.

( ودانية عليهم ظلالها وذلّلت قطوفها تذليلاً) يسهل عليهم اقتطاف فواكه الجنة (ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب) خلقها الله بإرادته (كانت قواريراً قوارير من فضة قدَّروها تقديراً) على حسب ما تشتهي أنفسهم وتتمنى قلوبهم في التكيف بالكيفيات المخصوصة إلى آخر السورة التي في وصف نعم الجنة ونعيمها وعيون تسمى زنجبيلاً وسلسبيلا. والخدم الذين يخدمونهم والمُلك الكبير الذي يكون لهم مع النعيم والملابس الخُضر من الإستبرق، والزينة التي يتزينون بها، والشراب الطهور الذي يشربونه.

والعجيب أن الله تعالى ذكر في هذه السورة الكثير الكثير من نعم الجنة، ولم يذكر - هنا - الحور العين، لأن الآية نزلت في حق علي وفاطمة وولديهما، فحفظ الله لفاطمة الزهراء جلالتها إذ لم يذكر - عز وجل - الحور العين كرامة لسيدة نساء العالمين.

 

زُهْدُهَا وَإنفَاقُهَا في سَبيل الله

كانت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) على جانب كبير من الزهد، ومعنى الزهد: التخلي عن الشيء وتركه وعدم الرغبة فيه، وكلما ازداد الإنسان شوقاً إلى الآخرة ازداد زهداً في الدنيا، وكلما عظمت الآخرة في نفس الإنسان صغرت الدنيا في عينيه وهانت، وهكذا كلما ازداد الإنسان عقلاً وعلماً وإيماناً بالله ازداد تحقيراً واستخفافاً لملّذات الحياة.

أرأيت الأطفال كيف يلعبون، ويفرحون، ويحزنون ويتسابقون ويتنازعون على أشياء تافهة يلعبون بها، فإذا نضجت عقولهم وتفتحت مشاعرهم تراهم يبتعدون عن تلك الألاعيب، ويستنكفون من التنازل إلى ذلك المستوى ويعتبرونه منافياً للوقار، ومُخلاًّ للشخصية، كل هذا بسبب تطوُّر مداركهم، وانتقالهم من دور الصبا إلى مرحلة الرجولة والنضج.

نعم، هكذا كان أولياء الله، كانوا ينظرون إلى حطام الدنيا نظرة تحقير واستهانة، ولا تتعلق قلوبهم بحب الدنيا وما فيها، ولا يحبون الدنيا للدنيا، بل يحبون الدنيا للآخرة، يحبون البقاء في الدنيا ليعبدوا الله تعالى، يريدون المال لينفقوه في سبيل الله عز وجل، لإشباع البطون الجائعة وإكساء الأبدان العارية وإغاثة الملهوف وإعانة المضطر.

بعد هذه المقدمة يسهل عليك أن تدرك أسس الزهد عند السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) فهي عرفت الحياة الدنيوية، وأدركت الحياة الأخروية، فلا عجب إذا قنعت باليسير اليسير من متاع الحياة، واختارت لنفسها فضيلة المواساة والإيثار، وهانت عليها الثروة، وكرهت الترف والسرف.

فلا غرو، فهي بنت أزهد الزهاد، وحياتها العقائدية ملازمة للزهد وحياتها الاجتماعية أيضاً تتطلب منها الزهد، فهي أولى الناس بالسير على منهاج أبيها الرسول الزاهد العظيم (صلى الله عليه وآله).

وحياتها الزوجية تبلورت بالزهد والقناعة، فلقد كان زوجها الإمام علي (عليه السلام) أول الناس وأكثرهم اتباعاً للرسول في زهده، ولم يشهد التاريخ الإسلامي رجلاً من هذه الأمة أكثر زهداً من علي بن أبي طالب (عليه السلام).

وهو الذي كان يخاطب الذهب والفضة بقوله: يا صفراء يا بيضاء غري غيري. وقد أمر علي (عليه السلام) لأعرابي بألف. فقال الوكيل: من ذهب أو فضة؟ فقال علي: كلاهما عندي حَجَران، فأعطوا الأعرابي أنفعهما له وقد ذكرنا بعض ما يتعلق بهذا الموضوع في كتابنا: (علي من المهد إلى اللحد) وإنما تطرقنا هنا إلى زهد علي (عليه السلام) بمناسبة حديثنا عن زهد السيدة فاطمة الزهراء وقد مرّ عليك فيما مضى - بعض الأحاديث عن زهدها وإنفاقها في سبيل الله في باب زواجها ونزول سورة هل أتى وغيرهما وإليك نبذة من الأحاديث التي تشير إلى نفس الموضوع:

في السادس من البحار عن كتاب (بشارة المصطفى) عن الإمام الصادق عن أبيه (عليهما السلام) عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال:

صلَّى بنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) صلاة العصر، فلما انفتل جلس في قبلته والناس حوله. فبينما هم كذلك إذ أقبل شيخ من العرب مهاجر، عليه سمل قد تهلل وأخلق[95] وهو لا يكاد يتمالك كِبَراً وضعفاً، فأقبل عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله) يستحثه الخبر، فقال الشيخ: يا نبي الله أنا جائع الكبد فأطعمني، وعاري الجسد فاكسني وفقير فارشني[96].

فقال (صلى الله عليه وآله): ما أجد لك شيئاً، ولكن الدال على الخير كفاعله، انطلق إلى منزل مَن يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يؤثر الله على نفسه، انطلق إلى حجرة فاطمة.

وكان بيتها ملاصق بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي يتفرد به لنفسه من أزواجه، وقال: يا بلال قم فقف به على منزل فاطمة.

فانطلق الإعرابي مع بلال، فلما وقف على باب فاطمة نادى بأعلى صوته: السلام عليكم يا أهل بيت النبوة ومختلف الملائكة، ومهبط جبرئيل الروح الأمين بالتنزيل من عند رب العالمين.

فقالت فاطمة: وعليك السلام، فمن أنت يا هذا؟

قال: شيخ من العرب، أقبلت على أبيك سيد البشر مهاجراً من شقة، وأنا - يا بنت محمد - عاري الجسد، جائع الكبد، فواسيني يرحمك الله.

وكان لفاطمة وعلي - في تلك الحال - ورسول الله (صلى الله عليه وآله) ثلاثاً ما طعموا فيها طعاماً، وقد علم رسول الله (صلى الله عليه وآله) من شأنهما.

فعمدت فاطمة إلى جلد كبش مدبوغ بالقرظ[97] كان ينام عليه الحسن والحسين، فقالت: خذ هذا يا أيها الطارق، فعسى الله أن يرتاح لك ما هو خير منه.

فقال الإعرابي: يا بنت محمد شكوت إليك الجوع، فناولتني جلد كبش؟ ما أنا صانع به مع ما أجد من السغب؟

قال: فعمدت فاطمة - لما سمعت هذا من قوله إلى عقد كان في عنقها أهدته لها فاطمة بنت عمها حمزة بن عبد المطلب، فقطعته من عنقها، ونبذته إلى الأعرابي فقالت: خذه وبِعهُ، فعسى الله أن يعوِّضك به ما هو خير منه.

فأخذ الإعرابي العقد، وانطلق إلى مسجد رسول الله، والنبي (صلى الله عليه وآله) جالس في أصحابه فقال: يا رسول الله أعطتني فاطمة بنت محمد هذا العقد فقالت: بِعه فعسى الله أن يصنع لك.

قال: فبكى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: وكيف لا يصنع الله لك، وقد أعطته فاطمة بنت محمد سيدة بنات آدم.

فقام عمار بن ياسر (رحمة الله عليه) فقال: يا رسول الله أتأذن لي بشراء هذا العقد؟ قال: اشتر يا عمار، فلو اشترك فيه الثقلان ما عذبّهم الله بالنار، فقال عمار: بكَمْ العقد يا أعرابي؟ قال: بشبعة من الخبز واللحم، وبردة يمانية استر بها عورتي وأصلّى فيها لربي، ودينار يبلغني إلى أهلي.

وكان عمار قد باع سهمه الذي نفله رسول الله (صلى الله عليه وآله) من خيبر ولم يبق منه شيئاً فقال: لك عشرون ديناراً ومائتا درهم هجرية، وبُردة يمانية، وراحلتي تبلغك أهلك، وشبعك من خبز البر واللحم.

فقال الإعرابي: ما أسخاك بالمال أيها الرجل؟ وانطلق عمار فوفّاه ما ضمن له.

وعاد الإعرابي إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال له رسول الله: أشبعت واكتسيت! قال الأعرابي: نعم، واستغنيت بأبي أنت وأمي: قال: فأجزِ فاطمة بصنيعها؟ فقال الأعرابي: اللهم أنت إله ما استحدثناك، ولا إله لنا نعبده سواك، فأنت رازقنا على كل الجهات، اللهم أعط فاطمة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت.. وإلى أن قال: فعمد عمار إلى العقد فطيّبه بالمسك، ولفَّه في بردة يمانية، وكان له عبد اسمه سهم ابتاعه من ذلك السهم الذي أصابه بخيبر، فدفع العقد إلى المملوك، وقال له: خذ هذا العقد فأدفعه إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأنت له.

فأخذ المملوك العقد فأتى به رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأخبره بقول عمار فقال النبي: انطلق إلى فاطمة فادفع إليها العقد وأنت لها. فجاء المملوك بالعقد وأخبرها بقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأخذت فاطمة العقد، وأعتقت المملوك.

فضحك المملوك فقالت: ما يضحكك يا غلام؟ فقال: أضحكني عِظَم بركة هذا العقد، أشبع جائعاً، وكسا عرياناً وأغنى فقيراً، وأعتق عبداً، ورجع إلى ربه أي إلى صاحبه.

وفي كتاب البحار عن تفسير فرات بن إبراهيم عن أبي سعيد الخدري قال:

أصبح علي بن أبي طالب (عليه السلام) ذات يوم ساغباً[98] وقال: يا فاطمة هل عندك شيء تغذّينيه؟ قالت: لا، والذي أكرم أبي بالنبوة، وأكرمك بالوصية ما أصبح الغداة شيء، وما كان شيء أطعمناه مذ يومين إلاَّ شيء كنت أؤثرك به على نفسي، وعلى ابني هذين؟ الحسن والحسين.

فقال علي: يا فاطمة؟ ألا كنتِ أعلَمتِني فأبغيكم شيئاً: فقالت: يا أبا الحسن إني لأستحيي من إلهي أن أكلّف نفسك ما لا تقدر عليه.

فخرج علي بن أبي طالب من عند فاطمة (عليهما السلام) واثقاً بالله بحسن الظن، فاستقرض ديناراً فبينما الدينار في يد علي بن أبي طالب (عليه السلام) يريد أن يبتاع لعياله ما يصلحهم، فتعرَّض له المقداد بن الأسود، في يوم شديد الحر، قد لوّحته الشمس من فوقه، وآذته من تحته فلما رآه علي بن أبي طالب (عليه السلام) أنكر شأنه فقال: يا مقداد ما أزعجك هذه الساعة من رحلك؟ قال: يا أبا الحسن خلّ سبيلي ولا تسألني عما ورائي!!

فقال: يا أخي إنه لا يسعني أن تتجاوزني حتى أعلم علمك. فقال: يا أبا الحسن رغبة إلى الله وإليك أن تخلّي سبيلي، ولا تكشفني عن حالي!!!

فقال له: يا أخي إنه لا يسعك أن تكتمني حالك. فقال: يا أبا الحسن! أمَّا إذا أبيتَ! فو الذي أكرم محمد بالنبوة وأكرمك بالوصية ما أزعجني من رحلي إلاَّ الجهد وقد تركت عيالي يتضورون جوعاً، فلما سمعت بكاء العيال لم تحملني الأرض، فخرجت مهموماً، راكب رأسي، هذه حالي وقصتي!!

فانهمرت عينا علي بالبكاء حتى بلّت دمعته لحيته فقال له: أحلفُ بالذي حلفتَ: ما أزعجني إلاَّ الذي أزعجك من رحلك، فقد استقرضت ديناراً، فقد آثرتك على نفسي.

فدفع الدينار إليه ورجع حتى دخل مسجد النبي (صلى الله عليه وآله) فصلَّى فيه الظهر والعصر والمغرب، فلما قضى رسول الله (صلى الله عليه وآله) المغرب مرَّ بعلي بن أبي طالب وهو في الصف الأول فغمزه برجله، فقام علي متعقباً خلف رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى لحقه على باب من أبواب المسجد، فسلَّم عليه فردَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) السلام، فقال: يا أبا الحسن هل عندك شيء نتعشاه فنميل معك؟

فمكث مطرقاً لا يحير جواباً، حياءً من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكان النبي يعلم ما كان من أمر الدينار، ومن أين أخذه وأين وجّهه، وقد كان أوحى الله تعالى إلى نبيه محمد (صلى الله عليه وآله) أن يتعشى تلك الليلة عند علي بن أبي طالب.

فلما نظر رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى سكوته فقال: يا أبا الحسن ما لَك لا تقول: لا. فانصرف؟ أو تقول: نعم. فأمضي معك؟ فقال - حياءً وتكرماً - : فاذهب بنا!!

فأخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) يد علي بن أبي طالب فانطلقا حتى دخلا على فاطمة (عليها السلام) وهي في مصلاّها قد قضت صلاتها، وخلفها جفنة تفور دخاناً.

فلما سمعت كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله) خرجت من مصلاّها فسلّمت عليه وكانت أعزّ الناس عليه، فردّ عليها السلام، ومسح بيده على رأسها وقال لها: يا بنتاه كيف أمسيت؟ قالت: بخير. قال: عشّينا، رحمك الله، وقد فعل.

فأخذت الجفنة فوضعتها بين يدي النبي (صلى الله عليه وآله) وعلي بن أبي طالب.. إلى أن قال: فقال علي لها: يا فاطمة أنِّي لك هذا الطعام الذي لم أنظر إلى مثل لونه قط، ولم أشمّ ريحه قط، وما آكل أطيب منه؟؟

قال: فوضع رسول الله (صلى الله عليه وآله) كفّه الطيبة المباركة بين كتفي علي بن أبي طالب (عليه السلام) فغمزها، ثم قال: يا علي! هذا بدل دينارك، وهذا جزاء دينارك من عند الله، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب.

ثم استعبر النبي (صلى الله عليه وآله) باكياً، ثم قال: الحمد لله الذي أبى لكم أن تخرجا من الدنيا حتى يجزيكما ويجريك - يا علي - مجرى زكريا، ويجري فاطمة مجرى مريم بنت عمران، كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً.

في المجلد العاشر من البحار عن الإمام الحسين عن أخيه الإمام الحسن (عليهما السلام) قال: رأيت أمِّي فاطمة (عليها السلام) قامت في محرابها ليلة جُمعتها فلم تزل راكعة ساجدة حتى اتَّضح عمود الصبح، وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتُسمّيهم، وتكثر الدعاء لهم ولا تدعو لنفسها بشيء. فقلت لها: يا أمَّاه لِمَ لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟ فقالت: يا بني! الجار ثم الدار.

وروى الحسن البصري: ما كان في هذه الأمة أعبد من فاطمة، كانت تقوم حتى تورَّم قدماها.

وفي البحار أيضاً: عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: وأمَّا ابنتي فاطمة فإنها سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، وهي بضعة مني وهي نور عيني وهي ثمرة فؤادي، وهي روحي التي بين جنبيَّ، وهي الحوراء الإنسية؛

متى قامت في محرابها بين يدي ربها (جل جلاله) زَهَر نورها لملائكة السماء كما يزهر نور الكواكب لأهل الأرض، ويقول الله (عز وجل) لملائكته: يا ملائكتي انظروا إلى أَمَتي: فاطمة، سيدة إمائي قائمة بين يدي، ترتعد فرائصها من خيفتي، وقد أقبلت بقلبها على عبادتي، أشهدكم أني قد أمنت شيعتها من النار.. الخ.

وفي كتاب عدة الداعي: وكانت فاطمة (عليها السلام) تنهج في الصلاة من خيفة الله. والنهج - بفتح النون والهاء - تتابع النَفَس.

والأحاديث في عبادة السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) كثيرة، خاصة الأدعية التي كانت تناجي بها ربها، ولا أراني بحاجة إلى المزيد من التحدث عن عبادتها، وكثرة شوقها ورغبتها إلى الصلاة، ومدى إقبال قلبها إلى المناجاة مع الله تعالى، فهي بنت أول العابدين، الذي كان يقف على قدميه للعبادة طيلة ساعات طوال حتى نزل عليه قوله تعالى: (طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى).

وهي التي عرفت معنى العبادة وقيمة العبادة بمقدار معرفتها بعظمة الله تعالى فلا عجب إذا كانت السيدة فاطمة تستلذ من العبادة، وترتاح نفسها حين الوقوف بين يدي الله عز وجل، والتذلل والخضوع لربها، وكأنها لا تتعب من القيام والركوع والسجود.

 

تَسبيح فَاطِمَة الزهْرَاء (عليها السلام)

في البحار عن علل الشرائع، عن علي (صلوات الله عليه) أنه قال لرجل من بني سعد: ألا أحدثك عني وعن فاطمة؟ إنها كانت عندي وكانت أحب أهله إليه[99] وأنها استقت بالقربة حتى أثَّر في صدرها، وطحنت بالرحى حتى مجلت[100] يداها، وكسحت البيت حتى اغبرت ثيابها، وأوقدت النار تحت القدر حتى دكنت[101] ثيابها، فأصابها من ذلك ضرر شديد، فقلت لها: لو أتيتِ أباك فسألتيه خادماً يكفيك حرَّ ما أنتِ فيه من هذا العمل.

فأتت النبي (صلى الله عليه وآله) فوجدت عنده حُدّاثاً[102] فاستحت فانصرفت قال: فعلم النبي (صلى الله عليه وآله) أنها جاءت لحاجة، قال: فغدا علينا ونحن في لفاعنا[103] فقال: السلام عليكم. فسكتنا[104] واستحيينا لمكاننا.

ثم قال: السلام عليكم. فسكتنا. ثم قال: السلام عليكم. فخشينا إن لم نردّ عليه أن ينصرف، وقد كان يفعل ذلك يسلّم ثلاثاً فإن أُذن له وإلاَّ انصرف. فقلت: وعليك السلام يا رسول الله أُدخل.

فلم يعد أن جلس عند رؤوسنا فقال: يا فاطمة ما كانت حاجتك أمس عند محمد؟

قال: فخشيت إن لم نجبه أن يقوم قال: فأخرجت رأسي فقلت: أنا - والله - أخبرك يا رسول الله! إنها استقت بالقربة حتى أثَّرت في صدرها وجرّت بالرحى حتى مجلت يداها، وكسحت البيت حتى اغبرت ثيابها، وأوقدت تحت القدر حتى دكنت ثيابها، فقلت لها: لو أتيت أباك فسألتيه خادماً يكفيك حرّ ما أنت فيه من العمل.

فقال (صلى الله عليه وآله): أفلا أعلمكما ما هو خير لكما من الخادم؟ إذا أخذتما منامكما فسبّحا ثلاثاً وثلاثين، واحمدا ثلاثة وثلاثين، وكبّرا أربعاً وثلاثين. قال: فِأخرجت (عليها السلام) رأسها فقالت: رضيت عن الله ورسوله، رضيت عن الله ورسوله رضيت عن الله ورسوله.

وعن دعائم الإسلام عن علي (عليه السلام) قال: أهدى بعض ملوك الأعاجم رقيقاً[105] فقلت لفاطمة؛ اذهبي إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فاستخدميه خادماً. فأتته فسألته ذلك.. فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا فاطمة أعطيك ما هو خير من لك من خادم ومن الدنيا بما فيها:

تكبّرين الله بعد كل صلاة أربعاً وثلاثين تكبيرة، وتحمدين الله ثلاثاً وثلاثين تحميدة، وتسبّحين الله ثلاثاً وثلاثين تسبيحة، ثم تختمين ذلك بلا إله إلاّ الله، وذلك خير لك من الذي أَردت ومن الدنيا وما فيها.

فلزمت (صلوات الله عليها) هذا التسبيح بعد كل صلاة، ونسب إليها هذا التسبيح، فيقال: تسبيح فاطمة.

كما عن قرب الإسناد عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: يا أبا هارون إنا نأمر صبياننا بتسبيح فاطمة (عليها السلام) كما نأمرهم بالصلاة فألزمه، فإنه لم يلزمه عبد فشقي.

وفي مكارم الأخلاق: أن فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) كانت سُبحتها من خيط صوف مفتّل، معقود عليه عدد التكبيرات، فكانت تديرها بيدها، تكبّر وتسبّح، إلى أن قتل حمزة بن عبد المطلب (رضي الله عنه) سيد الشهداء، فاستعملت تربته، وعملت التسابيح فاستعملها الناس، فلما قتل الحسين (صلوات الله عليه) عُدل بالأمر إليه، فاستعملوا تربته لما فيها من الفضل والمزية.

وعن الإمام الصادق (عليه السلام): وتكون السبحة بخيوط زرق، أربعاً وثلاثين خرزة، وهي سبحة مولاتنا فاطمة (عليها السلام) لما قتل حمزة عملت من طين قبره سبحة تسبّح بها بعد كل صلاة.

وفي مجمع البيان ج8 عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: من سبَّح تسبيح فاطمة (عليها السلام) فقد ذكر الله ذكراً كثيراً.

هذا والروايات في فضل تسبيح فاطمة (عليها السلام) كثيرة ومختلفة في كيفيتها، وفي بعض الروايات: التكبير ثم التسبيح ثم التحميد، وهذا هو الأشهر والأقوى عند فقهائنا.

وقد ذكر شيخنا المجلسي في ج85 (الطبعة الجديدة) أقوال الفقهاء وآرائهم حول الترتيب والتقديم والتأخير بصورة مفصلة.

لقد اتضح لنا من هذه الأحاديث أن السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) مع جلالة قدرها وعظم شأنها وشرف نسبها كانت تقوم بأعمال البيت، وتدير أمور البيت بنفسها، وكان علي (عليه السلام) يعينها ويتعاون معها، كما في البحار عن جامع الأخبار عن علي (عليه السلام) قال: دخل علينا رسول الله (صلى الله عليه وآله) وفاطمة جالسة عند القدر وأنا أنقي العدس، قال: يا أبا الحسن. قلت: لبّيك يا رسول الله قال: اسمع مني، وما أقول إلاّ من أمر ربي: ما من رجل يعين امرأته في بيتها إلاّ كان له بكل شعرة على بدنه عبادة سنة، صيام نهارها، وقيام ليلها.. إلى آخر الحديث.

 

مَكَانَةُ فَاطِمَة الزهْرَاء عِندَ الرسُول (صلى الله عليه وآله)

إن من الصعب المستصعب تحديد مكانة السيدة فاطمة الزهراء عند أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومن الصحيح أن يقال: أنه خارج عن قدرة القلم واللسان، والتحليل والبيان، ويمكن لنا أن نجمل القول ونوجزه فنقول:

كانت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) قد حلّت في أوسع مكان من قلب أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله) ووقعت في نفسه الشريفة أحسن موقع.

فكان النبي يحبها حباً لا يشبه محبة الآباء لبناتهم، إذ كان الحب مزيجاً بالاحترام والتعظيم، فلم يعهد من أي أبٍ في العالم ما شوهد من الرسول تجاه السيدة فاطمة الزهراء.

ولم يكن ذلك منبعثاً من العاطفة الأبوية فحسب، بل كان الرسول ينظر إلى ابنته بنظر الإكبار والإجلال وذلك لما كانت تتمتع به السيدة فاطمة من المواهب والمزايا والفضائل، ولعله (صلى الله عليه وآله) كان مأموراً باحترامها وتجليلها فما كان يَدَعُ فرصة أو مناسبة تمرّ به إلاّ وينوّه بعظمة ابنته، ويشهد بمواهبها ومكانتها السامية عند الله تعالى وعند الرسول (صلى الله عليه وآله).

مع العلم أنه لم يُسمع من الرسول ذلك الثناء المتواصل الرفيع ولا معشاره في حق بقية بناته، ولم يكن ثناؤه عليها اندفاعاً للعاطفة والحب النفسي فقط، بل ما كان يسع له السكوت عن فضائل ابنته ودرجتها السامية عند الله تعالى. ولو لم يكن لها عند الله تعالى فضل عظيم لم يكن رسول الله (صلى الله عليه وآله) يفعل معها ذلك إذ كانت ولده وقد أمر الله بتعظيم الولد للوالد، ولا يجوز أن يفعل معها ذلك، وهو بضدّ ما أمر به أمته عن الله تعالى، وكان ذلك كله لأسباب منها: كشفاً للحقيقة، وإظهاراً لمقام ابنته عند الله وعند الرسول، وكان الرسول يعلم ما سيجري على ابنته العزيزة من بعده من أنواع الظلم والاضطهاد والإيذاء وهتك الحرمة، ولهذا أراد الرسول أن يتمّ الحجة على الناس، حتى لا يبقى لذي مقالٍ مقالُ أو عذر، وإليك هذه الأحاديث التي تدل على ما كانت تتمتع به السيدة فاطمة من المكانة في قلب الرسول (صلى الله عليه وآله):

في العاشر من البحار: روى القاضي أبو محمد الكرخي في كتابه عن الإمام الصادق (عليه السلام) قالت فاطمة (عليها السلام): لما نزلت (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً) هُبتُ رسول الله أن أقول له: يا أبة. فكنت أقول: يا رسول الله. فأعرض عني مرة أو اثنتين أو ثلاثاً، ثم أقبل عليَّ فقال: يا فاطمة إنها لم تنزل فيكِ ولا في أهلكِ ولا في نسلكِ، أنت مني وأنا منك، إنما نزلت في أهل الجفاء والغلظة من قريش أصحاب البذخ والكبر، وقولي: يا أبة. فإنها أحيى للقلب وأرضى للرب.

أيضاً عن عائشة بنت طلحة عن عائشة قالت: ما رأيت أحداً أشبه كلاماً وحديثاً برسول الله (صلى الله عليه وآله) من فاطمة، كانت إذا دخلت عليه رحّب بها وقبَّل يديها وأجلسها في مجلسه، فإذا دخل عليها قامت إليه فرحبَّت به وقبّلت يديه.. الخ.

وسأل بزل الهروي للحسين بن روح قال: كم بنات رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ قال: أربع. فقال: أيتهن أفضل؟ قال: فاطمة، قال: ولِمَ صارت أفضل وكانت أصغرهن سناً، وأقلهن صحبة لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ؟ قال: لخصلتين خصّها الله بهما:

1 - أنها ورثت رسول الله (صلى الله عليه وآله).

2 - نسل رسول الله منها، ولم يخصّها الله بذلك إلاّ بفضل إخلاص عرفه من نيّتها.

وفي كتاب مقتل الحسين للخوارزمي عن حذيفة قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا ينام حتى يقبل عرض وجنة فاطمة..

وعن ابن عمر: أن النبي (صلى الله عليه وآله) قبّل رأس فاطمة وقال: فداكِ أبوكِ، كما كنت فكوني. وفي رواية: فداكِ أبي وأمي.

وفي ذخائر العقبى عن عائشة: قبّل رسول الله (صلى الله عليه وآله) نحر فاطمة. وفي رواية: فقلت: يا رسول الله فعلتَ شيئاً لم تفعله؟ فقال: يا عائشة إني إذا اشتقت إلى الجنة قبّلت نحر فاطمة.

وروى القندوزي عن عائشة قالت: كان النبي (صلى الله عليه وآله) إذا قدم من سفر قبّل نحر فاطمة وقال: منها أشمّ رائحة الجنة.

أقول: قد ذكرنا شيئاً من هذه الأحاديث في أوائل الكتاب.

وبهذه الأحاديث الآتية - الصحيحة عند الفريقين - يمكن لنا أن نطّلع على المزيد من الأسباب والعلل التي كوّنت في سيدة النساء تلك القداسة والعظمة والجلالة:

1 - قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أفضل نساء أهل الجنة: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وآسية بنت مزاحم (امرأة فرعون) ومريم بنت عمران[106].

2 - وقال أيضاً: خير نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، وآسيا بنت مزاحم وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد[107].

3 - وقال أيضاً: حسبك من نساء العالمين: مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية بنت مزاحم[108].

هذه أحاديث ثلاثة تصرّح بتفضيل هذه السيدات الأربع على سائر نساء العالم، ولكنها لا تصرّح ببيان الأفضل من تلك الأربع، ولكن الأحاديث المتواترة المعتبرة تصرّح بتفضيل السيدة فاطمة الزهراء عليهن وعلى غيرهن.

ونحن لا نشك في ذلك، بل نعتبره من الأمور المسلّمة المتفق عليها لأنها بضعة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولا نعدل بها أحد، ولم ننفرد بهذه الحقيقة، بل وافقنا على ذلك الكثير الكثير من العلماء والمحدثين المنصفين من المتقدمين منهم والمتأخرين والمعاصرين، بل صرّح بذلك بعضهم، وإليك بعض أقوال أولئك الأعلام:

عن مسروق قال: حدثتني عائشة أم المؤمنين قالت: إنا كنا أزواج النبي عنده لم تغادر منا واحدة، فأقبلت فاطمة تمشي، لا والله ما تخفي مشيتها من مشية رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فلما رآها رحَّب بها وقال: مرحباً بابنتي، ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله، ثم سارها[109] فبكت بكاءً شديداً، فلما رأى حزنها سارّها الثانية، فإذا هي تضحك، فقلت لها - أنا من بين نسائه - : خصّك رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالسرّ‍ من بيننا، ثم أنت تبكين! فلما قام رسول الله (صلى الله عليه وآله) سألتها: عمّا سارّك؟ قالت: ما كنت لأفشي على رسول الله سره، فلما توفي قلت لها: عزمت عليك بما لي عليك من الحق لما أخبرتني! قالت: أما الآن فنعم، فأخبرتني قالت: سارَّني في الأمر الأول فإنه أخبرني أن جبرائيل كان يعارضه (القرآن) كل سنة[110] وإنه قد عارضني به العام مرتين، ولا أرى الأجل إلاّ وقد اقترب، فاتقي الله واصبري فإني نعم السلف أنا لك، قالت: فبكيت بكائي الذي رأيتِ، فلما رأى جزعي سارّني الثانية قال: يا فاطمة ألا ترضين أن تكوني سيّدة نساء المؤمنين أو سيدة نساء هذه الأمة؟[111].

وفي رواية البغوي في (مصابيح السنة): ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين؟

وفي رواية الحاكم النيسابوري في المستدرك: ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين وسيدة نساء هذه الأمة، وسيدة نساء المؤمنين؟

والأحاديث التي تصرّح بسيادتها وتفضيلها على نساء العالمين كثيرة جداًّ، وجُلّها مروية عن عائشة، وعن عمران بن حصين، وعن جابر بن سمرة وعن ابن عباس وأبي بريدة الأسلمي وغيرهم، وقد روى البخاري هذا الحديث في الجزء الرابع (صلى الله عليه وآله)203 من صحيحه، وعدد كثير من علماء العامة كالقسطلاني والقندوزي والمتقي والهيثمي والنسائي والطحاوي وغيرهم ممن يطول الكلام بذكرهم.

ولقد ورد هذا الحديث بطرق عديدة، وفي بعضها: أن سبب ضحكها هو إخبار النبي لها بأنها أول أهل بيته لحوقاً به، وفي بعضها أن سبب ضحكها أو تبسّمها هو إخبار النبي لها أنت سيدة نساء العالمين.

ولكن روى أحمد بن حنبل حديثاً يجمع بين هاتين الطائفتين من الأحاديث: بإسناده عن عائشة قالت: أقبلت فاطمة تمشي كأن مشيتها مشية الرسول (صلى الله عليه وآله) فقال: مرحباً بابنتي، ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله، ثم أنه أسرَّ إليها حديثاً فبكت، ثم أسرَّ إليها حديثاً فضحكت، فقلت: ما رأيت كاليوم فرحاً أقرب من حزن، فسألتها عما قال: فقالت: ما كنت لأُفشي سرَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى إذا قُبض النبي سألتها؟ فقالت: إنه أسرَّ إليّ فقال: إن جبرائيل كان يعارضني بالقرآن في كل عام مرة، وإنه عارضني به العام مرتين ولا أراه إلاّ قد حضر أجلي، وأنك أول أهلي لحوقاً بي ونعم السلف أنا لكِ، فبكيت لذلك، ثم قال: ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء هذه الأُمة أو نساء المؤمنين؟ قالت: فضحكتُ[112].

وقد روى البخاري في صحيحه ج5 ص21و29: أَن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: فاطمة بضعة مني، فمن أغضبها فقد أغضبني.

وروى البخاري عن أبي الوليد: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: فاطمة بضعة مني من آذاها فقد آذاني.

وقد ورد هذا الحديث بألفاظ متنوعة ومعاني متحدة كقوله (صلى الله عليه وآله):

فاطمة بضعة مني، يؤذيني ما آذاها، ويغضبني ما أغضبها.

فاطمة بضعة مني، يقبضني ما يقبضها، ويبسطني ما يبسطها[113].

فاطمة شجنة مني[114]، فاطمة مضغة مني فمن آذاها فقد آذاني.

فاطمة مضغة مني، يسرني ما يسرّها.

يا فاطمة إن الله يغضب لغضبك يرضى لرضاكِ.

فمن عرف هذه فقد عرفها، ومن لم يعرفها فهي بضعة مني.

هي قلبي وروحي التي بين جنبيّ، فمن آذاها فقد آذني.

إن الله يغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها.

وقد روى هذه الأحاديث أكثر من خمسين رجلاً من رجال الحديث والسنن، كأحمد بن حنبل والبخاري وابن ماجة والسجستاني والترمذي والنّسائي وأبو الفرج والنيسابوري وأبو نعيم والبيهقي والخوارزمي وابن عساكر والبغوي وابن الجوزي وابن الأثير وابن أبي الحديد والسيوطي وابن حجر والبلاذري وغيرهم ممن يعسر إحصاؤُهم، وقد ذكرنا شيئاً من تلك الأحاديث مع مصادرها في أوائل الكتاب.

وقد وقعتْ هذه الأحاديث موقع الرضا والقبول من الصحابة والتابعين لتواترها وصحة إسنادها وشهرتها في الملأ الإسلامي.

أما الصحابة فلنا في المستقبل مجال واسع لاعتراف بعضهم بصحة هذا الحديث وسماعه من الرسول (صلى الله عليه وآله).

وأما التابعون فقد روى أبو الفرج في الأغاني ج8 ص307 بإسناده قال: دخل عبد الله بن حسن على عمر بن عبد العزيز وهو حديث السن وله وفرة، فرفع مجلسه، وأقبل عليه وقضى حوائجه، ثم أخذ عُكنة من عُكنه[115] فغمز (بطنه) حتى أوجعه وقال له: أذكرها عندك للشفاعة.

فلما خرج (عبد الله بن حسن) لامَه أهله[116] وقالوا: فعلتَ هذا بغلام حديث السن، فقال: إن الثقة حدثني حتى كأني أسمعه من فيّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (إنما فاطمة بضعة مني يسرني ما يسرّها) وأنا أعلم أن فاطمة لو كانت حيَّة لسرّها ما فعلت بابنها، قالوا: فما معنى غمزك بطنه وقولك ما قلت؟ قال: إنه ليس أحد من بني هاشم إلاّ وله شفاعة، فرجوت أن أكون في شفاعة هذا.

قال السمهودي - بعد إيراده حديث فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها ويريبني ما أرابها - : فمن آذى شخصاً من أولاد فاطمة أو أبغضه جعل نفسه عُرضة لهذا الخطر العظيم، وبضده (وبالعكس) من تعرَّض لمرضاتها في حبّهم وإكرامهم.

وقال السهيلي: هذا الحديث يدل على أن من سبّها كفر، ومن صلَّى عليها فقد صلَّى على أبيها، واستنبط أن أولادها مثلها لأنهم بضعة مثلها، وفكّ الفرع من أصله هو فكّ الشيء من نفسه وهو غير ممكن ومحال، باعتبار أن ذلك الفرع هو الشخص المعمول من مادة ذلك الأصل ونتيجته المتولدة منه - انتهى كلامه - .

أقول: لعل المقصود من الخطر العظيم الذي ذكره السمهودي هو إشارة إلى قوله تعالى: (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعدَّ لهم عذاباً مهيناً) وقوله (والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم).

أيها القارئ الذكي: بعد الانتباه لهذه الآيات، وبعد الإمعان والتدبير في هذه الأحاديث والروايات ما تقول فيمن آذى فاطمة الزهراء؟؟!!

أعود إلى حديثي عن مدى حب النبي (صلى الله عليه وآله) لابنته السيدة فاطمة الزهراء:

من الصعب إحصاء الأحاديث التي تصرّح بأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان إذا أراد سفراً كان آخر عهده بإنسان من أهله فاطمة (عليها السلام) وأول مَن يدخل عليها (بعد رجوعه من السفر) فاطمة، فقدم من غزاة، وقد علَّقت مسحاً أو ستراً على بابها، وحلَّت (من التحلية) الحسن والحسين قلبين من فضة، فقدم ولم يدخل، فظنت أن ما منعه أن يدخل دارها ما رأى، فهتكت الستر، وفكَّت القلبين من الصَّبيين، وقطعته منهما، فانطلقا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهما يبكيان، فأخذه منهما فقال: يا ثوبان اذهب بهذا إلى فلان، إن هؤلاء أهلي أكره أن يأكلوا طيباتهم في حياتهم الدنيا، يا ثوبان اشتر لفاطمة قلادة من عصب وسوارين من عاج.

روى هذا الحديث الخطيب العمري في (مشكاة المصابيح) والطبري في (ذخائر العقبى) والنويري في ( نهاية الأرب) والقندوزي في (ينابيع المودة) والطبراني في ( المعجم الكبير) والزبيدي في (إتحاف السادة) وغيرهم.

وقد روى هذا الحديث من علمائنا: الشيخ الكليني في (الكافي) والطبرسي في (مكارم الأخلاق) أكثر تفصيلاً وتوضيحاً مع اختلاف يسير:

عن زرارة عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا أراد سفراً سلم على أهله، ويكون آخر من يسلِّم عليه فاطمة (عليها السلام) فيكون وجهه إلى سفره من بيتها، وإذا رجع بدأ بها (أي يزورها قبل كل أحد) فسافر مرَّة وقد أصاب علي (عليها السلام) شيئاً من الغنيمة فدفعه إلى فاطمة فخرج، فأخذت سوارين من فضة، وعلّقت على بابها ستراً، فلما قدم رسول الله (صلى الله عليه وآله) دخل المسجد، فتوجَّه نحو بيت فاطمة كما كان يصنع، فقامت فرحة إلى أبيها صبابة وشوقاً إليه، فنظر فإذا في يدها سواران من فضة وإذا على بابها ستر، فقعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) حيث ينظر إليها، فبكت فاطمة وحزنت وقالت: ما صنع هذا بي قبلها.

فدعت ابنيها، فنزعت الستر عن بابها، وخلعت السوارين من يديها ثم دفعت السوارين إلى أحدهما والستر إلى الآخر ثم قالت لهما: انطلقا إلى أبي، فأقرئاه السلام وقولا له: ما أحدثنا بعدك غير هذا، فشأنك به، فجاءاه، فأبلغاه ذلك عن أُمّهما، فقبَّلهما رسول الله (صلى الله عليه وآله) والتزمهما وأقعد كل واحد منهما على فحذه، ثم أمر بذينك السوارين فكسرّهما وجعلهما قطعاً، ثم دعا أهل الصُّفة وهم قوم من المهاجرين، لم يكن لهم منازل ولا أموال فقسّمه بينهم قطعاً.. الخ.

هذا الحديث الذي تراه مشهوراً عند الفريقين، مروياً بطرق عديدة لعله يحتاج إلى شرح وتعليق، مع العلم إن رواة هذا الحديث لم يتطرقوا إلى شرح ما يلزم:

ليس المقصود من هذا الستر هو الستر المرخى على مدخل البيت عند فتح باب البيت، لأن هذا الأمر مستحب للمبالغة على التستر والحجاب، وحاشا رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يغضب من سترٍ قد عُلّق على مدخل بيت فاطمة.

بل المقصود أن السيدة الزهراء (عليها السلام) كانت قد علَّقت على باب البيت (لا مدخل البيت) ستراً يستر الباب الخشبي، للزينة، المسمَّى في زماننا بـ(الديكور) تجملاً أو تجميلاً للباب وبعبارةٍ أخرى: ألبست الباب ثوباً - أي ستراً - ، وليس هذا بحرام بل لأنه لا يتفق مع التزهد أو الزهد المطلوب من آل محمد (عليهم السلام) والمواساة المترقبة المتوقعة منهم، ونفس هذا الكلام يأتي في موضوع السوار والقلادة.

وبناءاً على صحة هذا الحديث كان الأفضل للسيدة الزهراء (عليها السلام) أن تنفق ذلك الستر في سبيل الله بسبب الحاجة الماسَّة إليه، لكثرة الفقراء، وشدَّة الفقر المدقع عند فقراء المهاجرين - من باب المواساة والإيثار - .

وروى ابن شاهين في (مناقب فاطمة) عن أبي هريرة وثوبان هذا الحديث مع تغيير يسير، إلى أن قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): فعلتْ، فداها أبوها - ثلاث مرات - ما لآل محمد وللدنيا؟ فإنهم خلقوا للآخرة، وخُلقت الدنيا لهم.

وفي رواية أحمد بن حنبل: فإن هؤلاء أهل بيتي، ولا أُحب أن يأكلوا طيباتهم في حياتهم الدنيا.

ويستفاد من هذا التعليل أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يحب أن ينقص حظ ابنته فاطمة الزهراء من الأجر والثواب في الآخرة، لأن مرارة الحياة وخشونة العيش في الدنيا لهما تعويض في الآخرة، وبهذا الحديث الآتي يتضح ما قلنا:

في العاشر من البحار عن تفسير الثعلبي عن جعفر بن محمد (عليه السلام) وعن جابر بن عبد الله الأنصاري قالا: رأى النبي (صلى الله عليه وآله) فاطمة وعليها كساء من أجلّه الإبل، وهي تطحن بيديها، وترضع ولدها، فدمعت عينا رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: يا بنتاه تعجّلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة، فقالت: يا رسول الله الحمد لله على نعمائه، والشكر لله على آلائه، فانزل الله: (ولسوف يعطيك ربك فترضى).

قد عرفت من مجموع هذه الأحاديث أن السيدة الزهراء (عليها السلام) كانت أقرب إنسانة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، واتصالها وارتباطها بالنبي هو اتصال وارتباط الجزء بالكل، وارتباط بعض الشيء بالبعض الآخر، فالحب والعطف والانسجام والعلاقات الودّية قد بلغت إلى أقصى درجة، فلا عجب إذا كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يعلم ابنته أفضل الأعمال، ويرشدها إلى أحسن الأخلاق، ويفيض عليها أحسن المعارف وأرقاها.

والزهراء (عليها السلام) تلتهم العلوم الربانية من ذلك النبع العذب الزلال، وتمتص رحيق الحقيقة من مهبط الوحي، فيمتلئ قلبها الواعي الواسع بأنواع الحكمة، ويساعدها عقلها الوقّاد، وذكاؤها المفرط على فهم المعاني ودرك المفاهيم، وحفظ المطالب على أتمّ وجه وأكمل صورة فلقد سمعتْ من أبيها الرسول الأقدس (صلى الله عليه وآله) الكثير من العلوم، وتعلّمت منه القدر الغزير من الأحكام والأدعية والأخلاق والحِكَم وقد روى عنها القليل حسب ظروفها الخاصة ولما ستعرف قريباً، فمن ذلك:

ما روي في البحار في كتاب العلم عن تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) قال: حضرت امرأة عند الصديقة فاطمة الزهراء (عليها السلام) فقالت: إن لي والدة ضعيفة وقد لبس - أي: اشتبه - عليها في أمر صلاتها شيء، وقد بعثتني إليك أسألكِ، فأجابتها فاطمة (عليها السلام) عن ذلك، فثنّت (أي: جاءت مرة ثانية أو سألت) فأجابت (الزهراء)، ثم ثلثت إلى أن عشرت (أي: جاءت مرة عاشرة أو سألت) فأجابت، ثم خجلت من الكثرة فقالت: لا أشقّ عليكِ يا ابنة رسول الله.

قالت فاطمة: هاتي وسلي عما بدا لكِ، أرأيت من أكتُرِيَ (أي استؤجِر) يوماً يصعد إلى سطح بحمل ثقيل، وكراه (أي أجرته) مائة ألف دينار يثقل عليه؟ فقالت: لا، فقالت: أكتُريتُ أنا لكل مسألة بأكثر من ملء ما بين الثرى إلى العرش لؤلؤاً، فأحرى أن لا يثقل عليَّ سمعت أبي (صلى الله عليه وآله) يقول: إن علماء شيعتنا يُحشرون، فيُخلع عليهم من خلع الكرامات على قدر كثرة علومهم وجِدّهم في إرشاد عباد الله حتى يخلع على الواحد منهم ألف ألف حلّة من نور، ثم ينادي منادي ربنا عز وجل: أيها الكافلون لأيتام محمد (صلى الله عليه وآله) الناعشون لهم عند انقطاعهم عن آبائهم الذين هم أئمتهم، هؤلاء تلامذتكم والأيتام الذين كفلتموهم ونعشتموهم، فاخلعوا عليهم خلع العلوم في الدنيا، فيخلعون على كل واحد من أولئك الأيتام - كمن يُخلع عليه مائة ألف خلعة، وكذلك يخلع هؤلاء الأيتام على من تعلّم منهم، ثم إن الله تعالى يقول: (أعيدوا على هؤلاء العلماء الكافلين للأيتام، حتى تتموا لهم خلعهم، وتضعّفوها لهم، فيتمّ ما كان لهم قبل أن يخلعوا عليهم ويضاعف لهم، وكذلك من يليهم ممن خلع على من يليهم).

ثم قالت فاطمة (عليها السلام): (يا أمة الله إن سلكةً من تلك الخِلَع لأفضل مما طلعت عليه الشمس ألف ألف مرة).

وفي العاشر من البحار عن يزيد بن عبد الملك[117] عن أبيه عن جده قال: دخلت على فاطمة (عليها السلام)، فبدأتني بالسلام، ثم قالت: ما غدا بك؟ قلت: طلب البركة، قالت: أخبرني أبي (وهو: ذا): من سلّم عليه أو عليَّ ثلاثة أيام أوجب الله له الجنة، قلت لها: في حياته وحياتِك؟ قالت: نعم وبعد موتنا.

وفي كشف الغمة: روى عن عليّ (عليه السلام) عن فاطمة (عليها السلام) قالت: قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا فاطمة من صلّى عليك غفر الله له، وألحقه بي حيث كنت من الجنة.

وعن دعوات الراوندي عن سويد بن غفلة قال: أصابت عليّاً (عليه السلام) شدّة، فأتت فاطمة (عليها السلام) رسول الله (صلى الله عليه وآله) فدقّت الباب، فقال: أسمع حسّ حبيبتي بالباب يا أم أيمن قومي وانظري‍! ففتحت لها الباب فدخلت، فقال (صلى الله عليه وآله): لقد جئتِنا في وقت ما كنتِ تأتينا في مثله؟ فقالت فاطمة: يا رسول الله ما طعام الملائكة عند ربنا؟ فقال: التحميد، فقالت: ما طعامنا؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): والذي نفسي بيده ما اقتبس في شهرٍ ناراً[118]، وأعلمك خمس كلمات علّمنيهن جبرائيل (عليه السلام) قالت: يا رسول الله ما الخمس كلمات؟ قال: (يا رب الأولين والآخرين، يا ذا القوة المتين ويا راحم المساكين ويا أرحم الراحمين)[119].

فرجعتْ فلما أبصرها علي (عليه السلام) قال: بأبي أنت وأمي ما ورائك يا فاطمة؟

قالت: ذهبت للدنيا وجئت للآخرة! فقال علي: خير أمامك خير أمامكِ.

وفي العاشر من البحار عن الكافي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: جاءت فاطمة تشكو إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعض أمرها، فأعطاها رسول الله (صلى الله عليه وآله) كَربةً وقال: تعلّمي ما فيها، وإذا فيها: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليسكت.

ومن جملة التعاليم الإسلامية التي كانت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) تهتم بها غاية الاهتمام، هي المحافظة على شرف المرأة وحفظ كيانها عن طريق الحجاب والتستر، فالزهراء تعلم (حسب علم الاجتماع) أن ملايين الفضائح والجرائم والمآسي تأتي عن طريق السفور والتبذّل والخلاعة والاختلاط، المسمىّ في زماننا هذا بالحرية والتقدم!

فإن كنت لا تصدق فأقرأ الجرائد والمجلات التي تصدر يومياً وأسبوعياً في البلاد الإسلامية وغير الإسلامية كي تعرف عدد الضحايا التي تقدّمها الحضارة!.. والتقدم! والحرية!

ولا تنس أن معشار هذه الفجائع والمآسي ما كانت تحدث للمرأة المسلمة يوم كانت تؤمن بالحجاب والعفاف والحياء، يوم كانت تؤمن بالحلال والحرام، يوم كانت تأبى وتستنكف أن ينظر إليها رجل أجنبي واحد، فكيف أن تجعل جسمها ورأسها ووجهها محلاًّ لأنظار المئات بل الألوف من الرجال الأجانب، على اختلاف أديانهم وأهوائهم.

ولما ضاعت المفاهيم والقيم سقطت المرأة المسلمة إلى حيث سقطت وبلغ بها الأمر إلى ما بلغ!.

وإليك هذين الحديثين اللذين تضمنّا إعجاب الرسول (صلى الله عليه وآله) بكلام ابنته الطاهرة العفيفة فاطمة الزهراء حول المرأة، وتصديقه لها، وتقديره لرأيها:

روى أبو نعيم في (حلية الأولياء ج2 ص40) عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما خيرٌ للنساء؟ فلم ندرِ ما نقول، فسار عليُّ إلى فاطمة فأخبرها بذلك، فقالت: فهلاّ قلت له: خير لهن أن لا يرين الرجال ولا يرونهن، فرجع - علي إلى رسول الله - فأخبره بذلك، فقال النبي.. صدقت إنها بضعة مني.

الرواية بصورة أخرى: عن علي (عليه السلام) أنه قال لفاطمة: ما خير النساء؟ قالت: لا يرين الرجال ولا يرونهن، فذكر ذلك للنبي فقال: إنما فاطمة بضعة مني.

وذكر ابن المغازلي في مناقبه عن علي بن الحسين بن علي (عليهم السلام) أن فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) استأذن عليها أعمى فحجبته فقال لها النبي (صلى الله عليه وآله) لم حجبتِه وهو لا يراك؟ فقالت: يا رسول الله إن لم يكن يراني فأنا أراه وهو يشمّ الريح، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): أشهد أنكَ بضعة مني.

هذا وقد رويت عن السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) أدعية كثيرة كانت تدعو بها ربها، يجدها الباحث في كتب الأدعية، ونكتفي - هنا - بذكر هذين: الحرز والدعاء، لئلا يخلو كتابنا عن هذه الفائدة:

 

دعاء النور: العلاج العجيب لمكافحة الحُمّى

لقد اشتهر بين الشيعة بكافة طبقاتهم من أهل العلم وغيرهم، دعاء النور المروي عن سيدتنا فاطمة الزهراء (عليها السلام) وفي خلال هذه القرون ثبت بالتجارب - على مرّ التاريخ - أن لهذا الدعاء تأثيراً خاصاً للاستشفاء من الحمّى وقد ذكر ذلك جل علمائنا في كتب الأدعية والأحاديث، ومنهم السيد ابن طاووس في كتابه (مهج الدعوات).

وخلاصة الحديث أن السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) علّمت سليمان الفارسي (رضوان الله عليه) هذا الدعاء وقالت له: إن سَرَّك أن لا يمسَّك أذى الحمّى ما عشت في دار الدنيا، فواظب على هذا الكلام الذي علّمنيه أبي محمد (صلى الله عليه وآله) كنت أقوله غدوة وعشية:

 

بِسمِ الله الرّحْمنِ الرَّحيمِ

بسم الله النور، بسم الله نور النور، بسم الله نور من نور، بسم الله الذي هو مدبّر الأمور، بسم الله الذي خلق النور من النور، الحمد لله الذي خلق النور من النور، وأنزل النور على الطُور، في كتاب مَسطور في رَقٍّ منشور، بَقَدر مقدور، على نبيٍّ مَحبُور، الحمد لله الذي هو بالعز مذكور، وبالفخر مشهور، وعلى السَّرَّاء والضَّرَّاء مشكور، وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.

قال سلمان: والله لقد علّمتُ أكثر من ألف إنسان في مكة والمدينة كانوا مصابين بالحمّى، فبرئوا بإذن الله.

وعن كتاب (مُهج الدعوات) لابن طاووس رحمه الله: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) علّمها هذا الدعاء:

(اللهم ربنا ورب كل شيء، مُنزل التوراة والإنجيل والفرقان، فالق الحب والنوى، أعوذ بك من كل دابة أنت آخذ بناصيتها، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء، صل على محمد وعلى أهل بيته (عليهم السلام)، واقض عني الدَين، وأغنني من الفقر، ويسّر لي كل أمر يا أرحم الراحمين).

بعدما قرأت وعرفَت من علم الزهراء وكثرة اتصالها بالرسول (صلى الله عليه وآله) هلمّ معي واستمع إلى ما يذكره العقاد ثم اضحك أو ابك:

ذكر العقاد في كتابه: (فاطمة والفاطميون) أحاديث سقيمة استحسنها هو، وكأنه أعجب بها، ومن جملتها هذه الخرافة: (ومن فكرة التدين في وريثة محمد وخديجة أنها كانت شديدة التحرّج فيما اعتقدته من أوامر الدين، حتى وهمت أن أكل الطعام المطبوخ يوجب الوضوء، يظهر ذلك من حديث الحسن بن الحسن عن فاطمة حيث قالت: (دخل عليَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأكل عِرقاً[120] فجاء بلال بالأذان فقام ليصلي، فأخذت بثوبه فقلت له: يا أبة ألا تتوضأ؟ فقال: ممنَّ أتوضأ يا بنية؟ فقلت: مما مسَّتِ النار. فقال لي: أو ليس أطيب طعامكم ما مسّت النار).

(فهي فيما تجهله تتحرج ولا تترخص، وتؤثر الشدة مع نفسها على الهوادة معها)[121].

لا أدري كيف أزيف هذه الأكذوبة التي اختلقتها يد الهوى، وصاغتها ألسنة الكذب والدجل، ولا أطالب العقاد عن مصدر هذه الأسطورة، ولا عن كتاب ذكر هذه الأضحوكة، فالحديث منه عليه شواهد أنه كذب وافتراء بصرف النظر عن المصدر والكتاب.

ولكني أقول: ممن كانت الزهراء تأخذ معالم الدين؟ وممن كانت تتعلم أحكام الإسلام؟ أليس المصدر الأول لعلومها هو أبوها رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ وزوجها باب مدينة علم الرسول علي بن أبي طالب؟ وقبل هذين هو القرآن العظيم الذي نزل شيء منه في بيتها؟ فمن أين جاءها هذا التوهم؟ من القرآن؟ من أبيها؟ من زوجها؟ وكيف كانت تجهل سيدة نساء العالمين هذا الحكم الذي تكثر إليه الحاجة، ويعم به الابتلاء؟ فهل كانت السيدة فاطمة تأخذ الأحكام من الكذابين الدجالين فتعلمت هذا الحكم؟ ولهذا أخذت بثوب أبيها لتمنعه عن الصلاة بلا وضوء؟

أنا ما أدري، ولعل العقاد يدري، ولعل الذين اختلقوا هذه الأسطورة يدرون!

وبعد أعود إلى حديثي عن إمكانيات السيدة فاطمة - المكبوتة - :

فلو كانت الزهراء (عليها السلام) تعيش أكثر مما عاشت مع فسح المجال أمامها لملأت الدنيا علماً وثقافة ومعرفة، وليس هذا إدّعاءً فارغاً، فقد وجدت السيدة الزهراء المجال في حياتها ساعتين فقط: ساعة خطبت فيها في مسجد أبيها الرسول (صلى الله عليه وآله) وساعة خطبت في بيتها للنساء اللاتي حضرن لعيادتها وستعرف قريباً مدى مواهبها وسعة اطلاعها، وكثرة معلوماتها ومقدار قدرتها على الأداء والشرح والبيان.

ولكنها - أسفي عليها - ما عاشت إلا يسيراً، وقد عرفت تاريخ ميلادها وستعرف تاريخ وفاتها، وستعرف أنها ماتت ولن تبلغ العشرين من العمر، فما تقول لو كانت الزهراء تعيش حتى تبلغ الخمسين والستين من العمر مع فسح المجال أمامها؟ لكانت تترك للأمة الإسلامية أعظم ثروة فكرية وعلمية في شتى المواضيع والفنون ولكن..؟؟!!

من الطبيعي أن السيدة فاطمة (عليها السلام) مع منزلتها القريبة ومكانتها الخاصة عند الرسول (صلى الله عليه وآله) كان الرسول يخبرها عن المستقبل الخاص والعام فهو (صلى الله عليه وآله) كان يخبر الناس عما يجري بعده ويخبرهم عن أشراط الساعة، وعلائم آخر الزمان ومشاهد القيامة أتراه لا يعلم بما يجري على أهل بيته من بعده، وعلى ابنته العزيزة فاطمة الزهراء؟ أو تراه يعلم ذلك ولا يخبرهم بما يتعلق بمستقبلهم ومصيرهم؟؟

نعم كان الرسول (صلى الله عليه وآله) يخبرهم بما سيجري عليهم من الناس من بعد وفاته مباشرة وبعد ذلك على طول خط التاريخ، فكم أخبر النبي (صلى الله عليه وآله) أصحابه وزوجاته بشهادة الحسين (عليه السلام)؟

ومن اليقين أنه (صلى الله عليه وآله) أخبر ابنته الحبيبة فاطمة بمصائبها ونوائبها واضطهادها وما يجري عليها من المآسي.

وخاصة في الأيام الأخيرة من حياته الشريفة، وعلى الأخص في الليلة الأخيرة واليوم الأخير من حياته فقد ضاق المجال وحضرت الساعة الحرجة ليكشف رسول الله (صلى الله عليه وآله) النقاب عن الواقع لابنته ويخبرها بكل صراحة فيبشرّها أنها لا تلبث بعده إلا قليلاً ثم تلتحق بأبيها الرسول في الدرجات العلا والرفيق الأعلى، ثم يخبرها بتبدل الأحوال وتغيّر الأوضاع:

في العاشر من البحار عن أمالي الشيخ المفيد عن عبد الله بن عباس قال: لما حضرت رسول الله (صلى الله عليه وآله) الوفاة بكى حتى بلّت دموعه لحيته، فقيل له: يا رسول الله ما يبكيك؟ فقال: أبكي لذريتي، وما تصنع بهم شرار أمَّتي فلا يعينها أحد من أمتي.

فسمعت ذلك فاطمة (عليها السلام) فبكت، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا تبكينّ يا بنيّة. فقالت: لست أبكي لما يصنع بي من بعدك، ولكنني أبكي لفراقك يا رسول الله فقال لها: أبشري يا بنت محمد بسرعة اللحاق بي فإنك أول من يلحق بي من أهل بيتي.

وفي العاشر من البحار عن الأمالي عن ابن عباس عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: وإني لما رأيتها (فاطمة) ذكرت ما يصنع بها بعدي، كأني وقد دخل الذل بيتها وانتهكت حرمتها، وغُصب حقُّها، ومُنع إرثها، وكسر جنبها، وأسقطت جنينها، وهي تنادي: يا محمداه. فلا تجاب، وتستغيث فلا تغاث، فلا تزال بعدي محزونة مكروبة باكية، تتذكر انقطاع الوحي عن بيتها مرة، وتتذكر فراقي أخرى، وتستوحش إذا جنّها الليل الذي كانت تستمع إليه إذا تهجّدت بالقرآن ثم ترى نفسها ذليلة بعد أن كانت في أيام أبيها عزيزة.. الخ.

هذا والأخبار والأحاديث الواردة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في إخباره أهل بيته بما يجري عليهم من بعده - كثيرة جداً - وآخر مرة أخبر النبي أهل بيته (وهم عليّ والزهراء والحسن والحسين) في مرض موته، وقبل وفاته (صلى الله عليه وآله) بساعات قلائل.

في السادس من البحار عن تفسير فرأت بن إبراهيم عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في مرضه الذي قبض فيه لفاطمة (عليها السلام): بأبي وأمي أنتِ! أرسلي إلى بعلك فادعيه لي. فقالت فاطمة للحسين أو الحسن: انطلق إلى أبيك فقل: يدعوك جدي، فانطلق إليه الحسين فدعاه. فأقبل عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) حتى دخل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وفاطمة عنده وهي تقول:

واكرباه لكربك يا أبتاه! فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا كرب على أبيك بعد اليوم يا فاطمة، ولكن قولي كما قال أبوك على إبراهيم: تدمع العينان وقد يوجع القلب، ولا نقول ما يسخط الرب، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون.

وفي السادس من البحار: أن النبي (صلى الله عليه وآله) دعا علياً وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) وقال - لمن في بيته - : أخرجوا عني. وقال - لأم سلمة - : كوني على الباب فلا يقربه أحد.

ثم قال لعلي: أُدنُ مني، فدنا منه فأخذ بيد فاطمة فوضعها على صدره طويلاً وأخذ بيد عليّ بيده الأخرى، فلما أراد رسول الله (صلى الله عليه وآله) الكلام غلبته عبرته، فلم يقدر على الكلام، فبكت فاطمة بكاءً شديداً و بكى عليّ والحسن والحسين (عليهم السلام) لبكاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقالت فاطمة: يا رسول الله قد قطعت قلبي، وأحرقت كبدي لبكائك يا سيد النبيين من الأولين والآخرين، ويا أمين ربه ورسوله، ويا حبيبه ونبيّه مَن لولدي بعدك؟ ولذُلٍّ ينزل بي بعدك؟ مَن لعليّ أخيك وناصر الدين؟ من لوحي الله وأمره؟

ثم بكت وأكبَّت على وجهه فقبلته، وأكبَّ عليه عليّ والحسن والحسين (عليهم السلام) فرفع رأسه (صلى الله عليه وآله) إليهم، ويد فاطمة في يده فوضعها في يد عليّ وقال له: يا أبا الحسن وديعة الله ووديعة رسوله محمد عندك، فاحفظ الله واحفظني فيها، وإنك لفاعل هذا.

يا عليّ هذه - والله - سيدة نساء أهل الجنة من الأولين والآخرين، هذه - والله - مريم الكبرى[122].

أما - والله - ما بلغت نفسي هذا الموضع حتى سألت الله لها ولكم، فأعطاني ما سألته.

يا عليّ أنفذ ما أمرتك به فاطمة، فقد أمرتها بأشياء أمر بها جبرئيل. واعلم يا عليّ أني راضٍ عمّن رضيت عنه ابنتي فاطمة، وكذلك ربي وملائكته.

يا عليّ: ويل لمن ظلمها، ويل لمن ابتزّها حقها، وويل لمن هتك حرمتها.. ثم ضمّ (صلى الله عليه وآله) فاطمة إليه وقبّل رأسها وقال: فداك أبوك يا فاطمة.

كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) في تلك الساعة الأخيرة واضعاً رأسه على صدر عليّ (عليه السلام) وقلبه لا يطاوعه إلاَّ أن يضمّ فاطمة إلى صدره مرة بعد مرة ودموعه تجري كالمطر حتى ابتلت لحيته الشريفة وابتلت الملاءة التي كانت عليه، وأقبل الحسن والحسين يقبلان قدميه ويبكيان بأعلى أصواتهما وأراد عليّ (عليه السلام) أن يرفعهما، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): دَعهما يشمّاني وأشمّهما، ويتزوّدا مني وأتزوّد منهما، فسيلقيان من بعدي زلزالاً، وأمراً عضالاً، فلعن الله من يحيفهما، اللهم إني أستودعكهما وصالح المؤمنين.

ولا تسأل عن بكاء السيدة فاطمة الزهراء في تلك اللحظات وهي ترى أباها الرسول العظيم ووالدها البار العطوف الحنون على أعتاب المنيّة، فكانت تخاطب أباها بدموع جارية: نفسي لنفسك الفداء ووجهي لوجهك الوقاء، يا أبتاه ألا تكلمني كلمة فإني أنظر إليك وأراك مفارق الدنيا، وأرى عساكر الموت تغشاك شديداً.

فقال لها: بُنية إني مفارقك، فسلام عليك مني.

وفي كشف الغمة. ثم قال (صلى الله عليه وآله): يا بنية أنتِ المظلومة بعدي! وأنت المستضعفة بعدي، فمن آذاك فقد آذاني، ومن جفاكِ فقد جفاني، ومن وصلك فقد وصلني، ومن قطعك فقد قطعني، ومن أنصفك فقد أنصفني، لأنك مني وأنا منك، وأنت بضعة مني وروحي التي بين جَنبيّ، ثم قال: إلى الله أشكو ظالميك من أمتي.

فما مضت سوى فترة قصيرة إذ قام عليّ (عليه السلام) قائلاً: أعظم الله أجوركم في نبيكم فقد قبضه الله إليه. فارتفعت الأصوات بالضجة والبكاء، فكان أعظم يوم في تاريخ البشر، وأوجع صدمة على قلوب المسلمين، ولم ير يوم أكثر باكياً وباكية من ذلك اليوم.

وهكذا مرّت تلك الساعة المُرة العصيبة التي كانت أصعب ساعة في حياة الزهراء، فكيف انقضت تلك الدقائق على قلب فاطمة وهي ترى أباها مسجّى لا حراك به؟!

فكانت الزهراء تقول: يا أبتاه من ربه ما أدناه! وا أبتاه جنة الفردوس مأواه! وا أبتاه إلى جبرئيل ننعاه! وا أبتاه أجاب ربّاً دعاه[123].

وكان عليّ يقول: يا رسول الله! والحسنان يبكيان يقولان: واجدّاه واجدّاه[124].

وقام عليّ (عليه السلام) بتغسيل الرسول (صلى الله عليه وآله) وتحنيطه وتكفينه وحضر وقت الصلاة عليه، فكانت السيدة فاطمة الزهراء من جملة المصلّين على جثمان أبيها العظيم في الوجبة الأولى[125].

وإلى أن دفن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان بكاء الزهراء مستمراً متصلاً ورجعت إلى بيتها واجتمعت النساء فقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، انقطع عنا خبر السماء، ثم قالت في مرثية أبيها أبياتاً نذكرها قريباً، وقالت لأنس بن مالك: أطابت نفوسكم أن تحثّوا على رسول الله التراب؟

وفي كشف الغمة عن الإمام الباقر (عليه السلام): ما رؤيت فاطمة (عليها السلام) ضاحكة مستبشرة منذ قُبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى قُبضت. وفي رواية أخرى: إلاّ يوماً افترت بطرف نابها، وعن عمران بن دينار: إن فاطمة لم تضحك بعد النبي حتى قُبضت لِما لحقها من شدة الحزن على أبيها (صلى الله عليه وآله).

 

فَاطِمةُ الزهَراء بَعَدَ وَفَاةِ الرسُول (صلى الله عليه وآله)

في كل يوم من أيام الدنيا آباء يموتون، وبناتهم يُفجعن بهم، ويبكين في مصابهم، ويحزنَّ لفقدهم إلاَّ أن نسبة الحزن والبكاء وألم المصيبة تختلف باختلاف الآباء والبنات، وباختلاف العلاقات الودية بين الأب وابنته، فهناك العدد الكثير من البنات اللاتي لا نصيب لهن من الآباء إلاّ الأبوة، فلا عطف ولا حنان ولا عطف، فكأنه لا معرفة بينهما ولا صلة.

وهناك آباء يمطرون بناتهم بالعطف والدلال والاحترام والمحافظة على البنت لئلا تنخدش عواطفها. ولئلا يحدث شيء يمس بكرامتها، ويجد الأب من ابنته نفس الشعور المتبادل والاحترام والتقدير، وفي هذه الصورة تكون العلاقات الودية بين الأب وابنته وثيقة جداً، وعلى هذا تكون مصيبة الأب على قلب ابنته أليمة وعميقة.

وقد مر عليك موقف رسول الله (صلى الله عليه وآله) من ابنته الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) وسوف يسهل عليك أن تدرك علاقة السيدة فاطمة الزهراء بأبيها الرسول (صلى الله عليه وآله) ومحبتها إياه لم تكن بدافع الأبوة والنبوة فقط، بل كانت السيدة فاطمة تعتبره أباً عطوفاً، ووالداً رؤوفاً، شفيقاً رحيماً، وفي الوقت نفسه تعتبره رسول الله، وسيد الأنبياء والمرسلين، فهي تحترم أباها كما تحترم المرأة المسلمة العارفة نبيّها، وتعظّمه أقصى أنواع التعظيم، وأعلى درجات التفخيم والتجليل.

والسيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) أعلم امرأة في الإسلام، وأعرف أنثى بعظمة نبي الإسلام.

وبعد هذه المقدمة يتضح لنا أن مصيبة وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) سلبت عن ابنته البّارة كل قرار واستقرار، وكل هدوء وسكون.

فالزهراء تعرف عِظم المصاب، ومدى تأثير الواقعة في الموجودات كلها.

وهنا تحدثنا فضّة خادمة الزهراء عن الحزن المسيطر على السيدة فاطمة بسبب وفاة أبيها الرسول (صلى الله عليه وآله) قالت:

(ولما توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله) افتجع له الصغير والكبير وكثر عليه البكاء، وعظُم رزؤه على الأقرباء والأصحاب والأولياء والأحباب، والغرباء والأنساب.

ولن تلق إلاّ كل باكٍ وباكية، ونادب ونادبة، ولم يكن في أهل الأرض والأصحاب والأقرباء والأحباب أشدّ حزناً وأعظم بكاءً وانتحاباً من السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) وكان حزنها يتجدد ويزيد، وبكاؤها يشتد، فجلست سبعة أيام لا يهدأ لها أنين، ولا يسكن منها الحنين، وكل يوم كان بكاؤها أكثر من اليوم الذي قبله.

فلما كان اليوم الثامن أبدت ما كتمت من الحزن، فلم تطق صبراً، إذ خرجت وصرخت، وضجَّ الناس بالبكاء، فتبادرت النسوة، وأطفئت المصابيح لكيلا تتبين وجوه النساء.

كانت السيدة فاطمة تنادي وتندب أباها قائلة:

وا أبتاه! واصفياه، وا محمداه! وا أبا القاسماه! وا ربيع الأرامل واليتامى!

مَن للقبلة والمصلّى؟

ومَن لابنتك الوالهة الثكلى؟

ثم أقبلت تعثر في أذيالها، وهي لا تبصر شيئاً من عبرتها، ومن تواتر دمعتها، حتى دنت من قبر أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلما نظرت إلى الحجرة وقع طرفها على المئذنة أغمي عليها، فتبادرت النسوة، فنضحن الماء عليها وعلى صدرها، وجبينها حتى أفاقت، فقامت وهي تقول:

رُفعت قوتي، وخانني جَلَدي، وشمت بي عدوي، والكمد قاتلي.

يا أبتاه بقيت والهة وحيدة، وحيرانة فريدة.

فقد انخمد صوتي، وانقطع ظهري، وتنغَّص عيشي، وتكدَّر دهري.

فما أجد - يا أبتاه - بعدك أنيساً لوحشتي، ولا راداً لدمعتي، ولا معيناً لضعفي، فقد فني بعدك محكم التنزيل، ومهبط جبرئيل، ومحل ميكائيل.

انقلبت - بعدك - يا أبتاه الأسباب.

وتغلَّقت دوني الأبواب.

فأما الدنيا بعدك قالية، وعليك ما تردّدت أنفاسي باكية.

لا ينفد شوقي إليك، ولا حزني عليك.

إنّ حزني عليك حزن جديد***وفؤادي والله صبّ عنيد

كل يوم يزيد فيه شجوني***واكتئابي عليك ليس يبيد

جلّ خطبي، فبان عني عزائي***فبكائي في كل وقت جديد

إن قلبٌ عليك يألف صبراً***أو عزاء فإنه لجليد

ثم نادت:

يا أبتاه، انقطعت بك الدنيا بأنوارها، وذوتْ زهرتها وكانت ببهجتك زاهرة.

يا أبتاه! لا زلت آسفة عليك إلى التلاق.

يا ابتاه! زال غمضي منذ حقَّ الفراق.

يا أبتاه! مَن للأرامل والمساكين؟

ومَن للأمة إلى يوم الدين؟

يا أبتاه! أمسينا بعدك من المستضعفين!

يا أبتاه! أصبحت الناس عنا معرضين!

ولقد كنَّا بك معظَّمين في الناس غير مستضعفين!

فأي دمعة لفراقك لا تنهمل؟

وأي حزن بعدك لا يتصل؟

وأي جفن بعدك بالنوم يكتحل؟

وأنت ربيع الدين، ونور النبيين.

فكيف بالجبال لا تمور؟ وللبحار بعدك لا تغور؟

والأرض كيف لم تتزلزل؟

رُميتُ - يا أبتاه - بالخطب الجليل.

ولم تكن الرزية بالقليل.

وطُرِقتُ - يا أبتاه - بالمصاب العظيم، وبالفادح المهول.

بكتك - يا أبتاه - الأملاك.

ووقفتِ الأفلاك.

فمنبرك بعدك مستوحش.

ومحرابك خال من مناجاتك.

وقبرك فرِحٌ بمواراتك.

والجنة مشتاقة إليك وإلى دعائك وصلاتك.

يا أبتاه ما أعظم ظلمة مجالسك!!

فوا أسفاه عليك إلى أن أقدم عاجلاً عليك.

وأُثكل أبو الحسن المؤتمن، أبو ولديك الحسن والحسين وأخوك ووليك، وحبيبك، ومن ربيّته صغيراً وآخيته كبيراً.

وأحلى أحبابك وأصحابك إليك.

من كان منهم سابقاً ومهاجراً وناصراً.

والثكل شاملنا! والبكاء قاتلنا! والأسى لازمنا.

ثم زفرت، وأنَّت أنيناً يخدش القلوب ثم قالت:

قلَّ صبري وبان عني عزائي***بعد فقدي لخاتم الأنبياء

عين يا عين اسكبي الدمع سحاً***ويك لا تبخلي بفيض الدماء

يا رسول الإله يا خيرة الله***وكهف الأيتام والضعفاء

قد بكتك الجبال والوحش جمعاً***والطير والأرض بعد بكي السماء

وبكاك الحجون والركن والمشـ***ـعر - يا سيدي - مع البطحاء

وبكاك المحراب والدرس***للقرآن في الصبح معلناً والمساء

وبكاك الإسلام إذ صار في النا***س غريباً من سائر الغرباء

لو ترى المنبر الذي كنت تعلو***ه علاه الظلام بعد الضياء

يا إلهي عجّل وفاتي سريعاً***(فقلد عِفْتُ الحياة يا مولائي)

وأخذت فاطمة الزهراء (عليها السلام) شيئاً من تراب قبر أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله) وجعلت تشمّه وهي تقول:

ماذا على من شمّ تربة أحمد***إن لا يشمّ مدى الزمان غواليا

قل للمغيّب تحت أطباق الثرى***إن كنت تسمع صرختي وندائيا

صُبَّت عليَّ مصائب لو أنها***صُبَّت على الأيام صرن لياليا

قد كنت ذات حمى بظلّ محمد***لا أخش من ضيم وكان حمىً ليا

فاليوم أخضع للذليل وأتّقي***ضيمي، وأدفع ظالمي بردائيا

فإذا بكت قمرية في ليلها***شجناً على غصن بكيت صباحيا

فلأجعلن الحزن بعدك مؤنسي***ولأجعلن الدمع فيك وِشاحيا)

وروى زيني دحلان في السيرة النبوية هذه الأبيات لها في رثاء أبيها بعد دفنه (صلى الله عليه وآله):

اغبرَّ آفاق السماء وكوّرت***شمس النهار وأظلم العصران

والأرض من بعد النبي كئيبة***أسفةٍ عليه كثيرة الرجفان

فليبكه شرق البلاد وغربها***وليبكه مضر وكل يماني

وليبكه الطود المعظم جوّه***والبيت ذو الأستار والأركان

يا خاتم الرسل المبارك ضوؤه***صلّى عليك منزّل القرآن

ثم رجعت إلى منزلها، وأخذت بالبكاء والعويل، وكانت (سلام الله عليها) معصبة الرأس، ناحلة الجسم منهدّة الركن، باكية العين، محترقة القلب، يغشى عليها ساعة بعد ساعة، وتقول لولديها: أين أبوكما الذي كان يكرمكما ويحملكما مرة بعد مرة؟ أين أبوكما الذي كان أشد الناس شفقة عليكما، فلا يدعكما تمشيان على الأرض، لا أراه يفتح هذا الباب أبداً، ولا يحملكما على عاتقه، كما لم يزل يفعل بكما!!

ولما توفى رسول الله (صلى الله عليه وآله) امتنع بلال من الأذان قال: لا أؤذن لأحد بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإن فاطمة (عليها السلام) قالت ذات يوم: إني أشتهي أن أسمع صوت مؤذن أبي (صلى الله عليه وآله) بالأذان. فبلغ ذلك بلالاً فأخذ في الأذان فلما قال: الله أكبر الله أكبر ذكرت أباها وأيامه، فلم تتمالك من البكاء، فلما بلغ إلى قوله: أشهد أن محمداً رسول الله شهقت فاطمة (عليها السلام) وسقطت لوجهها وغشي عليها، فقال الناس لبلال: أمسك يا بلال فقد فارقت ابنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) الدنيا، وظنوا أنها قد ماتت؟ فقطع أذانه، ولم يتمّه، فأفاقت فاطمة (عليها السلام) وسألته أن يتمّ الأذان فلم يفعل وقال لها: يا سيدة النسوان إني أخشى عليك مما تنزلينه بنفسك إذا سمعت صوتي بالأذان. فأعفته عن ذلك[126].

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): غسلت النبي (صلى الله عليه وآله) في قميصه. فكانت فاطمة تقول: أرني القميص. فإذا شمّته غشي عليها. فلما رأيت ذلك غيّبته[127].

 

فَاطِمَةُ الزهْرَاء (عليها السلام) في مهبِّ الأعَاصِير

أيها القارئ:

لقد وصلنا - في حديثنا هذا - إلى موضع حساس جداّ حساس تاريخياً ودينياً وعقائدياً، ولا أعلم ما يكون صدى هذه الجملات التي سأذكرها هنا؟

ولا أعلم ردود الفعل التي تنشأ من مطالعة هذه الكلمات؟

ولا أعرف نوعية الحكم الذي سيحكم به القارئ عليَّ؟

وما هي التهم التي سيوجّهها إليَّ؟

الطائفية؟ التفرقة؟ إثارة الفتن؟ المسّ بكرامة الصحابة؟ وغيرها من الكلمات التي سأحظى بها من حضرات المطالعين!!

ولعلك - أيها القارئ - لا ترضى بهذه الحقائق، وتظنها كذباً وافتراءً ثم تحكم عليَّ حكماً غيابياً بما جاد به لسانك وقلمك.

لا يهمني هذا بمقدور ما يهمني أن تعلم أنني لا أذكر لك - هنا شيئاً من المصادر الشيعية، ولا من كتب الإمامية وإنما أذكر لك بعض القضايا من مصادر سُنية بحتة محضة فقط، معتبرة عند أهل السنة والجماعة.

فإن كانت هذه الأخبار صحيحة وصادقة فنعم المطلوب.

وإن كانت سقيمة أي غير صحيحة فليست المسؤولية عليَّ.

وإنما المسؤولية على تلك المصادر.

وبعبارة أخرى: ليس الذنب ذنبي، بل الذنب ذنب التاريخ الذي ذكر هذه الوقائع ولولا ثبوتها عند علماء السنة القدامى لما ذكروها في صحاحهم المعتبرة عندهم، المعتمدة لديهم.

أيها القارئ:

أعود لأقول كلمتي الأخيرة، ثم أدخل في صميم الموضوع:

أقول: إنني أذكر لك المصادر والمدارك التاريخية، فالأفضل أن تراجعها كي تتأكد من صحة القول والنقل.

وبعد مطالعة هذا الفصل لك الحرية في اختيار موقفك تجاه هذه الأحداث وتبقى أنت وضميرك الحي، ووجدانك وهو الذي تجده في قرارة نفسك، وديانتك التي أنت معتنقها، وإيمانك بالله الذي أنت لاقيه، والحق الذي هو فوق العاطفة والميول والتقاليد.

وكم يؤسفني أني لا أملك حرية القلم والبيان لأسجل على هذه الصفحات الأحداث المؤلمة، والظروف العصبية، والعواصف الزعازع، والساعات الحرجة التي مرت بآل الرسول وعترته الطيبة في أقل من أسبوع من بعد وفاة الرسول.

نعم، الحرية ممنوحة لكل أحد ولكل فئة إلا لآل رسول الله، وحرية الصحافة المتعارفة في زماننا، وحرية الدفاع المسموح بها في جميع المحاكم في العالم، وحرية الرأي والفكر المعترف بها في الدول، هذه الحريات بكافة أنواعها موجودة، ولكن التحدث عن مصائب آل الرسول وتسجيل آلامهم ومآسيهم يعتبر ذنباً لا يغفر..

والآن استمع إلى ما يلي:

ذكر الأستاذ الفذ عبد الفتاح عبد المقصود في كتابه (الإمام عليّ بن أبي طالب) ص225:

واجتمعت جموعهم - آونة في الخفاء وآخرى على ملاء - يدعون إلى ابن أبي طالب لأنهم رأوه أولى الناس بأن يلي أمور الناس، ثم تألبوا حول داره يهتفون باسمه ويدعونه أن يخرج إليهم ليردوا عليه تراثه المسلوب.. فإذا المسلمون أمام هذا الحدث محالف أو نصير، وإذا بالمدينة حزبان، وإذا بالوحدة المرجوَّة شقان أوشكا على انفصال، ثم لا يعرف غير الله ما سوف تؤول إليه في نظر ابن الخطاب بالقتل حتى لا تكون فتنة ولا يكون انقسام؟!

كان هذا أولى بعنف عمر إلى جانب غيرته على وحدة الإسلام، وبه تحدّث الناس ولهجت الألسن كاشفة عن خلجات خواطر جرت فيها الظنون مجرى اليقين، فما كان لرجل أن يحزم أو يعلم سريرة ابن الخطاب، ولكنهم جميعاً ساروا وراء الخيال، ولهم سند مما عرف عن الرجل دائماً من عنف ومن دفعات ولعل فيهم مّن سبق بذهنه الحوادث على متن الاستقراء فرأى بعين الخيال قبل رأي العيون، ثبات عليّ أمام وعيد عمر لو تقدم هذا منه يطلب رضاءه وإقراره لأبي بكر بحقه في الخلافة، ولعله تمادى قليلاً في تصور نتائج هذا الموقف وتخيّل عقباه فعاد بنتيجة لازمة لا معدّى عنها، هي خروج عمر عن الجادة، وأخذ هذا المخالف العنيد بالعنف والشدَّة!

وكذلك سبقت الشائعات خطوات ابن الخطاب ذلك النهار، وهو يسير في جمع من صحبه ومعاونيه إلى دار فاطمة وفي باله أن يحمل ابن عمّ رسول الله - إن طوعاً وإن كرهاً - على إقرار ما أباه حتى الآن، وتحدث أناس بأن السيف سيكون وحده متن الطاعة!.. وتحدث آخرون بأن السيف سوف يلقى السيف!.. ثم تحدث غير هؤلاء وهؤلاء بأن (النار) هي الوسيلة المثلى إلى حفظ الوحدة وإلى (الرضا) والإقرار!.. وهل على ألسنة الناس عقال يمنعها أن تروي قصة حطب أمر به ابن الخطاب فأحاط بدار فاطمة، وفيها عليّ وصحبه، ليكون عدة الإقناع أو عدة الإيقاع؟..

على أن مثل هذه الأحاديث جميعها ومعها الخطط المدبرة أو المرتجلة كانت كمثل الزبد، أسرع إلى ذهاب ومعها دفعة ابن الخطاب!.. أقبل الرجل، محنقاً مندلع الثورة على دار عليّ وقد ظاهر معاونوه ومن جاء بهم فاقتحموها أو أوشكوا على اقتحامها فإذا وجه كوجه رسول الله يبدو بالباب حائلاً من حزن، على قسماته خطوط آلام، وفي عينيه لمعات دمع، وفوق جبينه عبسة غضب فائر وحنق ثائر..

وتوقف عمر من خشية وراحت دفعته شعاعاً. وتوقف خلفه - أمام الباب - صحبه الذين جاء بهم إذ رأوا حيالهم صورة الرسول تطالعهم من خلال وجه حبيبته الزهراء وغضوا الأبصار من خزي أو من استحياء، ثم ولت عنهم عزمات القلوب، وهم يشهدون فاطمة تتحرك كالخيال، وئيداً وئيداً بخطواتها المحزونة الثكلى، فتقترب من ناحية قبر أبيها.. وشخصت منهم الأنظار وأرهفت الأسماع إليها، وهي ترفع صوتها الرقيق الحزين النبرات، تهتف بمحمد الثاوي بقربها، تناديه باكية مريرة البكاء:

يا أبت يا رسول الله!.. يا أبت يا رسول الله!..

فكأنما زلزلت الأرض تحت هذا الجمع الباغي، من رهبة النداء..

وراحت الزهراء وهي تستقبل المثوى الطاهر، تستنجد بهذا الغائب الحاضر: (يا أبت يا رسول الله!.. ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب، وابن أبي قحافة!؟.).

فما تركت كلماتها إلاّ قلوباً صدعها الحزن، وعيوناً جرت دمعاً ورجالاً ودّوا لو استطاعوا أن يشقوا مواطئ أقدامهم ليذهبوا في طوايا الثرى مغيّبين.. الخ).

اقتطفنا هذه الجملات من كتاب الأستاذ عبد الفتاح الكاتب المصري المعاصر، وأما ما ذكره المؤرخون القدامى، والمحدّثون المتقدمون فهاك بعض أقوالهم حول الموضوع:

في العقد الفريد ج2 ص250 وتاريخ أبي الفداء ج1 ص156 وأعلام النساء ج3 ص1207: (وبعث إليهم أبو بكر عمر بن الخطاب وقال لهم: فإن أبوا فقاتلهم. وأقبل عمر بقبس من نار على أن يضرم عليهم الدار فلقيته فاطمة فقالت: يا بن الخطاب أجئت لتحرق دارنا؟ قال: نعم، أو تدخلوا فيما دخلت فيه الأمة.

وفي تاريخ الطبري ج3 ص198 والإمامة والسياسية ج1 ص13 وشرح ابن أبي الحديد ج1 ص134: دعا بالحطب وقال: والله لتحرقن عليكم أو لتخرجنّ إلى البيعة. أو لتخرجنّ إلى البيعة أو لأحرقنها على من فيها. فيقال للرجل: إن فيها فاطمة فيقول: وإن!!

ذكر ابن قتيبة في (الإمامة والسياسة) ص19:

كيف كانت بيعة عليّ بن أبي طالب (كرم الله وجهه).

قال: وإن أبا بكر (رضي الله عنه) تفقد قوماً تخلفوا عن بيعته عند عليّ (كرم الله وجهه) فبعث إليهم عمر، فجاء فناداهم وهم في دار عليّ، فأبوا أن يخرجوا، فدعا بالحطب وقال: والذي نفس عمر بيده لتخرجن أو لأحرقنها على من فيها: فقيل له: يا أبا حفص إن فيها فاطمة! قال: وإن! فخرجوا فبايعوا إلاّ علياً فإنه زعم أنه قال: حلفت أن لا أخرج ولا أضع ثوبي - ردائي - على عاتقي حتى أجمع القرآن.

فوقفت فاطمة (رضي الله عنها) على بابها وقالت: لا عهد لي بقوم حضروا أسوأ محضر منكم، تركتم رسول الله (صلى الله عليه وآله) جنازة بين أيدينا وقطعتم أمركم بينكم، لم تستأمرونا ولم تردوا - تروا - لنا حقاً؟!

ويقول محمد حافظ إبراهيم (شاعر النيل) في قصيدته العمرية:

وقولة لعليّ قالها عمر***أكرم بسامعها أعظم بملقيها

حرّقت دارك لا بقي عليك بها***إن لم تبايع وبنت المصطفى فيها

ما كان غير أبي حفصٍ يفوه بها***أمام فارس عدنان وحاميها

ذكر مصطفى بك الدمياطي في شرحه على هذه القصيدة ص38: وفي رواية لابن جرير الطبري قال: حدثنا جرير عن مغيرة عن زياد بن كليب قال: أتى عمر بن الخطاب منزل عليَّ وبه طلحة والزبير ورجال من المهاجرين فقال: والله لأحرقن عليكم أو لتخرجن إلى بيعة فخرج عليه الزبير معلناً بالسيف فسقط السيف من يده، فوثبوا عليه فأخذوه.. الخ.

وقد روى الشهرستاني في (الملل والنحل ص83) عن النّظام قال: إن عمر ضرب بطن فاطمة يوم البيعة حتى ألقت الجنين (المحسن) من بطنها، وكان يصيح: أحرقوا دارها بمن فيها. و كان في الدار غير عليّ وفاطمة والحسن والحسين.

وروى مثل ذلك البلاذري في (أنساب الأشراف ج1 ص404).

وذكر ابن خذابة أو خرذابة في غدره: قال زيد بن أسلم: كنت ممن حمل الحطب مع عمر إلى باب فاطمة حين امتنع عليّ وأصحابه عن البيعة، فقال عمر لفاطمة: أخرجي من البيت أو لأحرقنه ومَن فيه!!!

قال: في البيت عليّ وفاطمة والحسن والحسين وجماعة من أصحاب النبي، فقالت فاطمة: أفتحرق عليَّ وُلدي؟ فقال: أي والله أو ليخرجنَّ وليبايعنَّ!!

هذا ما ظفرت به من المصادر المذكورة في كتب أهل السنة والجماعة. ولعل غيري يجد أكثر من هذه المصادر في كتب التواريخ.

بعد استعراض هذه النصوص التاريخية انكشف لنا موقف بعض المسلمين تجاه أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) واتضح لنا أن بعض الأفراد لم يراعوا حرمة السيدة فاطمة الزهراء ولا حرمة بيتها، ولا راقبوا كرامة زوجها أمير المؤمنين عليّ، ولا كرامة ولديها، الحسن والحسين، ولم يحفظوا فيهم حرمة الرسول الأعظم.

فقد عرفنا من هذه النصوص أن العصابة جاءت لإخراج الإمام عليّ من بيته ليبايع أبا بكر، وقد سمعنا منهم التهديد بإحراق البيت وكل من فيه من آل رسول الله (صلى الله عليه وآله).

ما كانت السيدة فاطمة الزهراء تنتظر أن ترى في حياتها يوماً كذلك اليوم، ومأساة كتلك المأساة، وإن كان أبوها الرسول قد أخبرها بذلك إجمالاً أو تفصيلاً، ولكن السماع شيء والرؤية شيء آخر، وتأثير المصيبة يختلف سماعاً ورؤية.

إن كانت السيدة فاطمة قد سمعت من أبيها الرسول أن الأمور سوف تنقلب عليها، وأن الأحقاد سوف تظهر بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) فإنها قد شاهدت بعينها تلك الأحداث فقد هجم القوم على عرينها ليخرجوا زوجها من ذلك البيت الذي ما كان الرسول يدخله إلا بعد الاستئذان من فاطمة.

لا تستطيع الزهراء أن تسكت وتقف موقف المتفرجة، وأية عائلة تسكت أو تهدأ إذا رأت عصابة تريد الهجوم على بيتها لإخراج رئيس العائلة؟

فالخوف والذعر الاضطراب يبلغ أشدّه، ويسلب من العائلة كلّ استقرار وهدوء، فالأطفال يصرخون باكين من هول الموقف، والأصوات ترتفع في تلك اللحظات الرهيبة.

كانت السيدة فاطمة (قبل هجوم القوم) خلف الباب وقد عصّبت رأسها بعصابة، ولم يكن عليها خمار، فلما هجم القوم لاذت السيدة فاطمة خلف الباب لتستر نفسها عن أولئك الرجال، فعصروها عصرة شديدة، وكانت هي حاملاً في الشهر السادس من حملها.

صرخت السيدة صرخة من شدة الألم، لأن جنينها قُتل من صدمة الباب، ولا تسأل عن مسمار الباب الذي نبت في صدرها بسبب عصرة الباب.

وفي تلك اللحظات كان القوم قد ألقوا القبض على الإمام علي وهم يريدون إخراجه من البيت، وهنا حالت السيدة فاطمة بين القوم وبين أن يُخرجوا زوجها بالرغم من الألم الشديد واضطراب الجنين في أحشائها.

وهنا صدر الأمر بضرب فاطمة حبيبة رسول الله وعزيزته.

إن أولاد فاطمة الزهراء الذين شاهدوا المعركة هكذا يقولون:

لقد قد خاطب الإمام الحسن (عليه السلام) المغيرة بن شعبة في مجلس معاوية بقوله: (وأنت ضربت فاطمة بنت رسول الله حتى أدميتها، وألقت ما في بطنها، استذلالاً منك لرسول الله، ومخالفة منك لأمره، وانتهاكاً لحرمته، وقد قال لها رسول الله: (أنت سيدة نساء أهل الجنة) والله مصيّرك إلى النار.. الخ[128].

وفي كتاب سليم بن قيس عن ابن عباس... فضربها قنفذ بالسوط فماتت حين ماتت وإن في عضدها كمثل الدملج من ضربته، فألجأها إلى عضادة بيتها ودفعها، فكسر ضلعاً من جنبها، فألقت جنيناً من بطنها.. الخ.

وقال الإمام الصادق (عليه السلام)... وكان سبب وفاتها أن قنفذاً مولى... لكزها بنعل السيف بأمره، فأسقطت محسناً، ومرضت من ذلك مرضاً شديداً... الخ.

هكذا يستفاد أن أكثر من واحد ضرب بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) مما سبّب إجهاض الجنين.

وترى الشعراء يتألّمون من هذه المأساة المروّعة ويتحدثون عنها، قال أحدهم:

فأسقطت بنت الهدى واحَزَنا***جنينها ذاك المسمّى محسنا

وقال الآخر:

والداخلين على البتولة بيتها***والمسقطين لها أعزَّ جنين

والآخر:

أو تدري ما صدر فاطم ما المسما***ر ما حال ضلعها المكسور

ما سقوط الجنين؟ ما حمرة***العين وما بال قرطها المنثور

وللآخر:

ولست أدري خبر المسمار***سل صدرها خزانة الأسرار

استنجدت السيدة فاطمة بخادمتها فضة وصاحت يا فضة! إليك فخذيني وإلى صدرك فاسنديني، والله لقد قتلوا ما في أحشائي!!

أسرعت فضة واحتضنت السيدة فاطمة لتحملها إلى الحجرة، ولكن الجنين سقط قبل وصول الزهراء إلى الحجرة.

والمعروف أن آلام الإجهاض أشد من آلام الولادة، فكانت حبيبة رسول الله فاطمة تئن أنيناً يوجع كل قلب، ويُبكي كل عين، فالطفل فارق الحياة وأمه تنظر إليه.

ولكن القوم لم يعيروا اهتماماً بما جرى على سيدة النساء وابنة سيد الأنبياء، بل أخذوا زوجها العظيم، بعد أن نزعوا عنه السلاح، وتركوه أعزلاً وألقوا حبل سيفه في رقبته يقودونه من بيته إلى المسجد بكل عنف وقسوة ليبايع[129].

هنا يقف القلم عن الجري، ويخرس اللسان عن بيان وشرح تلك اللحظات التي مرّت بذلك الرجل الغيور، صاحب الحمية والإباء، ذلك البطل الإسلامي المجاهد العظيم، ذلك الإمام الذي كانت الزهراء أغلى عنده من كل غال ونفيس وأعز من كل موجود، وأشرف من كل إنسان بعد الرسول.

وينظر سلمان إلى ذلك المنظر المذهل ويقول: أيُصنع ذا بهذا؟ والله لو أقسم على الله لانطبقت ذه على ذه[130].

قف بنا لنبكي على علي، وهو يسمع صرخات زوجته فاطمة! ويسمع أصوات ولديه وبنتيه الصغار وهو يولولون، ينظرون إلى أمهم تارة وإلى أبيهم أخرى، لا يدرون ما يصنعون؟ هل يلتفون حول أمهم ويسمعون أنينها من صدمة الباب وسقط الجنين؟ أو يرافقون أباهم وقد ازدحم حوله الرجال يدفعونه في ظهره ويقاومون امتناعه.

حيرة وأية حيرة، يريد عليّ أن يسعف زوجته لينظر إليها وهي في تلك الحالة، ولكن حبل السيف في رقبته، ولكن الرجال يدافعونه، وصرخات الأطفال قد سلبته كل قرار.

ينظر يميناً وشمالاً، ينادي: واحمزتاه، ولا حمزة لي اليوم، واجعفراه ولا جعفر لي اليوم!!

ارتفعت أصوات النساء (الواقفات في الطريق) بالبكاء والعويل، وما الفائدة من صياح النساء أمام القوة؟ وهل تلين تلك القلوب من صرخات النساء وصياحهن.

فتحت السيدة فاطمة عينها حينذاك، ولعلها أفاقت على صراخ أطفالها المذعورين! وقالت: يا فضة! أين عليّ!!

قالت - وهي باكية - : أخذوه للمسجد!!

نسيت فاطمة آلامها، وقامت وكلها آلام وأوجاع، ولكنها استعادت شجاعتها لهول الموقف ولذلك الظرف العصيب.

فلنترك السيدة فاطمة تستعد للخروج لإنقاذ زوجها من تلك الورطة ولتدارك ذلك الموقف، ولنذهب إلى المسجد النبوي لنرى. ما جرى على الإمام عليّ؟؟

نعود إلى ما ذكره ابن قتيبة في (الإمامة والسياسة ص11):

وذكروا أن علياً أتى أبو بكر وهو يقول: أنا عبد الله وأخو رسوله. فقيل له: بايع أبو بكر. فقال: أنا أحق بهذا الأمر منكم.

لا أبايعكم، وأنتم أولى بالبيعة لي.

أخذتم هذا الأمر من الأنصار واحتججتم عليهم بالقرابة من النبي (صلى الله عليه وآله) وتأخذونه من أهل البيت غصباً؟؟

ألستم زعمتم للأنصار أنكم أولى بهذا الأمر لمكان محمد (صلى الله عليه وآله) منكم؟؟ فأعطوكم المقادة، وسلَّموا إليكم الإمارة؟

وأنا أحتجُّ عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار:

نحن أولى برسول الله (صلى الله عليه وآله) حياً وميتاً.

فأنصفونا (إن كنتم تخافون) من أنفسكم.

فقال له عمر: أنت لست متروكاً حتى تبايع.

فقال له عليّ: احلب حلباً لك شطره!!

اشدد له اليوم ليرده عليك غداً.

والله يا عمر لا أقبل قولك ولا أبايعه.

فقال له أبو بكر: فإن لم تبايعني فلا أُكرهك.

فقال عليّ: يا معشر المهاجرين الله! الله! لا تُخرجوا سلطان محمد في العرب من داره وقعر بيته إلى دوركم وقعور بيوتكم، وتدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقه.

فوالله يا معشر المهاجرين! لنحن أهل البيت أحقّ بهذا الأمر منكم ما كان فيه القارئ لكتاب الله، الفقيه في دين الله، العالم بسنن رسول الله.

هذا ما يرويه ابن قتيبة في كتابه (الإمامة والسياسة).

وأما ما يرويه العياشي في تفسيره 2/67:

أخرجوه من منزله ملبّباً، ومرّوا به على قبر النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: (يا بن أم أن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني) فقال له ...: بايع. قال عليّ: فإن أنا لم أفعل فَمَه؟ قال له...: إذن والله أضرب عنقك! قال عليّ: إذن - والله - أكون عبد الله المقتول وأخا رسول الله.

وفي رواية: إذن والله تقتلون عبد الله وأخا رسول الله. فقال..: أما عبد الله فنعم، وأما أخو رسول الله فلا. وفي رواية: (وأما أخو رسول الله فما نقر لك بهذا قال: أتجحدون أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) آخى بيني وبينه؟ قال: نعم. وجرى - هناك - حوار شديد وكلام طويل بين عليّ وبين تلك الزمرة.

وعند ذلك وصلت فاطمة إلى المسجد، وقد أخذت بيد ولديها: الحسن والحسين، وما بقيت هاشمية إلاَّ وخرجت معها، ونظرت السيدة فاطمة إلى زوجها أبي الحسن وهو تحت التهديد بالقتل، فأقبلت تعدو وتصيح: خلّوا عن ابن عمّي!! خلّوا عن بعلي!! والله لأكشفن عن رأسي ولأضعنَّ قميص أبي على رأسي ولأدعونَّ الله عليكم.

وفي رواية: فوالذي بعث محمداً بالحق لئن لم تخلوا عنه لأنشرن شعري ولأضعنَّ قميص رسول الله (صلى الله عليه وآله) على رأسي، ولأصرخن إلى الله تبارك وتعالى، فما ناقة صالح بأكرم على الله مني، ولا الفصيل بأكرم على الله من ولدي[131].

وفي رواية العياشي: قالت: يا أبا بكر أتريد أن ترملني من زوجي؟ والله لئن لم تكفّ عنه لأنشرنَّ شعري، ولأشقنَّ جيبي، ولآتين قبر أبي، ولأصيحنَّ إلى ربي!!

فأخذت بيد الحسن والحسين وخرجت تريد قبر النبي (صلى الله عليه وآله).

وفي رواية أخرى: قالت: ما لي ولك يا أبا بكر؟ تريد أن تُيتم ابنيّ، وترملني من زوجي؟ والله لولا أن تكون سيئة لنشرت شعري ولصرخت بهذا الفعل؟ أتريد أن تنزّل العذاب على هذه الأمة؟

فقال عليّ لسلمان: أدرك ابنة محمد.. أقبل سلمان وقال: يا بنت محمد إن الله بعث أباك رحمة فارجعي! فقالت: يا سلمان يريدون قتل عليّ! ما عليَّ صبر، فدعني حتى آتي قبر أبي.. الخ.

ما رجعت السيدة فاطمة إلى البيت إلاَّ وأخذت زوجها معها وأنقذته من تلك الزمرة، وخلّصته من أخذ البيعة منه، ولم يستطع القوم أن يأخذوا البيعة من عليّ ما دامت الزهراء في قيد الحياة، ولما توفيت السيدة فاطمة استضعفوا علياً وعلموا أن تلك البطلة المقدامة قد ماتت.


 

 

مَدْخَل

خُطْبَةِ فَاطِمَة الزهْرَاء (عليها السلام)

مأساة فدك والعوالي:

أحسن كلام نفتتح به هذا البحث، وأصدق حديث نبدأ به في هذا الموضوع هو كلام الله تعالى، ومَن أصدق من الله قيلاً؟ ومَن أصدق من الله حديثاً؟

قال تعالى: (فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

هذه الآية كما تراها خطاب من الله عز وجل إلى حبيبه محمد (صلى الله عليه وآله) يأمره أن يؤتي ذا القربى حقه، فمن ذو القربى؟ وما هو حقه؟

لقد ذكرنا - في آية القربى أو آية المودة - أن المقصود من القربى هم أقرباء الرسول وهم عليّ وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) فيكون المعنى: وأعطِ ذوي قرباك حقوقهم.

روى عن أبي سعيد الخدري وغيره أنه لما نزلت هذه الآية على النبي (صلى الله عليه وآله) أعطى فاطمة فدكاً وسلّمه إليها، وهو المروي عن الإمام الباقر والإمام الصادق (عليهما السلام) وهو المشهور بين جميع علماء الشيعة.

وقد ذكر ذلك من علماء السنة عدد كثير بطرق عديدة، فمنها:

صرَّح في (كنز العمال) وفي مختصره المطبوع في الهامش من كتاب (المسند) لأحمد بن حنبل في مسألة صلة الرحم من كتاب (الأخلاق) عن أبي سعيد الخدري قال: لما نزلت: (وآت ذا القربى حقه) قال النبي (صلى الله عليه وآله): يا فاطمة لك فدك.

قال: رواه الحاكم في تاريخه وفي ص177 من الجزء الرابع من تفسير (الدر المنثور) للسيوطي أنه أخرج البزار وأبو يعلي وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: لما نزلت هذه الآية: (وآت ذا القربى حقه) أقطع رسول الله (صلى الله عليه وآله) فاطمة فدكاً.

قال ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح النهج: وقد روى من طرق مختلفة غير طريق أبي سعيد الذي ذكره صاحب الكتاب: أنه لما نزل قوله تعالى: (وآت ذا القربى حقه) دعا النبي (صلى الله عليه وآله) فاطمة فأعطاها فدك.

فما هي فدك؟

التحدث عن فدك يشمل الموارد الآتية:

ما هي فدك؟

2 - هل كانت فدك لرسول الله (صلى الله عليه وآله) خاصة أم للمسلمين عامة؟

3 - هل دفع الرسول فدكاً إلى ابنته فاطمة الزهراء نحلة وعطية في حياته أم لا؟

4 - هل يورّث رسول الله (صلى الله عليه وآله) أم لا؟

5 - هل كانت السيدة فاطمة الزهراء تتصرف في فدك في حياة أبيها الرسول أم لا؟

أما الأول: فقد ذكر اللغويون أقوالهم في فدك:

في القاموس: فدك قرية بخيبر. وفي المصباح: فدك - بفتحتين - بلدة بينها وبين مدينة النبي (صلى الله عليه وآله) يومان، وبينها وبين خيبر دون مرحلة وهي مما أفاء الله على رسوله (صلى الله عليه وآله).

وفي معجم البلدان للحموي، باب الفاء والدال: فدك: بالتحريك، وآخره كاف قرية بالحجاز، بينها وبين المدينة يومان، وقبل ثلاثة، أفاءها الله على رسوله (صلى الله عليه وآله) في سنة سبع صلحاً، وذلك أن النبي (صلى الله عليه وآله) لما نزل خيبر وفتح حصونها ولم يبق إلا ثلاث، واشتد بهم الحصار أرسلوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) يسألونه أن ينزلهم على الجلاء، وفعل، وبلغ ذلك أهل فدك فأرسلوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يصالحهم على النصف من ثمارهم وأموالهم، فأجابهم إلى ذلك فهو مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فكانت خالصة لرسول الله (صلى الله عليه وآله).

الثاني: وأما كيف صارت فدك خالصة لرسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ فقد قال تعالى: (وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلّط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل)[132] أفاء الله أي ردّ الله ما كان للمشركين على رسوله بتمليك الله إياه منهم أي من اليهود الذين أجلاهم (فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب) أوجف خيله أي أزعجه في السير، والركاب هنا - الإبل، والمعنى ما استوليتم على تلك الأموال بخيولكم أي ما ركبتم خيولكم وإبلكم لأجل الاستيلاء عليها (ولكن الله يسلّط رسله على من يشاء) أي يمكّن الله رسله من عدوهم من غير قتال، بأن يقذف الرعب في قلوبهم، فجعل الله أموال بني النضير لرسوله خالصة يفعل بها ما يشاء، وليست من قبيل الغنائم التي توزّع على المقاتلين.

(ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى) أي من أموال كفار أهل القرى (فلله) (وللرسول) أي جعل تلك الأموال ملكاً لرسوله (ولذي القربى) يعني قرابة النبي (واليتامى والمساكين وابن السبيل) من القربى.

روى الطبرسي عن ابن عباس قال: نزل قوله: (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى..) في أموال كفار أهل القرى، وهم قريظة وبني النضير وهما بالمدينة وفدك وهي في المدينة على ثلاثة أميال، وخيبر وقرى عرينة وينبع جعلها الله لرسوله، يحكم فيها ما أراد، وأخبر أنها كلها له، فقال أناس: فهلاّ قسَّمها؟ فنزلت الآية.

وقد مر عليك كلام الحموي في معجم البلدان حول فدك أنها مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فكانت خالصة لرسول الله (صلى الله عليه وآله).

الثالث: وقد مرّ عليك ما ذكره المحدثون في تفسير قوله تعالى: (وآت ذا القربى حقه) إن النبي (صلى الله عليه وآله) أعطى فاطماً فدكاً.

وهاك مزيداً من الأدلة حول الموضوع تأكيداً لهذا البحث:

ذكر ابن حجر في الصواعق المحرقة، والشيخ السمهودي في تاريخ المدينة أن عمر قال: إني أحدثكم عن هذا الأمر: إن الله خصَّ نبيّه في هذا الفيء بشيء لم يعطه أحداً غيره فقال: (ما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلّط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير)، فكانت هذه خالصة لرسول الله.. الخ.

الرابع: إذن فالمستفاد من مجموع الآيات والروايات أن فدك كانت لرسول الله (صلى الله عليه وآله) خالصة، وأن النبي (صلى الله عليه وآله) أعطى فاطمة فدكاً بعنوان النحلة والعطية بأمر الله تعالى حيث أمره بقوله: (وآت ذا القربى حقه).

الخامس: يستفاد من تصريحات المؤرخين والمحدّثين أنَّ السيدة فاطمة الزهراء كانت تتصرف في فدك، وأنَّ فدك كانت في يدها.

فمنها تصريح الإمام أمير المؤمنين بن أبي طالب (عليه السلام) في الكتاب الذي أرسله إلى عثمان بن حُنيف وهو عامله على البصرة فإنه ذكر فيه.. بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلّته السماء، فشحّت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين، ونعم الحَكَم الله .. الخ[133].

وذكر ابن حجر في (الصواعق المحرقة) في الباب الثاني: إن أبا بكر انتزع من فاطمة فدك.. الخ.

ومعنى كلام ابن حجر أن فدك كانت في يد الزهراء (عليها السلام) من عهد أبيها الرسول فانتزعها أبو بكر منها.

وقد روى العلامة المجلسي عن كتاب (الخرائج): فلما دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله) المدينة (بعد استيلائه على فدك) دخل على فاطمة (عليها السلام) فقال: يا بنية إن الله قد أفاء أبيك على أبيك بفدك، واختصَّه بها، فهي له خاصة دون المسلمين، أفعل بها ما أشاء، وإنه قد كان لأُمّك خديجة على أبيك مهر، وإن أباك قد جعلها لك بذلك، وأنكحها لك ولولدك بعدك قال: فدعا بأديم ودعا بعلي بن أبي طالب فقال: أكتب لفاطمة بفدك نِحلة من رسول الله. فشهد على ذلك علي بن أبي طالب ومولىً لرسول الله وأم أيمن.

ولما توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله) واستولى أبو بكر على منصة الحكم ومضت عشرة أيام. واستقام له الأمر بعث إلى فدك مَن أخرج وكيل فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله).

كانت فدك للسيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) من ثلاثة وجوه: الوجه الأول: أنها كانت ذات اليد، أي كانت متصرفة في فدك، فلا يجوز انتزاع فدك من يدها إلا بالدليل والبيّنة. كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) (البيّنة على المدعي، واليمين على من أنكر) وما كان على السيدة فاطمة أن تقيم البيّنة لأنها ذات اليد.

الوجه الثاني: أنها كانت تملك فدك بالنحلة والعطيّة والهبة من أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله).

الوجه الثالث: أنها كانت تستحق فدك بالإرث من أبيها الرسول ولكن القوم خالفوا هذه الوجوه الثلاثة، فقد طالبوها بالبينة، وطالبوها بالشهود على النحلة، وأنكروا وراثة الأنبياء.

وبإمكان السيدة فاطمة أن تطالب بحقها بكل وجه من هذه الوجوه.

ولهذا طالبت بفدك عن طريق النحلة أوّلاً، ثم طالبت بها عن طريق الإرث ثانياً كما صرّح بذلك الحلبي في سيرته ج 3 ص39 قال: إن فاطمة أتت أبا بكى بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقالت: إن فدك نحلة أبي، أعطانيها حال حياته. وأنكر عليها أبو بكر وقال: أُريد بذلك شهوداً فشهد لها علي، فطلب شاهداً آخر فشهدت لها أُم أيمن فقال لها: أبِرَجُلٍ وامرأة تستحقينها؟؟

وذكر الطبرسي في الاحتجاج: فجاءت فاطمة (عليها السلام) إلى أبي بكر ثم قالت: لِمَ تمنعني ميراثي من أبي رسول الله؟ وأخرجت وكيلي من فدك وقد جعلها لي رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأمر الله تعالى؟

فقال: هاتي على ذلك بشهود فجاءت أُم أيمن فقالت: لا أشهد يا أبا بكر حتى أحتج عليك بما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنشدك بالله ألست تعلم أن رسول الله قال: أم أيمن امرأة من أهل الجنة؟ فقال: بلى. قالت: فاشهد أن الله عز وجل أوحى إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) (وآت ذا القربى حقه..). فجعل فدك لها طعمة بأمر الله تعالى. فجاء عليّ (عليه السلام) فشهد بمثل ذلك، فكتب لها كتاباً ودفعه إليها فدخل عمر فقال: ما هذا الكتاب؟ فقال: إن فاطمة ادَّعت في فدك وشهدت لها أُم أيمن وعليّ، فكتبته لها. فأخذ عمر الكتاب من فاطمة، فتفل فيه فمزَّقه، فخرجت فاطمة (عليها السلام) تبكي.

وفي سيرة الحلبي ج3 ص39 أن عمر أخذ الكتاب فشقّه.

نعود إلى ما ذكره الطبرسي قال: فلما كان بعد ذلك جاء عليّ (عليه السلام) إلى أبي بكر وهو في المسجد وحوله المهاجرون والأنصار فقال: يا أبا بكر لِمَ منعت فاطمة ميراثها من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد مَلَكته في حياة رسول الله؟؟ فقال أبو بكر: هذا فيء للمسلمين، فإن أقامت شهوداً أن رسول الله جعله لها وإلا فلا حق لها فيها فيه! فقال عليّ: يا أبا بكر تحكم بيننا بخلاف حكم الله في المسلمين؟ قال: لا. قال: فإن كان في يد المسلمين شيء يملكونه فادَّعيت أنا فيه مَن تسأل البينة؟ قال: إياك أسأل، قال: فما بال فاطمة سألتها البينة على ما في يديها، وقد مَلَكته في حياة رسول الله وبعده، ولم تسأل المسلمين البينة على ما ادَّعوها شهوداً كما سألتني على ما ادَّعيت عليهم؟؟

فسكت أبو بكر فقال: يا علي دعنا من كلامك، فإنّا لا نقوى على حجتك، فإن أتيت بشهود عدول، وإلاّ فهي فيء للمسلمين، لا حقَّ لك ولا لفاطمة فيه!!.

فقال عليّ (عليه السلام): يا أبا بكر تقرأ كتاب الله؟ قال: نعم. قال: أخبرني عن قول الله عزّ وجلّ (إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيرا). فيمن نزلت؟ فينا أو في غيرنا؟ قال: بل فيكم! قال: فلو أن شهوداً شهدوا على فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) بفاحشة ما كنت صانعاً بها؟ قال: كنت أُقيم عليها الحد كما أُقيم على نساء المسلمين!!! قال عليّ: كنت إذن عند الله من الكافرين! قال: ولِمَ ؟ قال: لأنك رددت شهادة الله بالطهارة وقبلت شهادة الناس عليها، كما رددت حكم الله وحكم رسوله أن جعل لها فدك وزعمت أنها فيء للمسلمين وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): البينة على المدعي، واليمين على من ادُّعي عليه.

قال: فدمدم الناس، وأنكر بعضهم بعضاً، وقالوا: صدق - والله - عليّ.

وقد روى العلامة في كشكوله عن المفضَّل بن عمر عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) رواية لا تخلو من فائدة نذكرها بصورة موجزة قال:

لما قام أبو بكر بن أبي قحافة بالأمر نادى مناديه: من كان له عند رسول الله دين أو عدة فليأتني حتى أقضيه.

وجاء جابر بن عبد الله وجرير بن عبد الله البجلي، وادَّعى كلٌّ منهما على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأنجز أبو بكر لهما.

فجاءت فاطمة إلى أبي بكر تطالب بفدك والخمس والفيء فقال: هاتي بينة يا بنت رسول الله، فاحتجت فاطمة (عليها السلام) بالآيات وقالت: قد صدّقتم جابراً بن عبد الله وجرير بن عبد الله البجلي ولم تسألوهما البيّنة وبَيّنتي في كتاب الله، وأخيراً طالبوها بالشهود، فبعثت إلى عليّ والحسن والحسين وأُم أيمن وأسماء بنت عميس وكانت تحت أبي بكر (أي زوجة أبي بكر) وشهدوا لها بجميع ما قالت. فقالوا: أما علي فزوجها، وأما الحسن والحسين فابناها وأما أُم أيمن فمولاتها، وأما أسماء بنت عميس فقد كانت تحت جعفر بن أبي طالب فهي تشهد لبني هاشم، وقد كانت تخدم فاطمة وكل هؤلاء يجرّون إلى أنفسهم.

فقال عليّ: أما فاطمة فبضعة من رسول الله ومَن آذاها فقد آذى رسول الله، ومن كذَّبها فقد كذَّب رسول الله.

وأما الحسن والحسين فابنا رسول الله وسيدا شباب أهل الجنة، من كذَّبهما فقد كذّب رسول الله، إذ كان أهل الجنة صادقين.

وأما أنا فقد قال رسول الله: أنت مني وأنا منك، وأنت أخي في الدنيا والآخرة، والراد عليك هو الراد عليَّ من أطاعك فقد أطاعني ومن عصاك فقد عصاني.

وأما أُم أيمن فقد شهد لها رسول الله بالجنة، ودعا لأسماء بنت عميس وذريتها.

فقال عمر: أنتم كما وصفتم به أنفسكم، ولكن شهادة الجارّ إلى نفسه لا تقبل فقال عليّ: إذا كنا نحن كما تعرفون ولا تنكرون وشهادتنا لأنفسنا لا تقبل وشهادة رسول الله لا تقبل فإنا لله وإنا إليه راجعون، إذا ادَّعينا لأنفسنا تسألنا البيّنة فما من معين يعين، وقد وثبتم على سلطان الله وسلطان رسوله فأخرجتموه من بيته إلى بيت غيره من غير بينة ولا حجة، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.‍

ثم قال لفاطمة: انصرفي حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين.

ولما رأت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) أن القوم أبطلوا شهودها الذين شهدوا لها بالنحلة ولم تنجح مساعيها، جاءت تطالب حقها عن طريق الإرث، واتخذت التدابير اللازمة لتقوم بأكبر حملة دعائية واسعة النطاق وهي تعلم أن السلطة لا يخضعون للدليل الواضح والبرهان القاطع، فقد قال الشاعر: وآية السيف تمحو آية القلم.

وكل قوم تحكم فيهم الدكتاتورية فإن المنطق فاشل ولا يجدي فائدة.

وعلى كل فللسيدة فاطمة هدف آخر، وهو يتحقق قطعاً، وهدفها تسجيل مظلوميتها في سجل التاريخ، وكشف الغطاء عن أعمال القوم ونواياهم، فقررت أن تذهب إلى المسجد وتخطب خطبة تتحقق بها أهدافها الحكيمة.

وقبل أن نذكر الخطبة لا بأس بذكر رواة الخطبة ومصادرها من كتب الفريقين الشيعة والسنة لنعلم مدى أهمية هذه الخطبة لدى أهل البيت باعتبارها وثيقة تاريخية تثبت مظلومية أهل البيت، ومدى الاضطهاد والعنف والكبت الذي قام به بعض الأفراد تجاه أُسرة الرسول (صلى الله عليه وآله) ولا ندّعي أننا استوعبنا جميع المصادر، بل ذكرنا ما عثرنا عليه من الوثائق التاريخية.

1 - السيد المرتضى علم الهدى المتوفي 436 في كتاب (الشافي) يروي هذه الخطبة بإسناده عن عروة عن عائشة.

2 - السيد ابن طاووس في كتاب (الطرائف) بإسناده عن الزهري عن عائشة.

3 - الشيخ الصدوق بإسناده عن زينب بنت عليّ (عليه السلام).

4 - ويروي بطريق آخر بإسناده عن زيد بن علي الشهيد عن عمته زينت بنت عليّ عن أُمها فاطمة الزهراء (عليها السلام).

5 - وهكذا يروي بإسناده عن أحمد بن محمد بن جابر عن زينب بنت عليّ (عليها السلام).

6 - ابن أبي الحديد في شرحه على نهج البلاغة يروي عن كتاب (السقيفة) تأليف أحمد بن عبد العزيز الجوهري بأربعة طرق.

بإسناده عن رجال من أهل البيت عن زينب بنت عليّ (عليها السلام).

(ب) بإسناده عن الإمام الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام).

(ج) بإسناده عن الإمام الباقر بن عليّ (عليهما السلام).

(د) بإسناده عن عبد الله بن الحسن (عليهما السلام).

7 - عليّ بن عيسى الأربلي في كتابه (كشف الغمة) يروي عن كتاب (السقيفة) للجوهري.

8 - المسعودي في (مروج الذهب) يشير إلى هذه الخطبة.

9 - الطبرسي في كتاب (الاحتجاج).

10 - أحمد بن أبي طاهر في كتاب (بلاغات النساء).

إلى غير هؤلاء ممن يطول الكلام بذكرهم، وإسناد هذه الخطبة إلى السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) من الأمور المسلّمة عند أهل العلم من المؤرخين وغيرهم.

ونقل ابن أبي الحديد في شرحه على نهج البلاغة عن السيد المرتضى أنه قال: وأخبرنا أبو عبد الله المرزباني عن علي بن هارون عن عبيد الله بن أحمد عن أبيه قال ذكرت لأبي الحسين زيد (الشهيد) بن عليّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) كلام فاطمة عند منع أبي بكر إياها فدك وقلت له: إن هؤلاء يزعمون أنه مصنوع وأنه من كلام أبي العيناء، لأن الكلام منسوق البلاغة.

فقال لي: رأيت مشايخ آل أبي طالب يروونه عن آبائهم ويعلّمونه أولادهم، وقد حدثني أبي عن جدي يبلغ بها فاطمة على هذه الحكاية، وقد رواه مشايخ الشيعة وتدارسوه قبل أن يوجد جدُّ أبي العيناء.

وقد حدّث الحسين بن علوان عن عطية العوفي أنه سمع عبد الله بن الحسن بن الحسين يذكر عن أبيه هذا الكلام ثم قال أبو الحسين زيد: وكيف ينكرون هذا من كلام فاطمة وهم يروون من كلام عائشة عند موت أبيها ما هو أعجب من كلام فاطمة ويحققونه؟ ولولا عداوتهم لنا أهل البيت!!.

هذا بعض ما ظفرنا به من المصادر لخطبة سيدة النساء، ولعل غيرنا من الباحثين يجدون المزيد من المصادر لهذه الخطبة.

بقيت هنا كلمة نذكرها كجملة معترضة، ثم ننتقل إلى الخطبة وشرحها بإذن الله.


 

 

السر في مُطَالَبَةِ فَاطِمَة الزهْراء (عليها السلام) بفَدك

من الممكن أن يقال: أن السيدة فاطمة الزهراء الزاهدة عن الدنيا وزخارفها، والتي كانت بمعزل عن الدنيا ومغريات الحياة ما الذي دعاها إلى هذه النهضة وإلى هذا السعي المتواصل والجهود المستمرة في طلب حقوقها؟

وما سبب هذا الإصرار والمتابعة بطلب فدك والاهتمام بتلك الأراضي والنخيل مع ما كانت تتمتع به السيدة فاطمة من علوِّ النفس وسمو المقام؟

وما الداعي إلى طلب الدنيا التي كانت أزهد عندهم من عفطة عنز وأحقر من عظم خنزير في فم مجذوم، وأهون من جناح بعوضة؟

وما الدافع بسيدة نساء العالمين أن تتكلّف هذا التكليف، وتتجشّم هذه الصعوبات المجهدة للمطالبة بأراضيها وهي تعلم أن مساعيها تبوء بالفشل وأنها لا تستطيع التغلب على الموقف، ولا تتمكن من انتزاع تلك الأراضي من المغتصبين؟؟

هذه تصورات يمكن أن تتبادر إلى الأذهان حول الموضوع.

أولاً: إن السلطة حينما صادرت أموال السيدة فاطمة الزهراء وجعلتها في ميزانية الدولة (بالاصطلاح الحديث) كان هدفهم تضعيف جانب أهل البيت، أَرادوا أن يحاربوا علياً محاربة اقتصادية، أرادوا أن يكون عليّ فقيراً حتى لا يلتف الناس حوله، ولا يكون له شأن على الصعيد الاقتصادي، وهذه سياسة أراد المنافقون تنفيذها في حق رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين قالوا: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضُّوا من حوله.

ثانيا: لم تكن أراضي فدك قليلة الإنتاج، ضئيلة الغلات بل كان لها وارد كثير يعبأ به، بل ذكر ابن أبي الحديد أن نخيلها كانت مثل نخيل الكوفة في زمان ابن أبي الحديد.

وذكر الشيخ المجلسي عن كشف المحجة أن وارد فدك كان أربعة وعشرين ألف دينار في كل سنة، وفي رواية أُخرى سبعين ألف دينار ولعل هذا الاختلاف في واردها حسب اختلافهم السنين.

وعلى كل تقدير فهذه ثروة طائلة واسعة، لا يصح التغاضي عنها.

ثالثاً: إنها كانت تطالب (من وراء المطالبة بفدك) بالخلافة والسلطة لزوجها علي بن أبي طالب، تلك السلطة العامة والولاية الكبرى التي كانت لأبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله).

فقد ذكر ابن أبي الحديد في شرحه قال: سألت عليّ بن الفارقي، مدرّس المدرسة الغربية ببغداد فقلت له: أكانت فاطمة صادقة؟ قال: نعم، قلت: فلم لم يدفع إليها أبو بكر فدك وهي عنده صادقة؟ فتبسم، ثم قال كلاماً لطيفاً مستحسناً مع ناموسه وحرمته وقلة دعابته قال: لو أعطاها اليوم فدك، بمجرد دعواها لجاءت إليه غداً وادّعت لزوجها الخلافة وزحزحته عن مقامه، ولم يكن يمكنه الاعتذار، والموافقة بشيء، لأنه يكون قد سجل على نفسه بأنها صادقة فيما تدّعي، كائناً ما كان من غير حاجة إلى بينة وشهود.

رابعاً: الحق يُطلب ولا يُعطى، فلا بد للإنسان المغصوب منه ماله أن يطالب بحقه، لأنه حقه، حتى وإن كان مستغنياً عن ذلك المال وزاهداً فيه، وذلك لا ينافي الزهد وترك الدنيا، ولا ينبغي السكوت عن الحق.

خامساً: إن الإنسان وإن كان زاهداً في الدنيا راغباً في الآخرة فإنه مع ذلك يحتاج إلى المال ليصلح به شأنه، ويحفظ به ماء وجهه ويصل به رحمه، ويصرفه في سبيل الله كما تقتضيه الحكمة.

أما ترى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو أزهد الزهاد كيف انتفع بأموال خديجة في سبيل تقوية الإسلام؟ كما مرَّ كلامه (صلى الله عليه وآله) حول أموال خديجة في ص39 .

سادساً: قد تقتضي الحكمة أن يطالب الإنسان بحقه المغصوب، فإن الأمر لا يخلو من أحد وجهين:

إما أن يفوز الإنسان ويظفر بما يريد وهو المطلوب وبه يتحقق هدفه من المطالبة.

وإما أن لا يفوز في مطالبته فلن يظفر بالمال، فهو إذ ذاك قد أبدى ظلامته، وأعلن للناس أنه مظلوم، وأن أمواله غصبت منه.

هذا وخاصة إذا كان الغاصب ممن يدّعي الصلاح والفلاح، ويتظاهر بالديانة والتقوى، فإن المظلوم يعرّفه للأجيال أنه غير صادق فيما يدَّعي.

سابعاً: إن حملة المبادئ يتشبثون بشتى الوسائل الصحيحة لجلب القلوب إليهم، فهناك من يجلب القلوب بالمال أو بالأخلاق أو بالوعود وأشباه ذلك.

ولكن أفضل الوسائل لجلب القلوب (قلوب كافة الطبقات) هو التظلّم وإظهار المظلومية فإن القلوب تعطف على المظلوم كائناً من كان، وتشمئز من الظالم كائناً من كان.

وهذه خطة ناجحة وناجعة لتحقيق أهداف حملة المبادئ الذين يريدون إيجاد الوعي في النفوس عن طريق جلب القلوب إليهم.

وهناك أسباب ودواع أُخرى لا مجال لذكرها.

لهذه الأسباب قامت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) وتوجهت نحو مسجد أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأجل المطالبة بحقها.

إنها لم تذهب إلى دار أبي بكر ليقع الحوار بينها وبينه فقط، بل اختارت المكان الأنسب وهو المركز الإسلامي يومذاك، ومجمع المسلمين حينذاك، وهو مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله).

كما وأنها اختارت الزمان المناسب أيضاً ليكون المسجد غاصّاً بالناس على اختلاف طبقاتهم من المهاجرين والأنصار ولم تخرج وحدها إلى المسجد، بل خرجت في جماعة من النساء، وكأنها في مسيرة نسائية، وقبل ذلك تقرر اختيار موضع من المسجد لجلوس بضعة رسول الله وحبيبته، وعلّقوا ستراً لتجلس السيدة فاطمة خلف الستر، إذ هي فخر المخدرات وسيدة المحجبات.

كانت هذه النقاط مهمة جداً، واستعد أبو بكر لاستماع احتجاج سيدة نساء العالمين، وابنة أفصح من نطق بالضاد وأعلم امرأة في العالم كله.

خطبت السيدة فاطمة الزهراء خطبة ارتجالية، منظمة، منسقّة، بعيدة عن الاضطراب في الكلام، ومنزّهة عن المغالطة والمراوغة، والتهريج والتشنيع.

بل وعن كل ما لا يلائم عظمتها وشخصيتها الفذَّة، ومكانتها السامية.

وتُعتبر هذه الخطبة معجزة خالدة للسيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) وآية باهرة تدل على جانب عظيم من الثقافة الدينية التي كانت تتمتع بها الصدّيقة فاطمة الزهراء.

وأما الفصاحة والبلاغة، وحلاوة البيان، وعذوبة المنطق، وقوة الحجة، ومتانة الدليل، وتنسيق الكلام، وإيراد أنواع الاستعارة بالكناية، وعلو المستوى، والتركيز على الهدف، وتنوّع البحث، فالقلم وحده لا يستطيع استيعاب الوصف، بل لا بدَّ من الاستعانة بذهن القارئ.

كانت السيدة فاطمة مسلّحة بسلاح الحجة الواضحة والبرهان القاطع، والدليل القوي المقنع وكان المسلمون الحاضرون في المسجد ينتظرون كلامها، ويتلهّفون إلى نتيجة ذلك الحوار والاحتجاج الذي لم يسبق له مثيل إلى ذلك اليوم.

جلست السيدة في المكان المعدّ لها خلف الستر، ولعل دخولها يومذاك كان لأول مرة بعد وفاة أبيها الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله).

فلا عجب إذا هاجت بها الأحزان، وأنَّت أنَّة.

إنني أعجز عن التعبير عن تحليل تلك الأنَّة، ومدى تأثيرها في النفوس.

أنَّة واحدة فقط - بلا كلام- تهيّج عواطف الناس، فيجهش القوم بالبكاء.

أنا ما أدري ما كانت تحمل تلك الأنّة من المعاني؟

ولماذا أجهش الناس بالبكاء؟

وهل الأنَّة الواحدة تُبكي العيون، وتُجري الدموع وتُحرق القلوب؟

هذه ألغازٌ لا أعرف حلَّها، ولعل غيري يستطيع حلّ هذه الألغاز!!!.

 

رؤوس نُقَاط الخطْبَة

اختارت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) لخطبتها هذا الأُسلوب للبداية والنهاية إنها لم تكتف بالتركيز على مطالبة حقها فقط، بل انتهزت الفرصة لتفجر للمسلمين عيون المعارف الإلهية، وتكشف لهم محاسن الدين الإسلامي، وتبيِّن لهم علل الشرائع والأحكام وضمناً تهيئ الجو لكلامها المقصود وهدفها المطلوب.

وهذه رؤوس أقلام الخطبة ومواضيعها:

الحمد والثناء على الله.

التوحيد الاستدلالي.

النبوة.

التحدث عن العهد الجاهلي.

إنجازات الرسول.

توجيه الخطاب إلى الحاضرين.

التحدث عن القرآن.

بيان علل الشرائع وفلسفة الإسلام.

الدخول في صميم الموضوع.

حوادث فترة الرسالة.

موقف زوجها العظيم من تلك الأحداث.

بيان انقلاب الحكم ضد آل الرسول.

بيان تخاذل المسلمين تجاه أهل البيت

توجيه الخطاب إلى رئيس الدولة حول الإرث.

إقامة الأدلة والبراهين.

توجيه العتاب إلى الأنصار وتوبيخهم.

جواب رئيس الدولة.

تزييف كلامه وتفنيد مغالطاته.

اعتذار رئيس الدولة.

توجيه الخطاب إلى الحاضرين، شكوى إلى رسول الله.

 


 

 

خطبتها في المسجد

روى عبد الله بن الحسن بإسناده عن آبائه، أنه لما أجمع أبو بكر على منع فاطمة فدك، وبلغها ذلك.

لاثت خمارها على رأسها[134].

واشتملت بجلبابها.

وأقبلت في لمةٍ من حفدتها ونساء قومها[135].

تطأُ ذيولها[136].

ما تخرم مشيتها مشية رسول الله (صلى الله عليه وآله)[137].

حتى دخلت على أبي بكر.

وهو في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم[138].

فنيطت دونها ملاءة[139].

فجلست ثم أنَّت أنَّةً أجهش القوم بالبكاء فارتجَّ المجلس

ثم أمهلت هنيئة، حتى إذا سكن نشيج القوم وهدأت فورتهم[140].

افتتحت الكلام بحمد الله والثناء عليه، والصلاة على رسوله، فعاد القوم في بكائهم، فلما أمسكوا عادت في كلامها.

فقالت (عليها السلام):

الحمد لله على ما أنعم.

وله الشكر على ما ألهمْ

والثناء بما قدّم.

من عموم نعمٍ ابتداها.

وسبوغ آلاءٍ أسداها[141].

وتمام مننٍ والاها.

جمَّ عن الإحصاء عددُها[142].

ونأى عن الجزاء أمدها[143].

وتفاوت عن الإدراك أبدها.

وندبهم لاستزادتها بالشكر لاتصالها[144].

واستحمد إلى الخلائق بإجزالها.

وثنّى بالندب إلى أمثالها[145].

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.

كلمةٌ جعل الإخلاص تأويلها.

وضمَّن القلوب موصولها[146].

وأنار في التفكير معقولها.

الممتنع من الأبصار رؤيته.

ومن الألسن صفته.

ومن الأوهام كيفيته.

ابتدع الأشياء لا من شيء كان قبلها[147].

وأنشأها بلا احتذاء أمثلة امتثلها[148].

كوَّنها بقدرته، وذرأها بمشيئته[149].

من غير حاجة منه إلى تكوينها.

ولا فائدة في تصويرها.

إلا تثبيتاً لحكمته وتنبيهاً على طاعته.

وإظهاراً لقدرته، وتعبّداً لبريته.

وإعزازاً لدعوته.

ثم جعل الثواب على طاعته.

ووضع العقاب على معصيته.

ذيادة لعبادة من نقمته[150].

وحياشةً لهم إلى جنته[151].

وأشهد أن أبي محمداً عبده ورسوله.

اختاره وانتجبه قبل أن اجتبله[152].

واصطفاه قبل أن ابتعثه.

إذ الخلائق بالغيب مكنونة.

وبستر الأهاويل مصونة.

وبنهاية العدم مقرونة

علماً من الله تعالى بمآئل الأُمور[153].

وإحاطة بحوادث الدهور.

ومعرفة بمواقع المقدور.

ابتعثه الله إتماماً لأمره.

وعزيمةً على إمضاء حكمه.

وإنفاذاً لمقادير حتمه.

فرأى الأُمم فِرَقاً في أديانها.

عُكَّفاً على نيرانها.

وعابدة لأوثانها.

منكرة لله مع عرفانها.

فأنار الله بمحمد (صلى الله عليه وآله) ظُلمَها[154].

وكشف عن القلوب بُهمها[155].

وجلى عن الأبصار غُمَمها[156].

وقام في الناس بالهداية.

وأنقذهم من الغواية.

وبصَّرهم من العماية.

وهداهم إلى الدين القويم.

ودعاهم إلى الصراط المستقيم.

ثم قبضه الله إليه قبض رأفة واختيار.

ورغبةٍ وإيثار.

فمحمَّد (صلى الله عليه وآله) من تعب هذه الدار في راحة.

قد حفَّ بالملائكة الأبرار.

ورضوان الرب الغفَّار.

ومجاورة الملك الجبَّار.

صلى الله على أبي.

نبيّه، وأمينه على الوحي وصفيّه.

وخيرته من الخلق ورضيّه.

والسلام عليه ورحمة الله وبركاته.


 

 

شرح الخطبة

(الحمد لله على ما أنعم) إن شكر المنعم واجب شرعاً وعقلاً وعرفاً، يستحق الحمد على ما أنعم الظاهرية كالحياة والصحة ونحوها.

(وله الشكر على ما ألهم) من النعم الباطنية، كالعلم والمعرفة، والغرائز التي ألهم الإنسان وغير الإنسان إيّاها، فإن الإلهام إلقاء في القلب والنفس كالتلقين، وهو تعليم على وجه لا سبيل لأحد للوقوف عليه.

(والثناء بما قدّم) لله تعالى نعم قد أخّرها إلى الدار الآخرة، وهي الجنة ونعميها وغير ذلك ولله تعالى نعم قد قدّمها في هذه الدنيا، قدّمها على بقية النعم، وإليك بعض التفصيل:

(من عموم نعم ابتداها) النعم العامة التي ابتداها الله تعالى كالماء والهواء والتراب والنار وقبلها نعمة الإيجاد والخلق، والنعم الابتدائية كالجاذبية في الأرض، والمسافة المعينة المحدودة بين الأرض والقمر، وبين الأرض والشمس والغطاء الجوي المحيط بالكرة الأرضية المسمى بالطبقة النتروجينية، وغير ذلك ممّا علم به البشر وما لم يعلمه، ابتداها الله قبل أن يستحقها البشر.

(وسبوغ آلاء أسداها) الآلاء السابغة أي النعم الشاملة الكاملة التامة، وأسداها: أعطاها، كنعمة الأعضاء والجوارح والمشاعر والمدارك التي يشعر ويدرك بها الإنسان وغير الإنسان.

(وتمام منن والاها) المنن: جمع منّة. وهي النعمة والعطية والإحسان، وليس المقصود - هنا - المنّة بمعنى المنّ وهو عدّ الإحسان الذي نهى الله تعالى عنه بقوله: (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) وقال: (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذى) ووالاها من الموالاة وهي المتابعة في الإعطاء، أي نعمة بعد نعمة، فالنعم الإلهية متواصلة متواترة.

(وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كلمة جعل الإخلاص تأويلها) المقصود أن كلمة: (لا إله إلا الله) يعود معناها إلى الإخلاص، كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه) فقد قيل: إن المقصود من الإخلاص هو جعله خالصاً من النقائص كالجسم والعرض، وما شاكلهما من النقائص، وكمال الإخلاص له نفي الصفات، أي الصفات الزائدة على ذاته لأن كل موجود متصف بصفته، وصفته غير ذاته، فالإنسان غير العلم، والعلم غير الإنسان ولكن الله تعالى علمه عين ذاته، وبقية صفاته كلها عين ذاته، ولهذا الموضوع بحث مفصّل عند العلماء مذكور في الكتب الكلامية.

(وضمّن القلوب موصولها) أي إن الله تعالى ألزم القلوب المعنى الذي تصل إليه كلمة (لا إله إلا الله) وهو معنى التوحيد الفطري، أي جعل القلوب على هذه الفطرة، قال تعالى: (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) والفطرة: الملة، وهي الدين الإسلام والتوحيد، وهي التي خلق الناس عليها ولها وبها، ومعنى ذلك أن الله تعالى خلقهم وركّبهم وصوّرهم على وجه يدل على أن لهم صانعاً قادراً عالماً حياً قديماً واحداً، لا يشبه شيئاً، ولا يشبهه شيء.

(وأنا في الفكر معقولها) أي بسبب التفكير والتعقل أوضح الله المعنى الذي يوصل إليه بعد التدبر والتعمّق، أي معنى كلمة التوحيد، والمقصود منه التوحيد النظري، وقد مضى الكلام عن التوحيد الفطري، ومعنى التوحيد النظري: التفكّر في الدلائل والبيّنات، والنظر في الآيات في الآفاق وفي أنفسهم.

(الممتنع عن الأبصار رؤيته) حيث أن الله تعالى ليس بجسم، ولا جوهر ولا عرض، والعين لا تدرك ولا ترى إلا الأجسام والأعراض، وهي الأمور التي تعرض الجسم، كالألوان والطول والعرض وما شابه ذلك، وحيث أن الإدراك بالبصر إنما يتحقق بانعكاس صورة المرئي في عدسة العين، أو اتصال أشعة العين إلى ذلك الشيء المرئي، وحيث أن الله تعالى ليس بجسم فلا يمكن انعكاسه في العين، ولهذا من المستحيل أن تدركه العيون ولا يمكن لأي موجود أن يرى الله تعالى ويدركه بالعين، كما قال تعالى: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) وليس هذا الامتناع خاصاً بالرؤية، بل بجميع الحواس الظاهرة كالسامعة والشامة والذائقة واللامسة.

ومن المؤسف جداً أن بعض طوائف المسلمين يعتقدون أن الله تعالى جسم، ويصرّحون بهذا الاعتقاد الفاسد الساقط عبر الإذاعات، رافعين أصواتهم: إن الله ينزل إلى سماء الدنيا وهو راكب على حمار!!

وليس هذا ببعيد من طائفةٍ أصول دينهم وفروعه محمول على أكتاف رجل يصفونه بالكذب والتزوير والتلاعب، واختلاق الروايات وإسنادها إلى رسول الله وغيره، ويكتبون أن عمر بن الخطاب ضربه بالدرّة ومنعه عن الحديث لكثرة الأكاذيب التي كان يختلقها ويصوغها في بوتقة الدجل والتزوير.

وسمعت أيضاً من بعض مدّعي العلم - عبر الإذاعة -: أن الرسول رأى ربه ليلة المعراج رؤية عين.

يا للكفر، يا للإلحاد، يا للزندقة، يا للجهل.

القرآن يقول: لا تدركه الأبصار، والجهال يقولون: تدركه الأبصار، يتركون كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ويخأذون بقول مخلوق إن لم نقل إنه كذاب فهو جاهل يخطئ ويصيب.

وإذا كان بعض المسلمين يجهلون أو ينحرفون عن التوحيد الذي هو أصل الدين فكيف بالنبوة والإمامة والمعاد؟ وكيف بفروع الدين والأحكام الفقهية والأمور الدينية والقضايا الشرعية؟

(ومن الألسن صفته) أي لا يمكن وصف الله تعالى كما لا يمكن رؤيته، وكيف يستطيع الإنسان أن يصف شيئاً لم يره، ولم يحط به إحاطة، كما قال علي (عليه السلام): (ليس لصفته حد محدود، ولا نعت موجود) لأنه صفائه عين ذاته، فكما إنه لا يمكن إدراك ذاته كذلك لا يمكن إدراك صفاته التي هي عين ذاته.

(ومن الأوهام كيفيته) إن الله تعالى جعل للإنسان قوى باطنية، وهي الحواس الخمس الباطنية، وهي الذاكرة والحافظة والواهمة والمفكرة والحس المشترك والواهمة هي القوة التي تدرك بها الأشياء الجزئية، كأن يتصوّر الإنسان امرأة جميلة، أو قصراً شاهقاً أو حديقة غنّاء، أو ما شابه، وكل ما تصوّره الإنسان أو توهمه فهو مخلوق، ولا يستطيع الإنسان أن يتصوّر الخالق تصوّراً صحيحاً حقيقياً، أي لا يستطيع أن يعلم كيف هو؟ وهو تعالى لا يكيّف بكيف؟ أي لا يمكن تصوّر الكيفية في ذاته.

(ابتدع الأشياء لا من شيء كان قبلها) أي خلق الله الكائنات لا من مادة، أي أوجدها وما كانت موجودة، ويقول الماديون: لا يمكن أن يوجد شيء إلا من مادة، والمادة أصل الأشياء.

فإذا سألتهم: وما المادة من أي شيء وجدت؟ وأين وجدت؟ ومن أوجدها؟ تراهم يسكتون ولا يحيرون جواباً، لأنهما إذا قالوا: إن المادة وجدت من غير مادة. قلنا لهم: فما المانع أو توجد الموجودات الأخرى من غير مادة؟ وإذا قالوا: إن المادة وجدت من مادة أخرى نسألهم: المادة الأخرى من أي شيء وجدت؟ وهكذا وهلمّ جراً.

فالاعتقاد بأن الله تعالى خلق الأشياء لا من شيء أفضل وأسلم من نظريات الماديين. (وأنشأها بلا احتذاء أمثلة امتثلها) أوجد الله تعالى الأشياء لا من مادة ولا من شيء بلا اقتداء بأحد في تصويرها، انظر إلى الاختراعات الحديثة إنما اقتدى مخترعوها بأشياء أخرى، صنعوا الطائرة حينما نظروا إلى الطيور وكيفية طيرانها، وكيف تلصق رجليها إلى بطنها وقت الطيران، وترسل رجليها حين الهبوط، وصنعوا الغواصة حينما نظروا إلى السمكة تغوص في الماء متى شاءت، وتطفو على الماء متى أرادت.

وهكذا التطورات في المصانع والمعامل كلها من احتذاء أمثالها، والاقتداء بأشباهها ولكن الله تعالى أوجد الكائنات بلا احتذاء ولا اقتداء ولا اتباع بموجودات أخرى مماثلة ومشابهة لتلك الكائنات.

(كوّنها بقدرته) أوجد الله تعالى الأشياء بقدرته الجامعة الكاملة، بدون مشاركة من أحد، بقدرته وقوته وتمكّنه على الإيجاد والتكوين، لا باستعمال الأدوات والآلات.

(وذرأها بمشيئته) أي خلقها بإرادته دون قوله: وحسب إرادته في الكيفية والصورة والشكل والهيئة والعدد، وبقية الخصوصيات، خلقها بمشيئته بلا إجبار، وبإرادته التي إذا أراد شيئاً يقول له كن فيكون.

(من غير حاجة منه إلى تكوينها) أي إن الله تعالى خلق الكائنات بلا حاجة منه إلى إيجادها وتكوينها مثل أن يستأنس بهم، أو يستعين بهم في الأمور، فله تعالى الكمال الكامل بجميع معنى الكلمة، ولا طريق للاحتياج إلى ذاته المقدسة.

(ولا فائدة له في تصويرها) أي لم تكن لله تعالى فائدة في إحداث تلك الصور والأشكال والهيئات، فإذا نفينا الحاجة والفائدة في التكوين والتصوير ينبغي أن نعلم السبب في ذلك، لأن الفعل بلا سبب لغو، وتعالى الله عن ذلك.

(إلا تثبيتاً لحكمته) وفي نسخة (تبييناً) وعلى كل تقدير، فالمعنى أن المقصود من الإنشاء والتكوين والإيجاد هو إظهار الحكمة الإلهية، وهو تعالى يعلم تلك الحكمة البالغة التي اقتضت إيجاد الكائنات، ولعل من تلك الحكمة إن الله تعالى خلق الكائنات لكي يعرف.

(وتنبيهاً على طاعته) أي خلق الخلائق كي ينبّههم على وجوب طاعته، والانقياد لأوامره، لقوله تعالى: (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) والإطاعة والعبادة إنما تحصل بعد المعرفة وما قيمة العبادة بغير معرفة؟ وما قيمة المعرفة بدون إطاعة وعبادة؟

(وإظهاراً لقدرته) قدرة الله تعالى كانت موجودة، وإنما أراد إظهار شيء من قدرته فخلق الجمادات والنباتات والحيوانات والإنسان، وأودع في كل واحد من هذه الموجودات آيات من القدرة، فخلق الكواكب والمجرّات، والأفلاك والسماوات، وخلق الكريات الحمر والبيض في الدم، وخلق الذرة وجعل لها قوائم، إلى غير ذلك ممّا يطول الكلام بذكره.

وملخص القول: إن كل موجود من الموجودات تتجلى وتظهر فيه قدرة الله على الإبداع.

(وتعبداً لبريته) خلق الله الموجودات كي ينقادوا لأوامره، وينزجروا عن نواهيه، والعبادة هي الانقياد والطاعة.

(وإعزازاً لدعوته) أي خلق الله الأشياء لتكون تقوية للبراهين والحجج التي يستدلّ بها الداعون إلى الله تعالى من الأنبياء وغيرهم.

(ثم جعل الثواب على طاعته) الإنسان لا يندفع نحو العمل إلا بدافعين: دافع الرغبة وهو الطمع لجلب الخير، ودافع الرهبة وهو الخوف من المكروه، فالتاجر يتجر طلباً للمنافع وخوفاً من الفقر، والطالب يتعلم ويدرس طلباً للثقافة أو التوظف، وهرباً من الجهل الذي يحول بينه وبني الصعود إلى مدارج الكمال.

والإنسان لا ينقاد ولا يطمع إلا طمعاً في الأجر والثواب، وخوفاً من العذاب والعقاب وانطلاقاً من هذه الحكمة جعل الله الثواب وهو الأجر مع التقدير والاحترام جزاء لطاعة والانقياد.

(ووضع العقاب على معصيته) أي جعل قانون العقوبة للعاصين، المخالفين لأوامره المتجاوزين لأحكامه، لماذا؟

(ذيادةً لعباده من نقمته) وضع الله تعالى قانون العقوبة لأجل ردع العباد ومنعهم عن ارتكاب الأعمال التي توجب نقمته أي عقوبته.

(وحياشةً لهم إلى جنته) أي جعل الثواب والعقاب لمنع العباد عن المعاصي، وسوقهم إلى طريق الجنة، أي الأعمال التي يستحق الإنسان بها الجنة، وقد مرّ معنى الحياشة في شرح الكلمات.

(وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) أقرّت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) بالشهادتين بعد أن شرحت كلامها شرحاً كافياً حول التوحيد، فانتقلت إلى ذكر النبوة وما يدور في هذا الفلك، فاعترفت لأبيها - أولاً - بالعبودية الكاملة أي الانقياد والخضوع لله تعالى، وهي درجة يبلغها الإنسان باختياره مع العلم أن النبوة مرتبة تحصل للنبي بغير سعي منه.

ثم اعترفت له بالرسالة، أي إنه نبي مرسل من عند الله تعالى إلى الخلائق بشريعة سماوية ومن المؤسف أن كلمة (الرسالة) صارت تستعمل - في زماننا - في كل مبدأ حق أو باطل، وفي كل فكرة صحيحة أو سقيمة.

(اختاره وانتجبه قبل أن أرسله) انتقاه الله من أهل العالم كما ينتقي أحدنا الفرد الكامل الممتاز من أفراد عديدة، فالفاكهة الواحدة نختارها من مئات أمثالها بعد أن نرى فيها المزايا المتوفرة المستجمعة فيها، المفقودة في غيرها، من حيث الحجم واللون والنضج والطعم والنوع وما شابه ذلك.

وهكذا اختار الله محمدا (صلّى الله عليه وآله) قبل أن يرسله، أي إن أهلية الرسول - واستحقاقه لهذا المنصب الخطير وهو النبوة - كانت ثابتة ومعلومة عند الله تعالى قبل أن ينزل الرسول إلى ساحة العمل والجهاد والدعوة إلى الله، وما كانت - هناك - حاجة للاختبار والامتحان حتى تظهر مواهبه واستعداده وتقبّله للمسؤولية، بل كان الله يعلم كفاءة الرسول لهذا العبء الثقيل.

(وسمّاه قبل أن اجتبله) أي سماه الله محمداً قبل أن يخلقه أو سمّاه (كالخطيبة) يقال في حقها: (سمّيت لفلان) أي تقرّر تزويجها من فلان، فالمعنى - ولا مناقشة في الأمثال - أن الله تعالى قد قرّر في سابق علمه أن يكون محمد (صلّى الله عليه وآله) رسول الله، أو سمّاه الله لأنبيائه قبل أن يخلقه.

(واصطفاه قبل أن ابتعثه) أي اختاره الله تعالى قبل أن يرسله نبيّاً.

(إذ الخلائق بالغيب مكنونة) إن الله تعالى اصطفى محمداً واختاره واجتبله في الوقت الذي كانت الخلائق وهم الناس غير موجودين، بل كانوا في الغيب مختفين مستورين، أي كانوا في علم غيب الله، وما كان لهم وجود في الخارج بحيث ما كان يمكن إدراكهم.

(وبستر الأهاويل مصونة) هذه الجملة تفسير لما قبلها، والأهاويل: جمع أهوال وهي جمع هول، وهو الخوف والأمر الشديد والمقصود: وحشة ظلمات الغيب.

(وبنهاية العدم مقرونة) نهاية الشيء حدوده وآخره، والمقصود أن الخلائق كانت بعيدة عن الوجود أي كانت معدومة.

(علماً من الله بمآئل الأمور) من ذلك الوقت اختار الله محمداً (صلّى الله عليه وآله) بسب علمه بعواقب الأمور وما ترجع إليه الأمور، كان الله يعلم عواقب البشر، وعواقب حالاتهم وشؤونهم، وعواقب رسالة النبي وبعثته، ومواهبه وكفاءته للرسالة بسبب اتصافه بالأخلاق الحميدة والصفات الجميلة، ولهذا اختاره للرسالة من ذلك الوقت.

وقد صرحت أحاديث كثيرة جداً مروية عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): أن أول ما خلق الله نور محمد (صلّى الله عليه وآله) وهكذا قوله (صلّى الله عليه وآله): إن الله خلق نوري ونور علي قبل أن يخلق آدم أو قبل أن يخلق السماوات والأرض باثنتي عشر ألف سنة أو أربعة وعشرين ألف سنة، وغيرها من الروايات الواردة في الكتب المعتبرة.

(وإحاطة بحوادث الأمور) وبسبب إدراكه تعالى جميع ما يدرك من الوقائع التي تحدث وتتجدد على مر الأعوام والقرون.

(ومعرفة بمواقع المقدور) وبسبب معرفته بأزمنة الأمور وأمكنتها التي قضاها، والمصالح التي رآها تعالى.

(ابتعثه الله إتماماً لأمره) بعث الله محمداً (صلّى الله عليه وآله) إتماماً للحكمة التي خلق الله الأشياء لأجلها، ولعل المقصود هو ختم النبوة برسول الله (صلّى الله عليه وآله).

(وعزيمة على إمضاء حكمه) وإرادة قوية أكيدة لإنفاذ حكمه وقضائه، وتقديره في خلقه.

(وإنفاذاً لمقادير حتمه) وإجراء لمقدوراته الواجبة التي لا يمكن إسقاطها، وهي المقادير المحتومة التي لا تتغير ولا تتبدل.

وهنا تتحدث السيدة فاطمة الزهراء عن الحياة الدينية والتفسّخ العقائدي في ذلك العهد:

(فرأى الأمم فرقاً في أديانها) رأى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أهل الأرض على أديان متفرقة، من يهود ونصارى ومجوس، وصابئة وملاحدة وزنادقة.

(عُكّفاً على نيرانها) ملازمة على عبادة النار، ومواظبة عليها، وهم المجوس الذين كانوا يقدّسون النار إلى حد العبادة، بل ويبنون بيوتاً للنار، ويحافظون على إبقائها كي لا تنطفئ.

(عابدة لأوثانها) جمع وثن وهم الصنم المصنوع من خشب أو حجارة أو غيرها من التماثيل في كنائسهم وبيعهم، ينحنون أمامها، ويركعون ويسجدون لها بقصد العبادة.

(منكرة لله مع عرفانها) جاحدة لله تعالى مع معرفتهم به تعالى كما قال عزّ وجلّ: (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها) والمقصود أنهم كانوا يعرفون الخالق والصانع بالفطرة والوجدان والعقل، إذ أنهم كانوا يعلمون أن كل مصنوع لابدّ له من صانع، ويعلمون أن الكائنات مخلوقة ولم يدّع أحد من المخلوقين أنه خلق الشمس والقمر والسماء والأرض، فلابدّ من الاعتقاد بوجود صانع لها.

(فأنار الله بمحمد (صلّى الله عليه وآله) ظلمها) أزال الله تعالى - بجهود الرسول وجهاده - تلك الظلمات، ظلمات تلك الأمم، ظلمات الكفر والشرك والجهل، أي إن الأدلة والبراهين التي احتج بها الرسول كانت كفيلة للقضاء على تلك النظريات التي تأسست عليها عبادة النيران والأوثان، وليس المقصود أن الرسول قضى على جميع الأديان الباطلة والعقائد الفاسدة بمعنى إزالتها عن الوجود، بل أثبت أن الإسلام هو الحق وغيره باطل.

(وكشف عن القلوب بهمها) كشف الله - بمحمد (صلّى الله عليه وآله) - عن القلوب مشكلاتها، والأمور المخفية المستورة عنها، كالاعتقاد بالتوحيد والحشر والنشر في القيامة، إذ كانت تلك الأمور من المشاكل الغامضة عندهم، ولكنها انحلّت وانكشفت ببركة الرسول.

(وجلى عن الأبصار غممها) وكشف وأوضح عن العيون الظلمة المبهمة المستولية عليها، والمقصود من الظلمة - هنا - الانحرافات العقائدية التي كانت كالظلمة على أعينهم ولهذا ما كانوا يبصرون الحقائق بسبب تلك الظلمة.

(وقام في الناس بالهداية) قام رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بإراءة الطريق للناس ونصب لهم العلامات الدالة على الحق والحقيقة، على التوحيد والنبوة والمعاد.

(وأنقذهم من الغواية) أنقذهم من الضلالة التي كانوا يعيشون فيها، ويموتون عليها، الضلالة في العقائد، في الأخلاق، في الآداب والسلوك، في العادات والتقاليد فكأنهم مغرقون في البحر، فأنقذهم الرسول من الغرق، وأسعفهم من الهلاك.

(وبصّرهم من العماية) جعلهم أصحاب بصر وبصيرة، فالأعمى - لغةً - هو الذي لا يرى شيئاً، والأعمى - مجازاً - هو الذي لا يدرك الحقائق كما هي، فإذا تعلم صار بصيراً.

(وهداهم إلى الدين القويم) للهداية معاني عديدة، منها إراءة الطريق لمن لا يعرف الطريق، ومنها الإيصال إلى المطلوب، ولقد قام رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بالهداية بكلا المعنيين: أراهم طريق السعادة وأوصلهم إلى سعادة الدنيا والآخرة.

(ودعاهم إلى الصراط المستقيم) أي الطريق الذي لا اعوجاج فيه، وهو الإسلام.

(ثم قبضه الله إليه قبض رأفة واختيار، ورغبة وإيثار) أي توفّاه الله وأخذه إلى عالم الآخرة بسبب الرأفة لا الغضب والسخط، وباختيار منه لا بإجبار وإكراه أو باختيار من الله تعالى له الآخرة وإرادة منه تعالى، وفضّل له الآخرة على الدنيا كما قال عزّ وجلّ: (وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولى).

(فمحمد (صلّى الله عليه وآله) من تعب هذه الدار في راحة) من مشاكلها ونوائبها، وما كان يرى فيها من أنواع الأذى والمخالفة، فإن الموت راحة لأولياء الله، وإن حياة الأنبياء حياة متعبة لأنها جهود وجهاد، ومشقة وعناء.

(قد حُفّ بالملائكة الأبرار) الذين حفّوا به والتفوا حوله، ورافقوا روحه الطاهرة إلى الرفيق الأعلى إلى أعلى عليين.

(ورضوان الرب الغفار) الذي شمله في ذلك العالم بصورة أوسع، لأن الدنيا تضيق عن ظهور جميع آثار رضى الله، ولكن الآخرة واسعة المجال. (ومجاورة الملك الجبار) فهو في حفظ الله وذماره وقريب من ثوابه وألطافه.

(صلى الله على أبي، نبيه وأمينه على الوحي وصفيّه) الأمين الذي أُؤتمن على الوحي والرسالة وصفيّه الذي اصطفاه من خلقه.

(والسلام عليه ورحمة الله وبركاته) وفي نسخة: (فمحمد (صلّى الله عليه وآله) في راحةٍ من تعب هذه الدار، موضوعاً عنه أعباء الأوزار، محفوفاً بالملائكة الأبرار).


 

 

خطابُها (عليها السلام) إلى الحاضرين في المَسْجِد

ثم انتقلت (عليها السلام) من ذكر النبوة إلى ذكر ما تركه الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) من الثقلين: الكتاب والعترة الذين يقومان مقام النبي فقالت - وهي مخاطبة للحاضرين في المسجد النبوي حينذاك -:

أنتم - عباد الله - نصب أمره ونهيه[157].

وحَمَلة دينه ووحيه.

وأُمناءُ الله على أنفسكم[158].

وبلغاؤه إلى الأُمم[159].

زعيم حقّ له فيكم.

وعهد قدّمه إليكم.

وبقيّة استخلفها عليكم.

كتاب الله الناطق.

والقرآن الصادق.

والنور الساطع[160].

والضياء اللامع[161].

بيّنة بصائره، منكشفة سرائره[162].

متجلّية ظواهره[163].

مغتبط به أشياعه[164].

قائد إلى الرضوان اتّباعه.

مؤدٍّ إلى النجاة استماعه.

به تُنال حجج الله المنوّرة.

وعزائمه المفسَّرة[165].

ومحارمه المحذَّرة.

وبيّناته الجالية[166].

وبراهينه الكافية.

وفضائله المندوبة[167].

ورُخَصُه الموهوبة.

وشرائعه المكتوبة[168].

فجعل الله الإيمان تطهيراً لكم من الشرك.

والصلاة تنزيهاً لكم من الكبر.

والزكاة تزكية للنفس ونماءً في الرزق.

والصيام تثبيتاً للإخلاص.

والحج تشييداً للدين.

والعدل تنسيقاً للقلوب[169].

وإطاعتنا نظاماً للملّة وإمامتنا أماناً للفرقة.

والجهاد عزّاً للإسلام.

والصبر معونة على استيجاب الأجر.

والأمر بالمعروف مصلحة للعامّة.

وبرَّ الوالدين وقايةً من السخط.

وصِلَة الأرحام منماةً للعدد[170].

والقصاص حقناً[171] للدماء.

والوفاء بالنذر تعريضاً[172] للمغفرة.

وتوفية المكاييل[173] والموازين تغييراً للبخس.

والنهي عن شرب الخمر تنزيهاً عن الرجس.

واجتناب القذف حجاباً عن اللعنة.

وترك السرقة إيجاباً للعفّة.

وحرّم الشرك إخلاصاً له بالربوبية.

فاتقوا الله حق تقاته، ولا تموتن إلاّ وأنتم مسلمون.

وأطيعوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه.

فإنه إنما يخشى الله من عباده العلماء.


 

 

شرح الخطبة

(أنتم - عباد الله - نصب أمره ونهيه) كلمة: (عباد الله) جملة معترضة بين المبتدأ والخبر، والمعنى: أخص بالخطاب عباد الله أنتم نصب أمره ونهيه، أي أنتم منصوبون لأوامره الله تعالى ونواهيه، لأنكم كنتم موجودين عند ورود الأوامر والنواهي، والخطاب موجّه إليكم.

(وحَملة دينه ووحيه) أي الحاملون لأحكام الدين لمشاهدتكم سيرة الرسول والأحكام التي كان (صلى الله عليه وآله) يصدّرها، وأنتم الحاملون لآيات القرآن حينما كان جبرئيل ينزل بها على الرسول يعلّمكم إيّاها.

(وأُمنا الله على أنفسكم) أنتم الذين ائتمنكم الله على دينه حتى تتلقوا الأحكام من الرسول ثم تلقوها إلى الأفراد الذين لم يتعلّموا تلك الأحكام.

(وبلغاؤه إلى الأمم) لا شك أن العلوم تنتقل من جيل إلى جيل على مرّ القرون، وحيث أنكم عاصرتم الرسول وسمعتم أحاديثه وتعلَّمتم سُنّته يجب عليكم أن تبلّغوا تلك الأوامر والتعاليم والأحاديث والسنن إلى الأجيال القادمة، فأنتم مبلّغو الدين الإسلامي إلى الأمم القادمة وعليكم هذه المسؤولية العظمى تجاه الإسلام والمسلمين، فيجب عليكم أداء الأمانة سليمة من التلاعب، وتبليغ الأحكام كما أنزلها الله بدون تحريف أو تغيير. لأنكم الوسائط بين الرسول (صلى الله عليه وآله) وبين بقية المسلمين فإن أحسنتم الأداء فلكم الأجر الجزيل، وإن خنتم في الأداء والتبليغ فعليكم أوزار كل انحراف يحدث في الدين وفي المسلمين.

(زعيم حق له فيكم، وعد قدمه إليكم، وبقية استخلفها عليكم) هذه الجملات ذكرها أكثر رواة الخطبة، ولكنها لا تخلو من الاضطراب والغموض، ولعل في الكلام سقطاً وحذفاً وقد ذكر شرّاح الخطبة وجوهاً محتملة لهذه الكلمات لا تخلو من تكلّف وتعسّف، ولكن النتيجة والمقصود أن الرسول (صلى الله عليه وآله) عهد إليكم بما يجب عليكم، وترك فيكم بقية منه جعلها خليفة له عليكم، ومعنى البقية هو ما يخلفه الإنسان في أهله من الآثار واللوازم، والمراد أن الرسول ترك فيكم ما يسدّ الحاجة ويكفي الأمة الإسلامية مهامّها، وفي بعض النسخ: (وبقية استخلَفَنا عليكم، ومعنا كتاب الله) وهذه الجملة تشير إلى الحديث المشهور المعتبر عند المسلمين وهو قوله (صلى الله عليه وآله): (إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض) وهنا تتحدث السيدة فاطمة الزهراء عن أحد الثقلين وهو القرآن الكريم فقالت: (كتاب الله الناطق) أي المبيّن الموضّح، كالإنسان الذي يتكلم بكل وضوح.

(والنور الساطع) قد ورد في القرآن الكريم التعبير عن القرآن بالنور كقوله تعالى: (فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا والله بما تعملون خبير)[174].

(والضياء اللامع) وهو النور المشرق، لا النور الضئيل الخفي.

(بيّنة بصائره) أي واضحة حججه وبراهينه فأدلّة التوحيد والنبوة والإمامة والبعث في يوم القيامة وغير ذلك من الأدلة والبراهين تجدها واضحة عند أهلها، وعند كل من يعرف منطق القرآن، ويفهم المناسبة بين الدليل والمدلول، والعلة والمعلول، استمع إلى قوله تعالى: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) وقوله: (وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم) وقوله: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) وقوله: (قل لئن اجتمعت الجن والإنس على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً) وغيرها من الآيات التي هي أدلة وبراهين وحجج على ما ذكره الله تعالى.

(منكشفة سرائره) في القرآن آيات واضحة الدلالة، ظاهرة المعنى، وآيات تشتمل على معاني دقيقة وأسرار خفية كأسرار الكيمياء الغيبيّة، أو الآيات المتشابهات، وهي كلها منكشفة ومعلومة عند أولي الألباب، والراسخين في العلم.

(متجلية ظواهره) ظواهر القرآن واضحة كمال الوضوح.

(مغتبط به أشياعه) أي إن أتباع القرآن يبلغون منزلة عند الله بحيث يغبطهم الناس، أي يتمنى الناس الوصول إلى تلك الدرجات التي نالها الذين اتبعوا القرآن.

(قائد إلى الرضوان إتباعه) القرآن يقود إلى رضوان الله تعالى أو اتّباع القرآن يقود إلى الرضوان والنتيجة واحدة.

(مؤدٍّ إلى النجاة استماعه) أي الاستماع إلى القرآن يؤدي إلى النجاة كما قال تعالى: (وإذا قُرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون) سيّما إذا كان مع الاستماع تدبّر وتعقّل، لأن الخوف من الله يحصل باستماع القرآن، وكذلك الرجاء به، وهكذا ينجو الإنسان من عذاب الله تعالى، فكم من كافرٍ أسلم بسبب استماع القرآن؟ وكم من مذنب تاب؟ وكم من منحرف اعتدل وكم من شاكٍ استقام وتيقّن.

(به تُنال حجج الله المنوَّرة) الحجة ما يحتج به الإنسان ويمكن الاستدلال والاحتجاج به في القضايا العقلية والأحكام الشرعية، والأمور العرفية.

(وعزائمه المفسَّرة) أي الواجبات التي فسرها القرآن نفسه، أو النبي (صلى الله عليه وآله) أو أئمة أهل البيت (عليهم السلام) لأن القرآن نزل في بيوتهم، وأهل البيت أدرى بما في البيت، فسّروا أحكام العبادات وكيفيتها والخصوصيات المتعلقة بها من الوضوء إلى الغسل إلى الصلاة إلى الصوم والحج والجهاد وغير ذلك من الواجبات.

(ومحارمه المحذّرة) حذّرّ الله تعالى في القرآن عباده عن ارتكاب المحرّمات حذَّرهم بالعذاب الأليم في الدنيا أو الآخرة.

(وبيناته الجالية) أي المحكمات الواضحة التي لا تحتاج إلى تأويل.

(وبراهينه الكافية) وفي نسخة: (وجُمَله الكافية) أي المتشابهات المعلومة عند الراسخين في العلم.

(وفضائله المندوبة) وهي الأمور المستحبة التي ندب الله تعالى عباده إليها أي دعاهم إليها بدون إلزام كصلاة الليل وأمثالها.

(ورٌخصه الموهوبة) في القرآن أحكام واجبة كما تقدم الكلام عنها، ومخيّرة وهي المستحبات التي يتخير الإنسان فيها.

(وشرائعه المكتوبة) شرائع: جمع شريعة، وهي ما شرّع الله أي قرّره لعباده من الدين تشبيهاً بمورد الماء، والمكتوبة هي الواجبة المفروضة.


 

 

      كَلاَمُهَا حَوْلَ فلسَفَةِ الأحكَام

ثم انتقلت (عليها السلام) إلى ذكر الفلسفة الإسلامية، أو علل الأحكام في الشريعة الإسلامية وما هناك من فوائد وأسرار، وحكَم في التشريع الإسلامي التي هي للوقاية أكثر مما هي للعلاج، وقد قيل: (الوقاية خير من العلاج) وسيتضح لك ذلك، قالت (عليها السلام):

(فجعل الله الإيمان تطهيراً لكم من الشرك) وفي نسخة: (ففرض الله الإيمان) الآيات الواردة في القرآن الكريم، الآمرة بالإيمان بالله وحده، إنما هي لغرض التطهير من أرجاس الشرك بالله، فالشرك بمنزلة المكروبات الضارة، والإيمان تعقيم لها، فالشرك قذارة متعلقة بالأذهان، ملتصقة بالعقول، قد تلوثت بها القلوب، والإيمان تطهير عام لإزالة تلك القذارة.

(والصلاة تنزيهاً لكم عن الكبر) المقصود من تشريع الصلاة هو القضاء على رزيلة الكبر، لأن الصلاة خضوع وخشوع لله وركوع وسجود وتذلل، وأكثر المصابين بداء الكبرياء هم التاركون للصلاة.

(والزكاة تزكية للنفس ونماءً في الرزق) وفي نسخة: (والزكاة تزييداً لكم في الرزق) إنّما سُميت الزكاة لأنها تزكي الإنسان، استمع إلى قوله تعالى: (خُذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) وقد جعل الله تعالى البركة والنمو في إعطاء الزكاة، فيأذن الله للأرض أن تجود ببركاتها فيكثر الزرع ويمتلئ الضرع، وتتراكم الخيرات، وتتضاعف الثمار.

(والصيام تثبيتاً للإخلاص) قد يمكن أن يصلي الإنسان قصد الرياء، ولا يمكن أن يصوم ويطوي نهاره جائعاً عطشاناً، ويتحمل المشقة لسبب الإمساك والامتناع عما يشتهي بقصد الرياء، فالصوم من أظهر العبادات الخالصة لوجه الله الكريم.

(والحج تشييداً للدين) للحج فوائد ومنافع معنوية لا تتحقق بغير الحج، فالحج عبارة عن عدد كبير من المسلمين من بلاد بعيدة وأقطار عديدة، من شرق الأرض وغربها وعن كل قطر يسكن فيه مسلم يستطيع الحج، في أيام محدودة وأماكن معينة، على هيئات خاصة وكيفيات مخصوصة، فيلتقي بعضهم ببعض، ويتعرّف المسلم الأفريقي بالمسلم الآسيوي، ويطلّع المسلم الشرقي على أحوال المسلم الغربي وما هناك من فوائد تحصل من تلك اللقاءات أضف إلى ذلك الفوائد التي تعود إلى نفس الإنسان الحاج من الخضوع والتذلل لله، والتوبة والاستغفار وغير ذلك مما يطول الكلام بذكره.

(والعدل تنسيقاً للقلوب) وفي نسخة: (وتنسيكاً للقلوب) لا أعرف لتعليل العدل تعريفاً أحسن وأكمل من هذا التعريف، لأن تنسيق القلوب تنظيمها كتنسيق خرز السبحة، وتنظيمها بالخيط، فلو انقطع الخيط تفرقت الخرز وتشتتت، واختل التنظيم وزال التنسيق.

إن العدل في المجتمع بمنزلة الخيط في السبحة، فالعدل الفردي والزوجي والعائلي والاجتماعي والعدل مع الأسرة ومع الناس يكون سبباً لتنظيم القلوب وانسجامها بل واندماجها، وإذا فقد العدل فقد الانسجام، وجاء مكانه التنافر والتباعد والتقاطع، وأخيراً التقاتل.

وليست العدالة من خصائص الحكّام والولاة والقضاة، بل يجب على كل إنسان أن يسير ويعيش تحت ظلال العدالة، ويعاشر زوجته وعائلته وأسرته ومجتمعه بالعدالة إبقاءً لمحبة القلوب.

(وإطاعتنا نظاماً للملة) وفي نسخة: (وطاعتنا) كل أمة إذا أرادت أن تعيش لا بدَّ لها من اختيار نظام حاكم سائد، والنظام كلمة واسعة النطاق، كثيرة المصداق غزيرة المعاني.

فالحكومات، وتشكيل الوزارات، وتنظيم الدوائر، وسنّ القوانين، وإصدار التعاليم في شتى المجالات يقال لها: نظام. ولا بدّ - طبعاً - من تنفيذ النظام، والخضوع والانقياد له، ويقال له: التنظيم.

فإذا كان النظام صالحاً انتشر الصلاح في العباد والبلاد، وإذا كان النظام فاسداً ظهر الفساد في البر والبحر.

والأمة الإسلامية التي تعتبر نفسها في طليعة الأمم الراقية المتحضرة لا بدّ وأن يكون لها نظام، وإن الله تعالى جعل إطاعة أهل البيت (عليهم السلام) نظاماً للملة الإسلامية، ومعنى ذلك أن الله جعل القيادة العامة المطلقة العليا، والسلطة لأئمة أهل البيت الاثني عشر (عليهم السلام) وهم عترة الرسول (صلى الله عليه وآله) فقط، لا كل من يستلم زمام الحكم، أو يجلس على منصة القيادة تجب إطاعته وتنفيذ أوامره.

وإنما جعل الله إطاعة أئمة أهل البيت نظاماً للمسلمين لأن الله تعالى زوَّدهم بالمواهب، ومنحهم الأهلية، وأحاطوا علماً بكل ما ينفع المجتمع ويضرّه، وبكل ما يُصلح الناس ويفسدهم.

وجعلهم الرسول عدل القرآن بقوله (صلى الله عليه وآله): إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، وإنكم لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما.

ولقد سبق أن تحدثت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) عن القرآن وأنه بقية استخلفها عليكم، ثم ذكرت بعض ما يتعلق بعظمة القرآن. ثم انتقلت إلى ذكر فلسفة الإسلام ثم انتقلت إلى ذكر الثقل الثاني، وهم العترة، وهم أهل البيت، وهم أولو الأمر الذين أوجب الله إطاعتهم على العباد بقوله تعالى: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأُولي الأمر منكم).

فوالله لو أن المسلمين فسحوا المجال - من أول يوم - لأهل البيت وأطاعوهم لكانت الدنيا روحاً وريحاناً وجنة نعيم، وكانت السعادة شاملة لجميع طبقات البشر على مرّ القرون، وما كانت تحدث المفاسد والمجازر والمذابح على وجه الأرض، وما كانت الأموال تسلب، والأعراض تُهتك، والنفوس تزهق ظلماً، وما كان الجهل والأمية والتأخير والتفسخ منتشراً بين الأمة الإسلامية، وما كان في الأرض فقر ولا حرمان، ولا اضطهاد ولا جوع.

نحن لا نزال في شرح كلمات السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) وقد طال بنا الكلام هنا، لأن الموضوع يتطلب شيئاً من التفصيل مع العلم أننا لم نؤد حق المقام.

فالبحث عن القيادة الإسلامية أو الإمامة الصحيحة بحث واسع يحتاج إلى موسوعة كبرى، وتحليل وتحقيق شاملين كاملين.

(وإمامتنا أماناً للفرقة) وفي نسخة: (لمّاً للفرقة) إمام على وزن كتاب هو المقتدى، انظر إلى إمام الجماعة كيف يقتدي به المأمومون في أفعال الصلاة من قيام إلى ركوع وسجود وهكذا، فهو مقتدى في أفعال محدودة، ولهذا يقال له: إمام صلاة الجماعة، أو إمام الجماعة في الصلاة.

والإمامة الكبرى التي هي الخلافة العظمى، منصب سماوي، ومنزلة تتعيّن من عند الله تعالى، لأنها تالية للنبوة من حيث العظمة والأهمية، انظر إلى أولياء الله كيف يسألون الله تعالى أن يبلغهم تلك المنزلة الرفيعة والدرجة السامية.

فهذا إبراهيم الخليل (عليه السلام) يأتيه النداء من عند الله تعالى: (إني جاعلك للناس إماماً)      أي المقتدى به في أفعاله وأقواله، وأنه الذي يقوم بتدبير الأمة وسياستها والقيام بأمورها، وتأديب جناتها، وتولية ولاتها، وإقامة الحدود على مستحقيها ومحاربة من يكيدها ويعاديها، وليس المقصود من الإمامة - هنا - النبوة، لأن إبراهيم كان نبياً حينذاك وإنما أضاف الله له الإمامة إلى النبوة.

وأنت إذا أمعنت النظر في قوله تعالى: (إني جاعلك) يتضح لك أن تعيين الإمام يجب أن يكون من عند الله، ولا يحق للناس أن يعينوا لأنفسهم إماماً حسب آرائهم الشخصية وهواياتهم الفردية.

وإذا تدبرت بقية الآية تنكشف لك حقائق أخرى وهي قوله: (ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين) أي لما أخبر الله إبراهيم بالإمامة قال إبراهيم: (ومن ذريتي) أي واجعل من ذريتي من يوشّح بالإمامة وبهذه الكرامة. قال تعالى: (لا ينال عهدي الظالمين) قال مجاهد: العهد الإمامة، وقد روى ذلك عن الإمامين: الباقر والصادق (عليهما السلام) أي لا يكون الظالم إماماً للناس، وهذا يدل على عصمة الأئمة، لأن الله سبحانه نفى أن ينال عهده (الذي هو الإمامة) ظالم، ومن ليس بمعصوم فقد يكون ظالماً إما لنفسه وإما لغيره.

وإذا تأملت في هذه الآيات البينات يتضح لك أن المناصب السماوية والوظائف الإلهية ينبغي أن تكون من عند الله تعالى وتعيينه وجعله، تدبّر في قوله تعالى: (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض)[175].

(وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب)[176].

(ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيراً)[177].

(وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا)[178].

(إني جاعلك للناس إماماً)[179].

(واجعلنا للمتقين إماماً)[180].

(واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي)[181].

وغيرها من الآيات التي تتجلى فيها كلمة: (جعلنا) و(اجعلنا) و(جعلناهم) وما أشبه ذلك.

وهنا تقول الزهراء (عليها السلام): (وإمامتنا) إنها تقصد إمامة الأئمة الاثني عشر، وشخص زوجها العظيم أبا الأئمة علياً (عليه السلام).

(والجهاد عزاً للإسلام) العزة لا تحصل إلا بالقوة، وتظهر القوة باستعمال السلاح واستعراض الجيش، وإظهار المعدات الحربية، وتجلّي البطولات وغير ذلك.

وأحسن استعراض للقوة وإثبات الشخصية هو الجهاد في سبيل الله، فالقوة والقدرة والإمكانية والتضحية، ومدى تعلق المسلمين بالمبدأ، والمواهب التي تظهر في جبهات القتال، وتظهر النتيجة بالانتصار والظفر والغلبة على أعداء الدين، واستيلاء الخوف على كل مناوئ للإسلام، والقوي لا يخضع إلا للقوة، لا للإنسانية فقط، ولا للثروة فقط، بل للقوة، وهكذا تجتمع العزة للأمة القوية، وللمبدأ الذي يعتنقه الأقوياء.

(والصبر معونة على استيجاب الأجر) الصبر على المكاره من فقر إلى مرض إلى دَين إلى سجن إلى مصيبة، يدل على التسليم لإرادة الله تعالى، والتسليم فضيلة سامية ومنزلة عالية يستعين بها الإنسان الصابر على تحصيل الجزيل، والثواب الأوفى، وبالصبر يتم فعل الطاعات وترك السيئات.

(والأمر بالمعروف مصلحة للعامة) فرض الله الأمر بالمعروف على كل مكلف في حدود القدرة والإمكانية بشروط معينة مذكورة في محلها، ويعتبر نوعاً من الجهاد، ومعنى ذلك أن كل فرد من أفراد المسلمين يعتبر نفسه مسؤولاً عن الدين مرتبطاً به، غير منفصل عنه، وهو تفسير عملي لقوله (صلى الله عليه وآله): (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) لأن الإسلام لا يؤمن باللامبالاة وبالانعزال عن المجتمع الديني، لأن الإسلام يعتبر المسلمين أسرة واحدة مترابطة، وأمة واحدة يربطها رباط الدين والعقيدة.

(وبر الوالدين وقاية من السخط) وفي نسخة: (والبر بالوالدين وقاية من السخطة) ومعنى ذلك أن عقوق الوالدين يُسبب سخط الله وغضبه على العاق لوالديه، إذن يكون الإحسان إليهما سبباً للوقاية من غضب الله تعالى، وبعد إلقاء نظرة على الآيات التي توصي برعاية حقوق الوالدين تتضح لنا أهمية هذا الجانب الأخلاقي:

(ووصينا الإنسان بوالديه حسناً..)[182].

(ويسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين ..)[183].

(واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً ..)[184].

(قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألاّ تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً)[185].

(وقضى ربك ألاّ تعبدوا إلاّ إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أفٍّ ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربِّ ارحمهما كما ربياني صغيراً)[186].

(ووصينا الإنسان بوالديه حملته أُمه وهناً على وهن وفصاله في عامين أن أشكر لي ولوالديك إليَّ المصير وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً..)[187].

(ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً حملته أُمه كرهاً ووضعته كرهاً وحمله وفصاله ثلاثون شهراً حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليَّ وعلى والدي وأن أعمل صالحاً ترضيه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين أُولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون)[188].

بعد الانتباه إلى هذه الآيات ينكشف لنا معنى كلامها (عليها السلام): وبرّ الوالدين وقاية من السخط، وهذا البحث يتطلب مزيداً من الشرح والتفصيل، ولكننا اكتفينا بما تيسر.

(وصلة الأرحام منماة للعدد) وفي نسخة: (وصلة الأرحام منسأة للعمر، ومنماة للعدد) إن للأعمال آثار طبيعية ولا يمكن التخلف عنها، فالذي يصل رحمه - أي أقربائه الذين تجمعه وإياهم رحم من أرحام الأمهات - باللسان أو باليد أو بالمال لا بد وأن يكون طويل العمر، كثير النسل والعدد، كثير المال، ولقد وردت أحاديث كثيرة متواترة جداً حول صلة الرحم، وإنها تزيد في الثروة وتؤخر الأجل (أجل الموت).

وكذلك قطع الرحم يسبب قصر العمر وزوال المال، ولقد شاهدنا في عصرنا الكثير من الناس الذين وصلوا أرحامهم فدرّت عليهم الأيام خيرها وبركاتها، وكثير عددهم ونسلهم مع العلم أن مؤهلات التكاثر لم تكن متوفرة فيهم.

وقد رأينا الكثيرين من أبناء زماننا الذين قطعوا أرحامهم أي قطعوا العلاقات الودية (بجميع أنواعها) مع أقربائهم، فكأنهم قطعوا جذور أعمارهم، وهدموا أُسس حياتهم وبقائهم بأيديهم فانقرضوا بعد أن افتقروا.

(والقصاص حقناً للدماء) لا يوجد في سجلات القوانين في العالم كله قانون المحافظة على حياة الناس كقانون القصاص، ولهذا قال تعالى: (ولكم في القصاص حياة يا أٌولي الألباب لعلكم تتقون)[189].

والعجب أن القضاء على حياة القاتل يعتبر إبقاءً وحفظاً لحياة الآخرين، إذ أن الإنسان إذا عزم على قتل أحد ظلماً إذا علم أنه سوف يُقتص منه، ويُقتل، فإنه بالقطع واليقين سيمتنع من الإقدام على الجريمة، ولكنه إذا علم أن جزاءه السجن، وفي السجن الراحة والأكل والشرب، ورجاء شمول العفو، والتخفيف، أو دفع العوض وما شابه ذلك من الرشوة وشفاعة الشافعين لدى السلطة الحاكمة، فعند ذلك تهون عنده الجريمة، ويستسهل الجناية، ويقدم على إراقة الدماء البريئة ظلماً وعدواناً.

إن قانون الكفار السائد في البلاد الإسلامية لا يؤمن بالقصاص من القاتل ويزعم القانون أن القصاص لا يحيي المقتول فلا فائدة في تكرار القتل، فوضعوا السجون والأعمال الشاقة عقوبة للقاتل، ومع ذلك تجد السجون في العالم مليئة بالمجرمين المرتكبين لجريمة القتل، وتجد جرائم القتل في التزايد والتكاثر في كل زمان وكل مكان.

والعجب أن الله تعالى يخاطب العقلاء بقوله: (يا أُولي الألباب) ويعقبه بجملة: (لعلكم تتقون) يخاطب الله تعالى العقلاء الذين يفهمون ويعقلون أن القصاص أحسن رادع وأقوى مانع عن القتل، والقصاص أفضل وأحسن من السجن والتعذيب وما شابه ذلك.

ولكن القانون الإلهي أصبح مهجوراً متروكاً، والقانون الغربي هو القانون المفضل على أحكام الله تعالى، وبذلك فلتقر عيون المسلمين.

وكيف يرجو المسلمون لأنفسهم السيادة والعزة والاستقلال وهم أذناب وأتباع لليهود والنصارى في أحكامهم وقوانينهم بل وحتى في تاريخهم فالتاريخ الهجري الإسلامي صار نسياً منسياً، والتاريخ الميلادي هو المعروف المتبع في البلاد الإسلامية حكومات وشعوباً.

هذا والكلام طويل يحتاج إلى مجال أوسع وتفصيل أكثر وبعد ذلك ما الفائدة في بث هذه الآلام والمآسي؟ فهل يحصل تغيير في الأنظمة الحكومية والقوانين المستوردة عندهم؟ لا أظن ذلك!!

(والوفاء بالنذر تعريضاً للمغفرة) وفي نسخة: (بالنذور) النذر هو المعاهدة مع الله تعالى على فعل من الأفعال، فالوفاء بالنذر يعتبر وفاء بالمعاهدة كما قال تعالى: (ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيماً) والإنسان يجعل نفسه في معرض المغفرة عن طريق النذر والوفاء بالنذر.

(وتوفية المكاييل والموازين تغييراً للبخس) أوجب الله تعالى على البائع والمشتري أن يراعيا حقوق الناس، وأن لا يبخسا الناس أشياءهم، وأن يعاملا الناس بالأمانة والعدالة، لا بالظلم والخيانة وذلك بعدم التلاعب في المكيال الذي يكال به الشيء من طعام وغيره أو الميزان الذي يوزن به الشيء.

(والنهي عن شرب الخمر تنزيهاً عن الرجس) وفي نسخة: (والانتهاء عن شرب الخمور) لقد ذكرنا حول آية التطهير معاني عديدة للرجس، والخمر تعتبر من أفراد الرجس ومصاديقه كما قال تعالى: (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) وقد كتب الكثير من المسلمين وغيرهم كتباً ومقالات حول أضرار الخمر، والجرائم المتولدة منها، والويلات التي تتكون منها، ونكتفي - هنا - أن نقول: بعد مراجعة معاني الرجس يتضح لك جانب كبير من مضار الخمرة من الناحية الصحية والعقلية والاجتماعية وغير ذلك.

(واجتناب القذف حجاباً عن اللعنة) وفي نسخة: (واجتناب قذف المحصنات) إن الإسلام هو الدين الذي يحافظ على كرامات الناس، ويعتبر الإسلام المس بالكرامة نوعاً من أنواع الجريمة، وقد جعل لهذه الجريمة عقوبة دنيوية، وعذاباً في الآخرة.

إن إسناد الفجور إلى أهل العفة والشرف من رجال أو نساء ليس بالشيء الهين ولا يسمح الإسلام أن يطلق الإنسان لسانه لهدر كرامة الناس، وهتك أعراضهم ونواميسهم.

وإذا نسب الإنسان نوعاً من أنواع الفجور إلى ما ليس معروفاً بالفجور فلا بد من إثبات ذلك بإقامة البينة والشهود، فإن عجز عن ذلك فسوف ينفذ في حقه قانون العقوبات، قال الله تعالى: (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون إلاّ الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم)[190].

وقال أيضاً: (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لُعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم)[191]، وهنا يتضح معنى كلامها (عليها السلام): (واجتناب القذف حجاباً عن اللعنة) أي الذي يجتنب قذف الناس أي إسناد الفجور إليهم فهو محجوب عن اللعنة ومعنى اللعنة: البعد عن رحمة الله تعالى.

(وترك السرقة إيجاباً للعفة) وفي نسخة: (ومجانبة السرقة) إن اليد تعتبر ثمينة غالية ما دامت أمينة عفيفة، فإذا سرقت فقد خانت فصارت رخيصة لا كرامة لها، لأنها تجاوزت الحدود.

سأل أبو العلاء المعري من السيد المرتضى علم الهدى (رضوان الله عليه):

يدٌ بخمس مئينٍ عسجد أوديت***ما بالها قطعت في ربع دينار؟

أي أن اليد التي ديتُها خمسمائة دينار ذهب، لماذا تقطع إذا سرقت شيئاً قيمته ربع دينار؟ فأجابه السيد المرتضى قائلاً:

عز الأمانة أغلاها، وأرخصها***ذل الخيانة، فافهم حكمة الباري

إذن فالسرقة تسلب العفة من اليد، أي صاحب اليد، وترك السرقة يوجب بقاء العفة والأمانة.

وفي كتاب (كشف الغمة) بعد قوله: (ومجانبة السرقة إيجاباً للعفة) هكذا: (والتنزّه عن أكل أموال الأيتام والاستئثار بفيئهم إجازة من الظلم. والعدل في الأحكام إيناساً للرعية) اليتيم هو الذي فقد أحد أبويه أو كليهما وهو صغير، ويرثهما التركة، ونظراً لصغر سنه لا يستطيع المحافظة على أمواله وتدبير أموره، وهنا يطمع في أمواله ذوو الأطماع لأنهم استضعفوه، ولم يجدوا فيه القوة والقدرة على المقاومة، فهناك الظلم الواضح والاعتداء البغيض، ولكن الله تعالى قد قدّر مصير هؤلاء الظالمين وجزاءهم في الآخرة، فقال تعالى: (الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً) فجعل الله الاجتناب عن أكل أموال اليتامى حفظاً من الوقوع في الظلم الذي هذا جزاؤه وعقابه.

وأما جملة: (والاستئثار بفيئهم) فالمقصود من الفيء - هنا - : الغنيمة، أي خمس الغنائم أو ما أفاء الله على رسوله، وقد تقدم الكلام حول ذلك في مدخل الخطبة والآيات الواردة حول فدك.

(وعدل الحكام إيناساً للرعية) لقد تقدم في كلامها (عليها السلام) شيء حول العدل بصورة عامة كالعدل بين الزوجات وبين الأولاد وبين الناس، وهنا تشير في كلامها إلى عدل الحكام، والمقصود من الحكام - هنا - السلطة الحاكمة من الملك إلى الوزراء إلى الأمراء إلى رؤساء الدوائر والمحافظين والقضاة والحاكمين، وأمثالهم من ذوي السلطة والقدرة.

ومن الطبيعي: أن أصحاب المناصب الخطيرة يشعرون أو يتصورون بهالةٍ من الكبرياء تحيط بهم، وعلى هذا الأساس يرون أنفسهم أجل قدراً وأعظم شأناً وأرفع مستوى من غيرهم.

وأفراد الرعية يشعرون بشيء من البعد الواسع والبون الشاسع بينهم وبين الطبقة الحاكمة، فلا يسمح لكل أحد أن يلتقي برئيس الدولة، أو يقابل موظفاً كبيراً، وخاصة إذا كان صاحب حاجة. وعلى الأخص إذا اعتدى عليه بعض الموظفين، وهذا يسبب التنافر بين الحكومة وبين الشعب، وبين جهاز الحكومة والمواطنين.

ولكن إذا سار الحكام على طريقة العدالة والمحافظة على حقوق الضعفاء تجد أن روح الأمل قد تولدت في نفس المظلوم، بل في نفوس أفراد الرعية، وينظر الإنسان من أفراد الشعب إلى جهاز الحكم كما ينظر الولد إلى أبيه، وكما ينظر الطالب إلى المعلم، وكما ينظر المريض إلى الطبيب والممرض من حيث المحبة والتقدير، وبهذا يحصل الاستئناس بين أفراد الشعب وبين الطبقة الحاكمة، ويحصل التعاون والإخاء والألفة والمحبة وهكذا وهلم جرّاً.

ولولا رعاية أسلوب الكتاب لطال بنا الكلام حول هذا الموضوع الذي يشعر به أكثر الناس، وتتلهف إليه النفوس.

(وحرّم الشرك إخلاصاً له بالربوبية) لأن الشرك نوع من الكفر، والواجب على العباد أن يعبدوا الله مخلصين له الدين.

ثم أنها ختمت هذا الفصل من كلامها بآيات مناسبة للموضوع، وهي قوله تعالى: (فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلاّ وأنتم مسلمون) وأطيعوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه فإنه (إنما يخشى الله من عباده العلماء).


 

 

فاطِمَة الزّهْرَاء (عليها السلام) تطالب بحقها المغصوب

لما أنهت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) حديثها عن فلسفة الإسلام، وعن علل الشريعة الإسلامية، عرّجت على كلامها المقصود وهدفها المنشود، وهو المطالبة بحقها والتظلم من السلطة الحاكمة، وقبل كل شيء وجّهت الخطاب إلى الشعب الحاضر في المسجد، في المؤتمر الإسلامي لأنهم بايعوا رئيس الدولة، ولم توجّه الخطاب إلى رئيس الدولة لأنه هو أحد طرفي المحاكمة، وهو المقصود بالمخاصمة والإدانة، ولهذا عرّفت نفسها للحاضرين كما هي الأصول المتبعة في المحاكمات ولأنها الطرف الآخر للمحاكمة، ولأنها تمثّل آل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعترته الطيبين بل هي ملكة الإسلام، والمحاكمة وقعت بمحضر من المهاجرين والأنصار وغيرهم، وهم يومذاك من الشخصيات الإسلامية البارزة المرموقة ومن الوزن الثقيل.

وموضوع المحاكمة هي الأراضي والمقاطعات التي كانت تحت تصرّف السيدة فاطمة الزهراء منذ سنوات، ثم استولى عليها رئيس الدولة وصادرها بدون مبرر شرعي، ولهذا وجّهت السيدة فاطمة الزهراء كلامها إلى الحاضرين في ذلك المؤتمر، فقالت:

أيّها الناس!

اعلموا أني فاطمةّ!

وأبي محمد

أقول عَوداً وبدءاً[192].

ولا أقول ما أقول غلطاً، ولا أفعل ما أفعل شططاً[193]

(لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنّتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم)[194].

فإن تعزوه وتعرفوه تجدوه أبي دون نسائكم[195].

وأخا ابن عمّي دون رجالكم.

ولنعم المعزِيُّ إليه[196] (صلى الله عليه وآله) .

فبلّغ بالرسالة، صادعاً بالنذارة[197].

مائلاً عن مدرجة المشركين[198].

ضارباً ثَبجهم[199]، آخذاً بأكظامهم[200].

داعياً إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة.

يكسر الأصنام.

وينكت الهام[201].

حتى انهزم الجمع وولّوا الدبر.

حتى تفرّى الليل عن صبحه[202].

وأسفر الحق عن محضه[203].

ونطق زعيم الدين.

وخرست شقاشق الشياطين[204].

وطاح وشيظ النفاق[205].

وانحلت عُقد الكفر والشقاق[206].

وفُهتم بكلمة الإخلاص[207].

ونفرٌ من البيض الخِماص[208].

وكنتم على شفا حفرة من النار[209].

مذقة الشارب[210]، ونهزة الطامع[211].

وقبسة العجلان[212].

وموطئ الأقدام.

تشربون الطرق[213]، وتقتاتون القِدَّ والورق[214].

أذلّةً خاسئين.

تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم.

فأنقذكم الله تعالى بمحمد (صلى الله عليه وآله).

بعد اللتيّا والتي.

وبعد أن مُني بِبُهم الرجال[215].

وذُؤبان العرب

ومَرَدَة أهل الكتاب[216].

كلّما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله.

أو نَجَم[217] قرن للشيطان.

أو فَغرتْ[218] فاغرة من المشركين.

قَذف أخاه في لهواتها[219].

فلا ينكفئ حتى يطأ صِماخها بأخمصه[220].

ويخمد لهبها بسيفه[221].

مكدوداً في ذات الله[222].

مجتهداً في أمر الله.

قريباً من رسول الله.

سيداً في أولياء الله.

مُشمّراً ناصحاً، مجدّاً كادحاً[223].

وأنتم في رفاهية من العيش[224].

وادعون فاكهون آمنون[225].

تتربصون بنا الدوائر[226].

وتتوكفون الأخبار[227].

وتنكصون عند النزال[228].

وتفرّون من القتال.


 

 

شرح الخطبة

(أيها الناس اعلموا إني فاطمة) ذكرت اسمها للمستمعين، ذلك الاسم الذي لا يجهله أحد، ذلك الاسم الذي سمعه الناس مراراً وتكراراً من فم الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) مشفوعاً بالعواطف النبوية، مقروناً بكل تجليل وتعظيم وتقدير.

(وأبي محمد صلى الله عليه وآله) وهذا النسب الشريف الأرفع، النسب الذي ليس فوقه نسب، النسب الذي هو مفخرة الكون، ودرّة تاج الوجود، وأشهر من الشمس.

نعم، إن فاطمة هي بنت محمد، سيد الأنبياء، أشرف الخلائق، أطهر الكائنات، أفضل المخلوقين.

نعم، بنت هذا العظيم تتكلم وتخطب. وتحتج وتتظلم.

لقد عرّفت نفسها لئلا يقول قائل: ما عرفناها، ولماذا ما صرّحت باسمها؟ ولماذا لم تعرّف شخصها؟ ولماذا لم تذكر نسبها؟

وبهذا أتمّت الحجة، ولم تُبق لذي مقال مقالاً، ذكرت اسمها الصريح ونسبها الواضح تعريضاً وتوبيخاً لهم.

نعم، إن فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله) جاءت تطالب بحقوقها وأموالها التي صودرت وغصبت منها.

(أقول عوداً وبدءاً) أي أتكلم آخراً وأولاً، وأولاً وآخراً، وأنا على يقين بما أقول وفي نسخة: (عَوداً على بدء) والمعنى واحد

(ولا أقول ما أقول غلطاً) وهو الخطأ في الكلام من كذب وخديعة ومغالطة.

(ولا أفعل ما أفعل شططاً) لا أتكلم جوراً وظلماً وتجاوزاً عن الحد.

(لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) افتتحت هذا البحث بذكر أبيها الرسول (صلى الله عليه وآله) وأدمجت كلامها بكلام الله تعالى، حيث يقول: إن الرسول من العرب، يشق ويعزّ عليه وقوعكم في الشدّة لأجله، حريص على توفير وسائل السعادة لكم، بالمؤمنين من هذه الأمة رؤوف رحيم، كلمتان مترادفتان، معناهما العطف واللطف والحنان.

(فإن تعزوه وتعرفوه) أي تنسبوه، وتقولوا فيه إنه أبو مَن؟ وأخو مَن؟ وفي نسخة: (فإن تعزروه وتوقروه) أي تعظموه.

(تجدوه أبي دون نسائكم) نعم، أنا ابنته الوحيدة، وهو أبي، ولا تشاركني نساؤكم في هذا النسب الطاهر الأعلى.

(وأخا ابن عمي دون رجالكم) نعم، إنه أخو زوجي، ولم يشارك أحد من رجالكم أبي في الأخوة ة وليس المقصود - هنا - أخوّة النسب، بل الأخوّة التي حصلت يوم المؤاخاة حينما آخى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بين أصحابه، آخى بينه وبين عليّ وكان الرسول ينوّه بهذه الأخوة في شتى المناسبات ومختلف المجالات، ويركّز على كلمة: (أخي) كقوله (صلى الله عليه وآله): ادعوا لي أخي، وأين أخي؟ وأنت أخي، وإنه أخي في الدنيا والآخرة.

وكان عليّ (عليه السلام) يعتزّ بهذه الأخوة والمؤاخاة، ويذكرها نظماً ونثراً، ومنه قوله (عليه السلام) :

أنا أخو المصطفى لا شك في نسبي***معه ربيت، وسبطاه هما ولدي

وقوله: محمد النبي أخي وصنوي***وحمزة سيد الشهداء عمي

وقوله: ومَن حين آخى بين من كان***حاضراً دعاني وآخاني وبيّن من فضلي

وقوله: أنا عبد الله وأخو رسول الله، وأنا الصدّيق الأكبر والفاروق الأعظم لا يقوله غيري إلاّ كذاب[229].

(ولنعم المعزّي إليه صلى الله عليه وآله) نِعم المنسوب إليه والمنتمي إليه، أنه أشرف من ينتسب إليه، وأطهر من ينتمي إليه، لأنه علة الإيجاد، وبيُمنه رُزق الورى.

(فبلّغ الرسالة صادعاً بالنذارة) بلّغ الرسول كل ما أُمر بتبليغه مظهراً بالإنذار والتخويف بعذاب الآخرة.

(مائلاً عن مدرجة المشركين) وفي نسخة: (ناكباً عن سنن مدرجة المشركين) أي عدل عن طريقة المشركين ومسلكهم.

(ضارباً ثبجهم) أي كان الرسول ضارباً كواهل المشركين وظهورهم، والمقصود جهاد الكفار والمشركين.

(آخذاً بأكظامهم) أي ممسكاً على أفواههم، أو مخارج أنفاسهم، وهي كناية عن إيقافهم عند حدّهم، وإحباط مؤامراتهم، وتفنيد أباطيلهم.

(داعياً إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة).

كان يدعو إلى الله، لا إلى الدنيا، إلى سبيل ربه، لا سبيل غيره، ويراعي في دعوته مستويات الناس، فيدعو بالحكمة وهي المقالة الموضحة للحق والمزيحة للشبهة، هذا بالنسبة للطبقة الواعية المثقفة، ويدعو بالموعظة الحسنة وهي الخطابات المقنعة للنفوس، والعبر النافعة للحياة، وهذا بالنسبة للطبقة العامة.

ويجادلهم بالتي هي أحسن، وهي أحسن طرق المجادلة والتفاهم، وإقامة الأدلة والبراهين بالنسبة للمعاندين.

(ويكسر الأصنام) التي كان المشركون يعبدونها ويعتبرونها آلهة من دون الله (وينكت الهام) وفي نسخة: (ينكس الهام) إشارة إلى قتال رؤساء الكفر وأقطاب الشرك وقمعهم وإذلالهم، وهم الذين كانوا يؤججون نيران الحروب، ويثيرون الفتن أمثال: شيبة وعتبة وأبي جهل ونظرائهم، أو إذلال المفسدين والمشاغبين، وفي نسخة: (ينكث الهام) أي يلقي الرجل على رأسه.

(حتى انهزم الجمع وولّوا الدبر) أي استمر الكفاح والجهاد سنوات عديدة، تتكون خلالها الحروب والغزوات والاضطرابات حتى قضى الرسول على أصول الفتن وجراثيم الفساد فانكسرت شوكة الكفار، وضعفت معنوياتهم، وأخيراً حتى انهزم الجمع، أي جماعة الكفار وأدبروا فارّين.

(حتى تفرّى الليل عن صبحه) حتى انجلت ظلمات الكفر السوداء، وتجلى صبح الإسلام الأبيض الناصع.

(وأسفر الحق عن محضه) أي ارتفعت الحواجز الباطلة التي حجبت الحق عن الظهور فأضاء الحق الخالص الذي لا يشوبه شيء من الباطل، وكلها كنايات عن تجمّع القوى الدينية.

(ونطق زعيم الدين) تكلم رئيس الدين فيما يتعلق بأمور الدين وأمور المسلمين بكل حرية وصراحة.

(وخرست شقاشق الشياطين) قد ذكرنا في شرح ألفاظ الخطبة أن الشقاشق - جمع شقشقة - شيء يشبه الرئة يخرج من فم البعير عند هيجانه، والمقصود من (خرست شقاشق الشياطين) هو تبخّر نشاطات المفسدين، واختناق أصواتهم.

(وطاح وشيظ النفاق) المقصود سقوط المنافقين عن الاعتبار، وفشل مساعيهم.

(وانحلت عُقَد الكفر والشقاق) أي فشلت المحاولات والمحالفات والاتفاقيات التي قام بها الكفار والمخالفون ضد الإسلام والمسلمين كما في غزوة الأحزاب.

(وفُهتم بكلمة الإخلاص) وتلفظتم بكلمة: (لا إله إلا الله) بألسنتكم.

(في نفر من البيض الخماص) أي بيض الوجوه من النور، الضامري البطون من التجوع بسبب الصوم. أو الزهد، ويمكن أن يكون المقصود من هذين الوصفين أُناساً معيّنين، وهم الصفوة من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) أو أهل البيت (عليهم السلام).

(وكنتم على شفا حفرة من النار) بسبب الكفر والشرك بالله العظيم.

ثم أشارت (عليها السلام) إلى الحياة الاجتماعية التي كان الناس يعيشونها في ذلك الوقت وهي الفوضوية واختلال النظام، والهرج الذي كان مستولياً على كافة جوانب الحياة، فقالت: (مذقة الشارب) إذا مرّ الإنسان الظمآن من مكان، ووجد ماءً ليس له مالك، أو له مالك ولكنه لا يستطيع الدفاع والمقاومة فيطمع ذلك الإنسان أن يشرب من ذلك الماء ويبرّد غليله.

(ونهزة الطامع) وهكذا إذا مر الإنسان من مكان ووجد هناك طعاماً لا مالك له، أو مالكه ضعيف فترى الجائع يطمع في ذلك الطعام، فينتهز الفرصة ويستوفي نصيبه من ذلك الطعام.

(وقبسة العجلان) هي الشعلة أو الجذوة من النار يأخذها الرجل المسرع إذا احتاج إليها.

(وموطئ الأقدام) وكنتم أذلاّء، مستضعفين تدوسكم الأقوياء بأقدامها.

(تشربون الطرق) الماء الذي كنتم تشربونه هو الماء المتجمع في المستنقعات والحفائر تدخلها الحيوانات، وتبول فيها الإبل، مع العلم أن النفوس الشريفة تستقذر هذا الماء وتمجّه، ولا ترضى به، ولكنه الجهل، ولكنه الإحساس بالنقص، والخضوع للمذلة والهوان، كأنهم لم يعرفوا حفر الآبار، أو تفجير العيون، أو إيجاد القنوات تحت الأرض ولا تسأل عن مضاعفات هذه المياه وتلوثها بأنواع الجراثيم والميكروبات.

هذا ولا تزال الحياة بهذه الصفة موجودة في بعض البلاد الإسلامية المتأخرة عن ركب الحضارة كما نقرأ ذلك في بعض الصحف والمجلات.

(وتقتاتون القدّ والورق) أي كان قوتكم وطعامكم من القد وهو اللحم أو الجلد اليابس وأوراق الأشجار، فالأراضي الواسعة الشاسعة قاحلة جرداء، لا ضرع فيها ولا زرع ومفهوم الزراعة غير موجود عندكم.

(أذّلة خاسئين) الخاسئ هو المنبوذ المطرود الذي لا يُترك أن يدنو من الناس لحقارته.

(تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم) إن التفسخ والانحلال يؤدي إلى اختلال الحياة الاجتماعية وإلى الفوضوية وفقدان الأمن والأمان، وسلب القرار والاستقرار والطمأنينة في النفوس، فالقوي يطمع في الضعيف، والكثير يأكل القليل، والغني يستعبد الفقير، فلا يخاف أحد من القانون، ولا يهاب العقاب، ولا يخشى السلطة.

ونحن نرى أن حوادث الاختطاف والاغتصاب والاعتداء إنما تكثر في البلاد التي لا يطبق فيها القانون على الجميع. ولا ينفذ إلا في حق الفقير الضعيف فالدماء تراق والأعراض تهتك، والأموال تسلب، والكرامات تُهدر، وهكذا وهلم جرّاً.

وقد اقتبست السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) هذه الآية من القرآن وأدمجتها في حديثها عن العهد الجاهلي.

(فأنقذكم الله بأبي محمد صلى الله عليه وآله) إنه المنقذ الأعظم والمصلح الأكبر الذي أنقذ العباد من تلك الحياة التي كانت تشبه الجحيم، وأصلح البلاد من تلك المفاسد والويلات والمصائب وأحدث انقلاباً في العقائد والنفوس والأخلاق والعادات.

ولم تتحقق أهدافه إلا (بعد اللتيّا والتي) هذه الكلمة صارت مثلاً في هذه المناسبة، أي استطاع الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) أن يطهر المجتمع، وينقذ الناس من مصائب الجاهلية بعد شق الأنفس، بعد أن تحمّل المشاكل وأنواع الأذى، بعد الضغط والكبت والاضطهاد.

(وبعد أن مُني بِبُهم الرجال) استطاع الرسول (صلى الله عليه وآله) إنقاذ الناس بعد أن ابتلي بالرجال الأقوياء، والأبطال الشجعان الذين أججوا نيران الحروب، وحاربوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) بكل ما يملكون من حول وقوة وهم أكثر عدداً من المسلمين، وأكثر عدّة وعتاداً.

(وذُؤبان العرب) إن الإنسان إذا تجرّد عن الإنسانية والأخلاق والفضيلة ينزل إلى مرتبة الحيوانات، فإذا فقد الفهم والعلم فإنه يُشبَّه بالحمار، وإذا فقد العاطفة والرأفة فإنه يُشبَّه بالسباع والحيوانات المفترسة، فيصح أن يقال في حقه: إنه ذئب.

وهكذا أولئك السفاكون الذين كانوا يستأنسون بالمذابح والمجازر التي كانوا هم السبب في تكوينها، أولئك الذين كانت هواياتهم إثارة الفتن وإيجاد الاضطرابات، أمثال أبي جهل وأبي سفيان ومن يدور في فلكهما، وقيل: المقصود من الذؤبان - هنا - اللصوص والصعاليك، أي السفلة من الناس الساقطين.

ابتلي الرسول (صلى الله عليه وآله) بهؤلاء المفسدين، بدءً من غزوة بدر إلى غزوة أحد إلى الخندق إلى حنين وغيرها، تجد هؤلاء المفسدين كانوا في طليعة أسباب الفتنة والاضطرابات والمشاغبات، وحتى الحروب التي خاضها المسلمون مع اليهود كان هؤلاء هم السبب في إثارتها.

(ومردة أهل الكتاب) إشارة إلى الحروب التي شبّ اليهود والنصارى نيرانها، أمثال: بني النضير، وبني قريظة وبني قينقاع، وبني الأصفر في مؤتة.

إن أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى لو كانوا يتبعون الكتاب السماوي الذي أنزل عليهم لما حاربوا الرسول؛ بل كانوا يسلمون على يديه في المرحلة الأولى، لأن أوصاف الرسول (صلى الله عليه وآله) مذكورة في كتبهم، وكان من السهل عليهم المقارنة بين تلك الصفات والعلائم وبين الرسول، وعند ذلك كانوا يجدون تلك الصفات تنطبق على الرسول مائة بالمائة، ولكن مردة أهل الكتاب وهم العتاة المتجبرون الذين منعهم الكبرياء من الخضوع للحق استمروا على عتّوهم وعنادهم وجحودهم.

(كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله) كانوا يحيكون المؤامرات ضد الرسول (صلى الله عليه وآله) ويجمعون الجيوش والعساكر ويحضّون القبائل والعشائر على محاربة الرسول، فكانت المساعي فاشلة، وكان الانتصار والغلبة والظفر حليفاً للرسول.

ولو استعرضنا تاريخ حياة الرسول (صلى الله عليه وآله) منذ البعثة حتى الوفاة لظهر لنا جانب كبير من إحباط المؤامرات والفشل الذريع الذي أحاط بأعداء الرسول.

(أو نَجَم قرن للشيطان) لو انكسر قرن الحيوان نبت له قرن آخر، وتقول السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام): إذا نهض أحد المفسدين للقيام بالأعمال الشيطانية، فتعتبر السيدة الزهراء تلك المعاكسات والمقاومات التي كانت المشركون يقومون بها أعمالاً شيطانية، أي ضارة ومضلة فهي تعطف هذه الجملة على جملة: (كلما أوقدوا) أي كلما نجم قرن للشيطان أو (فغرت فاغرة) أو فتحت حية الكفر فمها لتلسع وتلدغ المجتمع الإسلامي.

(قذف أخاه في لهواتها) أي كان الرسول يقضي على تلك النشاطات الجهنمية، والنعرات الشيطانية يقضي عليها بأخيه عليّ بن أبي طالب (عليه السلام).

كان الرسول يأمر عليهاً أن يردّ عنه كتائب المشركين وعصابات المنافقين فكان عليّ (عليه السلام) يخاطر بحياته، ويغامر بنفسه، ويستقبل أولئك الذئاب المفترسة، كان يقاتلهم وحده، ويخوض غمار الحرب، فيصح التعبير بقولها: (قذف أخاه في لهواتها) في فم الموت بين أنياب السباع تحت سيوف الأعداء، والرماح الشارعة والسهام الجارحة.

(فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه) لا يرجع عليّ (عليه السلام) من جبهة القتال حتى يسحق رؤوس الأعداء، ويدوس هامات الرؤساء بباطن قدمه، كالمصارع الذي ينزل إلى ساحة المصارعة فإذا تغلّب على خصمه وصرعه فلا بدّ من أن يلصق المصارع ظهر خصمه أو رأسه على الأرض ليثبت أنه أنهى المصارعة بأوفى صورة.

كذلك عليّ (عليه السلام) كان يهرول نحو الأعداء لا يعرف معنى الخوف، وكأنه مستميت، وكأنّ غريزة الحياة قد سُلبت عنه، وبيده صحيفة يقطر منها الموت، تراها راكعة ساجدة، على الرؤوس، والخواصر وكان يقدّ الأبدان نصفين طولاً أو عرضاً، ويفري ويكسر ويهشم في طرفة عين، وقبل أن تنفجر الدماء من العروق كانت العملية قد انتهت.

(ويخمد لهبها بسيفه) كان يقضي على جراثيم الفساد، ويقلع الأشواك عن طريق المجتمع البشري، ويطفئ لهيب الحروب بسيفه السماوي، ويمهّد الطريق لكلمة: (لا إله إلا الله محمد رسول الله).

(مكدوداً في ذات الله) قد أخذ التعب والعناء منه كل مأخذ، كل ذلك لله وفي الله ولوجه الله وفي سبيل الله.

(مجتهداً في أمر الله) المجتهد - في اللغة - الذي يجهد نفسه أي يتعبها، كان عليّ (عليه السلام) يبذل ما في وسعه وطاقته وجميع إمكانياته لتحقيق أهدافه السامية، وتحصيل أمنياته، وهي إعلاء كلمة الله.

(قريباً من رسول الله) ليس المقصود القرب المكاني، بل القرب المعنوي، من حيث قرابة النسب، وانسجام الروح، واندماج النفس واتحاد الاتجاه، ووحدة النفس، فعليّ (عليه السلام) نفس الرسول (صلى الله عليه وآله) بنص القرآن الكريم بقوله تعالى: (وأنفسنا وأنفسكم) وهل هناك قرابة أو نسب أقوى من هذا؟

(سيداً في أولياء الله) وفي نسخة: (سيد أولياء الله) فيكون المقصود هو رسول الله (صلى الله عليه وآله).

(مشمّراً ناصحاً، مجدّاً كادحاً) هكذا تصف السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) زوجها العظيم، كأنه يشمّر عن ثيابه نشاطاً واستعداداً للعمل للإسلام ولصالح الإسلام، في سبيل إسعاد المسلمين. وبذل النصح، وهو حب الخير لهم، كان مجداً في العمل، ساعياً فيه، لا يمنعه التعب عن استمرار العمل.

نعم، كانت حياة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) كلها جهوداً وجهاداً، ونشاطاً وإنتاجاً وإنجازاً وخدمة للإسلام والمسلمين، فمواقفه في جبهات القتال مشهورة، وأعماله الفدائية في سبيل الإسلام مذكورة، وتفانيه وتضحياته في سبيل الله معروفة.

(وأنتم في رفاهية من العيش وادعون فاكهون آمنون) كان عليّ (عليه السلام) يستقبل الأخطار والأهوال في الوقت الذي كان المسلمون بعيدين عن تلك الأخطار، مشغولين بأنفسهم يتمتعون بالراحة، ويتفكرون في تحصيل الملذات، وإشباع الرغبات، لا يعرفون معنى الخوف.

أين كان المسلمون ليلة المبيت؟ تلك الليلة التي طوّق المشركون دار رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهم يريدون الهجوم عليه ليقتلوه؟

أما بات عليّ (عليه السلام) على فراش رسول الله (صلى الله عليه وآله) يفديه بنفسه وحياته وشبابه.

أين كان المسلمون يوم أحد حين انهزموا وتركوا الرسول في جبهة القتال، تحمل عليه عصابات الكفر والمشركين؟ وبقي عليّ (عليه السلام) يقاوم الأعداء حتى ضرب الرقم القياسي في المواساة والتضحية، حتى هتف جبرئيل بفُتَّوته وبسالته يوم هتف بين الأرض والسماء: لا فتى إلا عليّ ولا سيف إلا ذو الفقار.

وهكذا يوم حُنين، وهكذا يوم الخندق، وهكذا يوم خيبر. وهكذا هلم جراً.

قال عليّ (عليه السلام): (ولقد واسيته بنفسي في المواطن التي تزل فيها الأقدام، وتنكص فيها الأبطال، نجدة أكرمني الله بها ..).

(تتربصون بنا الدوائر) كان بعض أولئك الأفراد مندسين في صفوف المسلمين يتوقعون هلاك الرسول، وينتظرون نزول المكاره وحلول الكوارث، برسول الله، والدوائر وصروف الزمان، والعواقب السيئة، وتحوّل النعمة وزوالها ونزول البلاء.

(وتتوكفون الأخبار) تتوقعون وصول الأخبار الدالة على هلاكنا.

(وتنكصون عند النزال، وتفرون من القتال) ففي يوم أُحد كانت المأساة من فرار المسلمين، ويوم حُنين كانت الفضيحة ويوم خيبر كان العار منطبعاً على جبهات المنهزمين، ولا تسأل عن يوم الخندق حين استولى الرعب على القلوب، والفزع على النفوس حينما برز عمرو بن عبد ودّ، فكفى الله المؤمنين القتال بعلي (عليه السلام).

هذا ولو أردنا استعراض الأحداث التاريخية بهذا الشأن لطال بنا الكلام وخرج الكتاب عن أسلوبه.

وخلاصة القول هذا موقف عليّ (عليه السلام) تجاه الإسلام والرسول، وهذه مواقف غيره من أولئك الشخصيات التي ظهرت شجاعتهم بعد وفاة الرسول! وبرزت مواهبهم حين خلا لهم الجو، وساعدتهم الظروف على ما يحبون!.


 

 

التَحَدث عَنْ فَتْرة الانقلاَب

ثم انتقلت للتحدث عن فترة الانقلاب الذي قام به الأفراد بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) فقالت:

فلّما اختار الله لنبيّه (صلى الله عليه وآله) دار أنبيائه.

ومأوى أصفيائه.

ظهر فيكم حسكة النفاق[230]

وسمل جلباب الدين[231]

ونطق كاظم الغاوين[232]

ونَبَغَ خامل الأقلِّين[233]

وهدَرَ فنيق المبطلين[234]

فخطر في عرصاتكم[235]

وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه[236].

هاتفاً بكم

فألفاكم لدعوته مستجيبين

وللغرّة فيه ملاحظين[237].

ثم استنهضكم فوجدكم خفافاً

وأحمشكم فألفاكم غضابا[238]

فوستمتم غير إبلكم[239]

وأوردتم غير شربكم[240]

هذا والعهد قريب

والكلم رحيب[241]

والجرح لمّا يندمل[242]

والرسول لمّا يُقبَر[243]

ابتداراً زعمتم خوف الفتنة[244]

(ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنَّم لمحيطة بالكافرين)

فهيهات منكم!

وكيف بكم؟

وأنَّى تؤفكون[245]

وكتاب الله بين أظهركم

أُموره ظاهرة

وأحكامه زاهرة

وأعلامه باهرة

وزواجره لائحة

وأوامره واضحة

وقد خلَّفتموه وراء ظهوركم

أرَغبةً عنه تريدون؟

أم بغيره تحكمون؟

بئس للظالمين بدلاً

(ومَن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)

ثم لم تلبثوا إلاّ ريث أن تسكن نفرتها[246]

ويسلس قيادها[247]

ثم أخذتم تورون وقدتها، وتُهيّجون جمرتها[248]

وتستجيبون لهتاف الشيطان الغويّ

وإطفاء أنوار الدين الجلي

وإخماد سنن النبي الصفي

تسرّون حسواً في ارتغاء[249]

وتمشون لأهله ووُلده في الخَمَر والضرَّاء[250]

ونصبر منكم على مثل حزّ المدى[251]

ووخز السنان في الحشى[252]

وأنتم - الآن - تزعمون أن لا إرث لنا

(أفحكم الجاهلية يبغون؟

ومَن أحسنُ من الله حكماً لقوم يوقنون؟)

أفلا تعلمون؟ بلى تجلّى لكم كالشمس الضاحية أني ابنته.

أيها المسلمون! أأُغلب على إرثيه.


 

 

شرح الخطبة:

(فلما اختار الله لنبيه (صلى الله عليه وآله) دار أنبيائه) ما أروع هذه الكلمة! وما أحسن هذا التعبير الراقي إذ أنها ما قالت: فلما مات النبي. بل قالت: (فلما اختار الله لنبيه دار أنبيائه) وهي الدرجات العلا في الجنة، فهناك الأنبياء، وهناك (مأوى أصفيائه).

(ظهرت فيكم حسيكة النفاق) وفي نسخة: (حسكية) وهي الشوكة، ويراد بها العداوة وهي عداوة النفاق، أي العداوة الحاصلة بسبب النفاق.

(وسمل جلباب الدين) وفي نسخة: (أسمل) وفي بعض النسخ: (جلباب الإسلام) أي ظهرت آثار الاندراس على ثياب الإسلام، بعد أن كانت في غاية الحسن والجمال والطراوة.

(ونطق كاظم الغاوين) وفي نسخة: (فنطق كاظم، ونبغ خامل) أي تكلم الذي ما كان يتجرأ أن يتكلم من جهة الخوف.

(ونبغ خامل الأقلِّين) وفي نسخة: (الآفلين) والمقصود بروز الأفراد الساقطين غير النابهين.

(وهدر فنيق المبطلين) وفي نسخة: (فنيق الكفر) أي رفع البعير - الفحل الذي لا يركب - صوته.

(فخطر في عرصاتكم) أي مشى ذلك البعير مشية المعجب بنفسه، مشية الكبرياء والغرور وكلها كنايات عن ظهور النفاق الكامن في الصدور، وبروز النزعات والاتجاهات التي كانت مختفية في عصر الرسول (صلى الله عليه وآله) وانقلاب الضعفاء العجزة أقوياء.

(وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفاً بكم) تعتبر السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) تلك الأحداث نوعاً من التجاوب مع الشيطان الرجيم الذي حلف بقوله: (لأغوينهم أجمعين إلاّ عبادك منهم المخلصين) فالشيطان الذي كان فاشلاً في عهد الرسول يوم كان الإسلام في التقدم والقوة، الشيطان أخرج رأسه بعد أن كان مختفياً، أخرج رأسه كالقنفذ الذي يخرج رأسه عند زوال الخوف، وهتف بكم ودعاكم إلى نقض البيعة التي تمت يوم الغدير، وسلب الحقوق عن أهلها وأصحابها الشرعيين.

(فألفاكم لدعوته مستجيبين) وفي نسخة: (فوجدكم لدعوته التي دعا إليها مجيبين) أي حينما هتف بكم الشيطان وجدكم كما يجب، وصدق عليكم ظنه.

(وللغرّة فيه ملاحظين) أي وجد الشيطان فيكم تجاوباً شديداً، وقبولاً للانخداع كالإنسان الذي يقبل كل شيء يقال له، ويعمل كل شيء يؤمر به، بلا تفكر ولا تعقّل في الأمور.

(ثم استنهضكم فوجدكم خفافاً) أمركم بالقيام به فوجدكم مسرعين دون تثاقل.

(وأحمشكم فألفاكم غضاباً) وفي نسخة: (فوجدكم غضاباً) أي حملكم على الغضب، وحرّضكم عليه فوجدكم تغضبون لغضبه، أو تندفعون نحو الغضب على حسابه ولمصلحته، والمقصود: وجدكم الشيطان منقادين لأوامره، مطيعين له في كل الأحوال.

(فوسمتم غير إبلكم) فكانت النتيجة أنكم عملتم ما لا يجوز لكم أن تفعلوه، وانتخبتم من ليس بأهل الانتخاب، وأعطيتم مقاليد الأمور غير أهلها، وخوّلتم القيادة إلى غير أكفائها.

(وأوردتم غير شربكم) وفي نسخة: (وأوردتموها شرباً ليس لكم) كالراعي الذي ينزل إبله في عين ماء ليست له، والمقصود إنكم أخذتم ما ليس لكم بحق من الخلافة، والمراد التصرفات الشاذة التي قام بها الناس في تعيين الخليفة، وصرف الخلافة عن أهلها وأصحابها الشرعيين، لأن هذه التصرفات ليست من حق الناس، بل هي من عند الله تعالى.

(هذا والعهد قريب) حَدَث كل هذا التغيير والحال أن العهد قريب، أي لم يمضِ زمن بعيد عن أيام الرسول (صلى الله عليه وآله) إذ من الممكن أن الدين يتغير، أو المسلمين ينسون الأوامر والتعاليم بسبب مرور الزمان، ولكن - هنا - ليس الأمر كذلك فإنه لم يمضِ على وفاة الرسول أسبوعان.

(والكلم رحيب) وجراحة القلب بسبب وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) لا يزال فمها واسعاً، وهذا تعبير عن سعة الجراحة، والمقصود عِظَم المصيبة، وفظاعة الخطب.

(والجرح لما يندمل) أي لم يلتئم جرح مصاب وفاة النبي (صلى الله عليه وآله).

(والرسول لما يقبر) أي ظهرت بوادر الانقلاب قبل دفن النبي (صلى الله عليه وآله)، بل في تلك الساعات التي كان علي (عليه السلام) يغسّل الرسول (صلى الله عليه وآله) ويكفنه، فاجتمعتم وصنعتم ما صنعتم.

(ابتداراً، زعمتم خوف الفتنة) وفي نسخة: (بداراً) أي أسرعتم إلى تلك الأعمال بكل استعجال، وتزعمون أنكم إنما فعلتم ما فعلتم وقاية عن وقوع الفتنة، ومعنى زعم: ادّعى شيئاً وهو يعلم كذبه، ومعنى - زعمتم - هنا: ادّعيتم أنكم فعلتم تلك الأفعال لئلا تقع الفتنة، وكنتم تعلمون أنكم كاذبون في هذا الإدعاء.

(ألا في الفتنة سقطوا وأن جهنم لمحيطة بالكافرين) الفتنة أنتم، وأنتم الفتنة، وعملكم هو الفتنة المفسدة، غصبتم الحقوق عن أهلها لأجل الوقاية من الفتنة حسب ادعائكم، وأيّ محنة أعظم من تغيير مجرى الإسلام، وتبديل أحكامه، وغصب حقوق أهل البيت، ومعاملتهم بتلك القسوة والخشونة؟؟

وكان من المناسب أن تقول السيدة فاطمة: إلا في الفتنة سقطتم. ولكنها ذكرت الآية الشريفة كما هي.

(فهيهات منكم) كلمة: (هيهات) معناها البُعد، وكأنّها تستبعد تلك الأعمال منهم استبعاداً ممزوجاً بالتعجب من أنهم كيف أقدموا على تلك الأعمال، ومَن الذي يصدّق أن تلك الحثالة من الناس يقومون بتلك الجرائم العظيمة بالرغم من تصريح القرآن، وتصريحات الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وتوصياته في حق عترته وأهل بيته؟

(وكيف بكم) تتعجب السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) من ذلك التبدل في العقائد والسلوك أي كيف فعلتم هذه الأعمال؟ وكيف تليق بكم تلك الجنايات.

(وأنّى تؤفكون) أي إلى أين صَرَفكم الشيطان عن طريقتكم المثلى، وحدا بكم إلى هذه الأعمال.

(وكتاب الله بين أظهركم) أي والحال أن القرآن لا يزال موجوداً فيما بينكم، محفوفاً بكم، وفي نسخة: (وكتاب الله - عز وجل - بين أظهركم، قائمة فرائضه، واضحة دلائله، نيّرة شرائعه).

(أُموره ظاهرة) أي لا يوجد في القرآن ما يوجب الشك والارتياب، لأن أموره ظاهرة.

(وأحكامه زاهرة) متلألئة مشرقة.

(وأعلامه باهرة) أي العلامات التي يستدل بها على القرآن غالبة النور والضياء.

(وزواجره لائحة) أي نواهيه التي تزجركم عن اتباع الهوى واضحة.

(وأوامره واضحة) الأوامر التي تأمركم بإطاعتنا، وتعلّم الأحكام منا، والانقياد لنا ظاهرة.

(وقد خلّفتموه وراء ظهوركم) يا للأسف! إن القرآن الموصوف بهذه الأوصاف صار اليوم منبوذاً وراء ظهوركم، لا تعملون به ولا تأخذون بقوله.

(أرَغبة عنه تريدون؟) هذا استفهام توبيخي، لأن الإنسان إذا ألقى الشيء وراءه فمعناه أنه لا يرغب إليه لهذا يدبر عنه.

تقول (عليها السلام) كأنكم رفضتم العمل بالقرآن، أو لا يعجبكم القرآن أي أحكامه التي تزاحم هواياتكم وأهدافكم.

(أم بغيره تحكمون؟) أي تحكمون بغير القرآن من القوانين؟ إذ القرآن لا يصلح للعمل عندكم؟

(بئس للظالمين بدلاً) بئس ذلك البدل الذي أخذتم به بدل القرآن، وهو الحكم الباطل.

(ثم لم تلبثوا إلاّ ريث أن تسكن نفرتها ويسلس قيادها) وهنا شبهت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) الفتنة بالناقة أو الدابة الشاردة التي يصعب قيادها، أي الاستيلاء عليها بالركوب تقول (عليها السلام) بعد استيلائكم على المقام الأسمى الأرفع الأعلى وهو مقام الخلافة لم تلبثوا حتى استتمت لكم الأمور، وهدأ الاضطراب ثم شرعتم بالأعمال التخريبية.

(ثم أخذتم تورون وقدتها، وتهيجون جمرتها) أي شرعتم بإثارة الفتن كالذي ينفخ في الجمرة حتى تلتهب، أو يحرك الجمرة حتى تشتعل وتظهر نارها، وتحرق الرطب واليابس، والمقصود من ذلك تلك المآسي التي قام بها أولئك الأفراد من سلب الإمكانيات من أمير المؤمنين (عليه السلام) وهجومهم على الدار، وما جرى على السيدة فاطمة وزوجها وولديها، ثم مصادرة أملاكها ومنعها عن الخمس والفيء، وغير ذلك مما ذكره المؤرخون وما لم يذكروه..

وخلاصة القول: أنكم قمتم بجرائم متسلسلة ومتعددة، بعضها أفجع وأفظع من بعض.

(وتستجيبون لهتاف الشيطان الغوي) لأن الشيطان يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير، ويحدثنا القرآن الكريم عن كلام الشيطان الغوي: (وما كان لي عليكم من سلطان إلاّ أن دعوتكم فاستجبتم لي)[253] نعم إن الأعمال التي قامت بها رجال السلطة ضد آل الرسول لم تكن إجابة واستجابة لله ولرسوله، بل كانت استجابة للشيطان الغوي، وقد تقدم كلام شبيه بهذا فيما سبق.

(وإطفاء أنوار الدين الجلي) للدين الإسلامي أنوار يهتدي بها الناس، وهي محاسن الأحكام والقوانين الروحانية التي يتمتع بها الدين، ويسعون لإطفاء تلك الأنوار.

(وإخماد سنن النبي الصفي) وفي نسخة: (إهماد) أي القضاء على طريقة الرسول وهنا تشبيه السنة النبوية بالنور، وتشبيه القضاء عليه بالإخماد.

(تسرّون حسواً في ارتغاء) هذه الجملة تشير إلى قضية معروفة وهي إن اللبن حينما يُحلب تعلوه رغوة فيأتي الرجل فيُظهر أنه يريد شرب الرغوة فقط، ولكنه يشرب الماء سراً، وبهذا يضرب المثل لمن يدّعي شيئاً ويريد غيره.

فهو يشرب اللبن سراً ولكنه يدعي أنه يحسو الرغوة، فيقال: فلان يسرّ حسواً في ارتغاء. والارتغاء شرب الرغوة.

هكذا تخبر السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) عن الهدف الحقيقي لهؤلاء، أنهم يدّعون شيئاً ولكنهم يريدون شيئاً آخر، يدّعون الوقاية من وقوع الفتنة ولكنهم يريدون غلق بيت آل محمد، والقضاء على كيان أهل البيت.

(وتمشون لأهله ووُلده في السراء والضراء) وفي نسخة: (في الخَمَر والضراء) والخَمَر - بفتح الخاء والميم - هو ما يسترك من الشجر وغيره، والضراء - بفتح الضاد وتخفيف الراء - : الشجر الملتف، أو الأرض المنخفضة، والمقصود: أنكم تؤذون أهل رسول الله وأولاده بالمكر والخديعة وبصورة سرية غير مكشوفة، ولهذه الغاية قطعتم عنهم موارد الرزق ليكونوا فقراء ضعفاء مسلوبي الإمكانيات كي لا يميل إليهم أحد.

(ونصبر منكم على مثل حزّ المدى) نحن نصبر منكم على الأذى والمكاره التي تصلنا منكم كمن يصبر على تقطع أعضائه بالسكين.

(ووخز السنان في الحشى) مثل مَن طعنوه بسنان الرمح في أحشائه، أي ليست القضية سهلة حتى يمكن التغاضي عنها والتناسي، بل هي مأساة كبيرة، وجريمة عظيمة.

(وأنتم الآن تزعمون أن لا إرث لنا) وبعد هذا كله لتبرير موقفكم العدائي، وتغطية أعمالكم تزعمون أي تدّعون كذباً: أن لا إرث لنا من رسول الله (صلى الله عليه وآله) تنكرون أهم الأمور وأوضح الأشياء في الدين الإسلامي، وهو قانون الوراثة في القرآن والسنة.

(أفحكم الجاهلية يبغون) وفي نسخة: (تبغون) أدمجت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) هذه الآية في حديثها كما هي عادتها بسبب استئناسها بتلاوة القرآن، تقول: إن إنكار الوراثة ليس في الحكم الإسلامي، فهل أعجبكم أن تحكموا بأحكام الجاهلية التي كانت تبعاً للأهواء الفردية، منبعثة عن أغراض شخصية، وهي حرمان البنات من الإرث، وتخصيص الإرث للذكور فقط.

(ومن أحسن حكماً من الله لقوم يوقنون) آية أخرى أدمجتها في حديثها، وهل يوجد حكم أو قانون أحسن من الحكم الصادر من الله تعالى عند الذين يوقنون بالله الحكيم؟ ويعتقدون بالإسلام أليس القانون الإسلامي قد قضى على قوانين الجاهلية؟ فجعل الإرث للبنات والبنين؟

(بلى، تجلّى لكم كالشمس الضاحية إني ابنته) بلى الأمر واضح عندكم كالشمس التي تظهر في ضحوة النهار، في سماء صافية لا سحاب فيها ولا ضباب، هكذا اتضح عندكم أني ابنته قطعاً وبلا شك.

(أفلا تعلمون؟) هذه الأمور وهذه الحقائق؟ أو أفلا تعلمون أني ابنته.

(أيها المسلمون) الحاضرون المستمعون إلى خطابي، يا من رشحتم أبا بكر للخلافة يا أمة محمد أنا بنت محمد، أنا ابنة رسول الإسلام.

(أأُغلب على إرثيه) يغلبونني على أخذ إرثي وحقي؟ وفي نسخة: (أأُبتزّ إرث أبيه) أيسلبونني إرث أبي؟ والهاء - هنا - للوقف والسكون.


 

 

فَاطِمَةُ الزهْرَاء (عليها السلام) تُخاصِمُ الرئِيس

يا ابن أبي قحافة!

أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي؟

لقد جئت شيئاً فرّياً!![254]

أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم؟

إذ يقول:

(وورث سليمان داود)[255]

وقال - فيما اقتص من خبر زكريا - إذ قال:

(فهب لي من لدنك وليّاً يرثني ويرث من آل يعقوب)[256]

وقال:

(وأُولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله)[257].

وقال:

(يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين)[258].

وقال:

(إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقاً على المتقين)[259].

وزعمتم أن لا حظوة لي![260].

ولا إرث من أبي!

أفخصّكم الله بآية أخرج أبي منها؟

أم تقولون: إن أهل ملتين لا يتوارثان؟

أوَلست أنا وأبي من أهل ملَّة واحدة؟

أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي؟

فدونكها مخطومة مرحولة[261].

تلقاك يوم حشرك.

فَنِعم الحَكَم الله.

والزعيم محمد.

والموعد القيامة.

وعند الساعة يخسر المبطلون.

ولا ينفعكم إذ تندمون.

ولكل نبأ مستقر، فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يُخزيه، ويحلّ عليه عذاب مقيم.

ثم رَمَتْ بِطَرفها نحو الأنصار فقالت:

يا معشر النقيبة

وأعضاد الملَّة

وحَضَنَة الإسلام[262].

ما هذه الغَميزة في حقي؟[263].

والسِّنَة عن ظلامتي؟

أما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) أبي يقول:

(المرء يُحفظ في وُلده)؟

سرعان ما أحدثتم

وعجلان ذا إهالة

ولكم طاقة بما أُحاول

وقوة على ما أطلب وأُزاول[264]

أتقولون: مات محمد (صلى الله عليه وآله)

فخطب جليل

استوسع وهنة[265]

واستنهر فتقه[266]

وانفتق رتقه

وأظلمت الأرض لغيبته

وكسفت النجوم لمصيبته

وأكدت الآمال[267]

وخشعت الجبال

وأُضيع الحريم[268]

وأُزيلت الحرمة عند مماته

فتلك - والله - النازلة الكبرى[269]

والمصيبة العظمى

لا مثلها نازلة

ولا بائقة عاجلة[270]

أعلن بها كتاب الله - جلّ ثناؤُه - في أفنيتكم[271]

في ممساكم ومصبحكم

هتافاً وصراخاً

وتلاوة وألحاناً

ولَقبلَه ما حلَّ بأنبيائه ورُسله

حكم فصل، وقضاء حتم

(وما محمد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرّ الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين)[272].


 

 

شرح الخطبة:

(يا بن أبي قحافة) هنا وجّهت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) خطابها إلى رئيس الدولة، ولم تقل له: يا خليفة رسول الله لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يستخلفه، ولم تخاطبه بالكنية (يا أبا بكر) لأنه تعظيم له، وإنما قالت له: يا بن أبي قحافة. وسيتضح لك وجه هذا النسب، في المستقبل في شرح كلماتها مع زوجها أمير المؤمنين (عليه السلام).

(أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي؟) بأي قانون ترث أباك إذا مات ولا أرث أبي إذا مات؟؟ هل تعتمد على كتاب الله في منعي عن إرث أبي؟

(لقد جئت شيئاً فرياً) لقد جئتَ بافتراء عظيم، وكذب مختلق على القرآن.

لقد ذكرنا - فيما مضى - أن السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) كانت تستحق فدكاً عن طريق النحلة وعن طريق الإرث، فلما طالبت بفدك عن طريق النحلة وأقامت الشهود على ذلك صنعوا ما صنعوا والآن جاءت تطالب بفدك عن طريق الميراث.

(أفعلى عمدٍ تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم) أليس هذا القرآن موجوداً عندكم؟ فلماذا تركتم العمل به وطرحتموه وراءكم؟

(إذ يقول: وورث سليمان داود) أليس هذا تصريحاً بقانون التوارث والوراثة بين الأنبياء؟ أما كان سليمان وابنه داود من الأنبياء؟

إن السيدة فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) فهمت من الآية أن معنى: (وورث سليمان داود) هو إرث المال، وهكذا فهم أبو بكر وهكذا جميع المسلمين الحاضرين يومذاك وهم يستمعون إلى كلام السيدة فاطمة، هؤلاء كلهم قد فهموا أن المقصود من الإرث في هذه الآية هو إرث المال، ومعنى ذلك أن سليمان ورث أموال أبيه داود، ولم يفهموا غير هذا.

وهكذا الكلام في قوله تعالى - فيما اقتص من خبر زكريا - : (فهب لي من لدنك وليّاً يرثني ويرث من آل يعقوب) إن زكريا (عليه السلام) سأل الله تعالى أن يرزقه ولداً يرثه المال.

ولكن بعد قرون عديدة جاء المدافعون عن السلطة، فقالوا: في تفسير الآيتين: ورث سليمان داود العلم لا المال، وهكذا: ولياً يرثني العلم لا المال، وهم يقصدون بهذا التفسير تأييد الذين حرموا السيدة فاطمة من ميراث أبيها الرسول (صلى الله عليه وآله).

ولا بأس أن نتحدث - بما تيسر - حول الآيتين لعلنا نصل إلى نتيجة مطلوبة:

أولاً: لفظ الإرث والميراث يستعمل شرعاً وعرفاً ولغة في المال، فإذا قلنا: فلان وارث فلان. فالظاهر أنه وارثه في المال. لا أنه وارثه في العلم أو المعرفة، إلا إذا كانت هناك قرينة أي دليل يدل على إرث العلم والمعرفة كقوله تعالى: (وأورثنا بني إسرائيل الكتاب) وقوله: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا).

فأما قوله: (وورث سليمان داود) فالمقصود إرث المال لا إرث العلم والملك وما شابه، لأن سليمان كان نبياً في حياة أبيه داود، كما قال تعالى - في قصة الزرع الذي نفشت فيه غنم القوم - (ففهَّمناها سليمان وكلاّ آتينا حكماً وعلماً..) [273] وقد ذكر الزمخشري في الكشاف ج23 في تفسير قوله تعالى: (إذْ عُرض عليه بالعشي الصافنات الجياد) روي أن سليمان غزا أهل دمشق ونصيبين فأصاب ألف فرس، وقيل: ورثها من أبيه، وأصابها أبوه من العمالقة، وقال البيضاوي: وقيل أصابها أبوه من العمالقة فورثها منه فاستعرضها.. الخ.

فإنك تجد أن سليمان ورث أباه داود تلك الخيول والأفراس، وورثه غيرها من التركة والأموال التي تركها داود، وبهذين القولين ثبت أن سليمان لم يرث العلم والنبوة من أبيه داود لأن سليمان كان نبياً في زمان أبيه داود كما كان هارون نبياً في زمان أخيه موسى بن عمران (عليهما السلام) وثبت أيضاً أن سليمان ورث أباه داود المال.

وأما ما يتعلق بدعاء زكريا (عليه السلام) ربه: (فهب لي من لدنك وليّاً يرثني) فقد قال بعض الشواذ: يرثني نبوتي، فهو يريد نفي الوراثة عن الأنبياء، ولكن الآية الكريمة بنفسها تكشف الحقيقة عن مراد زكريا.

فقوله: (واجعله رب رضياً) يدل على أنه ليس المقصود إرث النبوة لأنه يكون المعنى أن زكريا سأل ربه أن يهب له ولياً يرثه النبوة ويكون ذلك الولي مرضياً عند الله، وهذا كقول القائل: اللهم ابعث لنا نبياً واجعله عاقلاً مرضياً في أخلاقه، وهذا لغو وعبث، ولا يستحسن من زكريا أن يسأل ربه أن يجعل ذلك النبي رضياً أي مرضياً في أخلاقه، لأن النبوة أعظم من هذه الصفات، وجميع هذه الصفات تندرج تحت النبوة، وقد قال فخر الدين الرازي: إن المراد بالميراث في الموضعين (الآيتين) هو وراثة المال.

وللمفسرين كلام حول دعاء زكريا (عليه السلام) لا بأس بذكره ملخصاً:

قال الطبرسي في (مجمع البيان) في تفسير الآية: ويقوّي ما قلنا أن زكريا صرّح بأنه يخاف بني عمه بعده بقوله: (وإني خفت الموالي من ورائي) وإنما يطلب وارثاً لأجل خوفه، ولا يليق خوفه منهم إلاّ بالمال دون النبوة والعلم، لأنه (عليه السلام) كان أعلم بالله تعالى من أن يخاف أن يبعث نبياً من ليس بأهل للنبوة، وأن يورث علمه وحكمته من ليس لهما بأهل، ولأنه إنما بُعث لإذاعة العلم ونشره في الناس فكيف يخاف من الأمر الذي هو الغرض في بعثته؟

فإن قيل: إن هذا يرجع في وراثة المال، لأن في ذلك إضافة الضن والبخل إليه، قلنا: معاذ الله أن يستوي الأمران، فإن المال قد يُرزق به المؤمن والكافر والصالح والطالح، ولا يمتنع أن يأسى على بني عمه إذا كانوا من أهل الفساد أن يظفروا بماله فيصرفوه فيما لا ينبغي، بل في ذلك غاية الحكمة، فإن تقوية الفسّاق وإعانتهم على أفعالهم المذمومة محظورة في الدين، فمن عدّ ذلك بخلاً وضناً فهو غير منصف وقوله: (خفت الموالي من ورائي) يفهم منه أن خوفه إنما كان من أخلاقهم وأفعالهم ومعاني فيهم لا من أعيانهم.

لقد تلخص من مجموع الأقوال أن المقصود من الوراثة في آية سليمان بن داود وآية زكريا هو وراثة المال، والنتيجة أن الوراثة كانت بين الأنبياء.

(وقال: وأُولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) أي وذوو الأرحام والقرابة بعضهم أحق بميراث بعضهم من غيرهم، وهذه الآية عامة في التوارث بين الأرحام والأقارب.

(وقال: يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأُنثيين) أي يأمركم الله ويفرض عليكم في توريث أولادكم إذا متّم للابن مثل نصيب البنتين وهذه الآية أيضاً عامة في جميع المسلمين بلا تخصيص للأنبياء إنهم لا يورّثون أولادهم.

(وقال: إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقاً على المتقين) إن الآية هكذا: (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً..) أي إن ترك مالاً، وهذه آية ثالثة عامة في الوراثة وليس فيها تخصيص للأنبياء أو نفي الوراثة بين الأنبياء.

(وزعمتم أن لا حظوة لي) أي ادَّعيتم أن لا نصيب ولا منزلة لي (ولا إرث من أبي) رسول الله (صلى الله عليه وآله) (ولا رحم بيننا) ولا قرابة ولا صلة لأنكم أنكرتم الوراثة الثابتة بيني وبين أبي، فقد أنكرتم كل صلة وعلاقة وقرابة بيني وبين أبي.

(أفخصَّكم الله بآية أخرج منها أبي) وفي نسخة: (أَفَحَكَم الله بآية) إن آيات الإرث عامة وشاملة لجميع المسلمين، فهل استثنى الله أبي من آيات الإرث فلا وراثة بين النبي وأهله؟

(أم تقولون: إن أهل ملَّتين لا يتوارثان) فالكافر لا يرث المسلم؟

(أو لست أنا وأبي من أهل ملَّة واحدة؟) هل تشكون في إسلامي وكوني مسلمة، وعلى شريعة الإسلام؟

يا للمصيبة‍‍! لقد بلغ الأمر ببضعة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وابنته الوحيدة وسيدة نساء العالمين أن تتكلم هكذا، وتحتج بهذا المنطق؟ فإنا لله وإنا إليه راجعون.

(أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي؟) إنّ آيات الإرث عامة فإن كانت مخصَّصة للرسول كان الرسول يعلم ذلك، ويخبر ابنته مع العلم أنه (صلى الله عليه وآله) لم يخبر ابنته ولا غيرها من الناس بهذا الحكم الخاص، وهل من المعقول أن يُخفي رسول الله (صلى الله عليه وآله) هذا الحكم من ابنته مع شدة اتصالها به وكثرة تعلقه بها، وشدة الحاجة إلى بيان الحكم لها لئلا تطالب بالإرث بعد وفاة أبيها الرسول (صلى الله عليه وآله).

تقول السيدة فاطمة أم تقولون: أنكم أنتم أعلم بالقرآن وآياته الخاصة والعامة من أبي رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي نزل القرآن على قلبه؟ أم أنتم أعلم من ابن عمي علي بن أبي طالب باب مدينة علم الرسول إذا لو كان الأمر هكذا لكان زوجي يخبرني، وما كان يأمرني أن أحضر في المسجد وأطالب بحقوقي وإرث أبي.

هذه جميع الصُور التي يمكن أن يتصورها الإنسان في هذه المسألة، وكلها منتفية، وإذن فالقضية سياسية، وليست دينية، بل هي مؤامرة ضد آل رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومحاربة اقتصادية لتضعيف جانبهم الاقتصادي.

(فدونكها مخطومة مرحولة) إلى هنا كان الخطاب عاماً لجميع المسلمين الحاضرين في المسجد وهنا وجهّت خطابها إلى رئيس الدولة وحده، وقالت: (فدونكها) أي خذها، خذ فدك وشبّهت فدك بالناقة التي عليها رحلها وخطامها، والرحل للناقة كالسرج للفرس، والخطام: الزمام، والمقصود: خذ فدك جاهزة مهيأة، وفي هذا الكلام تهديد، وهذا كما يقال للمعتدي: افعل ما شئت، وانهب ما شئت هنيئاً مريئاً.

ولهذا أردفت كلامها بقولها: (تلقاك يوم حشرك) إشارة إلى أن الإنسان يرى أعماله يوم القيامة قال تعالى: (ووجدوا ما عملوا حاضراً).

(فنِعم الحَكم الله) في ذلك اليوم الحكم لله الواحد القهار، لا لك، الذي لا يجور، الذي لا يخفى عليه شيء من مظالم العباد.

(والزعيم محمد) المحامي الذي يخاصمك هو سيد الأنبياء، وهو أبي، يطالبك بحق ابنته فاطمة.

(والموعد القيامة) وهو يوم الفصل الذي كان ميقاتاً، وعند الله تجتمع الخصوم.

(وعند الساعة يخسر المبطلون) يخسر الذين ادّعوا الباطل، وادّعوا ما ليس لهم.

(ولا ينفعكم إذ تندمون) لا ينفع الندم في ذلك اليوم، إذ الإنسان قد يندم في الدنيا على عمله فينفعه الندم إذ إنه لا يعود إلى ذلك العمل، ولكن في القيامة لا ينفع الندم إذ لا عمل هناك وإنما هو الحساب.

(ولكل نبأ مستقر فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحلّ عليه عذاب مقيم) وهذا تهديد بعذاب الآخرة، الدائم المستمر.

ثم رَمَتْ بطرفها نحو الأنصار وهم أهل المدينة الذين نصروا رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما هاجر من مكة إلى المدينة، واستنصرتهم بعد أن ذكّرتهم بسوابقهم المشرقة في عهد الرسول.

وقالت: (يا معشر النقيبة) أيتها الطائفة النجيبة، وفي نسخة: (يا معاشر الفتية) نسبت إليهم الفتوة والشهامة كي تهيّج عزائمهم وعواطفهم.

(وأعضاد الملة) أعوان الدين.

(وحضَنَة الإسلام) أيها المحافظون على الإسلام، احتضنتم الإسلام كما تحتضن المرأة ولدها أو كما يحتضن الطائر بيضه.

(ما هذه الغميزة في حقي؟) ما هذا التغافل والسكوت عن حقي؟

(والسِنة عن ظلامتي؟) السنة - بكسر السين - الفتور في أول النوم. والظلامة: ما أخذه الظالم منك فتطلبه عنده، وتصف فاطمة الزهراء (عليها السلام) سكوتهم عن إسعافها بالسنة التي هي مقدمة للنوم الذي يفقد النائم فيه الشعور.

نعم، إنه موت الضمير، وتعطيل الإحساس، وركود العاطفة، وفقد الإنسانية.

(أما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) أبي يقول: المرء يُحفَظ في ولده؟) أي تحفظ كرامة الإنسان بحفظ كرامة أولاده ورعاية حقوقهم، كما قيل: (لأجل عين ألف عين تُكرم) أليس رسول الله أبي؟ ألستُ ابنته؟ أما ينبغي لكم أن تحترموا مكانتي لأجل رسول الله (صلى الله عليه وآله).

وفي نسخة: (أما كان لرسول الله أن يحفَظ في وُلده؟) أما كان يستحق رسول الله أن تحفظ كرامته في أولاده وذريته؟

(سرعان ما أحدثتم) تتعجب السيدة فاطمة الزهراء من إسراعهم في إحداث الأمور، والاعتداء على آل الرسول (صلى الله عليه وآله).

(وعجلان ذا إهالة) هذه الكلمة تشير إلى قضية ويضرب بها المَثَل، وهي أن رجلاً كان له نعجة عجفاء هزيلة، يسيل مخاطها من منخريها، فقيل له: ما هذا؟ قال: سرعان ذا إهالة. والإهالة: الشحم، أو الشحم المذاب، وتستعمل هذه الكلمة لمن يخبر بالشيء قبل وقته، والمقصود: إنكم دبَّرتم الأمور ضدّنا بكل استعجال وبكل سرعة.

(ولكم طاقة بما أُحاول) عندكم قدرة وإمكانية لإسعافي ومساعدتي ونُصرتي في استرجاع حقوقي المغصوبة التي أقصد استردادها.

(وقوة على ما أطلب وأُزاول) لستم ضعفاء عاجزين عن حمايتي والدفاع عني، فما عذركم، ما سبب سكوتكم؟ ما هذا التخاذل؟

(أتقولون: مات محمد) ومات دينه، وماتت كرامته وحرمته، وماتت المفاهيم المثلى، وخلى الجو؟ أهذا جرّأكم علينا أهل البيت؟

(فخطب جليل) فأمر عظيم شديد، لأن موت العظماء عظيم، وفي نسخة: (أتزعمون مات رسول الله (صلى الله عليه وآله) أيتم دينه، ها أن موته لعمري خطب جليل) ثم جعلت (عليها السلام) تصف فظاعة المصيبة ومدى عظمتها، وتأثيرها في النفوس، فقالت:

(استوسع وهنه) وفي نسخة: (استوسع وهيه) كالحصن الذي اتّسع شقه (واستنهر فتقه) كالطعنة التي توسع الشق في البدن.

(وانفتق رتقه) انشق المكان الملتئم منه، والضمائر الثلاثة في وهنه وفتقه ورتقه تعود إلى الخطب.

(وأظلمت الأرض لغيبته) من الطبيعي أنه كان نوراً تستضيء به الأرض ومن عليها وبوفاته أظلمت الأرض، وتجد في القرآن آيات كثيرة تعبّر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالنور كقوله تعالى: (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين)[274].

(وكسفت النجوم لمصيبته) إن الضوء الذي تراه على وجه القمر وعلى بقية النجوم ما هو إلا انعكاس لنور الشمس على القمر والنجوم، فإذا زال نور الشمس انكسفت النجوم وزال عنها الضوء.

(وأكدت الآمال) أي انقطعت الآمال التي كانت منوطة برسول الله (صلى الله عليه وآله) بسبب وفاته، وذلك كما يقال: خابت الظنون وانقطعت الآمال.

(وخشعت الجبال) من هول الفاجعة، وعظم الواقعة حتى الجمادات تتأثّر بالحوادث العظيمة، كما قال تعالى: (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله)[275].

(وأضيع الحريم) الحريم: ما يحميه الرجل ويقاتل عنه، والمقصود - هنا - حريم آل الرسول وهم عترته الطيبة، نعم، ضاع حريمه أيّ ضياع! وانتهكت حرمته أي انتهاك!.

(وأُزيلت الحرمة عند مماته) وفي نسخة: (أُديلت الحرمة عند مماته) أي غُلبت (بضم الغين وكسر اللام).

(فتلك - والله - النازلة الكبرى، والمصيبة العظمى) إن مصيبة وفاة العظماء تكون عظيمة، فكلما كانت عظمة المتوفى أكثر كانت مصيبة وفاته أعظم وأفجع، ولقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) أشرف مخلوق وأعظم إنسان، وأطهر كائن فبالطبع تكون وفاته نازلة كبرى ومصيبة عظمى.

(لا مثلها نازلة) لا توجد في العالم مصيبة كبيرة كمصيبة وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) لأنه لا يوجد في العالم موجود كرسول الله (صلى الله عليه وآله).

(ولا بائقة عاجلة) أي لا مثلها داهية في القريب العاجل، إذ من الممكن أن تحدث في العالم حادثة أعظم وقعاً من وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) وهي حادثة قيام الساعة وقيام القيامة.

ولقد وصف الإمام عليّ أمير المؤمنين (عليه السلام) مصيبة وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) بقوله: (فنزل بي من وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما لم أكن أظن الجبال لو حملته عنوة كانت تنهض به، فرأيت الناس من أهل بيتي ما بين جازع لا يملك جزعه، ولا يضبط نفسه، ولا يقوى على حمل فادح ما نزل به، قد أذهب الجزع صبره، وأذهل عقله، وحال بينه وبين الفهم والإفهام، والقول والاستماع).

(أعلن بها كتاب الله - جل ثناؤه - في أفنيتكم) أعلن القرآن الكريم بوفاة الرسول في جوانبكم ونواحيكم، أي القرآن يُتلى آناء الليل وأطراف النهار، وأصوات التلاوة مرتفعة من المسجد ومن البيوت والمساكن، وفي نسخة: (في قبلتكم) والمقصود المسجد أو المصلىّ الذي يتلى فيه القرآن.

(في ممساكم ومصبحكم) مساءً وصباحاً كنتم تسمعون الآيات التي تخبر عن وفاة الرسول (هتافاً وصراخاً) كان الإعلان بوفاة الرسول بأنواع مختلفة: بالهتاف وهو القراءة مع الصوت والصراخ وهو القراءة بالصوت الشديد.

(وتلاوة وألحاناً) بالتلاوة إذا كانت القراءة سريعة وبالألحان إذا كانت بتأمل وتأنّي (ولقبله ما حلَّ بأنبيائه ورسله حكم فصل، وقضاء حتم) إن الموت الذي حلّ بالأنبياء الذين كانوا قبل الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) كان من الأحكام المقطوع بها، التي لا شك فيها، والقضاء الذي لا يقبل التغيير، والمقصود: أن الموت هو سُنّة الله في عباده من أنبياء وغيرهم، ثم استدلت على كلامها بقول الله تعالى: (وما محمد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين) ووجه الاستدلال بالآية أن محمداً رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد مضت من قبله الأنبياء، ومات قبله المرسلون إذن فالموت ليس بشيء عجيب بالنسبة للرسول، بل على هذا جرت سنة الله في أنبيائه إنهم يذوقون الموت كبقية الخلائق، وهذا لا يعني أنه إذا مات ماتت شريعته ومات دينه، وذهبت كرامته وحرمته.

(أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم) أي فإن أماته الله أو قتله الكفار ارتددتم بعد إيمانكم، فسمّى الارتداد انقلاباً على العقب، والرجوع القهقرى، (ومن ينقلب على عقبيه) يرتدَّ عن دينه (فلن يضر الله شيئاً) بل المضرة عائدة على المرتد (وسيجزي الله الشاكرين) المطيعين.


 

 

عتَاب وخِطَابٌ مَعَ المُسْلِمين

إيهاً بني قيلة![276]

أأُهضم تراث أبيه؟

وأنتم بمرأى منّي ومسمع

ومنتدى ومجمع[277]

تلبسكم الدعوة

وتشملكم الخبرة[278]

وأنتم ذوو العدد والعُدّة

والأداء والقوة

وعندكم السلاح والجُنّة

توافيكم الدعوة فلا تجيبون؟

وتأتيكم الصرخة فلا تعينون؟

وأنتم موصوفون بالكفاح، معروفون بالخير والصلاح

والنخبة التي انتخبت، والخيرة التي اختيرت[279]

قاتلتم العرب، وتحمَّلتم الكدَّ والتعب[280]

وناطحتم الأُمم

وكافحتم البُهَم[281]

لا نبرح أو تبرحون

نأمركم فتأْتمرون

حتى إذا دارت بنا رحى الإسلام

ودَرَّ حلب الأيام[282]

وخضعت ثغرة الشرك[283]

وسكنت فورة الإفك

وخمدت نيران الكفر[284]

وهدأت دعوة الهرج

واستوسق نظام الدين

فأنّى حِرتم بعد البيان؟[285]

وأسررتم بعد الإعلان؟

ونكصتم بعد الإقدام؟[286]

وأشركتم بعد الإيمان؟

(ألا تقاتلون قوماً نكثوا إيمانهم وهمّوا بإخراج الرسول وهم بدأوكم أوّل مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين)[287].

ألا: قد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض[288]

وأبعدتم مَن هو أحقُّ بالبسط والقبض

وخلوتم إلى الدعة[289]

ونجوتم من الضيق بالسعة[290]

فمججتم ما وعيتم[291]

ودسعتم الذي تسوّغتم[292]

فـ(إن تكفروا أنتم ومَن في الأرض جميعاً فإن الله لغني حميد)

ألا: قد قلتُ ما قلت على معرفة مني بالخذلة التي خامرتكم[293]

والغدرة التي استشعرتها قلوبكم[294]

ولكنها فيضة النفس[295].

ونفثة الغيظ[296].

وخَوَر القنا[297]

وبثَّة الصدر

وتقدمة الحجة

فدونكموها، فاحتقبوها دَبِرَة الظَّهر[298].

نقبة الخُف[299]

باقية العار

موسومة بغضب الله

وشنار الأبد[300]

موصولة بنار الله الموقدة التي تطّلع على الأفئدة

فبعين الله ما تفعلون

(وسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلب ينقلبون)

وأنا ابنة نذير لكم بين يدي عذاب شديد

فاعملوا إنا عاملون، وانتظروا إنا منتظرون


 

 

شرح الخطبة:

(إيهاً! بني قيلة) إيهاً بمعنى هيهات، وبمعنى الأمر بالسكوت، أو بمعنى طلب الزيادة من التحدث. يا أولاد قيلة، وهم الأوس والخزرج، وقد تقدم الكلام عن شرحها.

(أأُهضم تراث أبي؟) وفي نسخة: (أبيه) وقد تقدم أن الهاء - هنا - للوقوف والسكون والمعنى: هل يظلمونني في إرث أبي؟

(وأنتم بمرأى مني ومسمع) والحال أنتم في مجلس ومكان يجمع بيني وبينكم، والمقصود: أنتم حاضرون وتسمعون كلامي وشكايتي، وترون حالي ومظلوميتي.

(تلبسكم الدعوة) تحيط بكم دعوتي وندائي.

(وتشملكم الخبرة) ويشملكم العلم وتعلمون الخبر، وفي نسخة: (الحيرة) أي متحيرون أمام هذه المخاصمة.

(وأنتم ذوو العدد والعدة) وأنتم أصحاب العدد الكثير والتأهب والاستعداد، أي لستم قليلين حتى تعتذروا بقلّة العدد، بل أنتم ذو العدد الكامل.

(والأداة والقوة) عندكم الوسائل والقدرة والإمكانية لإسعافي ونصرتي.

(وعندكم السلاح والجُنة) وعندكم الأسلحة التي حاربتم بها وجاهدتم في سبيل الله، وعندكم وسائل الدفاع.

(توافيكم الدعوة فلا تجيبون) تبلغكم دعوتي واستغاثتي فلا تجيبوني؟

(وتأتيكم الصرخة فلا تعينون) تأتيكم صرختي، صرخة المظلومية والاضطهاد فلا تعينوني؟

(وأنتم موصوفون بالكفاح) الجهاد في سبيل الله، واستقبال العدو ومباشرة الحرب.

(معروفون بالخير والصلاح) الأعمال الحسنة.

(والنخبة التي انتخبت) إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) انتخب المدينة وانتخبكم لهذه الغايات والصفات.

(والخيرة التي اختيرت) واختاركم رسول الله (صلى الله عليه وآله) لنصرته، ولهذا هاجر إليكم.

(قاتلتم العرب) لأجل نصرة النبي، وإعلاء كلمة الإسلام.

(وتحملتم الكد والتعب) في الحروب والغزوات، ومضاعفاتها من الحر والبرد، والتضحية وتحمّل الجراح.

(وناطحتم الأمم) قاتلتم الملل المختلفة من يهود ونصارى وغيرهم، كل ذلك دافعاً عن الرسول.

(وكافحتم البُهم) قاتلتم الشجعان بدون ضعف وتواني.

(لا نبرح أو تبرحون) أي لا نبرح ولا تبرحون (نأمركم فتأتمرون) أي كنّا لم نزل آمرين وكنتم لأوامرنا مطيعين.

(وحتى إذا دارت بنا رحى الإسلام) أي قاتلتم وتحملتم وناطحتم وكافحتم بصورة مستمرة حتى إذا دارت بنا رحى الإسلام حتى إذا انتظم أمر الإسلام بمساعينا وسببنا، ودارت رحى الإسلام دوراناً صحيحاً منتظماً.

(ودرَّ حلب الأيام) وكثرت الخيرات والغنائم بسبب الفتوحات كاللبن الذي يدرّ أي يسيل بكثرة من الثدي.

(وخضعت ثغرة الشرك) ذلّت رقاب المشركين وخياشيمهم للإسلام وسقطوا عن الاعتبار.

(وسكنت فورة الإفك) وهي غليان الكذب وهيجانه.

(وخمدت نيران الكفر) أي نيران الحرب التي كان الكفار يؤججونها.

(وهدأت دعوة الهرج) سكنت دعوة الفتنة والباطل، وهدأت الإضطرابات.

(واستوسق نظام الدين) أي اجتمع وانتظم أمر الدين بعدما كان متشتتاً.

(فأنَّى حرتم بعد البيان؟) والآن وبعد هذه المقدمات كيف تحيرتم بعد بيان الحالة ووضوحها عندكم، وكيف وقعتم في وادي الحيرة؟

(وأسررتم بعد الإعلان؟) وكيف أخفيتم أشياء كانت معلنة، أو كنتم تتجاهرون بها.

(ونكصتم بعد الإقدام) وكيف رجعتم القهقري بعد إقدامكم على الإسلام.

(وأشركتم بعد الإيمان؟) أشركتم بالله بمخالفتكم للرسول (صلى الله عليه وآله) في أمر عترته.

(ألا تقاتلون قوماً نكثوا إيمانهم وهمّوا بإخراج الرسول وهم بدأوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين).

أدمجت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) هذه الآية في حديثها، وإن كانت الآية نزلت في مشركي مكة الذين أرادوا إخراج رسول الله (صلى الله عليه وآله) من مكة أو نزلت في اليهود والنصارى الدين نقضوا عهدهم وهمّوا بإخراج الرسول من المدينة وعلى كل تقدير فإن السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) تستنفرهم وتستنهضهم لنصرتها، ولا تقصد بكلامها هذا إثارة الفتنة، ولا إراقة الدماء، ولا تريد أن تقود جيشاً، أو تتزعم حزباً، بل هي عارفة بأحوال الناس واتجاهاتهم، عالمة بأن الأمر دبّر بليل، ولهذا قالت:

(ألا: قد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض) أي أعلم أنكم قد أقمتم على الراحة وسعة العيش.

(وأبعدتم مَن هو أحق بالبسط والقبض) أبعدتم الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) الذي هو أحق وأولى بولاية الأمور، والتصرف في قضايا الإسلام من غيره.

(وخلوتم بالدعة) أي انفردتم بالراحة والسكون.

(ونجوتم من الضيق بالسعة) لأن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) لا يهادن، ولا يصانع، ولا يفضّل أحداً على أحد بالعطاء، وهذا ضيق بالنسبة لكم، ولهذا نجوتم من هذا الضيق، وانتقلتم إلى مَن هو طوع أمركم، سلس القيادة، يفعل ما تشاءون، ويحكم بما تريدون.

(فمججتم ما وعيتم) أي رميتم من أفواهكم ما حفظتم.

(ودسعتم الذي تسوّغتم) أي تقيأتم الشيء الذي شربتموه بسهولة ولذة، والمقصود الانسحاب عن الدين، ورفض الإيمان ولهذا أردفت كلامها هذا بهذه الآية.

فـ(إن تكفروا أنتم ومَن في الأرض جميعاً فإن الله لغني حميد) ولا تضرون إلاَّ أنفسكم، ولا تخسرون إلاَّ دينكم.

(ألا: قد قلت ما قلت على معرفة مني بالخذلة التي خامرتكم) تقول: (عليها السلام) أنا أعلم اتجاهاتكم، وأعرف نفسياتكم، وحينما خطبت فيكم واستنهضتكم كنت أعلم بأنكم لا تنصرونني ولا تسعفونني.

(والغدرة التي استشعرتها قلوبكم) استشعر الثوب إذا جعله شعاراً أي جعله متصلاً لجسده، ملاصقاً لبدنه، تقول (عليها السلام) أنا أعرف الغدر الملاصق بقلوبكم، الغدر الذي جعلتها قلوبكم شعاراً لها، والغدر ضد الوفاء، أي لا أنتظر منكم الوفاء لمعرفتي بالغدرة الموجودة في قلوبكم.

(ولكنها فيضة النفس) أي تعبير عن الآلام في النفس، فكما أن الإناء يفيض إذا امتلأ بالماء كذلك النفس تفيض من كثرة الحزن واستيلاء الهم.

(ونفثة الغيظ) ظهور آثار الغضب الموجود كالنزيف الذي يدل على القرحة في الباطن (وخور القنا) أي ضعف الرمح، والمقصود عدم تحمّل لأكثر من هذه.

(وبثة الصدر) قال يعقوب (عليه السلام): (إنما اشكو بثّي) أي همّي، وهو الهم الذي لا يقدر صاحبه على كتمانه فيظهره.

(وتقدمة الحجة) إني خطبتُ فيكم، وقلتٌ ما قلت لا طمعاً في نصرتكم، ولا رجاءً في حمايتكم، وإنما كان ذلك لأسباب نفسية ودينية، أما الأسباب النفسية فقد ذكرتها، وأما الأسباب الدينية فهي تقدمة الحجة، أي إعلامكم بكل ما يلزم، وذكر كل دليل وبرهان وحجة على ما أقول، لئلا تعتذروا يوم القيامة، إنا كنا عن هذا غافلين أو ناسين، أو جاهلين، ما أبقيتُ لذي عذر عذراً، ولا لذي مقال مقالاً، عرَّفت نفسي ونسبي لكم، وذكرت ما يتعلق بالإمامة، وذكرت حقي في فدك، واستشهدت بالآيات البينات الثابتة عندكم حول الميراث بصورة عامة وحول ميراث الأنبياء بصورة خاصة، واستنهضتكم لنصرتي والطلب بحقي، فلم أجد فيكم مجيباً مُعيناً.

(فدونكم إياها فاحتقبوها دبرة الظهر) خذوا الخلافة وشدّوا عليها حقائبكم، وكأنها ناقة مجروحة الظهر، (نقبة الخف) رقيقة الخف.

(باقية العار) دائمة الخزي في الدنيا على مرّ التاريخ، وفي الآخرة وإلى الأبد.

(موسومة بغضب الله وشنار الأبد) على تلك الناقة علامة غضب الله وسخطه، وعليها علامة العار الأبدي الذي ينتهي بكم إلى:

(نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة) التي تتوقد وتؤجج نارها بصورة دائمة التي تحرق الظاهر والباطن، وتصل إلى الأفئدة والقلوب.

(فبعين الله ما تفعلون) إن الله تعالى يرى أعمالكم وأفعالكم ولا يغيب عنه ولا يخفى عليه شيء فكأنَّ أفعالكم هذه بمحضر من الله تعالى.

(وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) وأي جزاء سيجازون وأي جحيم وعذاب سيصيرون إليه.

(وأنا ابنة نذير لكم بين يدي عذاب شديد) إشارة إلى قوله تعالى: (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً) أنا ابنة محمد (صلى الله عليه وآله) الذي أنذرتكم بعذاب الله الذي أعدّه للظالمين.

(فاعملوا إنا عاملون) اعملوا ما شئتم من ظلمنا فإنا عاملون ما يجب علينا من الصبر والتحمل (وانتظروا إنا منتظرون) انتظروا عواقب أفعالكم ونحن ننتظر عواقب الصبر على المحن.


 

 

جَوَابُ أبي بَكْر والاعتَراف بِفَضَائِل الإمام عليّ (عليه السلام)

إلى هنا ذكرت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) ما كان ينبغي لها أن تذكر وأدَّت ما يجب، على أتم وأكمل ما يمكن، وهنا تصدَّى رئيس الدولة ليجيبها:

يا ابنة رسول الله!

لقد كان أبوكِ بالمؤمنين عطوفاً كريماً، رؤوفاً رحيماً

على الكافرين عذاباً أليماً وعقاباً عظيماً

إن عزوناه وجدناه أباكِ دون النساء[301]

وأخا إلفِكِ دون الأخلاَّء[302]

آثره على كل حميم[303]

وساعده في كل أمر جسيم

لا يحبّكم إلاّ كل سعيد

ولا يبغضكم إلاّ كل شقي

فأنتم عترة رسول الله الطيبون

والخيَرة المنتجبون

على الخير أدِلّتنا

وإلى الجنة مسالكنا

وأنت يا خيرة النساء

وابنة خير الأنبياء

صادقة في قولك

سابقة في وفور عقلكِ

غير مردودة عن حقكِ

ولا مصدودة عن صدقك[304]

والله ما عدوتُ رأي رسول الله!!![305]

ولا عملت إلاَّ بإذنه

وإن الرائد لا يكذب أهله[306]

وإني أُشهد الله وكفى به شهيداً

أني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول:

(نحن معاشر الأنبياء لا نورِّث ذهباً ولا فضة ولا داراً ولا عقاراً وإنما نورّث الكتاب والحكمة، والعلم والنبوة، وما كان لنا من طعمة فلولي الأمر بعدنا، أن يحكم فيه بحكمه).

وقد جعلنا ما حاولتِه في الكراع والسلاح[307]

يقاتل بها المسلمون

ويجاهدون الكفار

ويجالدون المردة الفجار[308]

وذلك بإجماع من المسلمين!!

لم أنفرد به وحدي

ولم أستبد بما كان الرأي فيه عندي[309]

وهذا حالي ومالي

هي لكِ، وبين يديك

لا تزوى عنكِ[310]

ولا تدَّخر دونكِ

أنت سيدة أُمّة أبيكِ

والشجرة الطيبة لبنيك

لا يُدفع مالَكِ من فضلكِ

ولا يوضع في فرعك وأصلكِ

حكمك نافذ فيما ملكت يداي

فهل ترينّ أن أُخالف في ذلك أباكِ (صلى الله عليه وآله)؟


 

 

شرح خطاب أبي بكر (عبد الله بن عثمان):

(يا ابنة رسول الله) سبحان الله! يعرفها ومع ذلك يكون موقفه ذلك الموقف.

(لقد كان أبوك بالمؤمنين عطوفاً كريماً، رؤوفاً رحيماً، على الكافرين عذاباً أليماً وعقاباً عظيماً) هذا كله واضح، وما المقصود من هذا الكلام.

(إن عزوناه وجدناه أباك دون النساء، وأخا إلفكِ دون الإخلاّء) هذا تصديق لكلامها في أول الخطبة حيث قالت: (فإن تعزوه وتعرفوه تجدوه أبي دون نسائكم وأخا ابن عمي دون رجالكم).

(آثره على كل حميم) أي فضّل رسول الله (صلى الله عليه وآله) علياً على كل قريب.

(وساعده في كل أمر جسيم) إن علياً ساعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) في كل أمر عظيم.

(لا يحبكم إلاّ كل سعيد، ولا يبغضكم إلاّ كل شقي) اعتراف عجيب من قائله، إن صح إسناد هذا الكلام إليه.

(فأنتم عترة رسول الله الطيبون، والخيرة المنتجبون) العترة التي لا يقبل كلامها ولا تمضي شهادتها في قطعة من الأرض، والخيرة التي تحمّلت أشد أنواع الأذى من الناس.

(على الخير أدلَّتنا) جمع دليل وهو الهادي أي أنتم الهداة المرشدون إلى الخير.

(وإلى الجنة مسالكنا) أنتم طرق النجاة والفوز بالجنة.

(وأنت - يا خيرة النساء، وابنة خير الأنبياء - صادقة في قولك) لو كنتَ تعتبرها صادقة فلماذا لم ترد إليها حقها؟ لماذا سلبتها أموالها التي جعلها الله ورسوله لها؟

(سابقة في وفور عقلك، غير مردودة عن حقك ولا مصدودة عن صدقك) فلماذا رددتها عن حقها أيها الرجل؟ ولماذا صددتها عن صدقها؟ ما هذا التناقض بين القول والفعل.

(والله ما عدوتُ رأي رسول الله) نعم، والله لقد عدوتَ رأي رسول الله.

(ولا عملتُ إلا بإذنه) لا والله ما عملتَ بإذنه، لم يأذن لك رسول الله أن تغضب النحلة التي أنحلها رسول الله ابنته فاطمة، أو تمنعها إرثها من أبيها.

(وإن الرائد لا يكذب أهله) هذا المثل في غير مورده.

(وإني أُشهد الله وكفى به شهيداً) عجباً لحلم الله! هكذا يستشهد به في الباطل؟ هكذا يتجرّأ عليه؟

(إني سمعت رسول الله يقول: نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ذهباً ولا فضة ولا داراً ولا عقاراً، وإنما نورّث الكتاب والحكمة والعلم والنبوة، وما كان من طعمة فلِولي الأمر بعدنا أن يحكم فيه ما يحكمه). الله يقول: الأنبياء يورثون. ورسول الله يقول: الأنبياء لا يورثون؟ أيهما الصحيح؟ وبعد هذا: أنت المدعي وأنت الشاهد وأنت الحاكم؟ وهل يوجد في العالم حكم هكذا؟ أو قانون كهذا القانون؟

أنت سمعت رسولَ الله يقول هكذا وابنته لم تسمع ذلك منه؟

الرسول أخبرك وما أخبر ابنته التي كانت أراضي فدك بيدها وتحت تصرّفها؟

وأي كتاب ورَّثه الرسول؟ القرآن؟ القرآن كان ملكاً للرسول حتى يورِّثه؟ وهل النبوة تورث؟ وهل كان نبي إذا مات تنتقل النبوة إلى أولاده وورثته؟ ومن الذي ورث النبوة من رسول الله؟

وهل أنت ولي الأمر أم الذي ولىّ الله بقوله: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) من ولي الأمر بعد الرسول؟

أنت ولي الأمر، أم الذي بايعته أنت يوم غدير خم بأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسلّمت عليه بإمرة المؤمنين؟ وهو عليّ بن أبي طالب.

أترى أن تعلم هذا الحديث وعليّ بن أبي طالب لا يعلم؟ وهو أكثر التصاقاً وأشد اتصالاً والتزاماً بالرسول، حسب اعترافك، وهو باب مدينة علم الرسول.

وإن كان النبي لا يورّث فلماذا بقيتْ حجراته تحت تصرّف زوجاته؟

ولماذا لم تصادر تلك الحجرات؟ مع العلم أن تلك الحجرات كانت ملكاً لرسول الله (صلى الله عليه وآله) بصريح قوله تعالى: (لا تدخلوا بيوت النبي) فيتبين أن البيوت كانت للرسول، فبأي قانون شرعي وبأي مبرر ديني سكنت زوجات الرسول في تلك الحجرات إلى آخر حياتهن؟ ولماذا شمل التأميم السيدة فاطمة عزيزة رسول الله وبضعته ولم تشمل زوجاته.

(وقد جعلنا ما حاولتهِ في الكراع والسلاح يقاتل بها المسلمون، ويجاهدون الكفار، ويجالدون المردة الفجّار) وهل يجوز صرف الأموال المغصوبة في سبيل الله لتقوية المسلمين، وهل كانت جيوش المسلمين بحاجة إلى هذه الأموال التي أُخذت ظلماً؟

(وذلك بإجماع من المسلمين) ما قيمة هذا الإجماع المناقض لكتاب الله؟ وأي إجماع هذا وآل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعترته لا يعترفون بهذا الأمر ولا يوافقون بهذه التصرفات؟ وهل ينفع الإجماع على الظلم وعلى مخالفة كتاب الله وسنة النبي؟

وكأن أبا بكر أراد بكلامه هذا استمالة قلوب المسلمين كي لا يخالفه أحد، وإلا فقد ثبت أن أبا بكر هو المدّعي الوحيد لحديث: (نحن معاشر الأنبياء لا نورّث) ولم يجمع المسلمون على صحة هذا الحديث المخالف لصريح كلام الله تعالى، نعم في كتاب (كشف الغمة): إنه لما ولّي عثمان قالت عائشة: أعطني ما كان يعطيني أبي وعمر. فقال عثمان: لا أجد لها موضعاً في الكتاب ولا في السنة، ولكن كان أبو بكر وعمر يعطيانك من حصة أنفسهما، وأنا لا أفعل فقالت: فآتني ميراثي من النبي (صلى الله عليه وآله) قال: أليس جئتِ وشهدتِ أنتِ ومالك بن أوس النضري أن النبي لا يورّث؟ فأبطلتِ حق فاطمة وجئتِ تطلبينه؟ .. الخ.

أقول: العجب أن شهادة عائشة بنت أبي بكر تقبل وشهادة فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا تقبل، وشهادة مالك بن أوس النضري البوّال على عقبيه تقبل وشهادة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب نفس رسول الله وأعز الخلق إليه لا تقبل ‍! اقرأ ثم احكم.

وبهذا اتضح لنا كلامه: (لم انفرد به وحدي، ولم أستبد بما كان الرأي فيه عندي) نعم، لم ينفرد به وحده، بل ساندته وشهدت له ابنته عائشة صاحبة المواقف المشهورة اتجاه فاطمة وزوجها عليّ.

(هذه حالي ومالي، هي لك وبين يديك، لا تزوي عنك ولا تدَّخر دونك) مجاملات فارغة لا حقيقة لها أصلاً، وما أكثر هذه المجاملات عند رجال السياسة.

(أنت سيدة أُمّة أبيك، والشجرة الطيبة لبنيك، لا يُدفع مالك من فضلك، ولا يوضع في فرعك وأصلك، حكمك نافذ فيما ملكت يداي) هذه الكلمات وإن كانت حقائق، إلاّ أنها استعملت للخداع، والتلوّن في الكلام، وسيأتيك - في المستقبل - كلام حول آراء السياسيين، والأساليب التي يستعملونها حسب الظروف.

(فهل ترين أن أُخالف في ذلك أباك (صلى الله عليه وآله)) أيها الناس! إن أبا بكر يجتنب مخالفة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولكن سيدة نساء العالمين وبضعة رسول الله التي أذهب الله عنها الرجس وطهّرها تطهيراً تخالف رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ هل يقبل عقلك؟ هل يرضى وجدانك بهذا؟

وأية مخالفة لرسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا خضع المسلم للقرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؟ هل العمل بآيات المواريث بين الأنبياء يعتبر مخالفة لرسول الله؟ وهل تصديق كلام بنت رسول الله المعصومة بصريح القرآن، وتصديق كلام زوجها عليّ الذي كان نفس رسول الله (صلى الله عليه وآله) يكون مخالفة لرسول الله؟

ماذا أقول إذا انقلبت المفاهيم، وانعكست الحقائق، وتبدّلت المقاييس وتغيّرت الموازين، وصار المنكر معروفاً والمعروف منكراً؟

الرجل يدّعي على رسول الله (صلى الله عليه وآله) كلاماً مخالفاً للقرآن، مناقضاً للشريعة الإسلامية، وآل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعترته الطيبة لا يعترفون بهذا الكلام، بل يكذّبونه على ضوء القرآن، ثم يتورّع الرجل (على زعمه) من مخالفة ذلك الكلام المفترى على الرسول.

والآن استمع إلى ردّ السيدة فاطمة الزهراء لهذه المفتريات والأكاذيب.


 

 

جوَاب فَاطِمَة الزهْرَاء (عليها السلام).. مُطَابَقَة كلِمِات الرسُول مَعَ القرآن:

قالت (عليها السلام):

سبحان الله

ما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن كتاب الله صادفاً[311]

ولا لأحكامه مخالفاً

بل كان يتَّبع أثره

ويقفو سُوَره[312]

أفتجمعون إلى الغدر اعتلالاً عليه بالزور

وهذا بعد وفاته شبيهٌ بما بُغي له من الغوائل في حياته[313]

هذا كتاب الله حَكَماً عدلاً

وناطقاً فصلاً

يقول:

(يرثني ويرث من آل يعقوب)

(وورث سليمان داود)

فبيَّن (عز وجل) فيما وزَّع عليه من الأقساط

وشرع من الفرائض والميراث

وأباح من حظ الذكران والإناث

ما أزاح علَّة المبطلين

وأزال التظني والشبهات في الغابرين[314]

كلاَّ، (بل سوَّلت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون).


 

 

شرح جوابها (عليها السلام) لأبي بكر:

قالت: (سبحان الله) في مقام التعجّب، استعظاماً لهذا الافتراء على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الصادق المصدق الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.

(ما كان رسول لله (صلى الله عليه وآله) عن كتاب الله صادفاً) ما كان الرسول معرضاً عن كتاب الله المجيد (ولا لأحكامه مخالفاً) بأن يقول شيئاً يخالف القرآن، وحديث: (نحن معاشر الأنبياء لا نورِّث..) مخالف للآيات التي تصرّح بوراثة الأنبياء، وإنهم يرثون ويورثون.

حاشا نبي الله أن يخالف كلام الله (بل كان يتبع أثره) يسير مع القرآن وعلى ضوء القرآن وتحت ظلاله.

(ويقفو سوره) أي سور القرآن، ويتبعها سورة بعد سورة فكيف يقول شيئاً يخالف كلام الله، ويناقض أحكام الله؟

(أفتجمعون إلى الغدر اعتلالاً عليه بالزور) تقول السيدة فاطمة (عليها السلام) قد جمعتم بين جريمتين: جريمة الغدر وهي غصب فدك، وجريمة الكذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله) أي هل تضيفون إلى الغدر اعتذاركم على العذر بالكذب، وهذا كمن يقتل إنساناً ظلماً ثم يعتذر من عمله بأن المقتول كان سارقاً، فهو قد جمع بين جريمة القتل وجريمة الكذب والافتراء.

(وهذا بعد وفاته شبيه بما بُغي له من الغوائل في حياته) تقول (عليها السلام) ليس هذا بشيء جديد، فإن القيام ضد آل الرسول بعد وفاته يشبه المؤامرات والنشاطات المسعورة التي كانت ضده في حياته، فلقد أراد المنافقون أن يقتلوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليلة العقبة، ويُنفروا ناقته على شفير الوادي لتسقط ناقة النبي في الوادي فيهلك رسول الله والتفصيل مذكور في محله، راجع تفسير قوله تعالى: (يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا ..) سورة التوبة؛ الآية: 74.

(هذا كتاب الله حكماً عدلاً وناطقاً فصلاً) هذا القرآن حال كونه حاكماً عادلاً، ناطقاً قاطعاً للخصومات، نجعله مرجعاً نتحاكم إليه. هذا القرآن يقول: (.. يرثني ويرث من آل يعقوب) في قصة زكريا وقد مر الكلام حول الآية، (وورث سليمان داود) قد ذكرنا ما تيسر أيضاً حول وراثة سليمان من داود (عليهما السلام).

وأنتم تقولون: إن رسول الله قال: (نحن معاشر الأنبياء لا نورِّث) كيف يخالف رسول الله القرآن؟ وكيف يعرض عن حُكم وراثة الأنبياء.

(فبيَّن عز وجل فيما وزّع عليه من الأقساط) لقد بين الله تعالى فيما قسّم من نصيب كل من الورثة، (وشرع من الفرائض والميراث) الفرائض: هي الحصص المفروضة المقدّرة للورثة كالنصف والثُلث والرُبع والسُدس والثُمن كما هو مذكور في الكتب الفقهية.

(وأباح من حظ الذكران والإناث) في شتى مراتب الورثة من الزوج والزوجة والأب والأم والأولاد والبنات والمراتب المتأخرة عنهم (ما أزاح علَة المبطلين) لقد بيَّن الله في القرآن وشرع وأباح ما فيه الكفاية لإزالة أمراض أهل الباطل، وكل من جاء بالباطل.

(وأزال التظني والشبهات في الغابرين) لم يبق مجال للشك والشبهة لأحدٍ من الأجيال الموجودة أو الآتية.

(كلاَّ) ليس الأمر كما تقولون، أو كما تدَّعون، وليس الأمر ملتبساً عليكم، (بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً) بل زيّنت لكم أنفسكم حُبُّ الرئاسة وكرسي الحكم، ومنصة القدرة، فنسبتم إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) هذا الحديث حتى يتحقق هدفكم، وتنالوا غايتكم.
(فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون) نصبر ونستعين بالله تعالى على تحمّل هذه المآسي والمصائب.

والآن استمع إلى دفاع أبي بكر عن نفسه، وانتبه إلى تبدّل الكلام، وتذبذب المنطق، وتغيّر الأسلوب، وعدم الاهتمام بالتناقض في الكلام.


 

 

جَوَابُ أبي بَكْر

لما زيّفت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) الحديث الذي اختلقه أبو بكر ونسبه إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأبطلت ذلك الادّعاء بالأدلة القاطعة والحجج الساطعة، عجز أبو بكر عن تفنيد الحجج والبراهين التي استدلت بها السيدة فاطمة. ولهذا دخل من باب آخر، كي لا يتحمل المسؤولية هو وحده، بل تكون المسؤولية على المسلمين الذين وافقوا على تصرفاته، فقال:

صدق الله وصدق رسوله

وصدقت ابنته

أنتِ معدن الحكمة

وموطن الهدى والرحمة

وركن الدين

وعين الحجة

لا أُبعدُ صوابكِ

ولا أنكر خطابكِ

هؤلاء المسلمون بيني وبينك

قلَّدوني ما تقلّدت

وباتفاق منهم أخذتُ ما أخذت

غير مكابر ولا مستبد

ولا مستأثر

وهم بذلك شهود


 

 

شرح هذا الجواب:

قال أبو بكر: (صدق الله وصدق رسوله وصدقت ابنته) تصديق لآيات المواريث بين الأنبياء، وتصديق للرسول الذي لا يخالف القرآن وكأنه ينسحب عن الحديث الذي نسبه إلى النبي (نحن معاشر الأنبياء لا نورث) وتصديق لكلام بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله).

(أنت معدن الحكمة، وموطن الهدى والرحمة، وركن الدين وعين الحجة) اعترافات عجيبة تدل على التنازل والانسحاب (لا أُبعدُ صوابك ولا أُنكر خطابكِ) إقرار بصواب قولها، واعتراف بصدق خطابها وكلامها، ولكن كله صوريّ أي باللسان لا بالعمل فالزهراء صادقة القول في ادّعائها فدك، لا يشك أحد في ذلك ولكن السلطة المعترفة بصدق كلامها لا تردّ إليها حقوقها، لماذا؟ وكيف؟

(هؤلاء المسلمون الحاضرون بيني وبينك هم قلدوني الخلافة) وهذا اعتراف صريح منه أنه لم يصل إلى الخلافة بالنص والتعيين من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإن رسول الله لم يستخلفه، بل المسلمون قلّدوه الخلافة.

(وباتفاق منهم أخذت ما أخذت) أنظر إلى تبدّل المنطق فقد قال أولاً: إنه استولى على فدك عملاً بقول الرسول (صلى الله عليه وآله): (نحن معاشر الأنبياء .. الخ)، وبعد أن أبطلت السيدة فاطمة هذا الكلام تشبث بوسيلة أخرى، وهي اتفاق المسلمين على غصب فدك.

مَن هم المسلمون الذين اتفقوا على أخذ أبي بكر فدك؟

بنو هاشم، أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، رؤساء الصحابة أمثال: سلمان والمقداد وعمار وأبي ذر ونظرائهم؟

إن كلمة: (وباتفاق منهم أخذت ما أخذت) هي عبارة عن كلمته السابقة: (وذلك بإجماع المسلمين) وقد ذكرنا قيمة ذلك الإجماع وقس عليها قيمة هذا الاتفاق منهم على أخذ فدك فاطمة.

(غير مكابر ولا مستبد ولا مستأثر وهم بذلك شهود) حينما استشهد أبو بكر بالمسلمين كان لزاماً على السيدة فاطمة أن توجّه عتاباً لاذعاً إليه:


 

 

فاطِمَةُ الزهْرَاء تُوجّهُ الخِطَابَ إلى الحَاضِرين

في عِتَابِهَا مَعَ المُتَخَاذِلين

وجهت السيدة فاطمة عتابها الأخير إلى تلك الجماهير المتجمهرة التي كانت تستمع إلى ذلك الحوار الحادّ فقالت:

معاشر الناس

المُسرعة إلى قيل الباطل

المُغضية على الفعل القبيح الخاسر[315]

أفلا تتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها؟

كلا، بل ران على قلوبكم ما أسأتم من أعمالكم

فأخذ بسمعكم وأبصاركم

ولبئس ما تأوّلتم

وساء ما به أشرتم

وشر منه اعتضتُّم[316]

لتجدنَّ - والله - محمله ثقيلاً

وغبَّه وبيلاً[317]

إذا كشف لكم الغطاء وبان ما وراءه الضرّاء

وبدا لكم من ربكم ما لم تكونوا تحتسبون، وخسر هنالك المبطلون.


 

 

شرح الخطاب:

(معاشر الناس المسرعة إلى قيل الباطل) أي القول الباطل، أي أسرعتم إلى قول باطل إذ أنكم قلّدتم هذا الرجل ما قلّدتم، واتفقتم معه - حسب ادعائه - على غصب حقوقي.

(المغضية على الفعل القبيح الخاسر) الإغضاء هو إدناءِ الجفون على العين، كالذي ينظر إلى الأرض أو ينظر في حِجره، كناية عن السكوت والرضا بالفعل القبيح الخاسر الذي هو سبب خسران صاحبه.

(أفلا تتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها؟) هل نسيتم الآيات النازلة فينا؟ أو لم تفهموا الآيات التي تلوتها في وراثة الأنبياء؟ أم قلوبكم مقفلة مغلقة فلا تنفتح لكلام الله وأحكامه في القرآن؟

(كلاَّ) ليس السبب عدم التدبر في القرآن (بل ران على قلوبكم ما أسأتم من أعمالكم) أي غلب على قلوبكم وغطّاها سوء أعمالكم كالحجاب الكثيف، كما تغطّي الخمرة عقل شاربها فلا يفهم ولا يشعر، وتختل عنده الأمور.

(فأخذ بسمعكم وأبصاركم) كالغفلة المستولية على القلب، المؤثّرة على السمع والبصر، فلا يسمع الغافل الصوت ولا يبصر الشيء بسبب انشغال قلبه وغفلته.

(ولبئس ما تأوَّلتم) في آيات القرآن وأحكام الإسلام وتغييرها عن مجراها الحقيقي (وساء ما به أشرتم) تقصد التعاون والاتفاق على غصب حقوق آل محمد (عليهم السلام).

(وشرّ ما منه اعتضتم) أي ساء ما أخذتم به عوضاً عما تركتم أي بئس الباطل الذي أخذتموه عوضاً عن الحق، وكلها كنايات وإشارات يفهمها الأذكياء.

(لتجدَّن - والله - محمله ثقيلاً وغبّه وبيلاً) إشارة إلى المسؤولية الكبرى يوم القيامة، والحمل الثقيل والأمر الشديد الذي يعاقبون عليه أشد العقاب، ويعذّبون عليه أشد العذاب.

(إذا كشف لكم الغطاء) إذ متّم وانتقلتم إلى عالم الجزاء.

(وبان ما وراءه الضرّاء) وظهر لكم الشيء الذي وراءه الشدّة.

(وبدا لكم من ربكم ما لم تكونوا تحتسبون، وخسر هنالك المبطلون) وهكذا أدمجت السيدة فاطمة حديثها وخطابها مع الآيات المناسبة للمقام.

لقد أتمت السيدة فاطمة الحجة على الجميع، وأدّت ما عليها من الواجبات، وسجلت آلامها في سجل التاريخ والآن:

ثم عطفت على قبر أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقالت:

قد كان بعدك أنباء وهنبثة[318]***لو كنت شاهدها لم تكثر الخطبُ[319]

إنا فقدناك فقدَ الأرض وابلها[320]***واختل قومك فاشهدهم وقد نكبوا[321]

وكل أهل له قُربى ومنزلة***عند الإله على الأدنين مقتربُ

أبدَتْ رجال لنا نجوى صدورهم[322]***لما مضيتَ وحالت دونك التُّربُ

تجهّمتنا رجال واستُخفّ بنا***لما فُقدتَ، وكل الإرث مغتصَبُ[323]

وكنتَ بدراً ونوراً يُستضاء به***عليك تنزل من ذي العزّة الكتبُ

وكان جبريل بالآيات يؤنسنا***فقد فُقدتَ، فكلّ الخير مُحتجبُ

فليتَ قبلكَ كان الموت صادَفَنا***لمّا مضيت وحالت دونك الكُثُبُ[324]

إنا رُزينا بما لم يُرزَ ذو شَجَن[325]***مِن البرية لا عجم ولا عربُ

وفي ناسخ التواريخ زيادة هذه الأبيات:

سيعلم المتولي ظلم حامتنا***يوم القيامة أنّى سوف ينقلبُ

وسوف نبكيك ما عشنا وما بقيت***له العيون بتهمال له سكبُ

وقد رزُينا به محضاً خليقته***صافي الضرائب والأعراق والنسبُ

فأنت خير عباد الله كلهم***وأصدق الناس حين الصدق والكذبُ

وكان جبريل روح القدس زائرنا***فغاب عنا فكل الخير محتجبُ

ضاقت عليَّ بلادٌ بعدما رحبتْ***وسيم سبطاك خسفاً فيه لي نَصَبُ

وفي كشف الغمة وغيره: ثم عطفت على قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) فتمثّلت بقول هند بنت أثاثة: قد كان بعدك.. الخ.

وقيل هذه الأبيات لهند بنت أبان بن عبد المطلب تمثلت بها السيدة فاطمة، وعلى كلٍ فقد ألقت السيدة فاطمة نفسها على قبر أبيها وهي تنشد هذه الأبيات.

وفي كشف الغمة: فما رأينا أكثر باك ولا باكية من ذلك اليوم


 

 

التّجَاسُرُ عَلَى أهْلِ بَيْتِ الرسُول

قال ابن أبي الحديد في شرحه على نهج البلاغة: لما سمع أبو بكر خطبتها المذكورة وما وقع بين الناس من الاختلاف والهمهمة في سوء تلك المقدمة وخاف أن تنعكس القضية شق عليه ذلك فصعد المبر فقال:

أيها الناس! ما هذه الرعة إلى كل قاله؟ أين كانت هذه الأماني في عهد رسول الله؟ ألا! من سمع فليقل، ومن شهد فليتكلم، إنما هو ثعالة شهيده ذَنَبه مربّ لكل فتنة هو الذي يقول: كرّوها جذعة بعد ما هرمت يستعينون بالضعفة ويستنصرون بالنساء، كأم طحال أحبّ أهلها إليها البغي ألا: إني لو أشاء لقلت: ولو قلت لَبُحت، إني ساكت ما تُركت.

ثم التفت إلى الأنصار فقال: يا معشر الأنصار قد بلغني مقالة سفهائكم وأحق من لزم عهد رسول الله أنتم، فقد جاءكم فآويتم ونصرتم، ألا: إني لست باسطاً يداً ولساناً على من لم يستحق ذلك منا. ثم نزل.

ثم قال ابن أبي الحديد: قرأت هذا الكلام على النقيب أبي يحيى جعفر بن يحيى بن أبي زيد البصري وقلت له: بمن يعترض؟ فقال: بل يصرّح. قلت: لو صرّح لم أسألك. فضحك فقال: لعلي بن أبي طالب !! قلت: هذا الكلام كله لعلي يقوله؟ قال: نعم إنه المُلك يا بني. قلت: فما مقالة الأنصار؟ قال: هتفوا بقول عليّ، فخاف من اضطراب الأمر عليهم، فنهاهم. فسألته عن غريبة (أي شرح الكلمات) فقال:

أما الرعة - بالتخفيف - أي الاستماع والإصغاء. والقالة: القول. وثعالة: اسم الثعلب، مثل ذؤالة للذئب. وشهيده ذَنَبه: أي لا شاهد له على ما يدّعيه إلاّ بعضه وجزء منه، وأصله مَثَل: قالوا: إن الثعلب أراد أن يُغري الأسد بالذئب فقال له: إنه قد أكل الشاة التي كنت أعددتها لنفسك، وكنت حاضراً، قال: فمن يشهد لك بذلك؟ فرفع ذَنَبه وعليه دم. وكان الأسد قد افتقد الشاة، فقبل شهادته، وقتل الذئب. و(مربّ): ملازم من أربّ بالمكان و (كروها جذعة): أعيدوها إلى الحال الأولى يعني الفتنة والهرج و(أم طحال) امرأة بغي في الجاهلية يضرب بها المثل، فيقال: أزنى من أم طحال.

نحن لا نقول شيئاً على هذه الكلمات التي استعملها أبو بكر في آل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعترته الطاهرة الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرّهم تطهيراً، ولا نعاتبه على أدبه في المنطق وتعبيره في الكلام!، ولكن نقول: قرّت عينك - يا رسول الله - فهكذا يقال في حق ابنتك وعزيزتك وحبيبتك فاطمة الزهراء وهكذا يقال في حق أخيك أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب وكل هذا على منبرك وفي مسجدك وفي جوار مرقدك، قرّت عيناك يا أبا فاطمة الزهراء وبشراك بل بشريان!! فهذه كرامة أهل بيتك، وعترتك عند أبي بكر وأشباهه!

وفي الدر النظيم للشيخ جمال الدين الشامي قال - بعد خطبة فاطمة (عليها السلام) في المسجد وكلام أبي بكر - : فقالت أم سلمة (رضي الله عنها) حين سمعت ما جرى لفاطمة (عليها السلام): ألِمثل فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقال هذا القول؟ هي والله الحوراء بين الإنس، والنَفَس للنفس، رُبّيت في حجور الأتقياء، وتناولتها أيدي الملائكة، ونمت في حجور الطاهرات، ونشأت خير نشأة، وربيت خير مربى، أتزعمون أن رسول الله حرّم عليها ميراثه ولم يُعلمها، وقد قال الله تعالى: (وأنذر عشيرتك الأقربين) أفأنذرها وخالفت متطلبه؟

وهي خيرَة النسوان وأمّ سادة الشبّان، وعديلة مريم، تمّت بأبيها رسالات ربه، فوالله لقد كان يشفق عليها من الحرّ والقرّ، ويوسدها يمينه ويلحفها بشماله، رويداً ورسول الله (صلى الله عليه وآله) بمرأى منكم، وعلى الله تردون واهاً لكم، فسوف تعلمون.

قال: فَحُرمت عطاءها تلك السنة‍!.


 

 

رُجُوعُهَا إلى الدار وكَلاَمُهَا مَعَ زَوْجِهَا

ثم انكفأت (عليها السلام)[326]

وأمير المؤمنين (عليه السلام) يتوقع رجوعها إليه[327]

ويتطلع طلوعها عليه

فلما استقرت بها الدار قالت لأمير المؤمنين (عليه السلام):

يا بن أبي طالب

اشتملتَ شَملَة الجنين[328]

وقعدتَ حجرة الظنين[329]

نقضتَ قادمةَ الأجدل[330]

فخانك ريش الأعزل[331]

هذا ابن قحافة يبتزّني نحلة أبي[332]

وبُلغةَ ابنيَّ[333]

لقد أجهر في خصامي[334]

وألفيته الألدّ في كلامي[335]

حتى حبستني قيلةُ نصرها[336]

والمهاجرة وصلها[337]

وغضَّت الجماعة دوني راغمة[338]

أضرعتَ خدَّك يوم أضعت حدَّك[339]

افترستَ الذئاب وافترشت التراب

ما كففتَ قائلاً ولا أغنيتَ باطلاً[340]

ولا خيار لي[341]

ليتني متُّ قبل هينتي[342]

ودون ذلّتي

عذيري الله منك عادياً ومنك حامياً

ويلاي في كل شارق

مات العَمَد ووهن العَضُد

شكواي إلى أبي

وعدواي إلى ربي

اللهم أنت أشدُّ قوة وحولاً

وأحدُّ بأساً وتنكيلاً

 

فقال أمير المؤمنين (عليه السلام):

لا ويل عليكِ

الويل لشانئكِ

نهنهي عن وَجدكِ يابنة الصفوة[343]

وبقيّة النبّوة

فما وَنيتُ عن ديني[344]

ولا أخطأت مقدوري

فإن كنتِ تريدين البُلغة فرزقك مضمون[345]

وكفيلك مأمون

وما أُعدَّ لكِ خيرٌ مما قُطع عنكِ

فاحتسبي الله.

فقالت: حسبي الله. وأمسكت.


 

 

الإمام عليّ في انتِظَار فاطمَة الزهرَاء

كان الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ينتظر السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) زميلته في الجهاد، وشريكته في الآلام والآمال.

ينتظر رجوعها من ساحة الجهاد، من مسجد أبيها.

من المؤتمر الإسلامي الذي انعقد في أكبر مركز إسلامي يومذاك.

رجعت وهي مرهقة بأتعاب الجهاد المتواصل.

وحياتها كلها جهاد.

رجعت وهي منتصرة، وإن كانت - في الوقت نفسه - مغلوبة على أمرها مظلومة مهضومة، منكسرة القلب، متعبة الأعصاب، حزينة.

انتصرت لأنها أعلنت للجماهير، للأجيال، للتاريخ أنها مظلومة، مغصوب حقها أنها أدانت السلطة بالخطأ المكشوف، بالاعتداء المقصود.

انتصرت لأنها عرّفت الإسلام كما ينبغي.

تحدثت عن النقاط الرئيسية في الإسلام، عن التوحيد عن النبوة والإمامة، وعلل الأحكام، وفلسفة الشريعة الإسلامية، وبكل ما يدور في هذا الفلك الواسع الشاسع.

ووصلت إلى بيتها، وقد بقي الشوط الأخير من أشواط الجهاد.

رجعت لتكشف حقيقة أخرى لأهل العالم، للتاريخ.

واختارت - لكشف الحقيقة - هذه الطريقة وهذا الأسلوب أسلوب الحوار مع زوجها.

الحوار الذي يشبه العتاب.

وفي الوقت نفسه تتحدث عن الأحداث، عن موقف السلطة يومذاك.

عن موقف المسلمين الذين استولت عليهم الحيرة والدهشة والذهول.

الضمائر تؤنّبهم، والإحساس بالألم يُجري دموعهم، الخوف من السلطة يخرسهم، فهم في ذهول.

يرون شيئاً، ويسمعون أشياء.

يرون رئيس الدولة، وهو يدَّعي أنه يمثّل صاحب الشريعة الإسلامية ويسمعون من ابنة صاحب الشريعة (فاطمة) الآهات، وكلمات التظلّم والسخط على الحكام.

رجعت إلى الدار لتكشف موقف زوجها العظيم تجاه تلك الأحداث، فقالت: (يا بن أبي طالب).

 

ربما يتصور بعض أهل العلم من الخطباء وغيرهم أن الزهراء تحدّث زوجها العظيم بهذا التحدي الصريح اللاذع.

إذ إنها تخاطبه بكلمة: (يا بن العم) أو (يا أبا الحسن) أو (يا عليّ) أو ما أشبه ذلك من الكلمات التي تناسب للزوجة أن تخاطب بها زوجها.

فيحملون هذا التحدي على مدى تأثرها من الأحداث، وتألّمها مما جرى.

أقول: سبحان الله! وأي منقصة في هذا الخطاب؟

وأي عارٍ في هذا النسب؟

أبو طالب:

شيخ الأباطح، سيد أهل مكة، حامي الرسول، مفخرة التاريخ، عظيم قريش، كبير بني هاشم في عصره.

أبو طالب:

الشجاع الذي هابه المشركون، البطل الذي ظلَّ الرسول يدعو إلى الله، تحت حماية ذلك البطل.

أبو طالب:

رجل الحميّة، مثال الفتوة والشهامة، بطل الغيرة والعاطفة.

فما المانع أن يقال لشبله البار ونجله العظيم: يا بن أبي طالب؟!!.

أليس معنى: (يا بن أبي طالب) يا بن العظمة والسيادة؟

يا بن الشرف والمجد؟

يا بن البطولة والبسالة؟

يا بن الحميّة والحفاظ؟

يا بن الفضيلة، بل الفضائل كلها؟

أليس معناه هذا؟

نعم، إنها قالت: (يا بن أبي طالب) وكأنها تهيّج عزائمه

وكأنها تستنهضه للنجدة، وتذكره بنسبه الشريف الأرفع

تذكره أنه ابن أبيه.

كأنها تقول له: إن أباك أسعف أبي، ووقف له وقفة المدافع المستميت فلماذا لا تدافع عني؟ لا تسعفني؟

ثم ذكّرته بسوابقه البطولية، ومواقفه العظيمة، وإقدامه في جبهات القتال، وتحطيمه الأًسُود، وطحنه الأبطال طحن الرحى. ثم قارنت بين ماضيه وحاضره، وقالت:

(اشتملت شملة الجنين) الجنين المحبوس في غشاء المشيمة، لا يستطيع أن يعمل شيئاً.

(وقعدت حجرة الظنين) المتّهم، الذي يجلس في بيته فراراً من الناس، وخوفاً أن يلتقي به أحد.

(نقضت قادمة الأجدل) كنت - فيما مضى - تكسّر أجنحة الصقور، وهي بمنزلة العمود الفقري في الطائر.

(وخانك ريش الأعزل) صرت - في الحال - أعزلاً، لا سلاح لك، ضعيفاً حتى اعتدى عليك أفراد ليسوا في العير ولا في النفير، وكأنها تتعجب من سكوته في أول الأمر وعدم قيامه بطلب الحق، وفي نسخة: (خاتك) أي انقضَّ عليك.

ثم وضعت النقاط على الحروف، وشرحت الموضوع بالتفصيل، فقالت:
(هذا ابن أبي قحافة) كلمة (ابن أبي قحافة) معاكسة ومغايرة تماماً لكلمة (ابن أبي طالب) من حيث المغزى والمفهوم.

أما كان عبد الله بن جذعان صاحب المضيف في الطائف؟

أما كان أبو قحافة يحمل أواني الطعام من المطبخ إلى المضيف؟

أما كان يدعو الناس للطعام بأمر عبد الله بن جذعان.

ابن أبي قحافة (يبزّني نحلة أبي) يسلبني عطية والدي.

(وبُلغة ابنيَّ) وهي ما يكتفي به ولداي: الحسن والحسين لمعيشتهما من غلاّت فدك العوالي، أو من الخمس والفيء.

(لقد أجهر في خصامي) أعلن في مخاصمتي، وتجاوز الكلام حدّ التفاهم والاستدلال وبلغّ حدّ العناد والخصومة، فالحجة والدليل في المنطق غير مقبول، والتفاهم غير ممكن، لأنه أنكر قانون الميراث، والتوارث بين الأب وابنته.

(وألفيته الألدَّ في كلامي) لأنه افترى على الرسول بحديث ينافي القرآن وهو المدّعي، وهو الشاهد، وهو الحاكم، وجعل ذلك الحديث حجة له ودليلاً على ما يدّعي.

(حتى حبستني قيلة نصرها) إن الأنصار وهم الأوس والخزرج ابنا قيلة، وهي أمهما قد تركوا نصرتي بعد مواقفهم في نصرة المسلمين, تركوا نصرتي لأن الناس على دين ملوكهم.

(والمهاجرة وصلها) أي امتنع المهاجرون (وهم أهل مكة) عن وصلي وإسعافي وهنا نكتة لطيفة: في استعمال الوصل في مقابل الهجر.

(وغضَّت الجماعة دوني طرفها) يا للرزية، يا للهضمية!.

إن بقية الناس الحاضرين في المسجد أيضاً أعرضوا عني واتّبعوا غيرهم في التخاذل وكأنهم لا يعرفونني.

(فلا دافع ولا مانع) كي يدافع عني، ويضمُّ صوته إلى صوتي، أو يدفع عني اعتداء المعتدين، ويمنعهم عن ذلك، وفي نسخة: (ولا شافع).

(خرجت كاظمة، وعدت راغمة) خرجت من البيت إلى المسجد كاظمة للغيظ متجرعة للألم، ورجعت إلى الدار وقد عجزت عن الانتصار.

(أضرعت خدَّك يوم أضعت حدك) كأنها تعتبر سكوت عليّ (عليه السلام) أمام تلك الأحداث نوعاً من التذلل بسبب كبت النفس، وعدم استعمال القوة، وعدم إظهار القدرة.

(افترست الذئاب وافترشت التراب) هذه الجملة تفسير وتفصيل للجملة السابقة، لأن الرجل البطل المقدام الذي يفترس الذئاب أي يجدّل الأبطال ويقتل الشجعان كيف يبلغ به الأمر إلى درجة أنه يفترش التراب للجلوس أو النوم، أي ليس له فراش يجلس عليه سوى التراب، وهو منتهى الفاقة والبؤس، وفي بعض النسخ: (افترست الذئاب وافترستك الذباب) أي صرت فريسة للضعفاء.

(ما كففت قائلاً ولا أغنيت باطلاً) يمكن أن يكون:

(ما كففت ولا أغنيت) بصيغة المتكلم أي ما كففت أنا ويمكن أن يكون بصيغة الخطاب أي ما كففت أنت، وعلى الوجه الأول فالمعنى: لم أستطع أن أمنع قائلاً عن قوله، وأن أصرف باطلاً، وفي بعض النسخ: (ولا أغنيت طائلاً) أي ما فعلت شيئاً نافعاً، أي ما ينفعك السكوت والقعود، وعلى الوجه الثاني: (إنك لم تدفع عني قائلاً، ولم تصرف عني باطلاً).

(ولا خيار لي) أي لا قدرة لي على الدفاع واسترجاع الحق، أو لا اختيار لي في المقاومة والمكافحة أكثر من هذا، لأنني امرأة، والمرأة محدودة في تصرفاتها وإمكانياتها.

(ليتني متُّ قبل هينتي ودون ذلّتي) حقّ لها أن تتمنى الموت قبل أن ترى ذلك الجفاء من أمة أبيها، من تلك الأفراد الذين كوَّنهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومنحهم العز والسيادة، وأنقذهم من شفا جرف الهلكات.

قبل أن تشاهد الذل والهوان من ذلك المجتمع الجاف الذي لا يؤمن بالقيم ولا بالكرامة.

(عذيري الله منك عادياً ومنك محامياً) لهذه الجملة احتمالات: الأول: الله يعتذر منك بسبب إساءتي إليك أو إيذائك بهذا النوع من الكلام.

الثاني: عذري أنك قصرت في إعانتي وحمايتي. وهناك احتمالات أخرى بعيدة جداً.

(ويلاي في كل شارق) ويلاي: كلمة تقال عند الشدة والمصيبة فهي إذن تدل على شدة حال قائلها من حيث التألّم والتوجّع، تقول (عليها السلام): ويلاي في كل صباح تشرق فيه الشمس وفي نسخة: (ويلاي في كل شارق ويلاي في كل غارب) أي في كل صباح ومساء وعند كل شروق وكل غروب، بسبب المصيبة، وهي:

(مات العمد ووهن العضد) أي مات الذي كان يسند به ويعتمد عليه في الأمور وبموت العماد ضعف العضد، أي: بموت الرسول ضعف الإمام أمير المؤمنين (عليهما السلام) وفي نسخة: (وذلَّ العضد).

(شكواي إلى أبي) أي ليس أحد أشكو إليه ما جرى عليَّ سوى أبي (صلى الله عليه وآله).

(وعدواي إلى ربي) أي: من الله أطلب النصرة والانتقام.

(اللهم أنت أشد قوة وحولاً) في الدفع والمنع، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

(وأحدُّ بأْساً وتنكيلاُ) أي: أشد عذاباً وعقوبة.

انتهى كلام الصدّيقة فاطمة الزهراء (عليها السلام) حول الأحداث وموقف السلطة والناس منها، وكان الإمام يستمع إلى شكواها .. إلى آلامها .. إلى كلماتها المنبعثة من قلب ملتهب ونفس متألمة!..

والآن آن للإمام أن يجيبها على كلامها، ويذكر موقفه تجاه تلك القضايا والوقائع التي ألّمت ببنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال لها:

(لا ويل عليكِ) هذا جواب من الإمام على كلامها حيث قالت: (ويلاي) فيقول الإمام لها: (لا ويل عليك) أي لا ينبغي أن تقولي (ويلاي).

(بل الويل لشانئك) لمبغضك الذي خسر الدنيا والآخرة، الويل لعدوك الذي ظلمك، وكسر قلبك وآذاك.

(نهنهي عن نفسك يا ابنة الصفوة) أي: كُفّي وامنعي نفسك عن الحزن والغضب يا ابنة الذي اصطفاه الله واختاره على العالمين.

(وبقية النبوة) أنت بضعة النبي، وقد أُوذي النبي من أمته، كما قال (صلى الله عليه وآله): ما أُوذي نبي بمثل ما أُوذيت.

أنت - يا فاطمة - بعض من ذلك الكل، وجزء من سيد الرسل. فاصبري على ما أصابكِ.

ثم أنه (عليه السلام) ذكر موقفه، وبيّن تكليفه الشرعي اتجاه تلك الأحداث فقال:

(فما ونيتُ عن ديني) أي: ما عجزت عن القيام بما يجب، وما ضعف ديني واعتقادي، أي لم أصنع شيئاً استحق عليه اللوم والعتاب، لأنني مأمور بالصبر والسكوت، لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد أمرني بالصبر إن لم أجد أعواناً، وليس غصب فدك والعوالي بأعظم من غصب الخلافة والاستيلاء على منصة الحكم، والجلوس على مسند السلطة.

(ولا أخطأْت مقدوري) أي: ما تركت ما دخل تحت قدرتي وإمكانيتي، كأنه (عليه السلام) يعتذر عن سبب تقاعده عن نصرتها.

والمقدور - هنا - ليس المقدور العقلي بل المقدور الشرعي، ولنضرب لذلك مثلاً: المريض الذي يضره استعمال الماء للاغتسال والوضوء قادر على استعمال الماء عقلاً وعاجزاً شرعاً، وأمير المؤمنين (عليه السلام) كان يستطيع أن ينهض ويحمل سيفه ويهاجم المغتصبين، ويقتل منهم أفراداً لا يتجاوزون العشرة ويستولي على فدك والعوالي، وعلى الحكم.

أما قتل عليّ (عليه السلام) يوم بدر حوالي خمسة وثلاثين رجلاً من الشجعان؟ مع العلم أن رجال السلطة يومذاك لم يكونوا بأشجع من الذين حضروا يوم بدر لمحاربة رسول الله.

هذه القدرة العقلية المتوفرة للإمام (عليه السلام).

وأما القدرة الشرعية: فإن علياً إذا نهض لأجل القضاء على تلك الأفراد فمعنى ذلك وقوع الفتن والمصائب والاضطرابات الداخلية واتساع نطاق الفتنة وخاصة وأن هناك أفراداً يتربصون بالإسلام وينتهزون الفرصة للإطاحة بذلك الدين الذي كان غضاً جديداً لم تستقر أركانه بعد، ولم يضرب بجرانه الأرض.

أضف إلى ذلك وصية النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام) بالصبر والسكوت.

إذن: فالأفضل التضحية بفدك والعوالي، والسكوت عن المغتصبين رعاية للإسلام وحفظاً للدين من الضياع والانهيار.

(فإن كنتِ تريدين البلغة) أي: إن كان هدفك من مطالبة الأراضي هو البُلغة وهي ما يتبلغ به من العيش بمقدار الكفاف لك ولأولادك.

(فرزقك مضمون) والضامن هو الله الذي تكفّل رزق كل ذي روح.

(وكفيلك مأمون) وهو الله تعالى لا يخلف وعده فيما تكفّله وضمنه.

(وما أُعدَّ لكِ) من الأجر. وتهيأ لك من الثواب في الآخرة والعظمة يوم القيامة والدرجات العالية التي أحرزتيها في مقابل هذه المصائب والاضطهاد والمظلومية.

(أفضل مما قطع عنكِ) من الأراضي، وأفضل مما منعوكِ من حقوقكِ.

(فاحتسبي الله) اصبري طلباً لرضاه.

(فقالت: حسبي الله. وأمسكتْ) امتثلت أمر إمامها، وأطاعت زوجها، وقالت: حسبي الله. أي: الله كافئي وعليه أعتمد في أموري. وسكتت ورضيت (سلام الله عليها).


 

 

خطبَةُ الزّهرَاء في نِساء المُهاجِرِينَ وَالأنصَار

قال سويد بن غفلة:

لما مرضت فاطمة (عليها السلام) المرضة التي توفّيت فيها

اجتمع إليها نساء المهاجرين والأنصار يَعُدْنَها

فقلن لها: كيف أصبحتِ من علَّتك يا ابنة رسول الله؟

فحمدت الله، وصلّت على أبيها، ثم قالت:

أصبحتُ - والله - عائفةً لدنياكنَّ[346]

قاليةً لرجالكن[347]

لفظتُهم بعد أن عجمتهم[348]

وشنئتهم بعد أن سَبَرتهم[349]

فقبحاً لفلول الحد[350]

واللعب بعد الجدّ[351]

وقرع الصفاة، وصدع القناة[352]

وخطل الآراء، وزلل الأهواء[353]

وبئس ما قدَّمت لهم أنفسهم

أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون[354]

لا جرَمَ لقد قلّدتهم ربقتها[355]

وحمّلتهم أوقتها[356]

وشننت عليهم عارها[357]

فجدعاً وعَقراً وسُحقاً للقوم الظالمين[358].

ويحهم!!

أنّى زحزحوها عن رواسي الرسالة[359]

وقواعد النبوة والدلالة[360]

ومَهبط الروح الأمين[361]

والطبين بأُمور الدنيا والدين[362]

إلا: ذلك هو الخسران المبين

وما الذي نقموا من أبي الحسن[363]

نقموا منه - والله - نكير سيفه[364]

وقلَّة مبالاته بحتفه[365]

وشدّة وطأته ونكال وقعته[366]

وتنمّره في ذات الله عز وجل[367]

والله لو تكافّوا عن زمام نَبَذَه رسول الله إليه لاعتلقه[368]

ولَسارَ بهم سيراً سُجُحاً[369]

لا يكلم خشاشُه[370]

ولا يتعتع راكبه[371]

ولأوردهم منهلاً نميراً، صافياً روّياً، فضفاضاً تطفح ضفّتاه، ولا يترنق جانباه[372]

ولأصدرهم بِطاناً[373]

ونصح لهم سرّاً وإعلاناً

ولم يكن يحلى من الغنى بطائل[374]

ولا يحظى من الدنيا بنائل[375]

غير ريِّ الناهل[376]

وشبعة الكافل[377]

ولَبَانَ لهم الزاهد من الراغب

والصادق من الكاذب

(ولو أنَّ أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذّبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون)[378].

(والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين)[379].

إلا: هلمَّ واستمع.

وما عشتَ أراك الدهر عجباً!

وإن تعجب فعجبٌ قولهم!!

ليت شعري إلى أيّ سِناد استندوا؟[380]

وعلى أي عماد اعتمدوا؟

وبأيَّة عروة تمسَّكوا؟

وعلى أيَّة ذريَّة أقدموا واحتنكوا؟[381]

لبئس المولى ولبئس العشير.

وبئس للظالمين بَدَلاً.

استبدلوا - والله - الذُّنابا بالقوادم[382]

والعَجُز بالكاهل[383]

فرغماً لمعاطس قوم يحسبون أنهم يحسنون صُنعاً[384]

ألا: إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون

ويحهم!!

(أفمن يهدي إلى الحق أحقُّ أن يُتَّبَع أم من لا يَهدي إلاّ أن يُهدى فما لكم كيف تحكمون؟)[385]

أما: لعمري! لقد لقحتْ[386]

فَنَظِرة ريثما تُنتج[387]

ثم احتبلوا ملء القعب دماً عبيطاً[388]

وذعافاً مبيداً[389]

هنالك يخسر المبطلون

ويعرف التالون غبّ ما أسَّسه الأولون[390]

ثم طيبوا عن دنياكم أنفساً[391]

واطمئنوا للفتنة جاشا[392]

وأبشروا بسيف صارم

وسطوةِ معتد غاشم[393]

وهرج شامل[394]

واستبداد من الظالمين[395]

يَدَع فيئكم زهيداً[396]

وجمعكم حصيداً[397]

فيا حسرةً لكم[398]

وأنّى بكم؟[399]

وقد عميت عليكم[400]

أنُلزِمكموها وأنتم لها كارهون؟؟

 

قال سويد بن غفلة: فأعادت النساء قولها على رجالهن.

فجاء إليها قوم من وجوه المهاجرين والأنصار معتذرين، وقالوا: يا سيدة النساء.

لو كان أبو الحسن ذكر لنا هذا الأمر من قبل أن نبرم العهد[401]

ونُحْكِم العقد لما عَدَلنا إلى غيره!!!

فقالت: إليكم عني !

فلا عذر بعد تعذيركم، ولا أمر بعد تقصيركم[402].


 

 

عيَادَةُ النِّساء لِفَاطمِة الزهْراء (عليها السلام)

لا نعلم - بالضبط - السبب الحقيقي والدافع الأصلي الذي دعا بنساء المهاجرين والأنصار لعيادة السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، فهل كان هذا بإيعاز من رجالهن فما الذي دعا أولئك الرجال لإرسال نسائهن إلى دار السيدة فاطمة؟

أو هل حصل الوعي عند النساء وشعرن بالتقصير بل الخذلان لبنت رسول الله، فانتشر هذا الشعور بين النساء فأنتج ذلك حضورهن للعيادة للمجاملة أو إرضاء لضمائرهن المتألمة لما حدث وجرى على سيدة النساء؟

أو كانت هناك أسباب سياسية فرضت عليهن ذلك فحضرن لتلطيف الجو وتخفيف توتر العلاقات بين السيدة فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبين السلطة الحاكمة في ذلك اليوم؟

خاصة وأن الموقف الاعتزالي الذي اختارته السيدة فاطمة لنفسها، وانسحابها عن ذلك المجتمع لم يكن خالياً عن التأثير، بل كان جالباً لانتباه الناس، وبالأخص حين حمل الإمام أمير المؤمنين السيدة فاطمة يطوف بها على بيوت المهاجرين والأنصار تستنجد بهم وتستنهضهم فلم تجد منهم الإسعاف بل وجدت منهم التخاذل، وقد مرّت عليك نتيجة الحوار الذي جرى بين السيدة فاطمة الزهراء وبين معاذ بن جبل، وعرفت موقف ابنه من ذلك الرد السيئ.

وعلى كل تقدير فلا يعلم - أيضاً - عدد النساء اللاتي حضرن عند السيدة فاطمة الزهراء وهي طريحة الفراش، ولكن المستفاد أن العدد لم يكن قليلاً بل كان العدد كثيراً يعبأ به.

فانتهزت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) الفرصة، واستغلّت اجتماع النساء عندها لأن تضع النقاط على الحروف، وتكتب في سجل التاريخ الأعمال البشعة التي قام بها بعض المسلمين تجاه عترة نبيهم وذريته الطاهرة.

والنساء يشكلّن نصف المجتمع أو أكثر من النصف، وكل امرأة مرتبطة برجلٍ من زوج أو أب أو أخ أو ابن، فهي بإمكانها أن تقوم بدورٍ فعّال في المجتمع وخاصة في حقل الدعاية والإعلام والنشر.

فلماذا تسكت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) في هذا الاجتماع ولماذا لا تذكر استياءها من أولئك المتطرفين؟

(قلن لها: كيف أصبحتِ من علتّكِ يا ابنة رسول الله؟) هكذا جرت العادة والآداب أن العائد يسأل المريض عن صحته وعّلته، فيجيبه المريض عما يشعر به من المرض والألم، ولكن السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) لم تجبهن عن مرضها وتدهور صحتها، بل أجابتهن عن آلامها النفسية، ومصائبها الشخصية فالتحدث عن هذه الأمور أولى وأوجب من التحدث عن أحوالها الصحية لأن لتلك المصائب هي التي جرَّت العلّة والمرض إلى السيدة فاطمة وسلبتها العافية والصحة، فالتحدث عن السبب أولى من التحدث عن المسبب والإخبار عن العلة أفضل من الإخبار عن المعلول.

وهنا أجابت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) على أسئلة النسوة كما تقتضي الحال، لا تتعجب إن كانت السيدة فاطمة ما نسيت أصول الفصاحة والبلاغة والأدب الرفيع والمستوى الأعلى بسبب انحراف صحتها بل قالت:


 

 

فاطِمةُ الزهْرَاءُ تَضَعُ النقَاطَ عَلَى الحرُوف

(أصبحتُ - والله - عائفة لدنياكن) نعم، إنها تبدي تنفرّها عن الحياة الدنيا وكراهتها لذلك المجتمع الذي لا يؤمن بالقيم.

(قالية لرجالكن) ويحقّ لها أن تبدي اشمئزازها وغضبها على رجال المدينة، الذين كان موقفهم تجاه السيدة فاطمة الزهراء موقفاً غير طيب، فلقد مرَّ عليك أنهم أبدوا انزعاجهم من بكاء السيدة فاطمة الزهراء على فقد أبيها الرسول (صلى الله عليه وآله) ولم يتجاوبوا معها في إسعافها والوقوف معها.

(لفظتهم بعد أن عجمتهم) أي رميتهم من فمي بعد أن عضضتهم، كما يرمي أحدنا اللقمة من فمه ويشمئز منها.

(وشنئتهم بعد أن سبرتهم) أي أبغضتهم ومللتهم بعد أن اختبرتهم، وكرهتهم بقلبي بسبب سوء تصرفاتهم.

(فقبحاً لفلول الحد) شبّهت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) رجال أهل المدينة بالسيف الذي انثلم حدّه فلا يقطع، إشارة إلى قعودهم عن نصرتها، وخذلانهم إياها، فكأنها (عليها السلام) تستقبح فيهم سكوتهم عما جرى على بنت نبيهم من الظلم والاضطهاد.

(واللعب بعد الجد) والمقصود: عدم المبالاة بالحق بعد اهتمامهم بذلك، فإنهم كانوا جادّين في نصرة الإسلام، ولكن الآن صاروا وكأنهم يلعبون ألعاباً سياسية.

(وقرع الصفاة) والمراد: التذلل والانقياد لكل مَن قادهم:

(وصدع القناة) وفي نسخة: (خور القناة) إشارة إلى استرخاء الرمح بسبب انشقاقه، وينبغي أن يكون الرمح صلباً حتى يمكن الطعن به، وإذا كان الرمح رخواً لا يمكن أن يُطعن به.

(وخطل الآراء) وفي نسخة: (أفول الرأي) وفي نسخة أخرى: (خطل القول) وعلى كل تقدير فهو إشارة إلى انحراف آرائهم وفسادها، وشذوذ مواقفهم السلبية، والإيجابية.

أما مواقفهم السلبية فهي تجاه أهل بيت نبيهم (عليهم السلام) وعدولهم عن أهل البيت إلى غيرهم، وأما الإيجابية فاعترافهم بالسلطة المناوئة لآل الرسول.

(وزلل الأهواء) ما أقبح تلك الرغبات المنحرفة التي لعبت بمقدرات المسلمين على مرّ التاريخ وعلى مرّ القرون، وتلك العثرات المنبعثة عن اتباع الأهواء الضالة المضلة، ومن مشتهيات الأنفس.

(ولَبئْسَ ما قدَّمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون) هذه الآية من سورة المائدة آية (80) وقبلها: (لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون) إنها (عليها السلام) أدمجت هذه الآية في حديثها للمناسبة بين الموردين، ويظهر وجه المناسبة بالمقارنة بين الآيات وبين موقف أولئك المتخاذلين.

(لا جرم لقد قلّدتهم ربقتها) أنها (عليها السلام) تلقي المسؤولية مسؤولية الأجيال كلها على أعناق أولئك الأفراد، إذ أنها لما حضرت في المسجد وخطبت، وأتمت الحجة على الحاضرين واستنجدت بالمهاجرين والأنصار فثبت التكليف الشرعي في حقهم، وحيث أنهم لم ينصروها فهم مسؤولون عن مضاعفات ذلك الخذلان أمام الله وأمام التاريخ.

(وحمَّلتهم أوقتها) أي حمّلتهم ثقل المسؤولية وشومها.

(وشننت عليهم عارها) شننت الماء على التراب: أرسلته وصببته بصورة متفرقة، وفي نسخة: (سننت) أي صببت بصورة متصلة غير متفرقة، وعلى كل تقدير فالمعنى، أن عليهم سبّة التاريخ وعاره للأبد بسبب ذلك الجفاء الذي أبدوه تجاه أهل البيت.

(فجدعاً وعقراً وسحقاً للقوم الظالمين) وفي نسخة أخرى: (فجدعاً وعقراً وبُعداً) هذه كلمات دعاء عليهم بسبب ظلمهم لآل الرسول، والظلم: وضع الشيء في غير ما وضُع له، والظلم على درجات ومراتب، فهناك الظلم بالنملة وهناك الظلم بالأمة الإسلامية عبر التاريخ، والظلم بأولياء الله الذين يرضى الله لرضاهم، ويغضب لغضبهم.

ويستحق الظالمون أن يدعى عليهم بالجدع والعقر والبُعد، فيقال: جدعهم الله جدعاً وعقرهم الله عقراً، ومعناهما: قطع الله أيديهم وآذانهم وشفاهم وجرح الله أبدانهم.

(ويحهم) ويح: كلمة تستعمل في مقام التعجب، وقد يكون معناها الويل.

(أنَّى زحزحوها عن رواسي الرسالة؟) وفي نسخة: (زعزعوها) تتعجب (عليها السلام) من سوء اختيارهم، أي كيف نحوّا خلافة رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن مواضعها الثابتة التي هي بمنزلة الجبال لحركة الأرض وسيرها بصورة منظمة وحفظها من الاضطراب.

(وقواعد النبوة) القواعد: جمع قاعدة وهي - هنا - الأساس للبناء، فكما أن البناء إذا بني على غير أساس ينهدم فكذلك الخلافة إذا وُضعت في غير موضعها اللائق بها تنهار معنوياً، ويختل نظامها، وتضطرب أركانها.

(ومهبط الروح الأمين) كان جبرئيل يهبط في بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبيوت أهل بيته، وبيت فاطمة مهبط الروح الأمين.

(والطبين بأمر الدنيا والدين) الفطن الحاذق بأمور الدنيا المتعلقة بالحياة وكذلك القضايا المتعلقة بالدين في جميع المجالات وشتى الأحكام، وتقصد بذلك أهل بيت الرسول (عليهم السلام) وتخص زوجها الحكيم العظيم الإِمام أمير المؤمنين (عليه السلام).

(ألا: ذلك هو الخسران المبين) أي والله، خسران واضح خسرته الأمة الإِسلامية في جميع مجالات حياتها من الحياة الفردية والزوجية والعائلية والاجتماعية والاقتصادية والصحية والسياسية والعمرانية والدينية والدنيوية والأخروية.

كل ذلك حين سلبت الأمةُ السلطةَ والقدرةَ من أهل بيت الرسول، وتصرّف في القيادة الإِسلامية أفراد كانوا هم والإِسلام على طرفي نقيض، إذ كان الإِسلام شيئاً آخر.

فكانت إراقة الدماء البريئة أسهل وأهون عندهم من إراقة الماء.

والتلاعب بالأحكام الإِلهيّة والقوانين الإِسلامية كالتلاعب بالكرة وغيرها من الألاعيب.

إن المآسي التي شملت الأمة الإِسلامية (عبر التاريخ) مما تقشعرّ منها الجلود، وتضطرب منها القلوب، كل ذلك من جرّاء القيادة غير الرشيدة التي تسلّمها أفراد من هذه الأمة.

وليس في هذا الكتاب مجال لاستعراض تلك المجازر الجماعية، والمذابح المؤلمة التي قام بها بعض حكام المسلمين على مر التاريخ الإِسلامي.

فقد ستروا الكرة الأرضية بقشرة من المقابر التي ضمّت الآلاف المؤلفة من النفوس البريئة التي كانت ضحايا لأَهواءِ أفراد، وفداءً لكراسيهم ومناصبهم وملذاتهم وأما الكبت والاضطهاد والحرمان والجوع والبؤس الذي ساد العباد والبلاد فحدّث ولا حرج.

نعم، هذا هو الخسران المبين، ولا يزال الحبل ممدوداً حتى اليوم وبعد اليوم.

(وما الذي نقموا من أبي الحسن؟ أي: أيَ شيء عابوه من الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب حتى نحوّه عن السلطة، وقدّموا غيره عليه؟

أنقصاً في العلم؟

أو جهلاً في الفتيا؟

أو سوءاً في الخلق؟

أو عاراً في الحسب؟

أو ضعفاً في الدين؟

أو عدم كفاءة في الأمور؟

أو جبناً في النفس؟

أو خِسّةً في النسب؟

أو قلّة في الشرف؟

أو بخلاً بالمال؟

أو أي عيب في مؤهلاته وكفاءاته؟

كل ذلك لم يكن، بل كان علي (عليه السَّلاَم) أعلم هذه الأمة جمعاء، وهو باب مدينة علم الرسول وأقضاهم في الفتوى.

وأشبه الناس خلقاً بالرسول الذي كان على خلق عظيم.

وابن شيخ الأَباطح: أبي طالب، مؤمن قريش.

وأعبد الناس في هذه الأمة.

وأشجعهم نفساً، وأقواهم قلباً، وأكثرهم جهاداً.

وكتلة من الفضائل.

وفي أوج الشرف والعظمة.

وأسخاهم كفاً، وأبذلهم للمال.

إذن فما هو السبب في صرف الخلافة عنه إلى غيره؟

إن السيدة فاطمة (عليها السلام) تجيب على هذا السؤال، وتقول:

(نقموا منه - والله - نكير سيفه) أي عابوا شدّة سيفه، والمقصود أن علياً كان قد قتل في الحروب والغزوات رجالات هؤلاء وأسلافهم، وحطّم شخصياتهم، فكانوا يكرهونه بسبب سيفه الخاطف للأرواح.

(وقلة مبالاته بحتفه) أي عدم اهتمامه واكتراثه بالموت، فالمجاهد الذي ينزل إلى جبهة القتال ينبغي أن يكون قليل المبالاة بالموت، فكما أنه يَقتل كذلك بُقتل، وكان علي (عليه السلام) يقول: واللَّه لا يبالي ابن أبي طالب أوقَع على الموت أو وقع الموت عليه.

(وشدِّة وطأتهُ ونكال وقعته) يقال: فلان شديد الوطأة أي شديد الأخذ وشديد القبض، والمقصود قوة العضلات ومعرفة القتال، ونكال الوقعة أي كان يصنع صنيعاً يحذَّر غيره ويجعله عبرة له، أي كانت ضربته وصدمته للأعداء نكالاً أي يورث الحذر والعبرة للآخرين.

(وتنمّره في ذات اللَّه عز وجل) النمر شديد الغضب، إذا غضب لنفسه لم يبال: قلّ الناس أم كثروا، ولا يردّه شيء، ولا يحول دون هدفه حائل ولا يمنعه مانع، والرجل الشجاع الذي يجاهد بلا مبالاة ولا خوف، بل بكل غضب وشجاعة يقال في حقه: تنمّر، أي صار شبيهاً بالنمر في الاقتحام.

لقد تخلص من كلامها (عليها السلام) أن سبب انحراف الناس عن علي (عليه السلام) كان لأغراض شخصية، وأمراض نفسية متأصلة في قلوبهم.

فلقد قتل علي (عليه السلام) يوم بدر وأُحد وحنين والخندق وغيرها عدداً كبيراً لا يستهان به من أقطاب الشرك، ورجالات الكفر، وشخصيات الجاهلية، أمثال: عتبة وشيبة والوليد وعمرو بن عبد ودّ وعقبة بن الوليد وغيرهم، وأكثر قبائل العرب كانت موتورة بسيف علي (عليه السلام).

وحتى، وبعد أن أسلمت تلك القبائل كانت رواسب الحقد والعداء كامنة في نفوسهم.

والنجاح الكبير الذي أحرزه علي (عليه السلام) في جميع المجالات من الطبيعي أن يهيّج الحسد في القلوب، والتقدم الباهر الذي كان من نصيب علي (عليه السلام) في شتى الميادين كان في قمّة فضائله.

فالآيات القرآنية التي نزلت في حقه.

والأحاديث النبوية التي شملته دون غيره.

والموفّقية التي حازها علي (عليه السلام) وحده.

وخصائصه التي امتاز بها عن غيره من العالمين.

كان لها أسوأ الأثر، في النفوس المريضة.

وكانت تلك الرواسب والآثار كامنة في الصدور، كأنها نار تحت رماد حتى توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخلا الجو، وارتفع المانع فعند ذلك زال الرماد، وظهرت النار، وجعلت تلتهب وتشتعل.

بالله عليك انظر:

لقد مرّ عليك أن جماعة من الصحابة خطبوا السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) من أبيها الرسول (صلى الله عليه وآله) فرفضهم النبي، وحينما خطبها علي من الرسول وإذا به يجد الترحيب والتجاوب على أحسن ما يمكن.

أليس هذا مما يهيج الحسد في النفوس؟

ويأمر الرسول (صلى الله عليه وآله) أبا بكر أن يذهب إلى مكة بسورة البراءة ليقرأها على أهل مكة، ويخرج أبو بكر بالسورة متوجهاً نحو مكة، فينزل جبرئيل على الرسول قائلاً: إن ربك يأمرك أن تبلّغ هذه السورة بنفسك، أو يُبلّغها رجل منك. فيأمر النبي علياً أن يتوجه نحو مكة، ويتولى قراءة السورة على أهل مكة، ويأمر أبا بكر بالرجوع.

أليس هذا الأمر يهيج الحسد في القلوب.

وهكذا وهلم جرّاً، سِر مع علي (عليه السلام) عبر تاريخ حياته تجده المقدَّم على غيره في كافة المجالات، ويمطره جبرئيل بآيات من الذكر الحكيم تقديراً لبطولاته، وتنويهاً لإنجازاته، وتقبّلاً لصدقاته، ومدحاً لخدماته.

والمسلمون يقرأون تلك الآيات آناء الليل وأطراف النهار راضين أو مرغمين.

ومن العجيب: أن علياً كان يخوض غمار الحروب بأمر الرسول، ولأجل التحفظ على حياة الرسول، الرسول الذي كان الإسلام متمثلاً ومتجسدّاً فيه وقائماً به، فكيف كان الناس يكرهون علياً وهو الجندي ولا يكرهون الرسول وهو القائد للجيش؟‍‍‍‍‍!

في البحار عن أبي زيد النحوي قال: سألت الخليل بن أحمد العروضي فقلت: لِمَ هجر الناس علياً (عليه السلام) وقُرباه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) قرباه، وموضعه من المسلمين موضعه، وعناؤه في الإسلام عناؤه؟؟

فقال: بَهَر ـ والله ـ نورُه أنوارهم، وغلبهم على صفو كل منهل، والناس إلى أشكالهم أميَل، أما سمعت الأول يقول:

وكل شكلٍ لشكله ألفُ***أما ترى الفيل يألف الفيلا

وأنشدنا الرياشي عن العباس بن الأحنف:

وقائل كيف تهاجرتما؟***فقلت قولاً فيه إنصاف:

لم يك من شكلي فهاجرته***والناس أشكال وأُلاّف

وقال ابن عمر لعلي (عليه السلام): كيف تحبك قريش وقد قتلت في يوم بدر وأُحد من ساداتهم سبعين سيداً، تشرب أنوفهم الماء قبل شفاههم؟ فقال أمير المؤمنين (عليه السلام):

ما تركت بدر لنت مذيقاً***ولا لنا من خلقنا طريقاً

ومن الواضح أن الأمور ليست عيوباً ونقائص حتى يكره الناس علياً بسببها ومعنى كلام الزهراء (عليها السلام): (نقموا منه ـ والله ـ نكير سيفه) من باب قول الشاعر:

ولا عيب فيهم غير أنَّ سيوفهم***بهنَّ فلول من قراع الكتائب

والمقصود: أنهم عابوا علياً على فضائله ومناقبه، وعلى انجازته وخدماته وعلى شجاعته وتضحياته، وجهاده وبطولاته، وليست هذه عيوباً حتى يُعاب علي عليها.

هذا ومن المؤسف أن الموضوع يناسب الشرح والتفصيل أكثر من هذا ولكن رعاية لأسلوب الكتاب نرجئ البحث إلى فرصة أخرى أو كتاب آخر.

(والله لو تكافوّا عن ذمام نبذه رسول الله (صلى الله عليه وآله) إليه لاعتلقه) شبهت السيدة فاطمة (عليها السلام) المجتمع الإِسلامي أو الأمة الإسلامية بالقافلة، وشبّهت الخلافة والقيادة الإِسلامية بالزمام وهو المقود، أي الحبل الذي يقاد به البعير، وشبّهت علياً (عليه السلام) بالدليل الذي يتقدم القافلة، ويأخذ بزمام البعير ليقود المسيرة.

ولم تنس السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) أن تقول: (نبذه رسول الله إليه) أي إن القيادة الإِسلامية إنما صارت لعلي (عليه السلام) بأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين قام في الناس رافعاً صوته: (من كنت مولاه فعلي مولاه).

وبعد هذا تقسم بالله قائلة: (والله) فالمسألة مهمة وعظيمة جدّاً جدّاً وتستحق أن يقسم الإِنسان بالله لأجلها.

(لو تكافّوا) أي كفّوا أيديهم، أي منع بعضهم بعضاً، بحيث لو أراد أحدهم تناوله منعه الآخرون (لاعتلقه) أي اعتلق علي (عليه السلام) الزمام، أي قام بالواجب كما ينبغي وقاد المسيرة على أحسن ما يتصور، وأفضل ما يرام.

ثم وصفت (عليها السلام) نتائج تلك القيادة الرشيدة لو كان يفسح لها المجال، وذكرت الفوائد والمنافع والخيرات والبركات التي كانت تعمّ الأمة الإِسلامية على مرّ القرون والأجيال فقالت:

(ثم لسارَ بِهم سيراً سجحاً) أي سار القائد بالمسيرة سيراً ليناً سهلاً، بكل هدوء وطمأنينة، فإن البعير إذا سار بالراكب سيراً عنيفاً فلا بدَّ وأن الراكب يتأذى من الحركة العنيفة، وتتحطم أعصابه لما في ذلك من الإزعاج والقلق.

ثم البعير نفسه يتألم حينما يجاذبه الراكب الحبل الذي قد دخل في ثقب أنفه وربما يجرح أنفه أيضاً، فيتأذى الراكب والمركوب، ولكن السيدة فاطمة تقول:

(لا يكلم خشاشه، ولا يتعتع راكبه) وفي نسخة: (ولا يكل سائره ولا يمل راكبه) أي الحبل أو الخشب الذي جعل في أنف البعير ويقال له (الخشاش) لا يجرح أنف البعير، ولا ينزعج راكب البعير، والمقصود: سلامة الراكب عن كل مشقة حال السير.

(ولأوردهم منهلاً نميراً فضفاضاً) وفي نسخة: (منهلاً روياً) إن الدليل الذي يتقدم القافلة لا بد وأن ينزل بهم منزلاً حسناً، ومكاناً لائقاً للراحة، على شاطئ نهرٍ أو عين ماء، ليأخذوا حاجتهم من الماء، ويسقوا دوابهم وغير ذلك.

تقول السيدة فاطمة (عليها السلام): كان علي (عليه السلام) يقود المسيرة إلى منهل نمير والمنهل: المورد أي محل ورود الإِبل، والنمير: العذب، النابع من عين لا ينقطع ماؤها. والفضفاض: الواسع.

(تطفح ضفتاه، ولا يترنق جانباه) النهر إذا كان ممتلئ يفيض جانباه وإذا كان عذباً لا يتكدر جانباه بالطين كما هو المشاهد من تكدر الماء بالطين على جوانب النهر، بل وحتى البحر.

فالكثرة والسعة في المجرى والعذوبة والنظافة وعدم التلوث بالطين وغيره من صفات ذلك الماء.

وكلها إشارات وكنايات إلى الحياة السعيدة التي كان الناس يعيشونها لو كان الأمر بيد الإِمام أمير المؤمنين، فالخيرات كانت تشمل أهل الأرض والعدل يسود المجتمع والسلامة كانت تعمّ الجميع، والرفاهية والاستقرار والطمأنينة والأمان والحرية (بمعناها المعقول) والسعادة في الدنيا، والنعيم في الآخرة كان من نصيب الجميع.

(ولأصدرهم بطاناً) وكانت نتيجة ذلك الورود هو الصدور من المنهل، والخروج من ذلك المورد بالبشع والارتواء، فلا جوع ولا حرمان، ولا فقر ولا مسكنة.

(ونصح لهم سراً وإعلاناً) النصح: حُب الخير، وعدم الغش، والمعنى: أن علياً كان يسعى في إسعادهم وجلب الخير لهم بصورة سرية وعلنية، أي ما كان يطلب من وراء تلك القيادة إلاَّ الخير للناس لا لنفسه.

(ولم يكن يحلَّى من الغنى بطائل، ولا يحظى من الدنيا بنائل، غير ريّ الناهل وشبعة الكافل) وهنا تذكر السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) موقف زوجها من تلك القيادة والزعامة العامة.

وقبل كل شيء: ينبغي أن لا ننسى أن في العالم أفراداً يحبون القيادة والرئاسة لأنفسهم، أي يحبون ليحكموا على الناس، ويتصرفوا كما يشاءون وكما يريدون، ويحبون الرئاسة لأنها وسيلة تحقيق أهدافهم وأُمنياتهم الشخصية فهم يتنعمون من وراء تلك الرئاسة بشتى أنواع النعم، ويختارون لأنفسهم أفضل حياة.

وهناك أفراد (وقليل ما هم) يحبون الرئاسة والقيادة ليخدموا الناس، ويصلحوا المجتمع، ويجلبوا الخير والسعادة للشعوب، ليعيش الناس آمنين مطمئنين، ولتكون لهم حياة مشفوعة بالراحة والخير والنعيم.

إن هذه الطائفة من أولياء الله لا يشعرون بالنقص في أنفسهم كي يكملوا أو يستروا ذلك النقص بالفخفخة والجبروت بل إنهم يشعرون بالكمال في أنفسهم، فهم في غنى عن الناس، والناس بحاجة إليهم، إن هؤلاء لو حكموا لنفعوا الناس وأصلحوهم، وأمنّوا حياتهم من جميع نواحيها.

وفي الوقت نفسه لا يستفيدون ولا ينتفعون من حطام الدنيا، ولا تطيب نفوسهم أن يتنعموا بأموال الفقراء، ويبنوا قصورهم على عظام الضعفاء، إنهم يحملون نفوساً أبيّة وأنوفاً حميّة، وأرواحاً طيبة تستنكف التنازل إلى هذا المستوى السافل.

بعد هذا يتضح لنا كلام السيدة فاطمة (عليها السلام) حول موقف زوجها تجاه القيادة لو كان يفسح له المجال، ولا يغلق عليه الطريق.

تقول: (ولم لم يكن يحلى من الغنى بطائل) أي لو كان علي جالساً على منصة الحكم ما كان يستفيد من أموال الناس لنفسه فائدة كثيرة، وما كان يصيب من بيوت الأموال لنفسه فائدة كثيرة، وما كان يصيب من أموال الناس وكنوز الثروة خيراً.

(ولا يحظى من الدنيا بنائل) ما كان ينال من ثروات الدنيا بالعطاء سوى مقدار إرواء نفسه من العطش، وإشباع عائلته من الجوع.

احفظ هذه الجملة وانظر إلى حياة الحكام والسلاطين في العالم، تجدهم يسكنون أفخم المساكن، ويلبسون أفخر الملابس، ويأكلون ألذَّ المآكل، ويركبون أحسن المراكب ويؤثثون بيوتهم بأغلى الأثاث، ويعيشون أفضل المعيشة، ولا تسأل عن الذخائر التي يدّخرونها ليوم ما!؟؟

كل ذلك من بيت المال، وكل ذلك من أموال الدولة وأموال الشعب، نعم، إن السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) هكذا تعرّف زوجها، والتاريخ الصحيح يصدّق كلامها والواقع يؤيد ادعائها.

فلقد حكم الإِمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) أربع سنوات وشهوراً، فكانت حياته هكذا مائة بالمائة، فلقد كتب (عليه السلام) إلى عثمان بن حنيف كتاباً يقول فيه: (ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنيا بطمرية، ومن طعمه بِقُرصية.. فوالله ما كنزت من دنياكم تبراً، ولا ادّخرت من غنائمها وفراً، ولا أعددت لبالي ثوبي طمراً، ولا حزت من أرضكم شبراً بلى، كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلّتها الخضراء، فشحّت عليها نفوس قوم وسختْ عنها نفوس قوم آخرين..) الخ.

بقيت هنا كلمة لا ينبغي ترك ذكرها، وهي:

ربما يتصور البعض أو يتبادر إلى ذهنه أن علياً الذي وصفته الزهراء (عليها السلام) بأنه لو كان يقود المسيرة لسار بهم سيراً سجحاً لا يكلم خشاشة، ولا يتعتع راكبه (إلى آخر أوصافه) فلماذا حينما حكم على الناس، وتسلّم القيادة وجلس على منصة الخلافة حدثت الاضطرابات الداخلية، والحروب الأهلية الدامية، والمشاكل والمصائب والمذابح التي شملت الأمة الإِسلامية في عهده؟؟

نجيب على هذا بما يلي:

لا شك أن المجتمع الإسلامي في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله) كان مجتمعاً صالحاً من جميع النواحي، ولكن الذين حكموا المجتمع بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) خلال ربع قرن قد غيّروا وبدّلوا وتصرّفوا تصرفات غير مرضية، ولو ألقيت نظرة إمعان على تاريخ الحكام الذين تسلّموا السلطة بعد الرسول مباشرة خلال خمسة وعشرين عاماً لرأيت كمية وافرة من الأوامر والفتاوى والأحكام المضادّة للشريعة الإِسلامية من الكتاب والسنة، من تغيير الوضوء والأذان وكيفية الصلاة وعدد ركعاتها إلى الحج إلى الجهاد إلى النكاح وإلى الطلاق وهكذا وهلَّم جرَّا.

ولو أردنا أن نذكر الشواهد والأمثلة لهذه المواضيع لطال بنا الكلام، ولكننا نكتفي ـ هنا ـ بمثال واحد كنموذج. ولك أن تقتبس من هذا المثال بقية الأمثلة:

خرج خالد بن الوليد بجيشه إلى بعض قبائل المسلمين. وكان في تلك القبيلة رجل من المسلمين اسمه: مالك بن نويرة، قد أسلم على يد النبي وشهد له رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالجنة وشهد عمر بن الخطاب بإسلامه فقتله خالد بن الوليد بغير ذنب سوى ذنب واحد، وهو أن زوجته كانت من أجمل نساء قومها وقد رآها خالد بن الوليد وطمع فيها، ولم يجد طريقة للاستيلاء عليها سوى قتل زوجها المسكين فقتله خالد، وفي نفس الليلة زنى بزوجته.

وحينما رجع خالد إلى المدينة لم يجد أي عقاب أو عتاب من رئيس الدولة يومذاك هذا هو المتفق عليه بين المؤرخين بلا استثناء، مع العلم أن الإِسلام لم يسمح بنكاح المعتدة ما دامت في العدة، والرجل لم يتزوج بها.

هذه المأساة التي تجدها في أكثر التواريخ، أتعلم كم تشتمل هذه الفاجعة من إهدار الدماء البريئة وهتك الأعراض، وارتكاب الجرائم، والتلاعب بكرامات الناس ومقدراتهم؟ وكم تتبدل نظرة الناس إلى الدين وإلى الدولة الإِسلامية؟

وقد مرَّ عليك موقف هؤلاء اتجاه بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) الوحيدة العزيزة واتجاه زوجها العظيم، وولديها الحسن والحسين (عليهم السلام)؟

إن الإسلام والقيادة الإسلامية وصلت إلى يد علي (عليه السلام) وهي مفككة العرى محطمة الجوانب، مشوهة السمعة.

ولما أراد الإِمام علي أن يصلح تلك المفاسد، وأن يعيد الإِسلام إلى طريقه السوي ويلبسه حلّة القداسة والجمال، وإذا به يجد أصحاب المطامع يقومون ضدّه، ويشهرون سيوفهم في وجهه، فتكوّنت الحروب الداخلية وقامت المجازر على قدم وساق، وقد ذكرنا الشيء اليسير من تلك المآسي في الجزء الأول والثاني والثالث من شرح نهج البلاغة، وأنت إذا راجعت وقارنت فسوف تنكشف لك أمور، وتتضح لك أسرار.

نحن لا زلنا في شرح الخطبة:

(ولبان لهم الزاهد من الراغب) إن السيدة فاطمة (عليها السلام) لا تزال توالي حديثها عن زوجها الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وإنه لو كان يستلم القيادة كان يقنع من الدنيا بالشيء اليسير اليسير، وذلك بمقدار إرواء عطشه وإشباع عائلته، وعند ذلك كان يظهر للناس الزاهد الحقيقي الذي لا يطمع في أموال الناس، ويظهر الراغب الذي كان يخضم مال الله خضم الإِبل نبتة الربيع وأمثاله.

(والصادق من الكاذب) وظهر لهم الصادق الذي يصدق في أقواله وأفعاله من الكاذب الذي يكذب في ادعاءاته وتصرفاته.

ثم إنها (عليها السلام) ختمت هذه المقطوعة من حديثها بالآية الكريمة، وطبّقتها على هذه الأمة، فقالت: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذَّبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون)[403]. ما أنسب هذه الآية بهذا المقام وما أجمل هذا التشبيه في هذا الكلام؟

وتقصد السيدة فاطمة أن الناس لو كانوا يقبلون كلام الرسول (صلى الله عليه وآله) في تعيين علي بالخلافة وكانوا ينقادون له لكانت الدنيا لهم روحاً وريحاناً وجنة نعيم، ولكنهم خالفوه واختاروا غيره، وبعملهم هذا كذَّبوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) تكذيباً عملياً، فسوف يشاهدون الويلات تنصبُّ عليهم، وأردفت هذه الآية بمثلها، فقالت: (والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين)[404] وسيأتيك القول بالتفصيل عن الويلات والمآسي التي انصبَّت على الأمة الإِسلامية من جرّاء تلك القيادة الشاذة ومضاعفاتها.

(ألا هلم واستمع) وفي نسخة: (هلممن واستمعن) فعلى النسخة الأولى يكون الخطاب عاماً للجميع، وعلى النسخة الثانية يكون الخطاب خاصاً بالنساء اللاتي حضرن عيادتها.

(وما عشت أراك الدهر عجباً) أي كلما عشتَ أو مدة عيشك في الدنيا رأيت العجائب التي لا بالبال ولا بالخاطر.

(وإن تعجب فعجب قولهم) هذه الجملة من آية في سورة الرعد وهي: (وإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا تراباً أإنا لفي خلق جديد) اقتبست السيدة فاطمة (عليها السلام) هذه الجملة من الآية وأدمجتها في حديثها، والمقصود أن الناس يتعجبون من بعض الأمور وليست بعجيبة، ولا تستحق التعجب، وهناك أمور وقضايا عجيبة ينبغي أن يتعجب منها، لأنها أمور لا تنسجم مع الشرع ولا مع العقل ولا الوجدان ولا الضمير، ولا تدخل تحت أي مقياس من المقاييس الصحيحة والأمر العجيب هو ما يلي:

(ليت شعري إلى أي سناد استندوا؟ وعلى أي عماد اعتمدوا؟ وبأية عروة تمسكوا؟ وعلى أية ذريّة أقدموا واحتنكوا؟) إن الناس كانوا يستندون على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وينقادون له، ويعتمدون على أقواله، ويطيعون أوامره، لأنه مرسل من عند الله، ومتصل بالعالم الأعلى، قد توفرت فيه الأهلية بجميع معنى الكلمة، فلا عجب في ذلك إذا خضع له الناس، وقدَّموه على كل شيء، ولكن العجب كل العجب أن بعض الناس بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) تنازلوا إلى مستوى نازل جداً فسلّموا القيادة إلى أفراد لا توجد فيهم المؤهلات.

فالذي كان يستند ويعتمد على الرسول (صلى الله عليه وآله) يتمسك به كيف تطيب نفسه أو يرضى ضميره أن يعترف بالقيادة الإسلامية لأفراد ليسوا في تلك المرتبة وتلك الدرجة.

تتعجب السيدة فاطمة (عليها السلام) ويتعجب معها عقلاء العالم وأصحاب الضمائر الحية والنفوس المعتدلة والقلوب السلمية من تلك الانتخابات المخالفة لجميع المقاييس والنواميس والموازين.

(وبأية عروة تمسكوا) لقد ثبت عند المسلمين كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله) (إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنكم لن تضلوا ما أن تمسكتم بهما) ومعنى الحديث أن الرسول أمر المسلمين أن يتمسكوا بالقرآن والعترة معاً، ولكن هؤلاء بأية عروة تمسكوا وتعلقوا واعتصموا.

(وعلى أية ذرية أقدموا واحتنكوا؟) أيعلم هؤلاء مَن هي فاطمة الزهراء؟ أيعلم هؤلاء ما منزلة هذه الذرية الطاهرة الشريفة الذين هم أشرف أسرة على وجه الأرض؟

أيعلم هؤلاء ما صنعوا اتجاه أهل البيت؟

الذين أمرهم الله بمودتهم بقوله: (قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودة في القربى).

الذين فرض الله طاعتهم على كل مسلم بقوله: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأُولي الأمر منكم) الذين مَثَلهم كمثل سفينة نوح، من ركبها نجى، ومن تخلّف عنها هوى وغوى وهلك، الذين مَن أحبّهم فقد أحب الله، ومن آذاهم فقد آذى الله، ومن أبغضهم فقد أبغض الله.

فوالله الذي لا إله إلا هو إنهم آذوا ذرية رسول الله وعترته وأهل بيته، وظلموهم وأغضبوهم واعتدوا عليهم، وهتكوا حرمتهم، وجرّأوا الناس على إيذائهم، وقد حكم الله تعالى بين عباده.

بأي دين؟ وبأية شريعة؟ وبأي مجوّز شرعي صنعوا ذلك الصنيع اتجاه آل رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟

أنا لا أدري، ولعل القوم ينحتون الأعذار التي تبيح لهم هتك تلك الحرمات، وإهدار تلك الكرامات.

(ولبئس المولى ولبئس العشير) اقتبست السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) هذه الجملة من قوله تعالى في سورة الحج آية 13: (يدعو لمن ضرّه أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير) أي أن الذي اختاروه للولاية بئس المولى وبئس العشير، والعشير هو الصديق الذي ينتخب للمعاشرة.

(وبئس للظالمين بدلاً) هذه الجملة من قوله تعالى في سورة الكهف 50: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلاّ إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربّه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلاً).

(استبدلوا - والله - الذنابا بالقوادم والعجز بالكاهل) من جملة العلوم التي لها الصدارة على بقية العلوم هو علم الاجتماع، وهو علم يبحث عن تقدم الأمم أو تأخرها، أسباب ضعفها أو قوتها، وصلاحها وفسادها، ونتائج الصلاح ومضاعفات الفساد.

ومن الوسائل التي كان لها التأثير في توعية المجتمع نحو الخير والشر، ونحو الصلاح أو الفساد، وتقرير مصير الشعوب: هو جهاز الدولة وجهاز الدين، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (طائفتان من أُمتي إذا صلحتا صلح الناس، وإذا فسدتا فسد الناس: العلماء والأمراء) وفي ذلك اليوم كان جهاز الدولة وجهاز الدين واحداً، فالخليفة يُعتبر رئيس الدولة ورئيس الدين، ويدير دفة الحكم على الصعيدين: الدولي والديني.

وإننا نجد الشعوب المتحضرة، المثقفة المتقدمة إنما وصلوا إلى القمة وحازوا التقدم في كافة المجالات بسبب الأسرة الحاكمة التي مهّدت لهم السبل، وهيأت لهم الوسائل وزوّدتهم بالتعليمات، وشجعتهم على العمل.

وهكذا نجد الشعوب المتأخرة والمتفسخة التي استولى عليهم الجهل والفقر والمرض والذل والهوان والخلاعة والمجون هم ضحايا إهمال الحكام وأصحاب القيادة، وقد قيل: (الناس على دين ملوكهم).

وهنا تنتقل السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) إلى حديثها عن علم الاجتماع، فتقول:

(استبدلوا - والله - الذنابا بالقوادم) إن التشبيه في الكلام له تأثير عجيب في النفس، وتقريب المعنى إلى الذهن بصورة واضحة.

شبّهت السيدة فاطمة (عليها السلام) الأمة الإسلامية بالطائر، وشبهت القائد أو القيادة بأجنحة الطائر، لأن الطائر لا يستطيع أن يطير إلاّ بجناحيه، والجناح مركب من عشر ريشات كبار، ويقال لها (القوادم) وتحت تلك الريشات الكبار عشر ريشات صغار يقال لها (الخوافي) وعلى موضع ذنب الطائر ريشات يقال لها: (الذنابا).

فالقوادم هي قوام الطيران، ولا يمكن الطيران بغير القوادم، لأنها بمنزلة المحركات القوية في جناح الطائرة التي بإمكانها أن تقلع الطائرة وترتفع بها عن الأرض وتسير في الفضاء.

فالطائر إذا قطعت قوادمه لا يستطيع الطيران بالخوافي وهي الريشات الصغار، ولا بالذنابا، لأن الذنابا لا تستطيع حمل جسد الطائر وإقلاعه عن الأرض لعجز الذنابا وضعفها.

(والعجز بالكاهل) العجز - بفتح العين وضم الجيم - : من كل شيء مؤخره، ومن الإنسان ما بين الوركين، والكاهل ما بين الكتفين، والكاهل أقوى موضع في البدن لحمل الأثقال، وبالعكس: العجز لا يليق ولا يستطيع حمل الأثقال.

والمقصود من هذين المثالين أو التشبيهين هو: أن القوم سلّموا الأمور العظيمة، والمناصب الخطيرة وهي القيادة إلى من لا يليق بها، ولا يستطيع القيام بأمورها لعدم توفر الإمكانيات فيه، وعجزه عما يتطلبه الأمر من العلم والعقل والتدبير، وذلك بعد أن سلبوا تلك الإمكانيات من أصحابها الأكفاء ذوي اللياقة والخبرة والبصيرة.

إنهم باعوا علياً (عليه السلام) يوم الغدير بأمر من الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله) وباختيار منهما، ولكنهم نكثوا عهدهم، ونقضوا ببيعتهم، وبايعوا غيره الذي لا يقاس بعليّ (عليه السلام) علماً وشرفاً وفضلاً وسابقة وغير ذلك من المرجِّحات.

(فرغماً لمعاطس قوم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً) إنها تدعو على أقوام الذل والهوان، وهو إرغام أنوفهم، وهم الذين يظنون أنهم مهتدون في أعمالهم، ومصلحون في تصرفاتهم.

والحال: (ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون) وهل يشعر المنحرف أنه منحرف وشاذ؟ بل بالعكس، يتصور أنه هو المهتدي المعتدل المستقيم، وأنه على الحق وأن غيره على الباطل، ولا يؤثر فيه المنطق ولا ينفع فيه الدليل والبرهان.

وهاتان الجملتان مقتبستان من قوله تعالى:

(قل هل نُنبَّئُكُمْ بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً)[405] ومن قوله تعالى: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون)[406].

ثم أدمجت آية أخرى في كلامها بالمناسبة فقالت:

ويحهم! (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يُتَّبع أمن لا يهدّي إلا أن يُهدى فما لكم كيف تحكمون)[407] .

هذه الآية الشريفة تشير إلى بحث الهداية، والمقارنة بين الذي يهدي إلى الحق، ويرشد الناس إلى الطريق وبين الذي لا يهتدي ولا يعرف الطريق إلاَّ أن يُهدى أي يهديه غيره، أيهم أحق بالإتّباع؟ وأيّهما يستحق أن يكون قائداً للأمة؟

وهنا تقصد فاطمة الزهراء (عليها السلام) من هذه المقارنة أن علياً هو الرجل الكامل علماً وفضلاً وعقلاً، ومواهب، فهو أولى بالقيادة، وأحرى بالاتباع من أفراد ليسوا كاملين في العلم والعقل والتدبير وما شابه ذلك من لوازم القيادة، والتاريخ يثبت كلا الجانبين: جانب الكمال في عليّ، وجانب النقص في غيره.

(أما لعمري! لقد لقحتْ) إن الميكروبات التي تتكون في البدن، وتنتج أمراضاً صعبة العلاج إنما تبدأ من الجرثومة التي تدخل في الدم، وهناك تتلاقح، وبمرور الزمان تنتشر الميكروبات في الدم، وتؤثر على الكريات البيض والحمر، وهناك الويلات، وهناك، الملاريا والكوليرا، وهناك السرطان، وهناك المرض الذي يعمّ البدن ويشمل الجسد كله.

تقول السيدة فاطمة الزهراء: (أما لعمري! لقد لقحت) لقحت جرثومة الفتنة في الأمة الإسلامية، والفتنة في طريقها إلى التوسع والانتشار.

(فنظرة ريثما تنتج) أي انتظروا حتى تنتشر الميكروبات في هيكل المجتمع الإسلامي فبعد أن كانت القيادة الصالحة اللائقة تقود المسلمين وإذا بقيادة معاكسة ومغايرة لها تماماً تزاحمها وتحل محلها.

وبعد أن كانت الأحكام الإسلامية الطرية المعتدلة تسود المجتمع الإسلامي إذ بأحكام منبعثة عن الهوى وعن آراء شخصية متطرفة تقوم مقام تلك الأحكام وهكذا تتبدل المفاهيم، وتتغير المقاييس.

(ثم احتبلوا ملء القعب دماً عبيطاً) الناقة إذا ولدت يُحلب منها اللبن، ولكن الفتنة إذا لقحت وأنتجت يحلب منها الدم لا اللبن، أي تتكون المجازر والمذابح، فبعد أن كان الدين الإسلامي دين الأمن والحياة والسلام في الواقع وإذا به ينقلب مفهومه لدى هؤلاء فيصبح دين الإبادة والهلاك، والدمار والفناء.

انظر إلى التاريخ الإسلامي الذي شوّهه هؤلاء.

تجد أنهاراً من الدماء التي جرت من أجساد المسلمين.

وتجد التلال التي تكونت من جثثهم.

فمثلاُ: ذكر المؤرخون أن عثمان بن عفان قام بأعمال منافية للقرآن والسنة، فعاتبه المسلمون على ذلك، ولكنه لم يرتدع بل استعمل العنف والقوة معهم ضرباً وسباً وتبعيداً وتهديداً.

وأخيراً أورثت أعماله في المسلمين هياجاً عاماً، وكانت عائشة تهيّج الناس ضدّه وهكذا طلحة وابن العاص، وأخيراً قتلوا عثمان.

وإذا بالذين كانوا يحرّضون الناس ضده خرجوا يطلبون بدمه، وقد قُتل عثمان في المدينة، وذهب هؤلاء إلى البصرة يطلبون بدمه، وبين المدينة والبصرة أكثر من ألف كيلو متر، فأجّجوا نيران الحرب هناك، فقتل في حرب البصرة خمسة وعشرون ألف إنسان!.

ثم نهض معاوية زاعماً أنه يطلب بدم عثمان، فقامت الحرب في منطقة سورية بالقرب من مدينة حلب يقال لها (صفين) وهدأ القتال وعلى الأرض تسعون ألف قتيل!.

ثم صارت واقعة النهروان فقتل فيها أربعة آلاف إنسان.

ثم خرج بسر بن أرطاة من الشام وقصد المدينة ومكة واليمن وفي طريقه كان يقتل الناس، حتى قتل من شيعة علىّ في اليمن وغيره ثلاثين ألف قتيل.

خذ القلم بيدك واحسب مجموع القتلى:

25.000 + 90.000 + 4000 + 30.000 = 149000.

هؤلاء القتلى، ولا تسأل عن الجرحى، ولا تسأل عن أرامل هؤلاء، وأيتامهم، ومضاعفات تلك المآسي، ولا تسأل عن الدموع الجارية، والعيون الباكية، والقلوب الملتهبة، والآهات والأحزان التي جعلت تلك الحياة جحيماً على ذلك المجتمع بكافة جوانبه ونواحيه، كل ذلك في خلال أربع سنوات.

وهل انتهت المأساة هنا؟ لا، بل هناك مآسي ومجازر ومذابح تقشعر منها الجلود، وسوف نذكر بعضها.

نعم، لا تزال السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) تخبر عن الفجائع والفظائع التي هي في طريق الأمة الإسلامية، وكامنة لها بالمرصاد.

ليس هذا التنبؤ إخباراً عن الغيب، بل إخبار عن نتائج الأعمال ومضاعفاتها فالطبيب الحاذق إذا نظر إلى إنسان لا يراعي أصول الصحة في مأكله ومشربه وتنفسّه ويستعمل الأشياء الضارة فإن الطبيب يخبره بمصيره المظلم، والأمراض الفتاكة التي تقضي على حياته من جرّاء تلك الأعمال المنافية لأصول الصحة العامة.

وكذلك السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) تنظر إلى ذلك المجتمع وسوء اختيار الأمة للقيادة غير الصالحة، فتنكشف لها العواقب السيئة التي يؤول إليها أمر الأمة الإسلامية ببركات تلك القيادة!!.

تقول: (ثم احتلبوا ملء القعب دماً عبيطاً) وفي نسخة: (طلاع القعب) أي القدح الكبير الضخم الذي يتفايض بالدم حتى يسيل منه، والمقصود كثرة الدماء التي تُراق.

(وذعافاً ممقراً مبيداً) أي احتلبوا الدم، واحتلبوا السمّ المرّ المهلك، والمقصود منها: النتائج السيئة التي عمَّ شؤمها الإسلام والمسلمين من الويلات والمصائب التي انصبّت على المسلمين.

(هنالك يخسر المبطلون) أي عند ذلك يظهر خسران المبطلين.

(ويعرف التالون غبَّ ما أسَّسه الأولون) يعرف الآخرون عاقبة الأعمال التي أسّسها الأوّلون.

(ثم طيبوا عن دنياكم أنفساً) يقال: طب نفساً: أي أسكن واهدأ عن القلق وهذا كما يقال للظالم: قرَّت عينك، أو بشراك وأمثالها من الكلمات التي يراد بها العكس في الكلام لا الحقيقة.

(واطمأنوا للفتنة جاشاً) أي فلتسكن للفتنة قلوبكم، وهذا أيضاً يراد به العكس، فإن القلب لا يسكن للفتنة وإنما يسكن للأمان والسلامة.

(وابشروا بسيف صارم وسطوة معتد غاشم) هذه الكلمة على غرار قوله تعالى: (فبشّرهم بعذاب أليم) وهذه الكلمة أو الجملة أيضاً على العكس.

(وهرج شامل) وفي نسخة: (وهرج دائم شامل) الهرج: الفتنة والفوضى واختلال الأمور.

(واستبداد من الظالمين) الاستبداد: الدكتاتورية، والعمل على خلاف المقاييس والموازين، لا تحت أي نظام أو قانون أو شريعة أو دين.

(يَدَع فيئكم زهيداً وجمعكم حصيداً) أي ذلك الاستبداد أو المقصود من ذلك جميع ما تقدم من قولها: سيف صارم وسطوة معتد غاشم وهرج واستبداد ومجموع هذه الأشياء يدع فيئكم زهيداً أي يجعل الغنائم والخراج حقوقكم المالية زهيداً قليلاً (وجمعكم حصيداً) وفي نسخة: (وزرعكم حصيداً) أي محصوداً، والمقصود أن السلطة التي تحكم عليكم يتصرفون في غنائمكم حسب مشتهياتهم ويجرّونها إلى أنفسهم فلا ترون منها إلاّ القليل، ويحصدون جمعكم أي جماعتكم بسيوفهم.

وكلها إخبارات بالمستقبل المظلم الذي كان بالمرصاد للمسلمين، والمآسي والكوارث التي تنزل بهم، والويلات التي تنصبّ عليهم!.

ولقد تحقّق كل هذا. وهذا كله، لقد ابتلي المسلمون بفجائع ومذابح ومآسي لا يستطيع أحد أن يتصوّرها، فوالله أنّهم سوّدوا تاريخ الإسلام، وشوّهوا سمعة هذا الدين، وإليك بعض تلك الحوادث شاهداً على ما نقول:

لقد ذكرنا - فيما مضى - بعض المجازر التي قام بها أصحاب الجمل ومعاوية والخوارج وبعض عملاء معاوية، والآن استمع إلى غيرها:

لو أردنا أن نذكر - هنا ما جرى على الأمة الإسلامية من الظلم والجور والضغط والكبت والعنف والقسوة، والاستبداد بالأموال وإراقة الدماء البريئة على أيدي حكام الجور لطال بنا الكلام جداً جداً، فإن التحدّث عن هذه المصائب والفجائع يحتاج إلى موسوعة وموسوعة.

ولكننا رعاية لأسلوب الكتاب وبمناسبة التحدث عما أخبرت به السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) من الويلات التي كانت بالمرصاد على طريق المسلمين الذين اختاروا تلك القيادة التي ما أنزل الله بها من سلطان، ونبذوا وراءهم ولاية آل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسلبوهم القدرة والإمكانية.

نختار من بين المئات من الفجائع التي انصبت على أهل المدينة فجيعة واحدة تقشعرّ منها الجلود، وتشمئز منها النفوس.

وقبل أن أذكر الواقعة لا بأس بذكر مقدمة تمهيدية كي تظهر نتائج تغيير القيادة الإسلامية عن مجراها وأُسُسها:

من الصحيح أن نقول: إن حكام الجور الذين جلسوا على كراسي الحكم، وقبضوا بأيديهم أزمّة الأمور واستولوا على رقاب البشر عن طريق السيف قد رفضوا العمل بالإسلام الذي جاء به محمد (صلى الله عليه وآله) فكانت تصرّفاتهم لا تتفق مع القرآن الكريم ولا السّنّة النبوية ولا منطق العقل ولا قانون الإنسانية ولا نظام العدل ولا تعاليم الإسلام.

بل كانوا يحكمون على أموال الناس ودمائهم حسب رغباتهم الشخصية وشهواتهم النفسية، وإجابة للحرص والجشع، وإطاعة لأهوائهم.

فالناس لا كرامة لهم ولا قيمة لحياتهم عند هؤلاء، وليس المهم عند أولئك الحكام أن يعيش الناس برخاء ورفاه أو يموتوا جوعاً وفقراً وإنما المهم المحافظة على عرش الحاكم وإبقاء جبروته وإشباع شهواته ورغباته وترفه وبذخه ولو كان مستلزماً لإراقة دماء الشعب المسلم البريء المسكين، وما قيمة المسلم وما حرمة الإسلام أمام أهواء الحاكم الدكتاتوري الظالم السفّاك الذي لو كان يؤمن بالله واليوم الآخر لكان سلوكه على خلاف تلك الأعمال المناقضة للدين الإسلامي.

ولعلك - أيها القارئ تتصور وتظن أنّ في كلامي هذا شيئاً من المبالغة والإسراف، ولكنك لو اطلعت على تاريخ الأمويين والعباسيين والمجازر والمذابح الجماعية التي قاموا بها لصدّقت كلامي بل واعتبرت كلامي هذا أقل من القليل عن الواقع الذي مرّت به الأمة الإسلامية عبر القرون!.

إنهم جعلوا الحياة جحيماً وعذاباً أليماً على المجتمع الإسلامي الذي كان يعيش تحت سياطهم وسيوفهم!.

وهاك مثالاً واحداً على بعض ما نقول:


 

 

وَاقِعَةُ الحرّة

بعث يزيد بن معاوية مسلم بن عقبة وكان أحد جبابرة العرب وشياطينهم بعثه إلى المدينة ومعه ثلاثون ألف رجل[408]، وأوصى يزيدُ بن معاوية مسلم بن عقبة فقال: إذا ظهرتَ على أهل المدينة فأبحْها ثلاثاً، وكل ما فيها من مال أو دابة أو سلاح أو طعام فهو للجند.

خرج الجيش نحو مدينة الرسول (صلى الله عليه وآله) وخرج أهل المدينة لمقابلة الجيش خارج المدينة، والتقى العسكران خارج البلدة في منطقة يقال لها: (الحَرّة) وهناك وقعت الحرب، وقُتل من أهل المدينة المئات من أبناء المهاجرين والأنصار وغيرهم من أهل المدينة، وانهزم الباقون متجهين نحو المدينة، وكان جيش الشام يطاردهم حتى وصلوا المدينة ولاذ المسلمون بالحرم النبوي فجعل جيش الشام يقتل أهل المدينة عند قبر الرسول (صلى الله عليه وآله) حتى ساوى الدم قبر رسول الله!!.

وبعد ذلك نادى المنادي في جيش الشام بأمر قائدهم مسلم بن عقبة: هذه المدينة قد أبحتُها لكم!!.

فما تظن بالجيش الفاتح الذي يُعطى له الحرية الكاملة، ويرفع عنه كل مسؤولية؟؟

فعمد الجيش إلى نهب الأموال وهتك الأعراض، وافتضوّا أكثر من ثلاثمائة عذراء، ووُلد في تلك السنة ألف مولود لم يُعرف لهم أب.

وأستأذن القارئ لأقول له: حتى أن الرجل منهم كان يزني بالمرأة المسلمة في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله)[409].

كان أفراد الجيش يدخلون بيوت أهل المدينة وينهبون كل ما وجدوا فيها، وهجم أفراد منهم على دار أبي سعيد الخدري الذي كان من مشاهير أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكان شيخاً كبيراً قد كفّ بصره، فوجدوه جالساً على التراب، لأن طائفة من الجيش كانت قد نهبت داره قبل ذاك، ولما فتش الأفراد داره ولم يجدوا شيئاً ما أحبّوا أن يخرجوا من داره بلا فائدة فعمدوا إلى الشيخ الأعمى المسكين ونتفوا لحيته وشعر حاجبيه وهو يصرح ويقول لهم: أنا أبو سعيد الخدري!! أنا صاحب رسول الله.

ولكنهم لم يعبأوا بهذه الأسماء، ووجدوا في بيته عدداً من الحمام فذبحوها وطرحوها في البئر وخرجوا من داره.

ودخل أحدهم دار امرأة قد نُهب كلّ ما فيها، فوجد الرجل تلك المرأة جالسة على الأرض وفي حجرها طفلها يرتضع، فمدّ الرجل يده وأخذ برجل الطفل وجذبه من حجر أمه والثدي في فمه وضرب برأس الطفل فسال دماغه على الأرض وأمه تنظر إليه.

ثم جمع مسلم بن عقبة أهل المدينة وأخذ منهم الإقرار والاعتراف بأنهم عبيد مملوكون ليزيد بن معاوية.

وبعد ذلك خرج الجيش من المدينة تاركاً وراءه الجثث وآلاف اليتامى والأرامل، طعامهم البكاء وشرابهم الدموع، وفراشهم التراب، ومتاعهم الآلام والآهات والذعر والعويل.

وخرج الجيش نحو مكة ليحرقوا الكعبة ويقتلوا الناس في المسجد الحرام لأجل القضاء على عبد الله بن الزبير المتحصن في المسجد الحرام الذي من دخله كان آمناً.

ولا تسأل عن الفجائع التي انصبت على أهل المدينة، فجيعة بعد فجيعة ومصيبة تلو الأخرى.

وأما ما قام به الحجاج بن يوسف الثقفي في العراق فإنه يشيّب الطفل وهو في المهد، ويورث الدهشة والذعر في القارئ الذي يقرأ تلك الإضبارة السوداء الشوهاء، وتستولي عليه حالة التهوّع والتقيّؤ.

حتى قال عمر بن عبد العزيز: لو جاءت كل أمة بخبيثها وجئنا بالحجاج لغلبناهم. وقال عاصم: ما بقيتْ لله عز وجل حُرمة إلاّ وقد ارتكبها الحجاج!.


 

 

تَطبيق الخَبَر مَعَ الوَاقِع

هذه نماذج قليلة وضئيلة بالنسبة لما جرى وحدث، وبعد استعراض تلك الفجائع التي يملّ الإنسان الحياة حين قراءتها، عند ذلك تتضح لنا صحة ما أنذرت به السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) الجماعة التي استبدلت تلك القيادة بقيادة آل رسول الله (صلى الله عليه وآله).

ويظهر لنا صدق كلامها حين المطابقة والمقارنة بين كلامها: (وابشروا بسيف صارم، وسطوة معتد غاشم، وهرج شامل، واستبداد من الظالمين يَدَع فيئكم زهيداً، وجمعكم حصيداً) وبين الحوادث والمآسي التي مرّت بها الأمة الإسلامية.

وأخيراً ختمت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) خطابها للنساء بهذه الجملات: (فيا حسرة لكم) هذه الكلمة مأخوذة من قوله تعالى: (يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلاّ كانوا به يستهزئون) فالمعنى: يا لكم من حسرة وندامة على ما فاتكم من الخير والهداية، والأمن والأمان والأجر والثواب في الدنيا وفي الآخرة (وأنّى لكم؟) أي ما أدري إلى ما يصير أمركم وقد سلكتم عن طريق الهداية، ووقعتم في موارد الهلكة والخسران (وقد عميت عليكم) خفيت عليكم الحقائق بسبب قلّة تدبّركم فيها (أنلزمكموها وأنتم لها كارهون) هذه الجملة من قوله تعالى: (قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بيّنة من ربّي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون) أي أتريدون مني أن أُكرهكم على المعرفة وأُلجأكم إليها على كره منكم؟

هذا غير مقدور لي وإنّما الواجب عليّ أن أدلّكم بالبيّنة والطريق وليس عليّ أن أضطركم على معرفتها.

قطعت السيدة فاطمة شريط كلامها مع النساء - هنا - وقامت النساء وخرجن. قال سويد بن غفلة: (فأعادت النساء قولها على رجالهن، فجاء إليها قوم من وجوه المهاجرين والأنصار معتذرين).

من المؤسف أن القضية مجملة مبهمة، فليس هنا تصريح بأسماء النساء ولا بأسماء الرجال الذين هم من وجوه المهاجرين والأنصار.

وإنما المستفاد من مجموع الأحداث أن النساء ما كنّ يعرفن الألعاب السياسية وما كنّ يعرفن اتجاه رجالهن في تلك الفترة العاصفة، فحضرن عند السيدة فاطمة الزهراء لعيادتها، فخطبت فيهن السيدة الزهراء الخطبة التي مرت عليك، وصبّت جام غضبها على رجالهن، وبعد انتهاء الخطبة قامت كل امرأة وكأنها نائمة فاستيقظت، أو كانت غافلة فانتبهت وحصل عندهن شيء من الوعي والانتباه.

ويعلم الله ما جرى بين تلك النساء وبين رجالهن من الصياح والنزاع بعد رجوعهن من عيادة السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) بحيث جاء رجالهن إلى دار فاطمة معتذرين.

معتذرين عن أي شيء؟ معتذرين عن تخاذلهم عن نصرة آل رسول الله (صلى الله عليه وآله) كأنهم لا يعلمون شيئاً، كأنهم لا يعرفون عن الأحداث شيئاً، كأنهم لم يبايعوا علياً (عليه السلام) يوم الغدير، وذلك قبل وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) بسبعين يوماً، كأنهم لم يسمعوا خطبة الزهراء في المسجد واحتجاجها مع رئيس الدولة ومع المهاجرين والأنصار كأنهم لم يسمعوا صرختها عند باب البيت، وكأنهم ما كانوا بالمدينة ولم يعلموا شيئاً أبداً، وكأنهم الآن عرفوا الحق فجاءوا معتذرين بأعذار تافهة تائهة باردة:

(وقالوا: يا سيدة النساء لو كان أبو الحسن ذكر لنا هذا الأمر من قبل أن نُبرم العهد ونُحكم العقد لما عدلنا عنه إلى غيره) استمع إلى هذا الاعتذار البعيد عن المنطق البعيد عن كل مقياس.

ما أدري أي شيء كان مفروضاً على أبي الحسن أن يذكره لهؤلاء؟

أما ذكر لهم الله تعالى قوله: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون)؟

أما سمعوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) رافعاً صوته يوم الغدير: (من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر مَن نصره، واخذلْ من خذله).

إلى غيرهما من الآيات نزلت في حق عليّ (عليه السلام) وكلمات الثناء والنصوص الصريحة التي سمعوها من فم رسول الله (صلى الله عليه وآله) الدالة على خلافة عليّ بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله).

أي شيء يذكره عليّ لهم؟ فهل كان هناك شيء مستور أو غير معلوم عند أولئك الشخصيات فيحتاجوا إلى مَنْ يذكر لهم ذلك؟ أو يخبرهم به؟

وبعد هذا كله، أما احتج الإمام أمير المؤمنين بأنواع الاحتجاج يوم أخذوه من بيته إلى المسجد ليبايع أبا بكر؟ أما سمعوا؟ أما علموا؟ أما فهموا؟

ثم انظر إلى كيفية الاعتذار وسخافة القول: (لو كان أبو الحسن ذكر لنا هذا الأمر من قبل أن نبرم العهد ونحكم العقد لما عدلنا عنه إلى غيره) سبحان الله ! أما أبرمتم العهد؟ أما أحكمتم العقد يوم الغدير؟ وبايعتم علياً بالخلافة بأمر الله وأمر رسوله؟ فهل كنتم تلعبون يومذاك تستهزئون بالله ورسوله؟

فالعجب أنه جاز لكم أن تنقضوا ذلك العهد وتنكثوا ذلك العقد ولكن اليوم لا يجوز لكم النكث والنقض لتلك البيعة التي كانت هي نقضاً ونكثاً للبيعة السابقة التي بايعتم علياً يوم الغدير!!.

نعم، هكذا اعتذروا، اعتذروا بهذه الأعذار المزيفة، ولهذا طردتم السيدة فاطمة من بيته، وقالت لهم: (إليكم عني) تباعدوا عني، أمسكوا كلامكم عني (فلا عذر بعد تعذيركم) التعذير: التقصير في الاعتذار، والمعذّر: المقصّر الذي يريك إنه معذور ولا عذر له، قال تعالى: (وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم)[410].

لعل المقصود ليس لكم عذر صحيح بعد تعذيركم وتقصيركم (ولا أمر بعد تقصيركم) أي ليس لنا أمر معكم بعد هذه المواقف التي كانت لكم.

وهكذا طردتهم السيدة فاطمة من بيتها بعد أن زيّفت أعذارهم.


 

 

مَصَادِرُ الخطْبَة في النِّساء

أيها القارئ الكريمّ لقد قضينا معك برهة من الزمان في رحاب كلمات السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) التي خطبت بها في المسجد وفي بيتها وفي فراش العلة والمرض، وقد تبين لك الكثير الكثير من الحقائق التي اشتملت عليها خُطب السيدة فاطمة.

وقد ذكرنا لك بعض المصادر لخطبتها التي خطبت بها في المسجد، ولا بأس أن نذكر - هنا - بعض مصادر خطبتها التي خطبت بها للنساء:

1 - معاني الأخبار للشيخ ابن بابوية المتوقي سنة (381) ينتهي سند الخطبة إلى فاطمة بنت الحسين (عليهما السلام).

2 - ويروي أيضاً بإسناده عن عمر بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) يروي عن أبيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليهما السلام).

3 - الطبرسي في الاحتجاج عن سويد بن غفلة كما تقدم الكلام في أول الخطبة.

4 - أمالي الشيخ الطوسي يروي بإسناده عن ابن عباس.

5 - دلائل الإمامة للطبري يروي بإسناده عن الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (عليهما السلام).

6 - بلاغات النساء لأبي الفضل بن أبي طاهر يروي بإسناده عن عطية العوفي.

7 - كشف الغمة للاربلي ص147 يروي عن كتاب السقيفة لأحمد بن عبد العزيز الجوهري.

8 - ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة يروي أيضاً عن الجوهري.

9 - أعلام النساء تأليف عمر رضا كحّالة ج4 ص123.

10 - الشيخ المجلسي في العاشر من كتابه بحار الأنوار.


 

 

إتمَامُ الحجةِ عَلَى المُهاجرين وَالأنصَار

كان الأنسب أن يكون هذا البحث قبل خطبتها التي خطبت بها للنساء، ولكن رعايةً لتوالي خُطَبها ذكرنا كما سلف.

كان الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) يسير على خطة حكيمة تتفقْ مع العقل والمنطق والدين، وينتهز الفرص لإحقاق حقه وإثبات مظلوميته وإتمام الحجة على ذلك المجتمع، بل وتسجيلها في سجل التاريخ، كي يعلم ذلك الشعوب التي جاءت بعد ذلك اليوم وإلى يومنا هذا وإلى ما شاء الله.

من الصحيح أن نقول: إن الإمام علياً (عليه السلام) كان يرى لزاماً عليه أن يتم الحجة على الناس، ويبيّن لهم أن الخلافة من حقه الذي جعله الله ورسوله له، وحتى إذا كان عالماً أن الناس لا يتجاوبون معه، وهكذا يبين لهم أن فدك من حق السيدة فاطمة الزهراء.

فهو (شرعاً) خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله) سواءً أذعن له الناس أو لم يذعنوا، وسواء خضع له المجتمع أو لم يخضع وهكذا إن فدك مِلكٌ للسيدة فاطمة الزهراء سواءً أعطوها حقها أو لا.

والسيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) لها المكانة المرموقة والشخصية المشهورة في ذلك المجتمع، فلا بأس لو أن السيدة الزهراء تتكلف وتتجشم تأييد زوجها في إثبات الحق والحقيقة والمطالبة بحقها، فلا عجب إذا كانت ترافق زوجها العظيم، وولديها سيدي شباب أهل الجنة، وتستنجد بالصحابة لئلا يكون للناس على الله حجة، لئلا يقولوا: كنا غافلين ناسين أو جاهلين. ولماذا ما جاءنا عليٌّ ليذكِّرنا، ليخبرنا، ليعرّفنا الحق والحقيقة؟

ولهذا كان عليّ (عليه السلام) يحمل السيدة فاطمة الزهراء على أتان[411]، فيدور بها أربعين صباحاً على بيوت المهاجرين والأنصار، والحسن والحسين معها، وهي تقول:

يا معشر المهاجرين والأنصار، انصروا الله وابنة نبيكم، وقد بايعتم رسول الله يوم بايعتموه أن تمنعوه وذريته مما تمنعون منه أنفسكم وذراريكم.

فَفوا لرسول الله ببيعتكم!

فما أعانها أحد، ولا أجابها ولا نصرها.

فانتهت إلى معاذ بن جبل فقالت: يا معاذ بن جبل! إني قد جئتك مستنصرة، وقد بايعتَ رسولَ الله على أن تنصره وذريته، وتمنعه مما تمنع منه نفسك وذريتك، وإن أبا بكر قد غصبني على فدك وأخرج وكيلي منها.

قال: فَمعي غيري؟

قالت: لا، ما أجابني أحد.

قال: فأين أبلغ أنا من نصرك؟

خرجت السيدة من دار معاذ وهي تقول له: والله لا أُنازعنّك الفصيح من رأسي حتى أرِدَ على الرسول الله.

ودخل ابن معاذ فقال لأبيه: ما جاء بابنة محمد إليك؟

قال: جاءت تطلب نصرتي على أبي بكر، فإنه أخذ منها فدكاً.

قال: فما أجبتها؟

قال: قلت: وما يبلغ نصرتي أنا وحدي؟

قال: فأبيت أن تنصرها؟

قال: نعم!!

قال: فأي شيء قالت لك؟

قال: قالت لي: والله لا أُنازعنّك الفصيح من رأسي حتى أرِدَ على رسول الله.

فقال: أنا والله لا أُنازعنّك الفصيح من رأسي حتى أرد على رسول الله.

وذكر ابن قتيبة الدينوري في (الإمامة والسياسة) ص19: قال: وخرج علي (كرم الله وجهه) يحمل فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) على دابة ليلاً في مجالس الأنصار تسألهم النصرة، فكانوا يقولون يا بنت رسول الله قد مضت بيعتنا لهذا الرجل، ولو أن زوجك وابن عمك سبق إلينا قبل أبي بكر ما عدلنا به. فيقول عليّ (كرم الله وجهه) أفكنت أدَع رسولَ الله (صلى الله عليه وآله) في بيته لم أدفنه، وأخرج أُنازع الناس سلطانه؟ فقالت فاطمة: ما صنع أبو الحسن إلاّ ما كان ينبغي له، ولقد صنعوا ما الله حسيبهم وطالبهم.

وكان معاوية يشمت بالإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) من حمله سيدة نساء العالمين واصطحابها إلى بيوت المهاجرين والأنصار يستنجدهم. فقد كتب معاوية إلى الإمام:

.. وأعهدك أمس تحمل قعيدة بيتك ليلاً على حمار، ويداك في يدي ابنيك حسن وحسين يوم بويع أبو بكر، فلم تَدَع أحداً من أهل بدر والسوابق إلاّ دعوتهم إلى نفسك، ومشيت إليهم بامرأتك، وأدليت إليهم بابنيك .. إلى آخر كلماته المنبعثة من قلبه الحقود[412].


 

 

فَاطِمَةُ الزهراء (عليها السلام) في بَيْت الأحزَان

لا أعلم ما كان تأثير بكاء السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) في النفوس المريضة حتى شعروا بالانزعاج، وهل بكاء امرأة جالسة في بيتها يسلب الراحة من أُولئك الشخصيات الفذة‍‍!!؟

فاجتمع شيوخ أهل المدينة وأقبلوا إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) وقالوا له: يا أبا الحسن إن فاطمة تبكي الليل والنهار فلا أحد منا يهنأ بالنوم في الليل على فُرشنا، ولا بالنهار لنا قرار على أشغالنا وطلب معايشنا، وإنا نخبرك أن تسألها إما أن تبكي ليلاً أو نهاراً.

فقال عليّ (عليه السلام): حبّاً وكرامة!!

فأقبل الإمام عليّ حتى دخل فاطمة الزهراء وهي لا تفيق من البكاء، ولا ينفع فيها العزاء، فلما رأته سكنت هنيئة فقال لها: يا بنت رسول الله إن شيوخ المدينة يسألونني أن أسألك إما أن تبكي أباك ليلاً وإمّا نهاراً.

فقالت: يا أبا الحسن ما أقلّ مكثي بينهم! وما أقرب مغيبي من بين أظهرهم فوالله لا أسكت ليلاً ولا نهاراً أو أُلحق بأبي رسول الله (صلى الله عليه وآله).

فقال عليّ: افعلي يا بنت رسول الله ما بدا لكِ[413].

نعم، إن شيوخ المدينة لا يعرفون حق رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقدره ومنزلته، فلو كانوا يعرفون ذلك لكانوا يشاركون ابنته الوحيدة في البكاء ويساعدونها في ذرف الدموع على أشرف ميت وأعز فقيد.

ويا ليتهم حين لم يشاركوها ولم يساعدوها كانوا يسكتون ولا يمنعونها عن البكاء على مصائبها العظيمة.

ولكنهم معذورون، لأن السياسة فرضت عليهم أن يمنعوا حبيبة رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن البكاء على سيد الأنبياء.

يحق للسيدة فاطمة أن لا تمتنع عن البكاء على تلك الفاجعة العظمى والكارثة الكبرى لأجل أُناس لهم غايات وأهداف يعلمها الله تعالى.

فبنى لها الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بيتاً نازحاً عن المدينة سُمّي (بيت الأحزان)، وكانت إذا أصبحت قدّمت الحسن والحسين أمامها، وخرجت إلى البقيع باكية فلا تزال بين القبور باكية، فإذا جاء الليل أقبل أمير المؤمنين إليها وساقها بين يديه إلى منزلها.

فليهنأ أُولئك المنزعجون عن بكاء فاطمة !! ولترتاح ضمائرهم، وليناموا على فُرشهم ليلاً نومة عميقة هنيئة بدون أن يشعروا بالأذى من بكاء فاطمة العزيزة.

ونرى - هنا - الشعراء يشيرون إلى هذه المأساة التي يظهر فيها الجفاء بأسوأ منظر: يقول أحدهم:

منعوا البتول عن النياحة إذ***غدت تبكي أباها ليلها ونهارها

قالوا لها: قَرّي فقد آذيتنا***أنّى؟ وقد سلب المصاب قرارها

ويقول الآخر:

والقائلين لفاطم: آذيتنا في طول نَوح دائم وحنين.

وقد رأي أحد علمائنا وهو السيد باقر الهندي في المنام الإمام المهدي المنتظر (عليه السلام) فقال له الإمام مشيراً إلى هذه المأساة :

أتراني اتخذتُ لا وعلاها***بعد بيت الأحزان سرور؟

أسفي عليها.

أسفي على شبابها، أسفي على آلامها، أسفي على قلبها المتوقد الملتهب.

أسفي على خاطرها المنكسر.

صارت طريحة الفراش، أخذ المرض والهزال منها كل مأْخذ.

واستولى الذبول على تلك الزهرة الزهراء.

إنها لا ترجو العلاج والدواء، ولا تأمل في البقاء.

إنها تنتظر الموت، تنتظر التخلص من هذه الحياة.

تتمنى أن تلتحق بأبيها الرسول.

لقد اقتربت شمسها نحو الغروب.

لقد كادت شمعة الرسول أن تنطفئ.

لقد ضاقت الدنيا وضيقت عليها.

تنظر إلى زوجها العظيم، جليس الدار، مسلوب الإمكانيات، مغصوباً حقه وإلى أملاكها قد صودرت، وإلى أموالها قد غصبت.

استغاثت فلم يغثها أحد، واستنصرت فلم ينصرها أحد.

منعوها عن البكاء على أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله) أشرف الآباء فكانت تقول في أيام مرضها: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث فأغثني، اللهم زحزحني عن النار وأدخلني الجنة وألحقني بأبي محمد. فإذا قال لها أمير المؤمنين: عافاكِ الله وأبقاكِ. تقول: يا أبا الحسن ما أسرع اللحاق برسول الله[414].

وفي العاشر من البحار عن مجالس المفيد وأمالي الشيخ عن الإمام زين العابدين عن أبيه الحسين (عليهما السلام) قال: لما مرضت فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وصَّت إلى عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) أن يكتم أمرها ويخفي خبرها، ولا يؤذن أحداً بمرضها، ففعل ذلك، وكان يمرّضها بنفسه وتعينه على ذلك أسماء بنت عميس على استسرار بذلك .. الخ.

يستفاد من هذا الحديث مدى تألُّم السيدة فاطمة الزهراء من ذلك المجتمع الذي عرفت موقفه اتجاه بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقد يكون الاستياء عميقاً، في النفس كالجرح الغائر في البدن الذي يطول بُرؤُه أو لا يبرأ على مرّ الزمان.

وهكذا يزهد الإنسان المتألِّم في المجتمع، ويختار الاعتزال عنهم، وبعد أن كان يستأنس بهم صار لا يحب الالتقاء بهم والتحدث معهم.

وإنما يدرك هذه الحالة كل من رأى الجفاء والقسوة من أقاربه أو أصدقائه أو مجتمعه، فإنه ينزعج حتى من رؤيتهم فكيف بالتحدث والمجالسة معهم، وقد يبلغ الأمر بالإنسان أن يملّ الحياة ويفضّل الموت كي يستريح من الحياة التي يعيشها مع أهل الجفاء والقسوة.

اختارت السيدة فاطمة زوجها العظيم ليقوم بتمريضها، ولا أعلم كيفية تمريض الإمام إياها، فهل كان الإمام يصنع لها طعاماً يليق بالمرضى، أو يتولى هو أُمور بيته بنفسه؟ وعلى كل تقدير، فقد كانت أسماء بنت عميس لها شرف التعاون في تمريض السيدة فاطمة، ولعل السبب في انتخابها لهذه المهمة هو أنّه كانت العلاقات بين السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) وبين أسماء بنت عميس وُديّة وطيبة للغاية، إلى درجة أنها كانت تعتبر نفسها من أُسرة بني هاشم، وخاصة وأن جعفر بن أبي طالب قد تزوجها.

وكانت هي بالذات امرأة عاطفية، تؤمن بالوفاء والإنسانية، وتقدر الحقوق لأهلها. وتلتزم بالقيم والمفاهيم العليا.

ويستفاد من مطاوي التاريخ أنها كانت - بالإضافة إلى ذكائها الوافر وعقلها الوقاد - حسنة الأخلاق، طيبة المعاشرة، وكانت السيدة فاطمة الزهراء تبادلها الحب والمودة والشعور.

ولما قُتل جعفر بن أبي طالب في غزوة مؤتة وبلغ رسول الله الخبر بكى الرسول (صلى الله عليه وآله) وبكى الصحابة، ووصل الخبر إلى حجرات الرسول فبكت الهاشميات، وأقبل الرسول ودخل على أسماء فدعى بأولاد جعفر وجعل يمسح على رؤُوسهم، ويشمهم ويضمهم إلى صدره، فأحست أسماء بالشر وقالت: يا رسول الله هل بلغك شيء عن جعفر؟ فبكى الرسول وقال لها: احتسبي جعفر فقد قُتل. فبكت وصاحت.

وأقبل الرسول إلى دار ابنته فاطمة وقال لها: اصنعي طعاماً لآل جعفر فإنهم مشغولون بالعزاء. فعمدت السيدة فاطمة إلى الدقيق وعجنته وخبزت خبزاً كثيراً، وعمدت إلى مقدار من التمر وأرسلت بالخبز والتمر إلى دار آل جعفر.

والعجيب أن الرسول لم يأمر إحدى زوجاته ولا سائر الهاشميات بذلك فلعل السبب في ذلك أن الرسول أراد أن يكون هذا الثواب الجزيل من نصيب ابنته فاطمة.

أو أن الرسول (صلى الله عليه وآله) اختار لها هذا العمل نظراً للعلاقات الطيبة والسوابق الحسنة والخدمات الجمة التي أسدتها أسماء بنت عميس إلى أهل بيت الرسول.

فلقد مرّ عليك أن أسماء حضرت عند السيدة خديجة ساعة وفاتها، وأنها ساهمت في التدابير التي اتخذت في زواج السيدة فاطمة الزهراء، بل وحضرت أسماء عند السيدة فاطمة ساعة ولادة الإمام الحسين، وقامت بدور المولِّدة وساعدْنها بعض النساء أيضاً.

وبالرغم من أنها تزوجت بأبي بكر بعد مقتل زوجها جعفر فإنها استمرّت على ولائها، ولم تتغير قيد شعرة، وحتى بعد وفاة الرسول، وموقف أبي بكر اتجاه أهل البيت كان موقفاً معروفاً.

وبالرغم من الحرب الباردة بين أهل البيت وبين السلطة المتمثلة في أبي بكر فإن أسماء بنت عميس لم تتأثر بعواطف زوجها، وتحدّت السلطة تحدّياً لا تنقضي عجائبه.

فكيف كان أبو بكر يسمح لها بالذهاب إلى دار عليّ لخدمة الزهراء وخدمة أولادها؟ وكيف لم يأمرها بقطع علاقاتها مع أهل البيت في تلك الظروف الخاصة؟

وعلى كل حال، فقد كانت السيدة فاطمة الزهراء تستأنس بأسماء وتنسجم معها وتسكن إليها، وتبثُّ إليها آلامها، وكأنها أختها، وكأنها أحب الناس إليها، وأقربهن إلى قلبها.

قالت لها السيدة فاطمة في أواخر أيام حياتها: كيف أصنع وقد صرت عظماً وقد يبس الجلد على العظم؟ وفي رواية التهذيب عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال .. وقالت فاطمة لأسماء: إني نحلت وذهب لحمي، ألا تجعلين لي شيئاً يسترني؟ قالت أسماء: إني كنت بأرض الحبشة رأيتهم يصنعون شيئاً أفلا أصنع لكِ، فإن أعجبك أصنع لكِ؟ قالت: نعم. فدعت أسماء بِسرير فأكبته لوجهه، ثم دعت بجرائد فشددته على قوائمه ثم جلَّلته ثوباً فقالت: هكذا رأيتهم يصنعون فقالت: اصنعي لي مثله، استريني سترك الله من النار. وفي رواية الاستيعاب: فقالت فاطمة: ما أحسن هذا وأجمله لا تعرف به المرأة من الرجل.


 

 

أسْبَابُ انحراف صَحّتِهَا

انتشر خبر مرض السيدة فاطمة الزهراء في المدينة، وسمع الناس بانحراف صحتها، ولم تكن تشكو السيدة فاطمة الزهراء من داء عضال. بل الهموم والمصائب والآلام هي التي ساعدت على استيلاء الهزال والذبول عليها.

وكثرة البكاء على أبيها وعلى حياتها ساعدت على زوال الطراوة والنضارة عن وجهها.

والجفاء والخشونة والمواقف غير المشرفة التي شاهدتها من بعض المسلمين، وانقلاب الأمور، وتبدّل الأحوال وتغيّر الأوضاع المفاجئ السريع في حياتها.

وقد حدث لها بين حائط دارها والباب حوادث أدّت إلى سقوط جنينها، والسياط التي أدمت جسمها الطاهر، وتركت في بدنها آثاراً عميقة.

والضرب المبرّح الذي ألَّم جسمها ونفسها وروحها.

كل هذه الأمور ساهمت في انحراف صحتها، وقعودها عن ممارسة أعمالها وكان زوجها العطوف هو الذي يتولى تمريضها، وتعينه على ذلك أسماء بنت عميس، جاءت نسوة من أهل المدينة لعيادتها وخطبت فيهن تلك الخطبة التي مرت عليك، وأعادت النسوة كلامها على رجالهن، فجاء الرجال يعتذرون، فزيّفت السيدة فاطمة أعذارهم وطردتهم من بيتها.

إن الأمر لا ينتهي هنا، بل انتشر خبر استياء السيدة فاطمة من السلطة، ونقمتها على الذين أزروا تلك السلطة، ونبذوا وراءهم جميع المفاهيم والقيم، وتناسوا كل آية من القرآن نزلت في آل الرسول.

وأعرضوا عن كل حديث سمعوه من شفتي الرسول في حق السيدة فاطمة الزهراء وزوجها وولديها.

وأخيراً تولَّد شيء من الوعي عند الناس، وعرفوا أنهم مخطئون في تدعيم السلطة الحاكمة التي لا تعترف بها أسرة رسول الله (صلى الله عليه وآله).

تلك السلطة التي كان موقفها تجاه بنت الرسول موقفاً غير حسن.

وأخيراً انتبه أفراد السلطة للاستياء العام المستولي على القلوب من سوء تصرفاتهم.

أرادت السلطة تغطية أعمالهم واستدراك ما فات، فقرروا أن يعودوا السيدة فاطمة الزهراء لاسترضائها، وعند ذلك ينتهي كل شيء، وتكون المأساة نسياً منسياً، هكذا تفكروا وتدبروا.

وقد رأينا في زماننا هذا الكثير من المجرمين الذين يعتدون على الأبرياء بالإهانة والتحقير والاستخفاف وأنواع الظلم والتعذيب، ثم يأتون إلى المظلوم ويعتذرون منه سرّاً، وهم يحسبون أنهم يغسلون أعمالهم بالاعتذار.

ولكن السيدة الزهراء كانت تعرف هذه الأساليب وتعلم كل هذه الأمور، وإليك الواقعة كما ذكرها ابن قتيبة في (الإمامة والسياسة ج1 ص14) و(أعلام النساء) ج3 ص1314:

إن عمر قال لأبي بكر (رضي الله عنه): انطلق بنا إلى فاطمة فإنّا قد أغضبناها فانطلقا جميعاً، فاستأذنا على فاطمة فلم تأذن لهما، فأتيا عليّاً فكلَّماه فأدخلهما عليها فلما قعدا عندها حوّلت وجهها إلى الحائط فسلَّما عليها، فلم ترد عليهما السلام، فتكلم أبو بكر فقال: يا حبيبة رسول الله ‍!! والله إن قرابة رسول الله أحبُّ إليَّ من قرابتي وإنك لأحبّ إلي من عائشة ابنتي، ولوَددت يوم مات أبوكِ أني متُّ ولا أبقى بعده، أتراني أعرفكِ وأعرف فضلك وشرفك، وأمنعك حقك وميراثك من رسول الله؟

إلاّ أني سمعت أباك رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: لا نورّث، ما تركناه فهو صدقة.

فقالت: أرأيتكما أن حدّثكتما حديثاً عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) تعرفانه وتفعلان به؟ فقالا: نعم. فقالت: نشدتكما الله: ألم تسمعاً رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: رضا فاطمة من رضاي، وسخط فاطمة من سخطي، فمن أحب فاطمة ابنتي فقد أحبني، ومن أرضى فاطمة فقد أرضاني، ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني؟ قالا: نعم، سمعناه من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قالت: فإني أُشهد الله وملائكته أنكما أسخطتماني وما أرضيتماني، ولئن لقيت النبي (صلى الله عليه وآله) لأشكونكما إليه. فقال أبو بكر: أنا عائذ بالله تعالى من سخطه ومن سخطك يا فاطمة. ثم انتحب أبو بكر يبكي، حتى كادت نفسه أن تزهق، وهي (فاطمة) تقول: والله لأدعونَّ عليك في كل صلاة أصليها. ثم خرج باكياً، فاجتمع الناس إليه فقال لهم: يبيت كل رجل معانقاً حليلته، مسروراً بأهله وتركتموني وما أنا فيه، لا حاجة لي في بيعتكم، أقيلوني بيعتي.


 

 

العيادة بصورة أخرى

في علل الشرائع: لما مرضت فاطمة (عليها السلام) مرضها الذي ماتت فيه أتاها أبو بكر وعمر عائدين، واستأذنا عليها فأبت أن تأذن لهما، فلما رأى ذلك أبو بكر أعطى الله عهداً أن لا يظلّه سقف بيت حتى يدخل على فاطمة ويترضّاها، فبات في الصقيع، ما أظلّه شيء، ثم إن عمر أتى عليّاً (عليه السلام) فقال له: قد أتيناها (فاطمة) غير هذه المرة مراراً نريد الإذن عليها وهي تأبى أن تأذن لنا حتى ندخل عليها فنترضّى، فإن رأيت أن تستأذن لنا عليها فافعل.

قال: نعم، فدخل عليّ على فاطمة فقال: يا بنت رسول الله قد كان من هذين الرجلين ما قد رأيت، وقد تردّدا مراراً كثيرة ورددتهما ولم تأذني لهما، وقد سألاني أن أستأذن لهما عليك؛ فقالت: والله لا أأذن لهما، ولا أُكلمهما كلمة من رأسي حتى ألقى أبي فأشكوهما إليه بما صنعاه وارتكباه مني.

قال علي: فإني ضمنت لهما ذلك. قالت: إن كنت ضمنت لهما شيئاً فالبيت بيتك، والنساء تتبع الرجال، لا أُخالف عليك بشيءِ فأْذن لمن أحببت.

فخرج عليّ فأذن لهما، فلما وقع بصرهما على فاطمة سلّما عليها، فلم تردّ عليهما، وحوَّلت وجهها عنهما، فتحوّلا واستقبلا وجهها حتى فعلت مراراً وقالت: يا عليّ جافِ الثوب وقالت - لنسوة حولها - : حّوّلن وجهي !! فلما حوّلن وجهها حوّلا إليها فقال أبو بكر: يا بنت رسول الله إنما آتيناك ابتغاء مرضاتك واجتناب سخطك، نسألك أن تغفري لنا وتصفحي عما كان منا إليك. قالت: لا أُكلّمكما من رأسي كلمة واحدة حتى ألقى أبي وأشكوكما إليه، وأشكو صنيعكما وفعالكما وما ارتكبتما مني. ثم التفتت إلى عليّ وقالت: إني لا أُكلمهما من رأسي حتى أسألهما عن شيء سمعاه من رسول الله، فإن صدقا رأيت ر أيي.

قالا: اللهم ذلك لها، وإنا لا نقول إلاَّ حقاً ولا نشهد إلاَّ صدقاً، فقالت: أنشدكما بالله: أتذكران أن رسول الله استخرجكما في جوف الليل بشيء كان حدث من أمر عليّ فقالا: اللهم نعم، فقالت: أُنشدكما بالله هل سمعتما النبي يقول: فاطمة بضعة مني وأنا منها، من آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذاها بعد موتي كان كمن آذاها في حياتي، ومن آذاها في حياتي كان كمن آذاها بعد موتي؟

قالا: اللهم نعم. فقالت: الْحمد لله. ثم قالت: اللهم إني أُشهدك فاشهدوا يا من حضرني: أنهما قد آذياني في حياتي وعند موتي. والله لا أُكلِّمكما من رأسي كلمة حتى ألقى ربي فأشكوكما إليه بما صنعتما به وبي، وارتكبتما مني.

فدعا أبو بكر بالويل والثبور وقال: ليت أمي لم تلدني !! فقال: عمر: عجباً للناس كيف ولّوك أُمورهم وأنت شيخ قد خرفت!! تجزع لغضب امرأة وتفرح برضاها؟ وما لمن أغضب امرأة؟ وقاما وخرجا.

أقول: لا حاجة إلى هذا البكاء المرّ الذي أوشك على إزهاق الروح - على حد تعبير رواية ابن قتيبة - ولا حاجة إلى الاستقالة ما دام العلاج مقدوراً للخليفة، ولا داعي بأن ينادي أبو بكر بالويل والثبور وبإمكانه أن يُرضي السيدة فاطمة بأن يردّ إليها حقوقها، ويرفع يده عن أراضيها، ويعتذر عن أعماله.

ولكن الخليفة يريد أن يبقى على اعتدائه وعلى موقفه الذي عرفته بدون أي تنازل، وفي نفس الوقت يريد أن ترضى عنه فاطمة الزهراء!؟

لا أظن أن أيَّ إنسان أو مسلم أو قانون أو شعب يرضى بهذا، ولا أظن أن شريعة أو ديناً أو ضميراً أو وجداناً أو منطقاً يقول بهذا سوى منطق العنف والضغط، ومنطق القوة والقدرة، ولكن السيدة فاطمة أقوى نفساً وروحاً من أن تخضع لهذا المنطق أو بالأحرى: أن تنخدع بهذه المظاهر!؟

بقيت هنا كلمة: قد يتبادر إلى ذهن القارئ أن يتصور ويسأل ما دعا أبا بكر أن يلين ويخضع هكذا؟

وما دعا الزهراء أن تثبت على رأيها، ولا تتضعضع عن موقفها؟

لقد أجاب الجاحظ على هذا السؤال، وكفانا مؤونة الجواب قال في رسائله ص300 (.. فإن قالوا: كيف تظن به ظلمها والتعدي عليها، وكلما ازدادت عليه غلظة ازداد لها ليناً ورقّة حيث تقول له: والله لا أُكلمك أبداً، فيقول: والله لا أهجرك أبداً، ثم يتحمل منها هذا الكلام الغليظ والقول الشديد في دار الخلافة وبحضرة قريش والصحابة مع حاجة الخلافة إلى البهاء والتنزيه، وما يجب لها من الرفعة والهيبة، ثم لم يمنعه ذلك عن أن قال معتذراً متقرباً كلام المعظَّم لحقها، المكبِّر لمقامها، الصائن لوجهها، المتحنِّن عليها: ما أحد أعز عليَّ منك فقراً ولا أحب إليّ منك غنى، ولكن سمعت رسول الله يقول: إنا معاشر الأنبياء لا نورِّث ما تركناه صدقة؟؟

قيل لهم: ليس ذلك بدليل على البراءة من الظلم والسلامة من الجور. وقد يبلغ من مكر الظالم ودهاء الماكر إذا كان أريباً وللخصومة معتاداً أن يظهر كلام المظلوم وذلَّة المنتصف، وحدب الوامق ومقت المحقّ .. الخ.


 

 

العبّاسُ يُحاولُ عيَادَةِ السَيّدة فَاطمَة

اشتد المرض بسيدة نساء العالمين، وثقلت، فجاءها العباس بن عبد المطلب عائداً، فقيل له، إنها ثقيلة، وليس يدخل عليها أحد، فانصرف إلى داره وأرسل إلى علي (عليه السلام) فقال لرسوله: قل له: يا ابن أخ! عمُّك يقرئك السلام ويقول لك: لله قد فاجأني من الغم بشكاة حبيبة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقرة عينه وعيني فاطمة ما هدّني، وإني لأظنها أولنا لحوقاً برسول الله (صلّى الله عليه وآله) يختار لها ويحبوها ويزلفها لربه.

فإن كان من أمرها ما لا بدَّ منه فاجمع - أنا لك الفداء - المهاجرين والأنصار حتى يصيبوا الأجر في حضورها والصلاة عليها، وفي ذلك جمال للدين.

فقال علي (عليه السلام) لرسوله: أبلغ عمي السلام وقل: لا عدمتُ إشفاقك وتحيتك، وقد عرفت مشورتك، ولرأيك فضله، إن فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم تزل مظلومة، من حقها ممنوعة، وعن ميراثها مدفوعة، ولم تُحفظ فيها وصية رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولا رُعي فيها حقه ولا حق الله عز وجل، وكفى بالله حاكماً ومن الظالمين منتقماً وأنا أسألك يا عم أن تسمح لي بترك ما أشرت به، فإنها وصّتني بستر أمرها.

فلما بلّغ الرسول كلام علي إلى العباس قال: يغفر الله لابن أخي فإنه لمغفور له، إنَّ رأْي ابن أخي لا يُطعن فيه، إنه لم يولد لعبد المطلب مولود أعظم بركة من علي إلاَّ النبي (صلى الله عليه وآله) إن علياً لم يزل أسبقهم إلى كل مكرمة، وأعلمهم بكل فضيلة، وأشجعهم في الكريهة، وأشدَّهم جهاداً للأعداء في نصرة الحنيفية، وأول من آمن بالله ورسوله[415].

كانت السيدة فاطمة الزهراء في ذلك اليوم، اليوم الأخير من حياتها طريحة على فراشها المتواضع، وقد أخذ الهزال منها كل مأخذ، وما بقي منها سوى الهيكل العظمي فقط.

نامت السيدة فاطمة في ساعة من ساعات ذلك اليوم، وإذا بها ترى أباها رسول الله (صلى الله عليه وآله) في المنام، ولعل تلك المرَّة هي الأُولى والأخيرة التي رأت أباها الرسول في المنام.

رأت أباها في قصر من الدر الأبيض، فلما رآها قال (صلى الله عليه وآله): هلمِّي إليَّ يا بُنَيَّة، فإنِّي إليكِ مشتاق!! فقالت: والله إني لأشد شوقاً منك إلى لقائك.

فقال لها: أنت الليلة عندي!!


 

 

الاسْتِعدَادُ للِرّحيل

انتبهت من غفوتها، واستعدت للرحيل إلى الآخرة، فقد سمعت من أبيها الصادق المصدَّق الذي قال: (من رآني فقد رآني) سمعت منه نبأ ارتحالها فلا مجال للشك والتردد في صدق الخبر.

فتحت عينها، واستعادت نشاطها، ولعلها كانت في صحوة الموت وقامت لاتخاذ التدابير اللازمة، واغتنمت تلك السويعات الأخيرة من حياتها.

ويعلم الله مدى انشغال قلبها وتشتّت فكرها في تلك اللحظات، فهي مسرورة بالموت الذي سوف يُحلُّ بها، فإنها تستريح من هموم الدنيا وغمومها، وتلتحق بأبيها الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) حيث الرفيع الأعلى والدرجات العلا في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وتتحقق في حقها البُشرى التي زفّها إليها رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم قال لها: أنت أوّل أهل بيتي لحوقاً بي.

ولكنها من ناحية أخرى: يضطرم قلبها لأنها سوف تترك زوجها العظيم وكفؤها الكريم وحيداً غريباً في هذه الحياة القاسية، بلا ناصر ولا معين سوى الله تعالى، فلقد كانت الزهراء خير محامية ومدافعة لزوجها في تلك الأحداث، فمن الذي يقوم مقامها إذا هي فارقت الحياة؟!

ومما كان يؤلمها في تلك السويعات أكثر وأكثر وكان يضغط على قلبها أنها تفارق أطفالها الصغار، وكأنهم أفراخ لم تنبت أجنحتهم بعد، وقد ذكرنا (فيما مضى) أن من جملة أسمائها: الحانية، لأنها ضربت الرقم القياسي في الحنان والعطف على أولادها، وكانت أكثر أُمهات العالم حباُ وشفقة على أطفالها الأعزاء.

إنها ستترك أفلاذ كبدها أهدافاً لسهام هذا الدهر الخؤون الذي لا يرحم كبيراً ولا صغيراً، ولا وضيعاً ولا شريفاً، وخاصة وأنها قد سمعت من أبيها الرسول (صلى الله عليه وآله) مرات عديدة: أن آل رسول الله هم المستضعفون وأنهم سوف يرون أنواع الاضطهاد وألوان المصائب والذل والهوان، كما شاهدت هي ذلك بعد وفاة أبيها الرسول (صلى الله عليه وآله).

ويعلم الله كيف كانت هذه الهواجس والأفكار تهاجم قلبها المنكسر المتألم.

وعلى كل حال: فالحزن هنا لا يجدي ولا ينفع، ولا بد من الاستسلام للواقع المر، والتسليم لأمر الله وقضائه ولا بدّ من انتهاز هذه الفرصة القصيرة التي تمر مرّ السحاب.

أقبلت الزهراء تزحف أو تمشي مُتكئة على الجدار نحو الموضع الذي يوجد فيه الماء من بيتها، وشرعت تغسل أطفالها بيديها المرتعشتين، ثم دعت أطفالها وطفقت تغسل رُؤوسهم بالماء والطين، لأنها لم تجد غسيلاً غير الطين.

قف بنا لحظة! لنبكي على هذه السيدة التي قد اقترب أجلها، وهي تلمس رُؤوس أطفالها وأبدانهم النحيفة، وكأنها تودعهم، وما يدريك أنها - حينذاك - كانت تبكي بصوت خافت، وتتقاطر الدموع من جوانب عينيها الغائرتين، وتسيل على وجهها المنكسف لتغسل الذبول المستولي عليه.

ودخل الإمام علي (عليه السلام) البيت، وإذا به يرى عزيزته قد غادرت فراش العلة وهي تمارس أعمالها المنزلية.

رقَّ لها قلب الإِمام حين نظر إليها وقد عادت إلى أعمالها المتعبة التي كانت تجهدها أيام صحتها، فلا عجب إذا سألها من سبب قيامها بتلك الأعمال بالرغم من انحراف صحتها.

أجابته بكل صراحة: لأن هذا اليوم آخر يوم من أيام حياتي، قمت لأغسل رُؤوس أطفالي لأنهم سيصبحون بلا أم!!

سألها الإِمام عن مصدر هذا النبأْ فأخبرته بالرؤْيا، فهي بذلك قد نعت نفسها إلى زوجها بما لا يقبل الشك.

إذن، فالسيدة فاطمة في أواخر ساعات الحياة، وقد حان لها أن تكاشف زوجها بما أضمرته في صدرها (طيلة هذه المدة) من الوصايا التي يجب تنفيذها ولو بأغلى الأثمان ولا يمكن التسامح فيها أبداً، لأنَّ بها غاية الأهمية.

كأنها قد فرغت من أعمالها المنزلية وعادت إلى فراشها وقالت:

يا ابن عم!! إنه قد نُعيت إليَّ نفسي، وإنني لا أرى ما بي إلاَّ أنني لاحقة بأبي بعد ساعة، وأنا أُوصيك بأشياء في قلبي.

قال لها علي (عليه السلام): أوصيني بما أحببت يا بنت رسول الله، فجلس عند رأسها، وأخرج من كان في البيت، ثم قالت:

يا بن عم!! ما عهدتني كاذبة ولا خائنة.

وما خالفتك منذ عاشرتني.

قال علي (عليه السلام): معاذ الله!! أنتِ أعلم باللهِ، وأَبرُّ وأتقى وأكرم، وأشدُّ خوفاً من الله من أن أُوبِّخك بمخالفتي.

وقد عزَّ عليَّ مفارقتك وفقدكِ.

إلاَّ أنَّه أمر لا بدَّ منه.

والله لقد جددتِ عليَّ مصيبة رسول الله، وقد عظمت وفاتك وفقدك فإنا لله وإنا إليه راجعون.

من مصيبة ما أفجعها وآلمها، وأمضَّها وأحزنها.

هذه مصيبة لا عزاء منها، ورزية لا خلف لها.

ثم بكيا جميعاً ساعة، وأخذ الإِمام رأْسها وضمها إلى صدره ثم قال:

أوصيني بما شئت، فإنك تجدينني وفياً أُمضي كل ما أمرتني به، وأختار أمرك على أمري.

فقالت: جزاك الله عني خير الجزاء.

يا بن عم! أوُصيك أولاً:

أن تتزوج بعدي بابنة أُختي أُمامة، فإنها تكون لُولدي مثلي، فإن الرجال لا بدَّ لهم من النساء.

ثم قالت: أُوصيك أن لا يشهد أحد جنازتي من هؤلاء الذين ظلموني، فإنهم عدوي وعدو رسول الله، ولا تترك أن يصلي عليَّ أحد منهم ولا من أتباعهم، وادفني في الليل إذا هدأت العيون ونامت الأبصار[416].

 

الوصية بصورة أُخرى:

قالت: يا بن العم! إذا قضيت نحبي فغسِّلني ولا تكشف عني، فإني طاهرة مطهرة، وحنِّطني بفاضل حنوط أبي رسول الله (صلى الله عليه وآله).

وصَلِّ عليِّ، وليصلِّ معك الأدنى فالأدنى من أهل بيتي وادفني ليلاً لا نهاراً، وسراً لا جهاراً، وعَفِّ موضع قبري، ولا تُشهد جنازتي أحداً ممن ظلمني.

يا بن العم! أنا أعلم أنك لا تقدر على عدم التزويج من بعدي فإن أنت تزوَّجت امرأة اجعل لها يوماً وليلة، واجعل لأولادي يوماً وليلة.

يا أبا الحسن! ولا تُصح في وجههما فيصبحْان يتيمين غريبين منكسرين، فإنهما بالأمس فقدا جدَّهما واليوم يفقدان أُمَّهما، فالويل لأُمَّة تقتلهما وتبغضهما، ثم أنشأتْ تقول:

ابكني إن بكيت يا خير هادي***وأسبل الدمع فهو يوم الفراق

يا قرين البتول أوصيك با***لنسل فقد أصبح حليف اشتياق

ابكني وابك لليتامى، ولا تنس قتيل العدى بطَف العراق

هذه بعض وصايا السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) التي يتجلى فيها مدى تألمها من ذلك المجتمع، ومدى تذمُّرها من الجفاة القساة.

إنها اختارت أن تسجِّل اسمها في طليعة أسماء المضطهدين المحرومين وأن تدوِّن اسمها في سجلِّ المظلومين، حتى يكون اسمها رمزاً للمظلومية والحرمان، وليكون تشييع جثمانها تعبيراً عن سخطها على السلطة وعلى كل من أيَّد تلك السلطة واعترف بها وتعاون معها.

وإعلاناً عن غضبها على كل مَن وقف من الزهراء موقفاً سلبياً.

أوصَت أن يُشيَّع جثمانها ليلاً وتجري مراسيم التشييع من التغسيل والتكفين والصلاة والدفن في جوٍّ من الكتمان.

وأن لا يشترك في تشييع جنازتها إلاَّ أفراد لم تتلوَّث ضمائرهم بالانحراف ولم تسوّد صفحاتهم بالانجراف.

أفراد كان موقفهم تجاه السيدة فاطمة (خلال فترة الانقلاب) موقفاً إيجابياً مشرفاً.


 

 

حُنوطُ الجَنّة

ولها وصايا أُخرى لزوجها بأن يتعهد قبرها، ويقرأ القرآن عند مرقدها وغير ذلك مما ليست لها أهمية كالبنود السابقة من وصاياها.

ثم طلبت السيدة فاطمة من أسماء بنت عميس الحنوط الذي جاء به جبرائيل من الجنة وقالت: يا أسماء ائتني ببقية حنوط والدي من موضع كذا وكذا، فضعيه عند رأْسي[417].

وأما الحنوط وهو السدر والكافور فقد روي عن علي (عليه السلام) أنه قال: كان في الوصية أن يدفع إليَّ الحنوط فدعاني رسول الله (صلى الله عليه وآله) قبل وفاته بقليل: فقال: يا علي ويا فاطمة هذا حنوطي من الجنة دفعه إليَّ جبرئيل وهو يقرئكما السلام ويقول لكما: أقسماه، واعزلا منه لي ولكما. فقالت فاطمة (عليها السلام): يا أبتاه لك ثُلثه. وليكن الناظر في الباقي علي بن أبي طالب. فبكى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وضمَّها إليه وقال: موفَّقة، رشيدة، مهدية، ملهَمة، يا علي قل لي في الباقي. قال: نصف ما بقي لها، والنصف الآخر لمن ترى يا رسول الله!! قال (صلى الله عليه وآله): هو لك[418].

ثم دعت السيدة فاطمة سلمى امرأة أبي رافع وقالت لها: هيئي لي ماءً، وفي رواية: (اسكبي لي غسلاً) ثم دعت بثيابها الجدد فاغتسلت أحسن ما يكون، ثم قالت: افرشي فراشي وسط البيت[419].

أقول: لا أعرف السبب في اغتسال السيدة فاطمة وتبديل ثيابها وهي في أواخر ساعات الحياة، بل على أعتاب المنية.

ولعل السبب في ذلك (والله العالم) أنها (عليها السلام) أرادت أن تغسل آثار الجروح الموجودة على عضدها وعلى ضلعها، تلك الجروح التي حدثت لها عند باب بيتها من الضرب، كما تقدم الكلام عنه.

وهكذا نزعت الثياب الملطخة بالدماء والقيح، ولعلها (عليها السلام) أرادت أن تخفي ذلك عن ذويها الذين يحضرون ساعة تغسيلها، وزعم البعض أنها اغتسلت عوضاً عن غسل الميت الواجب بعد الموت، وأنها أوصت لأن لا تغسل بعد الموت، وهذا عجيب من المحدِّثين كيف يذكرون هذه الأُسطورة أو الأُكذوبة؟ مع العلم أن غسل الميت إنما يجب بعد الموت لا قبل الموت.

نعم، بالنسبة للمحكوم عليهم بالقتل يغتسلون قبل تنفيذ حكم الإعدام عليهم، وليس هذا المورد من تلك الموارد.

ثم أن الفقهاء إنما استدلوا على جواز تغسيل الزوج زوجته بعد الموت بتغسيل الإِمام أمير المؤمنين زوجته السيدة فاطمة (عليها السلام) بعد وفاتها بحيث صار هذا الأمر أوضح من الشمس، وأشهر من أمس، فما فائدة ذكر هذا القول الشاذ الذي لا يعبأْ به أحد؟

انتقلت السيدة فاطمة (عليها السلام) إلى فراشها المفروش قي وسط البيت، واضطجعت مستقبلة القبلة، واضعة يدها تحت خدِّها بعد أن هيأت طعاماً لأطفالها، وقيل: أنها أرسلت ابنتيها: زينب وأُم كلثوم إلى بيوت بعض الهاشميات لئلا تشاهدا موت أُمهما، كل ذلك من باب الشفقة والرأْفة، والتحفّظ عليهما من صدمة مشاهدة المصيبة.

يستفاد من بعض الأحاديث أن الإِمام علياً والحسن والحسين (عليهم السلام) كانوا خارج البيت في تلك الساعة، ولعل خروجهم كان لأسباب قاهرة وظروف معيّنة، وعلى كلٍّ لم يحضروا تلك الدقائق الأخيرة من حياة أُمِّهم، وإنما كانت أسماء حاضرة وملازمة لها، ويُستفاد من بعض الأحاديث أن خادمتها فضة أيضاً حاضرة.

حانت ساعة الاحتضار وحالة النزع، وانكشف الغطاء، ونظرت السيدة فاطمة نظراً حاداً ثم قالت:

السلام على جبرائيل.

السلام على رسول الله.

اللهم مع رسولك، اللهم في رضوانك وجوارك ودارك دار السلام.

ثم قالت: أترون ما أرى؟ فقيل لها: ما ترين؟ قالت: هذه مواكب أهل السماوات وهذا جبرئيل، وهذا رسول الله يقول: يا بنية اقدمي، فما أمامك خير لك.

وفتحت عينيها.. ثم قالت: وعليك السلام يا قابضْ الأرواح عجِّل بي ولا تعذبني، ثم قالت: إليك ربي لا إلى النار.

ثم غمضت عينيها، ومدت يديها ورجليها وفارقت الحياة فشقّت أسماء جيبها، ووقعت عليها تقبِّلها وهي تقول: يا فاطمة إذا أقدمت على أبيك رسول الله فأقرئيه عن أسماء بنت عميس السلام.

ودخل الحسن والحسين فوجدوا أُمهما مسجّاة فقالا: يا أسماء ما يُنيم أُمَّنا في هذه الساعة؟ قالت: يا بني رسول الله ليست أُمُّكما نائمة، قد فارقت الدنيا.

فألقى الحسن نفسه عليها يقبِّل رجلها ويقول: يا أُماه كلّميني قبل تفارق روحي بدني.

وهكذا الحسين كان يقبل رجلها ويقول: يا أُماه! أنا ابنك الحسين!! كلِّميني قبل أن يتصدَّع قلبي فأموت.

قالت لهما أسماء: يا بنَي رسول الله انطلقا إلى أبيكما فأخبراه بموت أُمكما. فخرجا حتى إذا كانا قرب المسجد رفعا أصواتهما بالبكاء.

فابتدر إليهما جمع من الصحابة وسألوهما عن سبب بكائهما فقالا: أو ليس قد ماتت أُمنا فاطمة!

فوقع الإِمام علي على وجهه يقول: بمن العزاء يا بنت محمد؟ وأقبل إلى البيت.


 

 

وَمَاتَتِ السَيّدة فَاطِمَة

ارتجت المدينة بالبكاء من الرجال والنساء، ودهش الناس كيوم قُبض فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وصاح أهل المدينة صيحة واحدة، واجتمعت نساء أهل المدينة في دار السيدة فاطمة، فرأينها مسجّاة في حجرتها، وحولها أيتامها يبكون على أُمهم التي فقدوها في عنفوان شبابها، صرخت النساء صرخة كادت المدينة أن تتزعزع من صراخهن وهن يصحن: يا سيدتاه، يا بنت رسول الله[420].

وأقبل الناس مسرعين وازدحموا مثل عُرف الفرس على باب البيت، وعلي جالس، والحسن والحسين بين يديه يبكيان، فبكى الناس لبكائهما.

وجاءت عائشة لتدخل فقالت أسماء: لا تدخلي. فكلَّمت عائشة أبا بكر فقالت: إن الخثعمية تحول بيننا وبين ابنة رسول الله وقد جعلت لها هودج العروس، فجاء أبو بكر فوقف على الباب فقال: يا أسماء: إن فاطمة أمرتني أن لا يدخل عليها أحد، وأريتُها هذا الذي صنعت وهي حية، فأمرتني أن أصنع لها ذلك. قال أبو بكر: فاصنعي ما أَمَرَتْكِ. ثم انصرف.

وأقبل الشيخان إلى علي يعزّيانه، ويقولان له: يا أبا الحسن لا تسبقنا بالصلاة على ابنة رسول الله.

كان الناس ينتظرون خروج الجنازة فأمر علي (عليه السلام) أبا ذر فنادى: انصرفوا، فإن ابنة رسول الله قد أُخِّر إخراجها في هذه العشية.

وهكذا تفرّق الناس، وهم يظنون أن الجنازة تشيّع صباح غدٍ، إذ أنّ السيدة فاطمة الزهراء فارقت الحياة بعد صلاة العصر، أو أوائل الليل[421].

مضى من الليل شطره، وهدأت الأصوات، ونامت العيون، ثم قام الإِمام لينفِّذ وصايا السيدة فاطمة.

حمل ذاك الجسد النحيف الذي أذابته المصائب حتى صار كالهلال.

حمل ذلك البدن الطاهر كي يُجري عليه مراسم السُّنة الإِسلامية.

وضع ذلك الجثمان المطهّر على المغتسل، ولم يجرّد فاطمة من ثيابها تلبيةً لطلبها، إذ لا حاجة إلى نزع الثوب عن ذلك البدن الذي طهره الله تطهيراً، ويكفي صب الماء على البدن، كما صنع ذلك في تغسيل النبي الطاهر.

وهناك أسماء بنت عميس، تلك السيدة الوفية الطيبة التي استقامت على علاقاتها الحسنة مع أهل البيت، فهي تناول عليّاً الماء لتغسيل السيدة فاطمة.

يقول الإِمام الحسين (عليه السلام): غسَّلها ثلاثاً وخمساً، وجعل في الغسلة الأخيرة شيئاً من الكافور، وأشعرها مذراً سابغاً دون الكفن، وهو يقول:

اللهم إنها أَمَتك، وابنة رسولك وصفيك، وخيرتك من خلقك اللهم لقِّنها حجّتها، وأعظم برهانها، وأعل درجتها، واجمع بينها وبين أبيها محمد (صلى الله عليه وآله)[422].

وبعد الفراغ من التغسيل حملها ووضعها على أكفانها، ثم نشّفها بالبردة التي نشف بها رسول الله[423] وحنَّطها بحنوط السماء الذي يمتاز عن حنوط الدنيا.

ثم لفَّها في أكفانها، وكفَّنها في سبعة أثواب[424].

وإنما قام علي (عليه السلام) بتغسيلها، ولم يكلف أحداً من النساء بذلك لأسباب:

1- تلبية لطلبها، وتنفيذاً لوصيتها.

2- إثباتاًَ لعصمتها وطهارتها، فإن تغسيل الميت يعتبر تطهيراً له، وأما بالنسبة للمعصومين فلا يسمح للأيدي الخاطئة أن تمدّ لتغسيلهم، وإنما هو من واجبات المعصوم الخاصة أن يقوم بعملية التطهير، وقد مرّ عليك الحديث عن الإِمام الصادق (عليه السلام) حول كونها صدّيقة، وأن الصدّيقة لا يغسلها إلاَّ صدّيق.

فكان الغرض من تلك الوصية وتنفيذها إثبات عصمتها، والتنويه بذلك في شتى المجالات وكافة المناسبات.

ويصرّح الإِمام (عليه السلام) بذلك حيث يقول: فغسّلتها في قميصها ولم أكشفه عنها فوالله لقد كانت ميمونة طاهرة مطهرة.. الخ[425].

وهناك أحاديث شاذة بلغت القمة في الشذوذ، فمنها الحديث الذي يذكره الدولابي وغيره أن الزهراء (عليها السلام) اغتسلت قبل وفاتها، وأوصت أن لا يغسلها أحد بعد موتها، وأنها دفنت بلا تغسيل!!

ويأْتي بعض علمائنا القدامى ليصحح هذا الخطأْ فيقول: فلعل ذلك كان من خصائصها (عليها السلام).

أقول: وهل تثبت أمثال هذه الأمور بـ(لعل) و(ليت) وخاصة مع تصريح الروايات المعتبرة وتواتر الأحاديث الصحيحة: أن عليّاً هو الذي تولّى تغسيلها؟ أضف إلى ذلك: إن تغسيل الميت المسلم واجب شرعاً.

رأى الإِمام أن يتامى فاطمة ينظرون إلى أُمّهم البارّة الحانية، وهي تلفّ في أثواب الكفن، إنها لحظة فريدة في الحياة، لا يستطيع القلم وصفها، إنها لحظة يهيج فيها الشوق الممزوج بالحزن، إنه الوداع الأخير الأخير!!

هاجت عواطف الأب العطوف على أطفاله المنكسرة قلوبهم، فلم يعقد الخيوط على الكفن، بل نادى - بصوت مختنق بالبكاء - : يا حسن يا حسين يا زينب يا أُم كلثوم هلمّوا وتزوّدوا من أُمّكم، فهذا الفراق، واللقاء في الجنة!!

كان الأطفال ينتظرون هذه الفرصة وهذا السماح لهم لكي يودّعوا تلك الحوراء، ويعبّروا عن آلامهم وأصواتهم ودموعهم المكبوتة المحبوسة، فأقبلوا مسرعين، وجعلوا يتساقطون على ذلك الجثمان الطاهر كما يتساقط الفَراش على السراج.

كانوا يبكون بأصوات خافتة، ويغسلون كفن أُمّهم الحانية بالدموع، فتجففها الآهات والزفرات.

كان المنظر مشجياً مثيراً للحزن، فالقلوب ملتهبة، والأحاسيس مشتعلة والعواطف هائجة، والأحزان ثائرة.

وهنا حدث شيء يعجز القلم عن تحليله وشرحه، وينهار أمامه قانون الطبيعة، ويأْتي دور ما وراء الطبيعة، فالقضية عجيبة في حد ذاتها، لأنها تحدّت الطبيعة والعادة:

يقول علي (عليه السلام) وهو إذ ذاك يشاطر أيتام فاطمة في بكائهم وآلامهم.

يقول: (أُشهد الله أنها حنَّت وأنَّت وأخرجت يديها من الكفن، وضمَّتهما إلى صدرها مليّاً).

إن كانت حياة السيدة فاطمة الزهراء قد تعطّلت فإن أحاسيسها وإدراكها لم تتعطل، وإن كانت روحها الطاهرة قد فارقت جسدها المطهر فإن علاقة الروح لم تنقطع عن البدن بعد، فلروحها القوية أن تتصرف في جسمها في ظروف خاصة وموارد معينة.

كان ذلك المنظر العجيب مثيراً لأهل السماوات الذين كانت أبصارهم شاخصة نحو تلك النقطة من بيت علي (عليه السلام) فلا عجب إذا ضجت الملائكة وشاركت أهل البيت في بكائهم، فلا غرو إذا سمع الإِمام علي صوت أحدهم يهتف قائلاً: يا علي! ارفعهما فلقد أبكيا ملائكة السماوات وقد اشتاق الحبيب إلى حبيبه.

يتقدم الإِمام ليرفع طفليه عن صدر أُمهما، وعيناه تذرفان بالدموع.

وانتهت مراسيم التكفين والتحنيط، وجاء دور الصلاة عليها ثم الدفن، لقد حضر الأفراد الذين تقرر أن يشتركوا في تشييع الجثمان ومراسم الصلاة وغيرها، وهم الذين لم يظلموا فاطمة، ولم يسكتوا أمام تلك الأحداث، ولم يكن موقفهم موقف المتفرج الذي لم يتأثر بالحوادث.

لقد حضروا في تلك الساعة المتأخرة من تلك الليلة خائفين مترقبين، إذ قد تقرر إجراء تلك المراسم ليلاً وسرّاً، واستغلال ظلمة الليل مع رعاية الهدوء والسكوت، كل ذلك لأجل تنفيذ وصايا السيدة فاطمة الحكيمة.

لقد حضروا، وهم: سلمان، عمار بن ياسر، أبو ذر الغفاري، المقداد، حذيفة، عبد الله بن مسعود، العباس بن عبد المطلب، الفضل بن العباس، عقيل، الزبير، بريدة، ونفر من بني هاشم، وشيّعوا جثمان فاطمة الزهراء البنت الوحيدة التي تركها الرسول الأقدس بين أُمته، وكأنها امرأة غريبة خاملة فقيرة في المدينة، لا يعرفها أحد وكأنها لم تكن المنزلة الرفيعة والشخصية المثالية.

هؤلاء هم المشتركون في تشييع جنازة سيدة نساء العالمين.

وتقدم الإِمام علي (عليه السلام) وصلَّى بهم على حبيبة رسول الله، قائلاً: اللهم إني راضٍ عن ابنة نبيك، اللهم إنها قد أوحشت فآنسها، اللهم إنها قد هُجِرت فَصِلها، اللهم إنها قد ظُلِمت فاحكم لها وأنت خير الحاكمين[426].

ثم صلَّى ركعتين ورفع يديه إلى السماء فنادى: هذه بنت نبيّك فاطمة أخرجتها من الظلمات إلى النور. فأضاءت الأرض ميلاً في ميل.

صلى الإِمام علي (عليه السلام) عليها، إذ أنها كانت معصومة، فيجب أن يصلي عليها المعصوم، فالصلاة على الميت دعاء له بالرحمة. وأما بالنسبة للمعصوم فالدعاء له أي الصلاة على جثمانه فهو من واجب المعصوم.

هذا من الناحية الشرعية، وأما من ناحية العقل والحكمة فإن السيدة فاطمة الزهراء مع جلالة قدرها، وعظم شأْنها ذهبت إلى دار رئيس الدولة يومذاك مطالبة بحقها، فكان موقف الرئيس معها كما عرفت.

ثم حضرت في المسجد وخطبت تلك الخطبة فلم تجد الإِسعاف لا من الحاضرين في المسجد، ولا من رئيس الدولة، وقد مرّ عليك أن عليّاً (عليه السلام) كان يحملها إلى بيوت المهاجرين والأنصار يستنجدهم لنصرة الزهراء فلم يجد منهم إلاَّ الجفاء.

والكارثة التي حدثت عند باب بيتها تركت في جسمها آثاراً تدوم وتدوم ولا تزول.

ومواقف المسلمين اتجاه ابنة الرسول كان لها أثر عميق في نفس السيدة فاطمة لكونها إهانة صريحة لها، وظلماً مكشوفاً واعتداءً مقصوداً، وإهداراً لكرامتها، وتضييعاً لمقامها الأسمى.

وليست هذه الأمور من القضايا التي تنسى أو تضيع، فلا بد من تنبيه المعتدين على فظاعة عملهم وتسجيل ذلك في سجل التاريخ، وذلك عن طريق الاستنكار والتعبير عن الاستيلاء العميق عن تلك الأعمال.

وإن بنود الوصية ترمز إلى أن الزهراء عاشت بعد أبيها ناقمة وغاضبة على أولئك الأفراد، واستمرت النقمة والغضب حتى الموت وبعد الموت وإلى يوم يبعثون.

فلا ترضى السيدة فاطمة أن يشيعها تلك العصابة، ولا أن يصلُّوا على جنازتها ولا يشهدوا دفنها، ولا يعرفوا قبرها، بل يبقى قبرها مخفياً من يوم وفاتها إلى يوم الفصل الذي كان ميقاتاً ليجلب هذا انتباه المسلمين وعلى الأخص الحجاج والمعتمرون الذين يزورون قبر الرسول (صلى الله عليه وآله) في المدينة المنورة، ومراقد الأئمة في البقيع، ويتساءلون عن قبرها فلا يجدون لذلك أثراً ولا خبراً.

فالقبر كان ولا زال مجهولاً عند المسلمين بسبب اختلاف المؤرخين والمحدثين فهناك أحاديث تصرّح بدفنها في البقيع، وهناك روايات أنها دفنت في حجرتها وعند توسيع المسجد النبوي الشريف صار قبرها في المسجد.

فإن صح هذا القول فإن صُوَر القبور التي صوَّرها الإِمام في البقيع كان لغرض المغالطة، وصرف الأنظار عن مدفنها الحقيقي.

وإن كان الإِمام قد دفنها في البقيع فالقبر كان ولا يزال مجهولاً.

وعلى كل تقدير: لقد حفروا القبر للسيدة فاطمة، وحفروا مرقداً لتلك الزهرة الزهراء، واللؤلؤة النوراء، وتقدّم أربعة رجال وهم علي والعباس والفضل بن العباس ورابع[427] يحملون ذلك الجسد النحيف[428].

ونزل علي (عليه السلام) إلى القبر لأنه وليّ أمرها، وأولى الناس بأمورها، واستلم بضعة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأضجعها في لحدها، ووضع ذلك الخد الذي طالما تعفَّر بين يدي الله تعالى في حال السجود ذلك الخد الذي كان يقبّله رسول الله (صلى الله عليه وآله) في كل ليلة قبل أن ينام وضع ذلك الخد على تراب القبر وقال: يا أرض أستودعكِ وديعتي، هذه بنت رسول الله، بسم الله الرحمن الرحيم، بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله).

سلَّمتك أيتها الصّدّيقة إلى من هو أولى بك مني، ورضيت لك بما رضي الله تعالى لك. ثم قرأ (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى)[429].

لقد دفنوا كتلة من المواهب والفضائل.

لقد أخفوا في بطون التراب الحوراء الإِنسية.

وسوّى علي (عليه السلام) قبرها، وكأنه في تلك المراحل كان جرحه حاراً، فلا يشعر بالألم، والإنسان قد يصاب بجراح أو كسر فلا يشعر بالألم في وقته، وبعد مضي لحظات يشتد به الوجع، ويتركه يصرخ ويصيح.

كان جثمان السيدة فاطمة نصب عين علي في تغسيلها وتكفينها والصلاة عليها ودفنها، والآن قد غابت الزهراء عن الأبصار، واختفت عن الأعين.

لقد حان أن يشعر الإمام علي بألم المصاب، ويشتد به الوجع أشد ما يمكن.

كانت تلك اللحظات الحرجة من تلك الليلة مؤلمة ومشجية فلقد كان قلب الإِمام مضغوطاً عليه بسبب المصيبة.

لقد ماتت فاطمة الزهراء شهيدة الاضطهاد، قتيلة الظلم والاعتداء.

وفَقَدَ الإِمام بفقدها شريكة حياته، وأحبّ الناس إليه وإلى رسول الله.

فَقَدَ سيدةً في ريعان شبابها، ومقتبل عمرها، ونضارة حياتها.

فَقَدَ سيدةً انسجمت معه ديناً ودنيا وآخرة.

فَقَدَ زوجةً شاركته في مصائب حياته ومرارتها بكل صير.

فَقَدَ حوراء ليست من مستويات نساء الدنيا.

سوف لا يجد الإِمام على وجه الأرض مثلها عصمة ونزاهة وتقوى وعلماً وكمالاًَ وشرفاً، وفضائل ومكارم وغيرها.

فلا يمكن له أن يتسلى بامرأة أُخرى.

ومما زاد في المصيبة، وضاعف في أبعاد الكارثة أن السيدة أوصت إلى زوجها أن يكون تشييع جثمانها ليلاً وسرّاً، وبإخفاء قبرها بحيث لا يكون لقبرها أثر ولا علامة.

ولهذا هاجت به الأحزان لمّا نفض يده من تراب القبر فأرسل دموعه على خديه وحوّل وجهه إلى قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم قال:

السلام عليك يا رسول الله عني[430].

السلام عليك عن ابنتك وزائرتك[431].

والبائتة في الثرى ببقعتك.

والمختار الله لها سرعة اللحاق بك.

قلّ يا رسول الله عن صفيّتك صبري.

وعفى عن سيدة نساء العالمين تجلّدي[432].

إلاَّ أن في التأسي لي بسُنَّتك في فرقتك موضع تعز[433].

فلقد وسّدتك في ملحودة قبرك.

بعد أن فاضت نفسك[434] بين نحري وصدري.

وغمّضتك بيدي.

وتولَّيت أمرك بنفسي.

بلى[435] وفي كتاب الله لي أنعم القبول.

إنا لله وإنا إليه راجعون.

قد استُرجعتِ الوديعة.

وأخُذت الرهينة.

واختلست الزهراء[436].

فما أقبح الخضراء والغبراء.

يا رسول الله!!

أمّا حزني فَسَرمد.

وأمّا ليلي فمسهَّد.

وهمٌّ لا يبرح من قلبي[437].

أو[438] يختار الله لي دارك التي أنت فيها[439] مقيم.

كمدٌ مقيّح، وهمٌّ مهيّج.

سرعان ما فَرَّق الله بيننا.

وإلى الله أشكو.

وستنبئك ابنتك بتضافر[440] أُمّتك عليَّ.

وعلى هضمها حقها.

فأحفها السؤال.

واستخبرها الحال.

فكم من غليل معتلج بصدرها لم تجد إلى بثّه سبيلاً.

وستقول ويحكم الله وهو خير الحاكمين.

والسلام عليكما[441] يا رسول الله.

سلام مودّع.

لا سئم ولا قالٍ[442].

فإن أنصرف فلا عن ملالة.

وإن أُقم فلا عن سوء ظن[443] لما وعد الله الصابرين.

واهاً واها!!

والصبر أيمن وأجمل.

ولولا غلبة المستولين علينا.

لجعلتُ المقام عند قبرك لزاماً.

والتلبث عنده عكوفاً[444].

ولأعولت إعوال الثكلى على جليل الرزية.

فبعين الله تدفن ابنتك سرّاً؟!!

ويهتضم حقها قهراً؟!!

ويُمنع إرثها جهراً؟!!

ولم يَطُل منك العهد[445].

ولم يخلِق منك الذكر.

فإلى الله - يا رسول الله - المشتكى.

وفيك - يا رسول الله - أجمل العزاء.

فصلوات الله عليها وعليك ورحمة الله وبركاته[446].


 

 

مُحاوَلاَت فَاشِلَة

وأصبح الصباح من تلك الليلة فأقبل الناس ليشيعوا جنازة السيدة فاطمة فبلغهم الخير أن عزيزة رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد دفنت ليلاً وسراً.

وكان علي (عليه السلام) قد سوّى في البقيع صُوَر قبور سبعة أو أكثر، وحيث أن البقيع كان في ذلك اليوم وإلى يومنا هذا مقبرة أهل المدينة، ولهذا أقبل الناس إلى البقيع يبحثون عن قبر السيدة فاطمة، فأشكل عليهم الأمر، ولم يعرفوا القبر الحقيقي لسيدة نساء العالمين، فضج الناس، ولام بعضهم بعضاً، وقالوا: لن يخلف نبيكم إلاَّ بنتاً واحدة، تموت وتُدفن ولم تحضروا وفاتها والصلاة عليها، ولا تعرفوا قبرها؟!!

ثم قال رجال السلطة: هاتوا من نساء المسلمين من ينبش هذه القبور حتى نجدها فنصلِّي عليها، ونزور قبرها.

أرادوا تنفيذ هذه الخطة كي يزيّفوا الخطة التي خططتها السيدة فاطمة في وصاياها، وأن يحبطوا المساعي التي بذلها الإِمام علي (عليه السلام) في إخفاء القبر، وحرمان بعض الناس عن درك ثواب الصلاة على جنازة السيدة فاطمة.

وإلاَّ فما معنى نبش القبر لأجل الصلاة على الميت؟ أكانوا يظنون أن عليّاً دفن فاطمة بلا صلاة؟ هل من المعقول أن يظن أحد ذلك؟ وأي إسلام وأي دين وشريعة يبيح نبش قبر ميت قد صلّى عليه وليّه بأحسن وجه وأكمل صورة، صلَّى عليه بتصريح ووصية منه؟؟!

إنني أعتقد أن الذي أعتقد أن الذي جرّأهم على هذه المجازفة وخرق الآداب وتحطيم المعنويات هو استضعافهم لأمير المؤمنين (عليه السلام) فكأنهم قد نسوا أو تناسوا سيف الإِمام علي وبطولاته في جبهات القتال، وشجاعته التي شهد بها أهل السماء والأرض.

إن كان الإِمام أمير المؤمنين لم يجرّد سيفه في تلك الأحداث والمآسي التي حدثت من بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأجل توحيد كلمة المسلمين، وعدم تفرّقهم عن الدين، فليس معنى ذلك أن يسكت عن كل شيء وأن يصبر على كل عظيمة ورزية، وبعبارة أُخرى: إن كان علي (عليه السلام) مأْموراً بالصبر في موارد معينة ومواطن محدودة فلا يعني ذلك أن يتحمّل كل إهانة ويسكت عليها.

وصل إلى الإِمام خبر المؤامرة التي يوشك أن تُنفّذ، وكان للإمام (عليه السلام) قباء أصفر يلبسه في الحروب، لأن الملابس الفضفاضة الطويلة العريضة لا تناسب القتال وإنما تتطلب الحرب ملابس تساعد على سرعة الحركة والأعمال الحربية، وكان ذلك القباء من ملابس علي (عليه السلام) الخاصة للحروب.

لبس الإِمام القباء الأصفر، وحمل سيفه ذا الفقار وقد احمرّت عيناه ودرّت أوداجه من شدة الغضب، وقصد نحو البقيع.

سبقت الأخبار عليّاً إلى البقيع، ونادى مناديهم: هذا علي بن أبي طالب قد أقبل كما ترونه، يقسم بالله: لئن حُوِّل من هذه القبور حجر ليضعن السيف على غابر الآخر.

تلقى الناس هذا التهديد بالقبول والتصديق، لأنهم عرفوا أن عليّاً صادق القول، قادر على ما يقول.

ولكن رجلاً من السلطة استخف بهذا التهديد والإِنذار وقال: ما لك يا أبا الحسن! والله لننبشنّ قبرها ولنصلِّين عليها!!

فضرب علي بيده إلى جوامع ثوب الرجل وهزّه، ثم ضرب به الأرض، وقال له: يا بن السوداء! أما حقي فقد تركته مخافة أن يرتدّ الناس عن دينهم، وأما قبر فاطمة فوالذي نفس علي بيده: لئن رُمتَ وأصحابك شيئاً من ذلك لأسقينّ الأرض من دمائكم!!

فقال أبو بكر: يا أبا الحسن بحق رسول الله وبحق من فوق العرش إلاَّ خلَّيت عنه، فإنا غير فاعلين شيئاً تكرهه، فخلّى عنه وتفرّق الناس، ولم يعودوا إلى ذلك، وبقيت وصايا السيدة فاطمة باقية ونافذة المفعول حتى اليوم وبعد اليوم.


 

 

عليّ في تأبين الزهَراء

إن كانت العادة والإنسانية قد قضت برثاء الميت، فإن السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) تستحق الرثاء بعد وفاتها كما تستحق الثناء في حياتها وبعد مماتها، والرثاء تعبير عن الشعور، وإظهار التوجُّع والتأسُّف على الفقيد، وبيان تأثير مصيبة فقده على الراثي، وانطلاقاً من هذا المفهوم فإنه يجدر بالإمام عليّ (عليه السلام) أن يرثي السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) ويبث آلامه النفسية من تلك الفاجعة المؤلمة، فالإمام يشعر بألم المصائب أكثر من غيره، لأنه يقدّر فقيدته حق قدرها، وتأثير الصدمة في نفسه أقوى وأكثر، فلا عجب إذا هاجت أحزانه فقال مخاطباً لسيدة النساء فاطمة العزيزة بعد وفاتها قائلاً:

نفسي على زفراتها محبوسة***يا ليتها خرجت مع الزفرات

لا خير بعدكِ في الحياة وإنما***أبكي مخافة أن تطول حياتي

وقوله:

أرى علل الدنيا عليَّ كثيرة***وصاحبها حتى الممات عليل

ذكرت أبا ودِّي فبتُّ كأنني***بردِّ الهموم الماضيات وكيل

لكل اجتماع من خليلين فرقة***وكلُّ الذي دون الفراق قليل

وإن افتقادي فاطماً بعد أحمد***دليل على أن لا يدوم خليل

وقوله:

فراقكِ أعظم الأشياء عندي***وفقدك فاطم أدهى الثكول

سأبكي حسرة وأنوح شجواً***على خِلّ مضى أسنى سبيل

ألا يا عين جودي وأسعديني***فحزني دائم أبكي خليل

وقوله:

حبيب ليس يعدله حبيبُ***وما لسواه في قلبي نصيب

حبيب غاب عن عيني وجسمي***وعن قلبي حبيبي لا يغيب

وقوله مخاطباً للسيدة فاطمة بعد وفاتها:

مالي وقفت على القبور مسلِّماً***        قبر الحبيب فلم يردّ جوابي

أحبيب ما لك لا تردّ جوابيا***أنسيت بعدي خلَّة الأحباب


 

 

تاريخ وفاتها (عليها السلام)

ليس من العجيب أن يختلف المؤرِّخون في تاريخ وفاتها ومقدار عمرها كما اختلفوا في تاريخ ولادتها قبل البعثة أو بعدها، وهكذا الاختلاف في مقدار مكثها في الحياة بعد وفاة أبيها الرسول (صلى الله عليه وآله).

فاليعقوبي يروي أنها عاشت بعد أبيها ثلاثين أو خمسة وثلاثين يوماً وهذا أقلّ ما قيل في مدة بقائها بعد الرسول وقول آخر: أربعون يوماً وقول ثالث: خمسة وسبعون وهو الأشهر ورابع: خمسة وتسعون يوماً وهو الأقوى وهناك أقوال لا يعبأ بها كالقول بأنها عاشت بعد أبيها ستة أشهر أو ثمانية أشهر وهذا أكثر ما قيل في مكثها بعد أبيها (صلى الله عليه وآله).

وهناك أحاديث واردة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) كانت ولا تزال مورد الاعتبار والاعتماد.

ففي كتاب (دلائل الإمامة) للطبري الإمامي بإسناده عن الأمام الصادق (عليه السلام): أنها قُبضت في جمادى الآخرة يوم الثلاثاء لثلاث خلون منه، سنة إحدى عشرة من الهجرة.

وفي العاشر من البحار عن جابر بن عبد الله: وقبض النبي ولها يومئذ ثماني عشرة سنة وسبعة أشهر.

أيضاً عن الإمام محمد بن عليّ الباقر (عليه السلام): وتوفيت ولها ثمانية عشرة سنة وخمسة وسبعون يوماً.

وروى الكليني هذا القول في الكافي.

وعلى كل تقدير فإن عشرات الآلاف من المجالس والمآتم تقام في البلاد الشيعية بمناسبة وفاة السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) في المساجد والبيوت والمجامع، ويطعمون الطعام في يوم وفاتها بكل سخاء، وتسمّى تلك الأيام بـ(الفاطمية) فيرقى الخطباء المنابر ويتحدثون عن السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) وعن حياتها الزاخرة بالفضائل والمناقب والمواقف المشرِّفة، ويختمون كلامهم بذكر بعض مصائبها وآلامها.


 

 

أوْقَافُهَا وَصَدَقَاتُها (عليها السلام)

كان لها سبعة بساتين وقفتها على بني هاشم وبني المطلب، وجعلت النظر فيها والولاية لعليّ (عليه السلام) مدة حياته وبعده للحسن وبعده للحسين (عليهما السلام) وبعده للأكبر من ولدها، وكان كتاب الوقف موجوداً عند الإمام الباقر (عليه السلام) كما في كتاب الكافي للكليني، صورة الكتاب هكذا:

بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أوصت به فاطمة بنت محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله) بحوائطها السبعة: العواف والذلال والبرقة والمبيت والحسنى والصافية وما لأُمّ إبراهيم إلى عليّ بن أبي طالب، فإن مضى فإلى الحسن فإن مضى فإلى الحسين فإن مضى الحسين فإلى الأكبر من وُلدي. شهد الله على ذلك والمقداد بن الأسود والزبير بن العوام وكتب عليّ بن أبي طالب.

أما كيف وصلت هذه البساتين السبع إلى السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) فقد روى في (تاريخ المدينة) للسمهودي ج2 ص152 أن مخيرق اليهودي كان من أحبار يهود بني النضير أسلم وقُتل يوم أحد، وأوصى ببساتينه السبع إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فأوقفها النبي سنة سبع من الهجرة على خصوص فاطمة (عليها السلام) وكان يأخذ منها لأضيافه وحوائجه.

وأوصت لأزواج النبي لكل واحدة منهن اثنتا عشر أوقية، ولنساء بني هاشم مثل ذلك، ولأُمامة بنت أبي العاص بشيء[447].

إن كان بعض المسلمين لم يراعوا حرمة سيدة نساء العالمين في حياتها، وأذاقوها أنواع الذل والهوان، وقابلوها بالاعتداء والكبت، ولم يرقبوا فيها كرامتها ولا كرامة أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله).

ولم يحفظوا فيها كلام الله تعالى حيث أنزل آيات بينات في حقها وحق زوجها وولديها سيدي شباب أهل الجنة كآيات التطهير والمباهلة وسورة هل أتى وآية المودة في القربى.

وكأنَّهم لم يسمعوا وصية أبيها في حقها حيث قال: (المرء يُحفظ في وُلده) وقوله: (فاطمة بضعة مني، من آذاها فقد آذاني) وأمثال ذلك من الكلمات التي أوصى بها الرسول أمَّتُه بحق ابنته الوحيدة فاطمة الزهراء.

ولم ينصروها حينما استنجدت بهم واستنصرتهم فلم يسعفوها، ولم يتكلم منهم متكلم.

فإن الله تعالى قد حفظ لفاطمة الزهراء (عليها السلام) مقامها، ولم يبخس من حقها شيئاً، فلقد ذكرها في كتابه المجيد، وأحلَّها محلاًّ لم تدركه أية أنثى في العالم، وقد جعلها الله سيدة نساء العالمين.

وبعد هذا كله فإن الله تعالى سيُظهر عظمتها لأهل العالم كلهم في يوم القيامة.

في ذلك اليوم الذي يحشر فيه الظالمون ووجوههم مسودّة.

في ذلك اليوم الذي يعضّ الظالم على يديه.

في ذلك اليوم يجمع الله تعالى فراعنة الأمم، وهم أذلاَّء حقراء قد أذهلهم الفزع الأكبر، وقد تذكر كل منهم أعماله ومخازيه وموبقاته.

وقرأ اضبارته المليئة بهتك حرمات الله، وظلم أوليائه وإهدار دماء الأبرياء، وإذلال الصالحين.

في ذلك اليوم تتبخَّر الشخصيات الجبَّارة، وتنعدم إمكانيات الطواغيت وتسلب قدرة الفراعنة.

في ذلك اليوم تظهر عظمة الصديقة الطاهرة، ومنزلتها السامية عند ربها وجلالة قدرها وعظم شأنها.

إنه يوم عظيم، وعجيب ومدهش ومذهل.

فأنبياء الله يحشرون من قبورهم، ويتجهون نحو المحشر.

وجميع الخلائق على اختلاف أديانهم وألوانهم وأعمالهم.

وجميع الأمم على اختلاف شرائعهم.

وجميع العالمين (وحشرناهم فلم نغادر منهم أحداً).

وحتى الجنين الذي سقط عن بطن أمه قد استوى إنساناً كاملاً.

أكثرهم عراة وكلهم حفاة.

يجتمعون على صعيد المحشر، ويصطفون صفوفاً تبلغ سبعين ألف صف تبدأ الصفوف من أقصى المشرق وتنتهي إلى أقصى المغرب.

في ذلك اليوم تتجلى شخصية الزهراء عند أهل المحشر، وإليك بعض الأحاديث التي تشير إلى هذا المعنى، وقد ذكرها جمع غفير من علماء العامة أضف إليها طائفة كبيرة من تلك الأحاديث التي رويت عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وهاهي بعض تلك الأحاديث:

1 - روى الحاكم النيسابوري في (المستدرك ج3 ص153) بإسناده عن عليّ (عليه السلام) قال: سمعت النبي (صلى الله عليه وآله) يقول: إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ من وراء الحجاب: يا أهل الجمع غضّوا أبصاركم عن فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله) حتّى تمرّ.

ورواه ابن الأثير في (أُسد الغابة ج5 ص523) والكنجي الشافعي في (كفاية الطالب ص212)، والذهبي في (ميزان الاعتدال ج2 ص18) والهمذاني في (مودة القربى ص104) مع زيادة قال: عن عليّ (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ من بطنان العرش: يا أهل القيامة أغمضوا أبصاركم، لتجوز فاطمة بنت محمد مع قميص مخضوب بدم الحسين. فتحتوي على ساق العرش فتقول: أنت الجبار العدل، اقض بيننا وبين مَن قتل ولَدي. فيقضي الله بسُنَّتي وربّ الكعبة. ثم تقول: اللهم أشفعني فيمن بكى على مصيبته، فيشفّعها الله فيهم.

ومنهم الزرندي في (نظم درر السمطين) والمتقي في (كنز العمال ج13 ص93) والهيثمي في (مجمع الزوائد ج6 ص212) وابن الصباغ المالكي في (الفصول المهمة ص127) وابن أبي الحديد في (شرح النهج) وابن حجر العسقلاني في (لسان الميزان ج3 ص237).

والسيوطي في (الخصائص ج2 ص265) و(الجامع الصغير) و(التعقيبات). والكناني المصري في (تنزيه الشريعة المرفوعة) والنبهاني في (الفتح الكبير) و(جواهر البحار) والشافعي في (المناقب) والملا عليّ القاري في (جمع الوسائل) والقندوزي في (ينابيع المودة) والشبراوي في (الإتحاف بحب الأشراف) والشبلنجي في (نور الأبصار).

ويروي هذا الحديث عن أبي هريرة كلٌّ من:

أبي نعيم في (دلائل النبوة) وابن حجر الهيثمي في (الصواعق المحرقة) وغيرهما ويروي هذا الحديث أيضاً عن أبي أيوب الأنصاري كل من: الخوارزمي في (مقتل الحسين) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) ينادي مناد من بطنان العرض: يا أهل الجمع نكّسوا رؤوسكم وغضّوا أبصاركم حتى تجوز فاطمة بنت محمد على الصراط، قال: فتمرّ ومعها سبعون ألف جارية من الحور العين كالبرق اللامع.

ورواه القرماني في (أخبار الدول) والطبري في (ذخائر العقبى) وابن الصباغ في (الفصول المهمة) والصفوري في (نزهة المجالس) وغيرهم.

ويروي هذا الحديث عن ابن عمر وأبي سعيد الخدري، وغيرهما.

وقد روى جمع كثير من علماء العامة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن السيدة فاطمة الزهراء ترد المحشر على ناقة رسول الله (صلى الله عليه وآله) الغضباء أو ناقته القصوى.

2 - وعن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: قلت لأبي جعفر الباقر (عليه السلام): جعلت فداك يا بن رسول الله حدثني بحديث في فضل جدتك فاطمة، إذا أنا حدثت به الشيعة فرحوا بذلك؟

فقال أبو جعفر (عليه السلام) حدثني أبي عن جدي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: إذا كان يوم القيامة تُنصب للأنبياء والرسل منابر من نور، فيكون منبري أعلى منابرهم يوم القيامة، ثم يقول الله: اخطب، فأخطب بخطبة لم يسمع أحد من الأنبياء والرسل بمثلها، ثم يُنصب للأوصياء منابر من نور، ويُنصب لوصيي عليّ بن أبي طالب في أوساطهم منبر، فيكون منبره أعلى من منابرهم، ثم يقول الله: يا عليّ أُخطب، فيخطب بخطبة لم يسمع أحد من الأوصياء بمثلها، ثم ينصب لأولاد الأنبياء والمرسلين منابر من نور، فيكون لابنيّ وسبطيّ وريحانتي أيام حياتي منبر من نور، ثم يقال لهما اخطبا، فيخطبان بخطبتين لم يسمع أحد من أولاد الأنبياء والمرسلين بمثلها!

ثم ينادي المنادي - وهو جبرائيل (عليه السلام): أين فاطمة بنت محمد؟ .. فتقوم (عليها السلام) إلى أن قال: فيقول الله تبارك وتعالى: يا أهل الجمع لمن الكرم فيكم؟

فيقول محمد وعليّ والحسن والحسين (عليهم السلام): لله الواحد القهار. فيقول الله تعالى: يا أهل الجمع إني قد جعلتُ الكرم لمحمد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين!

يا أهل الجمع، طأطئوا الرؤوس، وغضّوا الأبصار، فإن هذه فاطمة تسير إلى الجنة، فيأتيها جبرئيل بناقة من نوق الجنة، مدّبحة الجنين، خطامها من اللؤلؤ الرطب، عليها رحل من المرجان، فتُناخ بين يديها، فتركبها، فيبعث الله مائة ألف ملك ليسيروا عن يمينها، ويبعث إليها مائة ألف ملك ليسيروا عن يسارها، ويبعث إليها مائة ألف ملك، يحملونها على أجنحتهم، حتّى يصيّروها على باب الجنة، فإذا صارت عند باب الجنة تلتفت، فيقول الله: يا بنت حبيبي ما التفاتك وقد أمرتُ بك إلى جنتي؟

فتقول: يا رب أحببتُ أن يُعرف قدري في مثل هذا اليوم!

فيقول الله: يا بنت حبيبي! ارجعي فانظري من كان في قلبه حبّ لكِ أو لأحد من ذريّتك، خُذي بيده فأدخليه الجنة!

قال أبو جعفر (عليه السلام): والله يا جابر، إنها ذلك اليوم لتلتقط شيعتها ومحبّيها، كما يلتقط الطير الحب الجيّد من الحبّ الرديء، فإذا صار شيعتها معها عند باب الجنة، يُلقي الله في قلوبهم أن يلتفتوا، فإذا التفتوا يقول الله تعالى:

يا أحبائي ما التفاتكم، وقد شفّعت فيكم فاطمة بنت حبيبي؟

فيقولون: يا رب أحببنا أن يُعرف قدرنا في مثل هذا اليوم؟!

فيقول الله: يا أحبائي ارجعوا وانظروا: من أحبّكم لحبّ فاطمة.

انظروا: من أطعمكم لحب فاطمة.

انظروا: من كساكم لحب فاطمة.

انظروا: من سقاكم شربة في حب فاطمة.

انظروا: من ردّ عنكم غيبة في حب فاطمة.

فخذوا بيده، وأدخلوه الجنة[448]..

وورد عن ابن عباس قال: سمعت أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) يقول: دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذات يوم على فاطمة وهي حزينة، فقال لها: ما حزنكِ يا بنيّة؟

قالت: يا أبة ذكرت المحشر، ووقوف الناس عراة يوم القيامة!

فقال: يا بنيّة إنه ليوم عظيم، ولكن قد أخبرني جبرئيل عن الله عز وجل أنه قال: أول من ينشق عنه الأرض يوم القيامة، أنا، ثم بعلك عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، ثم يبعث الله إليك جبرائيل في سبعين ألف ملك فيضرب على قبرك سبع قباب من نور، ثم يأتيك إسرافيل بثلاث حلل من نور، فيقف عند رأسك، فيناديك: يا فاطمة بنت محمد قومي إلى محشرك.

فتقومين آمنة روعتك، مستورة عورتك، فيُناوِلُك إسرافيل الحُلل فتلبسينها، ويأتيك روفائيل بنجيبة من نور، زمامها من لؤلؤ رطب، عليها محفّة[449] من ذهب، فتركبينها، ويقود روفائيل بزمامها، وبين يديك سبعون ألف ملك بأيديهم ألوية التسبيح، فإذا جدّ بك السير استقبلتك سبعون ألف حوراء، يستبشرون بالنظر إليك، بيد كل واحدة منهن مجمرة من نور، يسطع منها ريح العود من غير نار، وعليهن أكاليل الجوهر، مرصّعة بالزبرجد الأخضر.

وفي العاشر من البحار عن أمالي الصدوق عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: سمعت جابر بن عبد الله الأنصاري يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إذا كان يوم القيامة تُقبِل ابنتي فاطمة على ناقة من نوق الجنة.. وعن يمينها سبعون ألف ملك، وعن شمالها سبعون ألف ملك، وجبرئيل آخذ بخطام الناقة ينادي بأعلى صوته: (غضّوا أبصاركم حتى تجوز فاطمة بنت محمد) فلا يبقى يومئذ نبي ولا رسول ولا صدّيق ولا شهيد إلاَّ غضّوا أبصارهم حتى تجوز فاطمة.. فإذا النداء من قِبَل الله جل جلاله: يا حبيبتي وابنة حبيبي سليني تُعطي، واشفعي تُشَفَّعي، فوعزتي وجلالي لا جازني ظلم ظالم. فتقول: إلهي وسيدي: ذريّتي وشيعتي وشيعة ذريّتي، ومحبييّ، ومحبيّ ذريتي.

فإذا النداء من قِبَل الله جل جلاله: أين ذرية فاطمة وشيعتها ومحبّوها ومحبّو ذريّتها؟ فيُقبلون وقد أحاط بهم ملائكة الرحمة، فتتقدمهم فاطمة (عليها السلام) حتى تدخلهم الجنة.

 

أيها القارئ الكريم:

بعد ما مرّ عليك بعض تلك الأحاديث الصحيحة فقف معي موقف المتعجب من آراء مستحدثة، وأقوال مبتدعة تتحدى جميع الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تتحدث عن الشفاعة لأولياء الله، فتراهم ينكرون الشفاعة وينفونها حتى من سيد الأنبياء محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهم يحسبون أنهم يدافعون عن توحيد الله تعالى فكأن الشفاعة تناقض التوحيد، أو تدعو إلى الشرك بالله عز وجل.

استمع إلى هذه الآيات المباركة ثم أحكم:

(من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه)[450].

(ولا يشفعون إلاَّ لمن ارتضى)[451].

(ما من شفيع إلاَّ من بعد إذنه)[452].

(لا يملكون الشفاعة إلاَّ من اتخذ عند الرحمن عهداً)[453].

(يومئذ لا تنفع الشفاعة إلاَّ من أذن له الرحمن)[454].

(ولا تنفع الشفاعة عنده إلاَّ لمن أذن له)[455].

(ولا تغني شفاعتهم شيئاً إلاَّ من بعد أن يأذن الله لمن يشاء)[456].

هذه الآيات كما تراها تصرح بالشفاعة بإذن الله، وتثبت الشفاعة للشافعين، أما تكفي هذه الآيات لإثبات الشفاعة لأولياء الله أيها المسلمون؟

هذه الآيات كما تراها تصرّح بشفاعة أولياء الله في يوم القيامة وأما الشفاعة لهم في الدنيا فإليك هذه الآية المباركة الصريحة في تخويل أولياء الله الشفاعة والدعاء والاستغفار للناس، قال تعالى:

1 - (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوُك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً) فإن الآية دلَّت على أن العاصين إذا جاءوا إلى الرسول تائبين، وجعلوا يتوسلون به في طلب المغفرة من الله، واستغفر عند ذلك لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً، فلو كان الاستشفاع من النبي (صلى الله عليه وآله) شركاً بالله لما وجدوا الله تواباً رحيماً، لأن الله لا يغفر أن يشرك به.

2 - قوله تعالى حكاية من أولاد يعقوب: (يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين) وقول يعقوب (سوف استغفر بكم ربي) فإنه صريح في سؤالهم وتوسلهم بأبيهم إلى الله في الاستغفار وطلب العفو.

3 - قوله تعالى: (واستغفر لذنبك وللمؤمنين).

4 - (وصلّ عليهم إن صلاتك سكن لهم).

5 - (من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها).

هذا والبحث يحتاج إلى مزيد من التفصيل ولكن الكتاب لا يسع لذلك، بل يحتاج إلى مجال أوسع والله ولي التوفيق.


 

 

مَوَاكِبُ الشّعرَاء في رثَاءِ السَيّدَةِ الزّهَراء

إن عظمة السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) وفضائلها ومزاياها ومصائبها وما رأت من الضغط والكبت والاضطهاد كانت كافية لتهييج العواطف الجيّاشة تجاهها، فلا عجب إذا طفق الشعراء ينثرون مدائحهم للسيدة فاطمة (بمختلف اللغات) ويعبّرون عن شعورهم وحبهم ومودتهم.

وذلك حينما اهتزت ضمائرهم، فتفتحت قرائحهم، وفاضت أحاسيسهم فطفقوا يثنون على السيدة فاطمة الزهراء أحسن الثناء، ويرثونها بأوجع الرثاء.

وأي شاعر يشعر بآلام السيدة فاطمة الزهراء ولا يهيج شعوره؟ وأي إنسان يدرك مواهب السيدة فاطمة الزهراء ومزاياها ولا يعبّر عن مشاعره؟

إلاّ أن يكون شعوره متحجراً، أو إدراكه معطلاّ أو أحاسيسه راكدة وجامدة.

إن جمال حياة السيدة فاطمة الزهراء يأخذ بمجامع قلب كل حرٍ، وكل قلبٍ حرٍ سليم.

ولقد كان للشعراء مواقف مشكورة مذكورة تجاه سيدتنا فاطمة الزهراء وأخص منهم شعراء القرون الأخيرة فلقد سجلوا أروع آيات الولاء بأجمل تعبير، وصبّوها في قالب النظم والقريض مدحاً ورثاءً، وكفاهم بذلك ثمناً للجنة التي وُعد المتّقون.

فإنَّك تجد الأدب الرفيع والمستوى الأعلى والتعبير الأجمل الأرقى في كل بيت من كل قصيدة، وكأن كل بيت منها هو بيت القصيد.

وإليك طائفة من باقات الولاء التي سجلّها الشعراء في ديوان التاريخ الخالد:

ولقد أجاد المرحوم الشيخ كاظم الأزري (تغمده الله برحمته) حيث قال:

نقضوا عهد أحمد في أخيه***وأذاقوا البتول ما أشجاها

يوم جاءت إلى عديٍّ وتيمٍ***ومن الوجد ما أطال بكاها

فدنت واشتكت إلى الله شكوىً***والرواسي تهتزّ من شكواها

لست أدري إذ روّعت وهي حسرى***عاند القوم بعلها وأباها

تعظ القوم في أتم خطاب***حكت المصطفى به وحكاها

هذه الكتب فاسألوها تروها***بالمواريث ناطقاً فحواها

وبمعنى (يوصيكم الله) أمر***شامل للأنام في قرباها

فاطمأنَّت لها القلوب وكادت***أن تزول الأحقاد ممن طواها

أيها القوم راقبوا الله فينا***نحن من روضة الجليل جناها

واعلموا أننا مشاعر دين الله***فيكم فأكرموا مثواها

ولنا من خزائن الغيبِ فيض***ترد المهتدون منه هداها

أيها الناس أيّ بنت نبيٍّ***عن مواريثه أبوها زواها!

كيف يزوي عني تراثي عتيقٌ***بأحاديث من لدنه افتراها

كيف لم يوصنا بذلك مولانا؟***وتيماً من دوننا أوصاها؟

هل رآنا لا نستحق اهتداءً***واستحقت تيم الهدى فهداها؟

أم تراه أضلنا في البرايا***بعد علم لكي نصيب خَطاها؟

أنصفوني من جائرين أضاعا***حرمة المصطفى وما رعياها

 

ولشيخ الفقهاء والفلاسفة آية الله الشيخ محمد حسين الأصفهاني (رحمه الله) في مدح الزهراء (عليها السلام) ورثائها:

جوهرة القدس من الكنز الخفي***بدت فأبدت عاليات الأحرف

وقد تجلى من سماء العظمة***في عالم الأسماء أسمى كلمة

بل هي أُمّ الكلمات المحكمة***في غيب ذاتها، فكانت مبهمة

أم أئمة العقول الغرّ، بل***(أم أبيها) وهو علّة العلل

روح النبي في عظيم المنزلة***وفي الكفاء كفء من لا كفء له

تمثلّت رقيقة الوجود***لطفة جلَّت عن الشهود

تطوّرت في أفضل الأطوار***نتيجة الأدوار والأكوار

تصوّرت حقيقة الكمال***بصورة بديعة الجمال

فإنها الحوراء في النزول***وفي الصعود محور العقول

يمثّل الوجوب في الإمكان***عيانها بأحسن العيان

فإنّها قطب رحى الوجود***في قوسي النزول والصعود

وليس في محيط تلك الدائرة***مدارها الأعظم إلاَّ (الطاهرة)

مصونة عن كل رسم وسمة***مرموزة في الصحف المطهّرة

(صدّيقة) لا مثلها صدّيقة***تفرغ بالصدق عن الحقيقة

بدا بذلك الوجود الزاهر***سرّ ظهوره الحقّ في المظاهر

هي (البتول) الطهر و(العذراء) ***كمريم الطهر، ولا سواء

فإنَّها سيدة النساء***ومريم الكبرى بلا خفاء

بُشراك يا أبا (العقول العشرة)***بالبضعة الطاهرة المطهرة

مهجة قلب عالَم الإمكان***وبهجة الفردوس في الجنان

غُرّتها الغرّاء مصباح الهدى***يُعرف حسن المنتهى بالمبتدأ

وفي محيّاها بعين الأولياء***عينان من ماء الحياة والحياء

بُشراك يا خلاصة الإيجاد***بصفوة الأنجاد والأمجاد

أم الكتاب وابنة التنزيل***ربّة بيت العلم بالتأويل

بحر الندى ومجمع البحرين***قلب الهدى ومهجة الكونين

واحدة النبي أوّل العدد***ثانية الوصي نسخة الأحد

ومركز الخمسة من أهل العبا***ومحور السبع علوّاً وإبا

لك الهنا يا سيّد البرية***بأعظم المواهب السّنيّة

أتاك طاووس رياض الأنس***بنفحة من نفحات القدس

من جُنّة الأسماء والصفاء***جلّت عن المديح والثناء

فارتاحت الأرواح من شميمها***واهتزت النفوس من نسيمها

بها انتشى في الكون كل صاح***وطابت الأشباح بالأرواح

تحيى بها الأرض ومَن عليها***ومرجع الأمر غداً إليها

لهفي لها لقد أضيع قدرها***حتى توارى بالحجاب بدرها

تجرّعت من غصص الزمان***ما جاوز الحدّ من البيان

وحبّها من الصفات العالية***عليه دارت القرون الخالية

تبتّلت عن دنس الطبيعة***فيا لها من رتبة رفيعة

مرفوعة الهمة والعزيمة***عن نشأة الزخارف الذميمة

في أفق المجد هي الزهراء***للشمس من زهرتها الضياء

بل هي نور عالَم الأنوار***ومطلع الشموس والأقمار

رضيعة الوحي من الجليل***حليفة لمحكم التنزيل

مفطومة عن زلل الأهواء***معصومة عن وصمة الخطاء

معربة بالستر والحياء***عن غيب ذات بارئ الأشياء

(راضية) بكل ما قضى القضا***بما يضيق عنه واسع الفضاء

(زكية) عن وصمة القيود***فهي غنيّة عن الحدود

يا قِبلة الأرواح والعقول***وكعبة الشهود والوصولِ

مَن بقدومها تشرفت (منى)***ومن بها تدرك غاية المنى

وبابها الرفيع باب الرحمة***ومستجار كلّ ذي ملمّة

وما الحطيم عند باب فاطمة***بنورها تطفأ نار الحاطمة

وبيتها المعمور كعبة السما***أضحى ثراه للثريا مَلثما

وخدرها السامي رواق العظمة***وهو مطاف الكعبة المعظمة

حجابها مثل حجاب الباري***بارقة تذهب بالأبصار

تمثل الواجب في حجابها***فكيف بالإشراق من قبابها

يا درة العصمة والولاية***من صدف الحكمة والعناية

فالكوكب الدرّي في السماء***من ضوء تلك الدرة البيضاء

والنيّر الأعظم منها كالسّها***كيف ولا حدّ لها ومنتهى

أشرقت العوالم العلوية***بنور تلك الدرة البهية

يا دوحة حازت سنام الفلك***بل جاوز السدرة فرعها الزكي

يا دوحة أغصانها تدلّت***بموضع فيه العقول ضلّت

دنت إلى مقام (أو أدنى) فلا***تبتغ من ذلك أعلى مثلا

يا شجرة الطور وأين الشجرة***من دوحة المجد الأثيل المثمرة؟

وإنما السدرة والزيتونة***عنوان تلك الدوحة الميمونة

أثمارها الغرّ مجالي الذات***مظاهر الأسماء والصفات

مبادئ الحياة في البداية***ومنتهى الغايات للنهاية

أثمارها عزائم القرآن***في صفحات مصحف الإمكان

أثمارها منابت للمعرفة***من جنة الذات غدت مقتطفة

لك الهنا يا (سيد الوجود)***في نشآت الغيب والشهود

بمن تعالى شأنها عن مثل***كيف ولا تكرار في التجلّي

لا يتثنى هيكل التوحيد***فكيف بالنظير والنديد

وملتقى القوسين نقطة، فلا***ترى لها ثانية أو بدلا

وحيدة في مجدها القديم***فريدة في أحسن التقويم

وما أصابها من المصاب***مفتاح بابه (حديث الباب)

إن حديث الباب ذو شجون***مما به جنت يد الخؤون

أيهجم العدى على بيت الهدى***ومهبط الوحي ومنتدى الندى؟

أيضرم النار بباب دارها***وآية النور علا منارها

وبابها باب نبي الرحمة***وباب أبواب نجاة الأمة

بل بابها باب العلي الأعلى***فثمّ وجه الله قد تجلىَّ

ما اكتسبوا بالنار غير العار***ومن ورائه عذاب النار

ما أجهل القوم فإن النار لا***تطفئ نور الله جل وعلا

وإن كسر الضلع ليس ينجبر***إلاَّ بصمصام عزيز مقتدر

إذ رضّ تلك الأضلع الزكية***رزية لا مثلها رزية

ومن نبوع الدم من ثدييها***يُعرف عُظم ما جرى عليها

وجاوز الحد بلطم الخدّ***شلّت يد الطغيان والتعديّ

فاحمرت العين، وعين المعرفة***تذرف بالدمع على تلك الصفة

ولا تزيل حمرة العين سوى***بيض السيوف يوم ينشر اللوى

وللسياط رنة، صداها***في مسمع الدهر، فما أشجاها

والأثر الباقي كمثل الدملج***في عضد الزهراء أقوى الحجج

ومن سواد متنها أسودّ الفضا***يا ساعد الله العلي المرتضى

ووكز نعل السيف في جنبيها***أتى بكل ما أتى عليها

ولست أدري خبر المسمار***سل صدرَها خزانة الأسرار

وفي جنين المجد ما يُدمي الحشا***وهل لهم إخفاء أمر قد فشا

والبابُ والجدار والدماءُ***شهود صدق ما به خفاء

لقد جنى الجاني على جنينها***فاندكت الجبال من حنينها

أهكذا يُصنع بابنة النبي***حرصاً على الملك فيا للعجب

أتُمنع المكروبة المقروحة***عن البكاء خوفاً من الفضيحة

تالله ينبغي لها تبكي دماً***ما دامت الأرض ودارت السما

لفقد عزها: أبيها السامي***ولاهتضامها وذُلّ الحامي

أتستباح نحلة الصدّيقة***وإرثها من أشرف الخليفة؟

كيف يُردّ قولها بالزور***إذ هو ردّ آية التطهير

أيؤْخذ الدين من الأعرابي***وينبذ المنصوص بالكتاب

فاستلبوا ما ملكت يداها***وارتكبوا الجريمة مُنتهاها

يا ويلهم قد سألوها البيّنة***على خلاف السنّة المبيّنة

وردّهم شهادة الشهود***أكبر شاهد على المقصود

ولم يكن سدّ الثغور غرَضاً***بل سدّ بابها وباب المرتضى

صدّوا عن الحق وسدّوا بابه***كأنّهم قد أمنوا عقابه

أبضعة الطهر، العظيم قدرها***تدفن ليلاً ويعفّى قبرها

ما دُفنت ليلاً بستر وخفا***إلاَّ لوجدها على أهل الجفا

ما سمع السامع فيما سمعا***مجهولة بالقدر وبالقبر معاً

يا ويلهم من غضب الجبّار***بظلمهم ريحانة المختار

 

ومن قصيدة لبعض الشعراء المتأخرين:

إن قيل حوّاء قلت: فاطم فخرها***أو قيل مريم قلت: فاطم أفضل

أفهل لحوّا والد كمحمد؟***أم هل لمريم مثل فاطم أشبُلُ

كلٌّ لها حين الولادة حالة***منها عقول ذوي البصائر تذهل

هذي لنخلتها التجت فتساقطت***رطباً جنياً فهي منه تأكل

وضعت بعيسى وهي غير مروعة***أنّي وحارسها السرّي الأبسل

وإلى الجدار وصفحة الباب التجت***بنت النبي فأسقطت ما تحمل

سقطت وأسقطت الجنين وحولها***من كل ذي حسب لئيم جحفل

هذا يعنّفها وذاك يدعّها***ويردها هذا وهذا يركل

وأمامها أسد الأسود، يقوده***بالحبل قنفذ هل كهذا معضل

ولسوف تأْتي في القيامة فاطم***تشكو إلى رب السماء وتعول

ولترفعنَّ جنينها وحنينها***بشكاية منها السماء تتزلزل

ربّاه! ميراثي وبعلي حقَّه***غصبوا، وأبنائي جميعاً قُتّلوا

فرخاي: ذا بالسُمّ أمسى قلبه***قطعاً، وهذا بالدماء مغسّل

 

ومن قصيدة لبعض أشراف مكة نقتطف منها بعضها:

وأتت فاطم تطالب بالإرث***من المصطفى فما ورّثاها

ليت شعري لِمَ خولفت سنن***القرآن فيها؟ والله قد أعلاها

نُسخت آية المواريث منها***أم هُما بعد فرضها بدّلاها؟

أم ترى آية المودة لم تأْ***تِ بوُدّ الزهراء في قرباها

ثم قالا: أبوكِ جاء بهذا***حجة من عنادهم نصباها

قال: للأنبياء حكم بأن لا***يُورثوا في القديم وانتهراها

أفَبِنتُ النبي لم تدر إن كا***ن نبي الهدى بذلك فاها؟

بضعة من محمد خالفت ما***قال؟ حاشا مولاتنا حاشاها

سمعته يقول ذاك وجاءت***تطلب الإرث ضلّةً وسفاها؟

هي كانت لله أتقي وكانت***أفضل الخلق عفَّةً ونزاها

أو تقول: النبي قد خالف القر***آن؟ ويح الأخبار ممن رواها

سل بإبطال قولهم سورة النمـ***ـل، وسَل مريم التي قبل طه

فهُما ينبئان عن إرث يحيى***وسليمان من أراد انتباها

فدعت واشتكت إلى الله من ذاك***وفاضت بدمعها مقلتاها

ثم قالت: فنَحلة لي من والدي***المصطفى فلم ينحلاها

فأقامت بها شهوداً فقالوا:***بعلها شاهد لها وابناها

لم يجيزوا شهادة أبنيْ رسول***الله هادي الأنام إذ ناصباها

لم يكن صادقاً عليّ ولا فاطمة***عندهم ولا ولداها

جرّعاها من بعد والدها الـ***ـغيظ مراراً فبئس ما جرّعاها

ليت شعري ما كان ضرّهما الحفـ***ـظ لعهد النبي لو حفظاها

كان إكرام خاتم الرسل الها***دي البشير النذير لو أكرماها

ولكان الجميل أن يقطعاها***فدكاً، لا الجميل أن يقطعاها

أترى المسلمين كانوا يلومو***نهما في العطاء لو أعطياها

كانت تحت الخضراء بنت نبيٍ***صادقٍ ناطقٍ أمينٍ سواها

بنت مَن؟ أُمّ مَن؟ حليلة مَن؟***ويل لمن سنّ ظلمها وأذاها

شيّعت نفسَها في أجرها أم عناداً***لأبيها النبي لم يتبعاها؟

أم لأن البتول أوصت بأن لا***يشهدا دفنها فما شهداها

لا نبي الهدى أُطيع، ولا فا***طمة أُكرمت ولا حسناها

.. إلى آخر القصيدة.

 


 

 

ختَام وَاعتذار

أيها القارئ الكريم:

لقد قضينا معك فترة من الزمان في رحاب السيدة فاطمة الزهراء عليها السَّلاَم وذكرنا الشيء اليسير مما يتعلق بحياة سيدة نساء العالمين ويجب أن لا ننسى أننا لم نذكر إلا بعض المقتطفات من ترجمة السيدة الزهراء، فلو أردنا أن نذكر - هنا - ما سجلته التواريخ واحتوته موسوعات الأحاديث لكان هذا الكتاب أضعاف هذا الحجم من حيث غزارة المواد ولكننا اكتفينا هنا بما يسهل قبوله ولا يعسر على العقول هضمه ولا يصعب على النفوس تحمّله، ولئلا يتهمنا المتهمون بالغلو والإفراط.

وبعد هذا كله فإنني أقبل كل نقدٍ علمي أو أدبي أو تاريخي بكل ترحيب وتقدير، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

محمد كاظم القزويني

كربلاء المقدسة ـ العراق

 


 

 

الفهرس

الإهداء

المقدمة    

المدخل    

كلمة قصيرة حول المرأة في الإسلام       

الأقلام التي أساءت إلى السيدة فاطمة الزهراء (عليها السَّلاَم)

مواقف الأجانب تجاه السيدة فاطمة الزهراء (عليها السَّلاَم)

أضاليل وأباطيل بعض الكتب المسمومة

تزييف الأكاذيب وتفنيدها ...

أحاديث حول السيدة فاطمة الزهراء (عليها السَّلاَم)

تزييف التهم الموجهة إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)

الدفاع عن قدسية الإِمام أمير المؤمنين (عليه السلام)

أحاديث حول الإِمام أمير المؤمنين (عليه السلام)

قانون الوراثة

زواج الرسول الأعظم بالسيدة خديجة الكبرى (عليها السَّلاَم)

السيدة خديجة على أبواب السعادة

كلمة خاطفة حول الماورائيات

حقائق ثابتة في الكون

الرسول يعتزل السيدة خديجة (عليها السَّلاَم)

انتهاء الفترة ونزول الطعام من الجنة

انعقاد نطفة السيدة فاطمة الزهراء (عليها السَّلاَم) من طعام الجنة

كلمة قصيرة حول المعراج

فاطمة الزهراء (عليها السَّلاَم) تكلم أُمها في بطنها

فاطمة الزهراء (عليها السَّلاَم) تطل على الحياة

الأقوال حول فاطمة الزهراء (عليها السَّلاَم)

الدنيا تستقبل فاطمة الزهراء (عليها السَّلاَم)

التسمية

أسماؤها (عليها السَّلاَم)

فاطمة (عليها السَّلاَم)

كلمة حول عالم الذر والميثاق

فاطمة الزهراء (عليها السَّلاَم) في العالم الأعلى

الصديقة (عليها السَّلاَم)

المباركة (عليها السَّلاَم)

إحصائيات ذرية عليّ وفاطمة (عليهما السلام)

كلمات حول الانتساب إلى الرسول (صلى الله عليه وآله)

أحاديث حول الانتساب إلى الرسول (صلى الله عليه وآله)

تصريحات الرسول حول الانتساب إليه (صلى الله عليه وآله)

كلمة حول أبوها الرسول (صلى الله عليه وآله)

الطاهرة (عليها السَّلاَم)

مصادر آية التطهير

كلمة حول العصمة

حديث الكساء

حديث الكساء المنظوم

الزكية (عليها السَّلاَم)

الراضية (عليها السَّلاَم)

المرضية (عليها السَّلاَم)

المحدّثة (عليها السَّلاَم)

النساء المحدّثات

بحث حول المحدّثة (عليها السَّلاَم)

مصحف فاطمة (عليها السَّلاَم)

الزهراء (عليها السَّلاَم)

البتول (عليها السَّلاَم)

أحاديث حول البتول (عليها السَّلاَم)

العذراء (عليها السَّلاَم)

حياتها ونشأتها (عليها السَّلاَم)

حياة الزهراء (عليها السَّلاَم) في مكة

مواقف أبي طالب (عليه السلام) في نصر الرسول (صلى الله عليه وآله)

أشعار أبي طالب المنبئة عن إسلامه وإيمانه (عليه السلام)

وفاة السيدة خديجة الكبرى (عليها السَّلاَم)

وفاة أبي طالب ورثاؤه (عليه السلام)

فاطمة الزهراء (عليها السَّلاَم) والهجرة

وصول الزهراء (عليها السَّلاَم) إلى المدينة

فاطمة الزهراء (عليها السَّلاَم) يوم أُحد

الزهراء (عليها السَّلاَم) عند مصرع حمزة

أبيات لأمير المؤمنين يخاطب السيدة فاطمة (عليهما السلام)

كلمة خاطفة حول بعض الأكاذيب المستحدثة

مشاكل السيدة فاطمة (عليها السَّلاَم) في دار أبيها (صلى الله عليه وآله)

فاطمة الزهراء (عليها السَّلاَم) على أعتاب الزواج

كلمة في تحقيق سن الزهراء (عليها السَّلاَم) يوم زواجها

محاولات فاشلة

عليّ يخطب الزهراء والرسول يستأذنها (عليها السَّلاَم)

تمت الموافقة

حفلة العقد في السماوات العلا

خطبة التزويج

النثار في حفلة الزواج

تأثيث البيت وقائمة جميع الأثاث

همسة في آذان العزاب والعوانس

من صداق فاطمة (عليها السَّلاَم) الشفاعة يوم القيامة

الزفاف ومقدماته

وليمة الزفاف

مغامرة في الإِنفاق في سبيل الله

الدعوة إلى الوليمة

ليلة الزفاف

أهل السماء يشتركون في مسيرة الزفاف

أراجيز في موكب الزهراء (عليها السَّلاَم)

الأقوال حول سنة زواجها (عليها السَّلاَم)

مشكلة أسماء بنت عميس وأُم سلمة .

بيت فاطمة (عليها السَّلاَم)

حياتها الزوجية (عليها السَّلاَم)

أكذوبة التاريخ في حق عليّ (عليه السلام)

ولادة الإِمام الحسن (عليه السلام)

ولادة الإِمام الحسين (عليه السلام)

ولادة السيدة زينب (عليها السَّلاَم)

ولادة أُم كلثوم (عليها السَّلاَم)

فاطمة الزهراء (عليها السَّلاَم) في آية القربى

فاطمة الزهراء (عليها السَّلاَم) في آية المباهلة

فاطمة الزهراء (عليها السَّلاَم) في سورة هل أتى

زهدها وإنفاقها (عليها السلام)

عبادتها (عليها السلام)

تسبيح فاطمة الزهراء (عليها السلام)

مكانة فاطمة الزهراء (عليها السلام) عند أبيها الرسول (صلى الله عليه وآله) 

أفضلية فاطمة الزهراء (عليها السلام)

سيدات أهل الجنة

فاطمة الزهراء (عليها السلام) سيدة نساء العالمين

منزلة فاطمة الزهراء (عليها السلام) عند أبيها (صلى الله عليه وآله)

منزلتها عند الله ..

إكرام ذرية فاطمة الزهراء (عليها السلام) .

مكانة الزهراء عند أبيها (صلى الله عليه وآله)

فاطمة الزهراء (عليها السلام) تلميذة الرسول (صلى الله عليه وآله) .

فاطمة الزهراء (عليها السلام) والعلم

من سلّم على فاطمة الزهراء (عليها السلام)

فاطمة الزهراء (عليها السلام) والحجاب 

الحجاب ضرورة اجتماعية

فاطمة الزهراء (عليها السلام) والدعاء

أكذوبة العقاد

النبي يخبر الزهراء عن المستقبل

فاطمة الزهراء (عليها السلام) في مصيبة أبيها (صلى الله عليه وآله)

فاطمة الزهراء (عليها السلام) تودع أباها (صلى الله عليه وآله)

النبي يفارق الحياة

فاطمة الزهراء (عليها السلام) بعد وفاة أبيها الرسول (صلى الله عليه وآله)

فاطمة ترثي أباها .

فاطمة الزهراء (عليها السلام) في مهب الأعاصير

مدخل خطبة فاطمة الزهراء (عليها السلام)

الأقوال حول فدك

فدك ملك لفاطمة من ثلاثة وجوه

الإمام يطالب بفدك

الشهود يشهدون بفدك

الزهراء تطالب بالإرث

مصادر خطبة فاطمة (عليها السلام)

السر في مطالبة فاطمة بفدك

استراتيجية الخطبة

الخطبة معجزة فاطمة (عليها السلام)

رؤوس نقاط الخطبة

خطبتها في المسجد

شرح الخطبة

حديثها (عليها السلام) حول التوحيد

حديثها (عليها السلام) حول الموجودات

حديثها (عليها السلام) حول النبوة

خطابها (عليها السلام) إلى الحاضرين

شرح الخطبة

حول القرآن

حول فلسفة الأحكام

حول الإِمامة

برُّ الوالدين

القصاص

كرامة الإِنسان

اليتامى

الزهراء تطالب بحقها

شرح الخطبة

فاطمة الزهراء (عليها السلام) تعرّف نفسها للملأ

فاطمة الزهراء (عليها السلام) تعرّف زوجها (عليه السلام)

الزهراء تتحدث عن إنجازات الرسول (صلى الله عليه وآله)

استعراض الوضع الجاهلي

مؤامرات المشركين على الإِسلام

المواقف المشرفة لأمير المؤمنين (عليه السلام)

التحدث عن فترة الانقلاب

شرح الخطبة

مؤامرات ضد الرسول (صلى الله عليه وآله)

عتاب شديد مع المسلمين

خطوط المؤامرة

فاطمة الزهراء (عليها السلام) تخاصم الرئيس

شرح الخطبة

الزهراء (عليها السلام) تستدل بالقرآن

الزهراء (عليها السلام) تهدد الغاضبين

توجيه الخطاب إلى الأنصار

مضاعفات وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله)

الزهراء (عليها السلام) تشير إلى الردة

عتاب وخطاب مع المسلمين

شرح الخطبة

السوابق المشرقة للأنصار

فاطمة الزهراء (عليها السلام) تنذر الغاضبين

جواب أبي بكر والاعتراف بفضائل علي (عليه السلام)

شرح جواب أبي بكر

تكذيب الحديث المنسوب إلى الرسول (صلى الله عليه وآله)

ألعاب سياسية

جواب الزهراء (عليها السلام).. مطابقة لكلام الرسول مع القرآن

شرح جوابها لأبي بكر

التحاكم إلى كتاب الله ..

جواب أبي بكر

فاطمة الزهراء (عليها السلام) توجه الخطاب إلى الحاضرين في عتاب مع المتخاذلين

شرح الخطاب

الزهراء تلوذ بقبر الرسول (صلى الله عليه وآله)

الإساءة إلى أهل البيت (عليهم السلام)

رجوعها إلى الدار وكلامها مع زوجها (عليهما السلام)

فاطمة تذكر زوجها بمواقفه المشرفة

التألم من المصائب

خطبة الزهراء (عليها السلام) في نساء المهاجرين والأنصار

عيادة النساء للزهراء (عليها السلام)

المواقف السلبية

ماذا وراء غصب الخلافة

عظمة أمير المؤمنين (عليه السلام)

الحاقدون على الإِمام (عليه السلام)

كفاءات أمير المؤمنين

عندما يتسلم الإِمام القيادة

الإِمام يعيد الإِسلام إلى قداسته

كتاب الله وعترتي

الذين ظلموا أهل البيت

مآسي الفتنة وعواقبها

فاطمة الزهراء (عليها السلام) تخبر عن نتائج الأعمال

واقعة الحرة

تطبيق الخبر مع الواقع

الرجال يعودون السيدة فاطمة (عليها السلام)

السيدة فاطمة (عليها السلام) تطرد المعذرين

مصادر الخطبة

إتمام الحجة على المهاجرين والأنصار

الزهراء في بيت الأحزان

الزهراء طريحة الفراش

العلاقات بين الزهراء وأسماء

الاستياء العام

عيادة الشيخين

كلمة الجاحظ

العباس يحاول عيادة فاطمة (عليها السلام)

الاستعداد للرحيل

وداعاً يا أطفالي

وصايا فاطمة (عليها السلام)

حنوط الجنة

كلمة حول الاغتسال قبل الوفاة

فاطمة تفارق الحياة

الإِمام يغسل الزهراء (عليها السلام)

وداعاً يا أُماه 

مراحل التجهيز والصلاة

الزهراء ناقمة حتى الموت

القبر المجهول

هياج الأحزان 

الإِمام يشكو إلى الرسول (صلى الله عليه وآله)

محاولات فاشلة

عليّ في تأبين الزهراء (عليهما السلام)

تاريخ وفاتها (عليها السلام)

أوقافها وصدقاتها (عليها السلام)

الزهراء يوم المحشر

أحاديث في شفاعة الزهراء (عليها السلام)

موكب الشعراء في رثاء الزهراء (عليها السلام)

ختام واعتذار

الفهرس

 


 

([1]) سيأتيك التفصيل في شرح خطبتها في مسجد أبيها والرسول.

([2]) أي جاء بالكذب والباطل.

([3]) مثل يضرب، يراد أنه لا يطمع في خيره.

([4]) يعي أن الأمور تتشاكل في الجودة والرداءة.

([5]) تاريخ الخطيب البغدادي: ج5 ص86.

([6]) الصواعق: ص96 إسعاف الراغبين ص173.

([7]) نزهة المجالس: ج2 ص222.

([8]) جثل الشعر: كثر والتف واسود. والأسحم: الأسود.

([9]) مستدرك الحاكم: ج3 ص161.

([10]) سيرة الملا، ذخائر العقبى.

 ([11]) الترمذي، وابن عبد ربه في العقد الفريد: ج2 ص3.

([12]) الاستيعاب: ج2 ص469.

([13]) تهذيب الأسماء واللغات.

([14]) حلية الأولياء: ج1 ص84.

([15]) تذكرة السبط ص104.

([16]) سورة البقرة: الآية 203.

([17]) تاريخ بغداد للخطيب ج21 ص171.

([18]) الطبري، الخطيب، الدولابي كما في كنز العمال: ج6 ص153.

([19]) مسند أحمد: ج5 ص26 الرياض النضرة: ج2 ص194.

([20]) الرياض النضرة: ج2 ص182.

([21]) مستدرك الحاكم:ج3 ص154، تذكرة السبط 175 مقتل الخوارزمي ج1 ص52، كفاية الطالب ص219، كنز العمال ج7 ص111، الصواعق ص105 وغيرها.

([22]) الفصول المهمة 150 نزهة المجالس ج2 ص228 نور الأبصار ص45.

([23]) صحاح البخاري ومسلم والترمذي، مسند أحمد ج4 ص328 الخصائص للنسائي ص35.

([24]) صحيح البخاري، خصائص النسائي ص35.

([25]) مسند أحمد ج4 ص323 الصواعق المحرقة 113.

([26]) أكثر المصادر التاريخية.

([27]) الرياض النضرة ج2 ص161 ذخائر العقبى 62.

([28]) وفي لفظ: أحب أهلي.

([29]) مواقف الأيجي ج3 ص276 مجمع الزوائد ج9 ص113.

([30]) تاريخ بغداد للخطيب ج4 ص392.

([31]) تاريخ بغداد، كنوز الحقائق، هامش الجامع الصغير، ص16 كنز العمال ج6 ص159.

([32]) تاريخ بغداد ج3 ص192 كنز العمال ج6 ص159.

([33]) تاريخ بغداد ج7 ص12 الصواعق 75، الجامع الصغير للسيوطي، نور الأبصار: ص80.

([34]) السيرة الحلبية ج3 ص391 الرياض النضرة ج2 ص163.

([35]) تاريخ بغداد ج1 ص160.

([36]) مسند أحمد ج5 ص204، الخصائص للنسائي 36و51.

([37]) مسند أحمد ج5 ص356.

([38]) الخصائص للنسائي 8 وغيره.

([39]) المحاسن والمساوئ ج1 ص31، مناقب الخوارزمي 76، 83، 87.

([40]) الرياضة النضرة ج2 ص164.

([41]) الصواعق 73، تاريخ الخلفاء للسيوطي 116.

([42]) مستدرك الحاكم ج3 ص154، الخصائص للنسائي 29.

([43]) الخصائص للنسائي 29، مستدرك الحاكم ج3 ص155.

([44]) الطبراني، كنز العمال ج6 ص153، مجمع الزوائد ج9 ص165.

([45]) مواقف الآيجي ص8.

([46]) أمالي الشيخ.

([47]) الاستيعاب.

([48]) جنات الخلود.

([49]) بحار الأنوار ج6.

([50]) البلاذري، وأبو القاسم في كتابيهما، والمرتضى في الشافي. وأبو جعفر في التلخيص، وابن آشوب في المنتقب.

([51]) التقطنا تفاصيل زواج السيدة خديجة من الجزء السادس من كتاب بحار الأنوار للعلامة المجلسي.

([52]) الأمالي للصدوق.

([53]) علل الشرائع.

([54]) بحار الأنوار: ج6.

([55]) التقطنا هذه الأحاديث من الجزء العاشر من بحار الأنوار للمجلسي.

([56]) سورة مريم: الآية 5-7.

([57]) بحار الأنوار: ج10.

([58]) سيأتيك شرح هذه الكلمة قريباً.

([59]) اقتطفنا هذه الأحاديث من الجزء العاشر من بحار الأنوار للمجلسي.

([60]) سورة الأعراف: آية 172.

([61]) سورة الأحزاب: آية 37.

([62]) الدكان: شيء كالمصطبة يقعد عليه.

([63]) العاشر من بحار الأنوار.

([64]) مجمع البيان في تفسير الآية.

([65]) سورة مريم: الآيات 16 - 21.

([66]) سورة هود: الآيات 71 - 73.

([67]) سورة مريم: آية 11.

([68]) سورة فصلت: آية 12.

([69]) سورة المائدة: آية 111.

([70]) سورة الأنفال: آية 12.

([71]) سورة النحل: آية 68.

([72]) سورة القصص: آية 7.

([73]) سورة طه: آية 38.

([74]) (مجمع البيان) سورة مريم.

([75]) الخامس من بحار الأنوار.

([76]) تعلَّم أي اعلم.

([77]) وقد ضمنّ حسان بن ثابت هذا البيت في قصيدته في مدح الرسول.

([78]) القنابل: جمع قنبلة - الطائفة من الناس أو الخيل - وفي الاصطلاح الحديث هي القذيفة المحشوة بمواد متفجرة أو حارقة، وهي غير مقصودة هنا.

([79]) بحار الأنوار ج6.

([80]) مسند أحمد.

([81]) الكنى والألقاب.

([82]) السادس من بحار الأنوار.

([83]) فضائل أحمد بن حنبل، والنسائي في الخصائص ص31 وابن الجوزي في التذكرة ص316.

([84]) الناضح: البعير الذي يُحمل عليه الماء.

([85]) المجلد العاشر من بحار الأنوار.

([86]) من لا يحضره الفقيه.

([87]) الكافي.

([88]) سنوافيك في أواخر هذا الكتاب بطائفة كبيرة من الأحاديث حول شفاعتها يوم القيامة.

([89]) أمالي الشيخ.

([90]) لأن شبّر كلمة عبرية وليست عربية.

([91]) الجزء العاشر من بحار الأنوار.

([92]) الجزء العاشر من بحار الأنوار.

([93]) ابن حزم في جمهرة أنساب العرب. والطبري في تاريخه.

([94]) الجزء الثامن من كتاب بحار الأنوار.

([95]) السمل: الثوب الخلق. تهلل الثوب: انحرق.

([96]) ارشني: أحسن إليّ.

([97]) القرظ شيء يدبغ به الجلد.

([98]) أي: جائعاً.

([99]) أحبّ أهله أي أهل رسول الله بقرينة المقام.

([100]) مجلت: ثخن جلدها.

([101]) دكنت: اغبرت واتسخت.

([102]) حُدّاث: جماعة يتحدثون.

([103]) لفاع: لحاف.

([104]) السلام إذا كان للاستئذان لا يجب ردّه، والله العالم.

([105]) الرقيق: العبيد والجواري يطلق على المفرد والجمع.

([106]) مسند أحمد ج2 ص293، والاستيعاب في ترجمة خديجة.

([107]) نفس المصدر.

([108]) الاستيعاب، والإصابة في ترجمة الزهراء.

([109]) أي: أسر لها.

([110]) هكذا وجدنا في المتن، والأصح: يعارضني.

([111]) طبقات ابن سعد ج2.

([112]) مسند أحمد ج6 ص282.

([113]) أي: يسرّني ما يسرّها، لأن الإنسان إذا سرّ انبسط وجهه.

([114]) الشجنة أي: القطعة والبضعة.

([115]) العُكنة - بضم العين - اللحم المنثني من البطن.

([116]) أي: لام الناس عمر بن عبد العزيز.

([117]) أظنه النوفلي من أصحاب الإمام الباقر (عليه السلام)، ذكره المامقاني في رجاله، وليس المقصود يزيد بن عبد الملك المرواني فإن أباه وجدّه كانا منفيين من المدينة إلى الطائف لبغضهما لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم يعودا إلى المدينة إلاَّ في عهد عثمان.

([118]) أي: ما اشتعلت نار للطبخ في بيوت رسول الله (صلى الله عليه وآله) منذ شهر.

([119]) يبدو أن الجملة الخامسة قد سقطت من المصدر.

([120]) العرق - بكسر العين وسكون الراء - اللحم الذي على العظم.

([121]) ص53.

([122]) أي من حيث الشبه بالمنزلة.

([123]) البخاري ج5 ص15.

([124]) المنتقى ص178.

([125]) الاحتجاج.

([126]) العاشر من بحار الأنوار عن من لا يحضره الفقيه.

([127]) مقتل الحسين للخوارزمي.

([128]) الاحتجاج 137 وبحار الأنوار ج10.

([129]) والعجب: أن معاوية يشمت بالإمام عليّ (عليه السلام) بهذه المأساة ويكتب إليه.. وتقاد إلى كل منهم كما يقاد الجمل المخشوش حتى تبايع كارهاً.. الخ. شرح ابن أبي الحديد ج4. فأجابه الإمام (عليه السلام).. وقلتَ: إني كنت أقاد كما يقاد الجمل المخشوش حتى أبايع، ولعمرو الله لقد أردت أن تذمّ فمدحت، وأن تفضح فافتضحت وما على المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوماً ما لم يكن شاكاً في دينه، ولا مرتاباً بيقينه، وهذه حجتي إلى غيرك قصدها، ولكني أطلقت لك بقدر ما سنح من ذكرها.. الخ. نهج البلاغة باب كتبه (عليه السلام).

([130]) أي انطبقت السماء على الأرض. تجد الحديث في بحار الأنوار عن الاختصاص.

([131]) الاحتجاج وتاريخ اليعقوبي.

([132]) سورة الحشر: آية7.

([133]) نهج البلاغة باب (المختار من رسائله (عليه السلام)).

([134]) لاثت: شدّت. والخمار: ثوب يغطى به الرأس.

([135]) اللّمة - بضم اللام وتخفيف الميم -: الجماعة: الحفدة، الخدم.

([136]) كناية عن شدة التستر .

([137]) ما تنقص مشيتها عن مشية أبيها من حيث الوقار والكيفية.

([138]) الحشد: الجماعة

([139]) نيطت: علّقت والملاءَة الإزار والثوب الليّن الرقيق.

([140]) النشيج: صوت البكاء مع التوجع. والفورة: الشدّة.

([141]) سبوغ النعم: اتساعها.

([142]) جمَّ: كثر.

([143]) نأى: بَعُد. وهكذا تفاوت.

([144]) ندبهم: دعاهم والاستزادة: طلب زيادة الشكر. وهكذا استحمد.

([145]) ثنى بالندب: أي كما أنه ندبهم لاستزادتها كذلك ندبهم إلى أمثالها من موجبات الثواب.

([146]) جعل القلوب محتوية لمعنى كلمة التوحيد.

([147]) أحدثها.

([148]) الاحتذاء: الاقتداء. وحذو النعل بالنعل أي قطع النعل على مثال النعل وقدرها.

([149]) ذرأها: خلقها.

([150]) ذيادة: منعاً.

([151]) حياشة لهم: سوقهم.

([152]) اجتبله: فطره.

([153]) المآئل: جمع مئال - أي المرجع.

([154]) ظُلم: جمع ظلمة.

([155]) البُهم: جمع بهمة وهي مشكلات الأمور.

([156]) الغمم - جمع غمّة - الشيء الملتبس المستور.

([157]) منصوبون لأوامره ونواهيه.

([158]) أمناء: جمع أمين.

([159]) البلغاء - جمع بليغ، والمقصود - هنا - المبلغ.

([160]) الساطع: المرتفع.

([161]) اللامع: المضيء.

([162]) البصائر: جمع بصيرة، والمراد - هنا -: الحجج والبراهين. والسرائر: جمع سريرة، والمقصود - هنا -: الأسرار الخفية واللطائف الدقيقة.

([163]) متجلية: منكشفة.

([164]) الغبطة: أن تتمنى مثل حال المغبوط إذا كان بحالة حسنة.

([165]) العزائم - جمع عزيمة -: الفريضة التي افترضها الله.

([166]) الجالية: الواضحة.

([167]) المندوبة: المدعو إليها.

([168]) المكتوبة - هنا -: الواجبة.

([169]) التنسيق: التنظيم.

([170]) منماة - على وزن مسجاة -: اسم آلة النموّ، ولعلها مصدر ميمي للنموّ.

([171]) حقناً: حفظاً.

([172]) تعريضاً: إذا جعلته في عرضة الشيء.

([173]) المكاييل - جمع مكيال: وهو ما يكال به. والموازين: جمع ميزان. والبخس: النقص.

([174]) سورة التغابن: آية 8.

([175]) سورة ص: آية 26.

([176]) سورة العنكبوت: آية 29.

([177]) سورة الفرقان: آية 53

([178]) سورة الأنبياء: آية 73

([179]) سورة البقرة: آية 124

([180]) سورة الفرقان: آية 74

([181]) سورة طه: آية 29

([182]) سورة العنكبوت: آية 8

([183]) سورة البقرة: آية 215

([184]) سورة النساء: آية 36

([185]) سورة الأنعام: آية 151

([186]) سورة الإسراء: الآيتان 23 و24

([187]) سورة لقمان: الآيتان 14 و15

([188]) سورة الأحقاف: الآيتان 15 و16.

([189]) سورة البقرة: آية 179.

([190]) سورة النور: آية 5.

([191]) سورة النور: آية 23.

([192]) عوداً وبدءاً: آخراً وأولاً.

([193]) شططاً: ظلماً وجوراً.

([194]) سورة التوبة: آية 129

([195]) تعزوه: تنسبوه.

([196]) المعزي إليه: المنسوب إليه.

([197]) صادعاً: مُظهراً . النذارة: الإنذار والتخويف.

([198]) مدرجة المشركين: طريقهم ومسلكهم.

([199]) الثبج - بفتح الثاء والباء -: الكاهل، ووسط الشيء.

([200]) الكظم: - بفتح الكاف والظاء -: الفم أو الحلق أو مخرج النفس.

([201]) نكته على هامته: إذا ألقاه على رأسه.

([202]) تفرّى: انشقّ.

([203]) أسفر: إذا انكشف وأضاء. والمحض: الخالص.

([204]) شقاشق - جمع شقشقة - وهي شيء يشبه الرئة يخرج من فم البعير إذا هاج.

([205]) الوشيظ: الأتباع والخدم.

([206]) الشقاق: الخلاف.

([207]) فُهتم: تلفظتم.

([208]) البيض - جمع أبيض - والخماص - جمع خميص - وهو الجائع. وفي نسخة: (في نفرٍ).

([209]) شفا حفرة: جانبها المشرف عليها.

([210]) المُذقة - بضم الميم - شربة من اللبن الممزوج بالماء.

([211]) النُهزة - بضم النون -: الفرصة.

([212]) قبسة العجلان: الشعلة من النار التي يأخذها الرجل العاجل.

([213]) الطرق - بفتح الطاء وسكون الراء -: الماء الذي خوضته الإبل، وبوّلت فيه.

([214]) تقتاتون: تجعلون قوتكم. القد - بكسر القاف -: قطعة جلد غير مدبوغ، ويحتمل أن يكون بمعنى القديد وهو اللحم المجفف في الشمس.

([215]) مني - فعل ماضي مجهول -: ابتلي. والبهم - على وزن الغرف - جمع بهمة، وهو الشجاع الذي لا يهتدي من أين يؤتى.

([216]) مردة - بفتح الميم والراء والدال -: جمع مارد وهو العاتي.

([217]) نجم - فعل ماضي -: طلع. وقرن الشيطان: اتباعه.

([218]) فغر: فتح. فاغرة فاها: أي فاتحة فمها.

([219]) اللهوات - جمع لهاة -: لحمة مشرفة على الحلق في أقصى الفم.

([220]) ينكفئ: يرجع يطأ: يدوس. ضماخها: أذنها. بأخمصه: بباطن قدمه.

([221]) يخمد: يطفئ . لهبها: اشتعالها.

([222]) المكدود: المتعب.

([223]) شمّر ثوبه: رفعه. مجد - بضم الميم وكسر الجيم -: مجتهد. والكادح: الساعي.

([224]) رفاهية: سعة.

([225]) وادعون: مرتاحون . فاكهون: ناعمون.

([226]) الدوائر: العواقب المذمومة وحوادث الأيام.

([227]) تتوكفون: تتوقعون بلوغ الأخبار.

([228]) تنكصون: ترجعون وتتأخرون. والنزال: القتال.

([229]) راجع كتابنا (علي من المهد إلى اللحد) لمزيد من المعلومات حول البحث.

([230]) الحسكة والحسيكة: الشوكة .

([231]) سمل الثوب: صار خلِقاً. والجلباب: ثوب واسع.

([232]) كاظم الغاوين: الساكت الضال الجاهل.

([233]) ظهر من خفي صوته واسمه من الأذلاّء.

([234]) هدر البعير: ردد صوته في حنجرته. والفنيق: الفحل من الإبل.

([235]) خطر: إذا حرّك ذنبه.

([236]) المغرز - بكسر الراء -: ما يختفي فيه.

([237]) الغِرة - بكسر الغين -: الانخداع. وملاحظين: ناظرين ومراعين.

([238]) أحمشكم: أغضبكم.

([239]) الوسم: الكي، وسمه: كواه.

([240]) الشرب - بكسر الشين - : النصيب من الماء.

([241]) الكلم: الجرح. ورحيب: واسع.

([242]) اندمل: تراجع إلى البراء.

([243]) يقبر: يدفن.

([244]) ابتداراً: معاجلةً.

([245]) تؤفكون: أي تصرفون.

([246]) ريث: قدر.

([247]) يسلس: يسهل.

([248]) تورون: تخرجون نارها. تهيّجون: تثيرون.

([249]) يأتي المعنى في شرح الخطبة.

([250]) الخمر - بفتح الخاء والميم - : ما يسترك من الشجر وغيره.

([251]) المدى - بضم الميم - : جمع مدية وهي الشفرة.

([252]) الوخز: الطعن، والسنان: رأس الرمح.

([253]) سورة إبراهيم: آية 22.

([254]) فريّاً: أمراً عظيماً أو منكراً قبيحاً.

([255]) سورة النمل: آية 16.

([256]) سورة مريم: آية 6.

([257]) سورة الأنفال: آية 75.

([258]) سورة النساء: آية 11.

([259]) سورة البقرة: آية 180.

([260]) الحظوة: النصيب.

([261]) ناقة مخطومة ومرحولة، الخطام - بكسر الخاء -: الزمام. ومرحولة من الرحل وهو للناقة كالسرج للفرس.

([262]) حضنة: جمع حاضن بمعنى الحافظ.

([263]) الغيمزة: الضعف أو الغفلة.

([264]) أُزاول: أقصد.

([265]) استوسع وهنه: اتسع غاية الاتساع. وهنة وفي نسخة: وهيه أي شقّه وخرقه.

([266]) كالمعنى المتقدم.

([267]) أكدت: انقطعت.

([268]) الحريم: ما يحميه الرجل ويقاتل عنه.

([269]) النازلة: الشديدة.

([270]) البائقة: الداهية.

([271]) أفنيتكم: جمع فناء - بكسر الفاء - جوانب الدار من الخارج أو العرصة المتسعة أمام الدار.

([272]) سورة آل عمران: آية 144.

([273]) سورة الأنبياء: آية 79.

([274]) سورة المائدة: آية 15.

([275]) سورة الحشر: آية 21.

([276]) إيهاً: بمعنى هيهات أو مزيداً من الكرم.

([277]) منتدى: مجلس القوم.

([278]) الخبرة: العلم بالشيء

([279]) الخيرة - بكسر الخاء وسكون الياء - المفضّل من القوم.

([280]) الكد: الشدة.

([281]) البهم - جمع بهمة -: الشجاع.

([282]) حلب البلاد (خ ل).

([283]) فورة الشرك (خ ل).

([284]) خبت نيران الحرب (خ ل).

([285]) أفتأخرتم بعد الإقدام (خ ل).

([286]) وفي نسخة: وناكصتم بعد الشدة، وجبنتم بعد الشجاعة عن قوم نكثوا إيمانهم.

([287]) سورة التوبة: آية 13.

([288]) الخفض: الراحة.

([289]) الدعة: خفض العيش.

([290]) وفي نسخة: إلى السعة.

([291]) مججتم: رميتم. ووعيتم: حفظتم.

([292]) دسعتم: تقيأتم وتسوّغتم. شربتم بسهولة.

([293]) خامرتكم: خالطتكم.

([294]) استشعرتها: لبستها.

([295]) فاض صدره بالسر: باح به.

([296]) كالدم الذي يرمي به من الفم ويدل على القرحة.

([297]) ضعف النفس عن التحمل.

([298]) دونكموها: خذوها. دبرة: مقروحة.

([299]) نقبة الخف: رقيقه.

([300]) شنار: العيب العار.

([301]) عزوناه: نسبناه.

([302]) وفي نسخة: وأخا بعلك. والمعنى واحد.

([303]) حميم: قريب.

([304]) مصدودة: ممنوعة.

([305]) عدوت: جاوزت.

([306]) الرائد: الذي يتقدم القوم، يبصر لهم الكلأ ومساقط الثمار.

([307]) الكراع - بضم الكاف -: جماعة الخيل.

([308]) يجالدون: يضاربون.

([309]) استبد: انفرد بالأمر من غير مشارك فيه.

([310]) تزوى عنك: تقبض عنك.

([311]) صادفاً: معرضاً: يقال: صدف عن الحق إذا أعرض عنه.

([312]) يقفو: يتبع.

([313]) الغوائل - جمع غائلة -: الحادثة المهلكة.

([314]) التظني: إعمال الظن. الغابرين: الباقين.

([315]) المغضية: الساكتة الراضية.

([316]) اعتضتّم: من الاعتياض وهو أخذ العوض.

([317]) الغبّ - بكسر الغين -: العاقبة. الوبيل: الشديد الثقيل.

([318]) الهنبثة: الأمر الشديد المختلف.

([319]) الخطب - بضم الخاء والطاء - جمع خطب - بفتح الخاء - وهي المصائب الشديدة.

([320]) الوابل: المطر الغزير الكثير.

([321]) نكبوا: عدلوا عن الطريق.

([322]) نجوى - هنا -: الأحقاد.

([323]) مغتصب: مغصوب.

([324]) الكثب - بضم الكاف والثاء - جمع كثيب وهو الرمل.

([325]) رزينا: من الرزية وهي المصيبة. والشجن: الحزن.

([326]) انكفأت: رجعت.

([327]) يتوقع: ينتظر.

([328]) اشتمل الثوب: إذا أداره على الجسد. والشِّملة - بكسر الشين - هيئة الاشتمال.. والشَّملة - بفتح الشين -: ما يشتمل به، والمقصود هنا: مشيمة الجنين، وهي محل الولد في الرحم.

([329]) الحُجرة - بضم الحاء - البيت. وبضم الحاء وسكون الجيم ثم الراء: هو المكان الذي يحتجز فيه. والظنين: المتهم.

([330]) نقضت: ضد أبرمت. والقادمة - واحدة القوادم - وهي مقاديم ريش الطائر. والأجدل: الصقر.

([331]) خانك: من الخيانة. وفي نسخة: خاتك، أي: انقضَّ عليك.

([332]) يبتزني: يسلبني بالقهر والغلبة. والنحلة - بكسر النون -: العطية، والنحيلة تصغيرها.

([333]) البلغة: ما يتبلغ به في العيش ويكتفي به.

([334]) أجهر: أعلن بكل وضوح. وفي نسخة أجهد: أي جدّ وبالغ.

([335]) ألفيته: وجدته. والألد: شديد الخصومة، وفي نسخة: أجهد في ظلامتي وألدَّ في خصامتي.

([336]) حبستني: منعتني. وقيلة: اسم أم الأوس والخزرج. وهما قبيلتان من الأنصار.

([337]) المهاجرة: المهاجرون. وصلها: عونها. أي حبسني.

([338]) كاظمة: متجرعة الغيظ مع الصبر.

([339]) أضرعت: أذللت، وأضعت حدك: أهملت قدرك وفي نسخة: جدّك وهو الحظ.

([340]) ما كففت: ما منعت.

([341]) لا خيار لي: لا اختيار لي.

([342]) هينتي - بكسر الهاء - مهانتي.

([343]) نهنهي: كُفّي، وجدك: حزنك.

([344]) ونيت: عجزت.

([345]) البُلغة - بضم الباء -: الكفاية.

([346]) عائفة: كارهة.

([347]) قالية: مبغضة.

([348]) لفظتهم: رميت بهم. عجمتهم: مضغتهم.

([349]) شنئتهم: أبغضتهم. سبرتهم: عرفت عمقهم، أي تأمّلتهم.

([350]) فلول الحد: ثلمة حدّ السيف.

([351]) الجِدّ - بكسر الجيم -: ضد الهزل واللعب.

([352] ) قرع الصفاة: ضرب الضخرة الملساء، وصدع القناة: استرخاء الرمح. وقيل: الصدع: الشق.

([353]) خطل الآراء: فسادها. وزلل الأهواء: انحراف الميول والرغبات.

([354]) سورة المائدة: آية 80.

([355]) قلّدتهم: جعلت في أعناقهم، ربقتها: حبلها.

([356]) حمّلتهم أوقتها: حمّلتهم الثقل والمسؤولية.

([357]) شننت: أرسلت. والعار: السبة والعيب.

([358]) الجدع - بفتح الجيم -: قطع الأنف. والعقر - بفتح العين -: الجرح. والسحق: البعد، وكلها في مقام الدعاء عليهم.

([359]) زحزحوها: نحّوها. والرواسي: الثوابت.

([360]) قواعد البيت: أسسه.

([361]) مهبط الروح الأمين: محل نزول جبرئيل.

([362]) الطبين: الحاذق الفطن العارف.

([363]) نقموا منه: عابوا وكرهوا.

([364]) نكير سيفه: لا يعرف سيفه أحداً ولا يفرّق بين الشجاع وغيره.

([365]) الحتف: الهلاك.

([366]) وطأته: أخذته. ونكال وقعته: إصابة صدمته.

([367]) التنمّر: الغضب، والمقصود من ذات الله أي لوجه الله.

([368]) تكافّوا: صرف بعضهم بعضاً. والزمام: مقود البعير. أو الخيط الذي يُشدّ في ثقب أنف البعير.

([369]) السير السجح: السهل اللين.

([370]) لا يكلم: لا يجرح. والخشاش - بكسر الخاء - الخيط الذي يدخل في عظم أنف البعير.

([371]) يتعتع راكبه: يقلق ويتحرك حركة عنيفة.

([372]) المنهل: محل ورود الماء. والنمير: الماء العذب السائغ النامي للجسد، والروي: الكثير. والفضفاض: الواسع. تطفح: تمتلئ حتى تفيض. ضفّتاه: جانباه. يترنّق: يتكدّر.

([373]) بطاناً: عظام البطون من كثرة الشرب.

([374]) يحلى: يصيب ويستفيد. والطائل: كثير الفائدة.

([375]) يحظى: يظفر. والنائل: العطاء.

([376]) الناهل: العطشان.

([377]) الكافل - هنا -: المحتاج إلى الطعام.

([378]) سورة الأعراف: 96.

([379]) سورة الزمر: آية 51.

([380]) ليت شعري: ليتني علمت. والسناد - بكسر السين - : ما استندت إليه من حائط أو غيره.

([381]) احتنكوا: استولوا.

([382]) الذناب: ذنب الطائر. القوادم: ريشات في مقدم الجناح.

([383]) العجز - بفتح العين وضم الجيم -: المؤخر من كل شيء. والكاهل: ما بين الكتفين.

([384]) رغماً: كناية عن الذل: والمعاطس: جمع معطس (مكان العطسة) وهو الأنف.

([385]) سورة يونس: آية 35.

([386]) لقحت: حملت

([387]) فنظرة: فمهلة. ريثما: مقدار ما. وتنتج: تلد.

([388]) القعب: إناء ضخم. والدم العبيط: الطري.

([389]) الذعاف: السم السريع الفناء. والمبيد المهلك.

([390]) التالون: التابعون. والغب: العاقبة.

([391]) طابت نفسه عن كذا: رضيت به غير كارهة.

([392]) الجاش: القلب.

([393]) المعتدي: الجائر: والغاشم: الظالم.

([394]) الهرج: الفوضى، والقتل، واختلاط الأمور.

([395]) الاستبداد: التفرد بالشيء من غير منازع.

([396]) الفيء: الخراج والغنيمة. وزهيداً: قليلاً.

([397]) جمعكم: زرعكم.

([398]) الحسرة: التلهف على الشيء الفائت.

([399]) كيف يصنع بكم.

([400]) عميت: التبست.

([401]) نبرم العهد: نبايع لأبي بكر.

([402]) التعذير: هو التقصير ثم الاعتذار. والتقصير: التواني عن الشيء

([403]) سورة الأعراف: آية 96.

([404]) سورة الزمر: آية 51.

([405]) سورة الكهف: آية 104.

([406]) سورة البقرة الآيتان 11 و12.

([407]) سورة يونس: آية 35.

([408]) الإمامة والسياسة ج2 ص7.

([409]) كتاب تتمة المنتهى للقمي.

([410]) سورة التوبة: آية 90.

([411]) الأتان: الحمارة.

([412]) شرح النهج ج1 ص131.

([413]) العاشر من بحار الأنوار.

([414]) دلائل الإمامة.

([415]) العاشر من بحار الأنوار عن أمالي الشيخ.

([416]) روضة الواعظين.

([417]) العاشر من بحار الأنوار عن ابن شهر آشوب.

([418]) المستدرك في أحكام الكفن.

([419]) العاشر من بحار الأنوار.

([420]) المجلس السنية ج5.

([421]) العاشر من بحار الأنوار.

([422]) مستدرك الوسائل، باب تغسيل الميت.

([423]) مستدرك الوسائل باب تغسيل الميت.

([424]) مستدرك الوسائل باب تغسيل الميت.

([425]) العاشر من بحار الأنوار.

([426]) خصال الصدوق عن الإِمام الباقر (عليه السلام).

([427]) مستدرك الوسائل باب الدفن.

([428]) مستدرك الوسائل باب الدفن

([429]) طبقات ابن أسعد.

([430]) السلام عليك يا رسول الله عني وعن ابنتك (خ ل).

([431]) السلام عليك من ابنتك وحبيبتك وقرة عينك وزائرتك (خ ل).

([432]) وضعف عن سيدة النساء (خ ل).

([433]) بسُنّتك، والحزن الذي حلّ بي لفراقك موضع التعزّي (خ ل).

([434]) على صدري (خ ل).

([435]) نعم (خ ل).

([436]) اختلصت واختلست (خ ل).

([437]) لا يبرح الحزن من قلبي (خ ل).

([438]) إلى أن يختار (خ ل).

([439]) بها (خ ل).

([440]) بتظاهر (خ ل).

([441]) سلام عليك (خ ل).

([442]) لا قالٍ ولا سئم (خ ل).

([443]) ظني (خ ل).

([444]) لجعلت المقام واللبث لزاماً معكوفاً (خ ل).

([445]) ولم يتباعد العهد (خ ل).

([446]) الكافي للكليني، والمجالس للمفيد، والأمالي للشيخ، ونهج البلاغة للرضي.

([447]) دلائل الإمامة.

([448]) بحار الأنوار ج8 ص51، تفسير فرات بن إبراهيم ص113.

([449]) محفّة بكسر الميم: مركب للنساء كالهودج.

([450]) سورة البقرة: آية 255.

([451]) سورة الأنبياء: آية28.

([452]) سورة يونس: آية 3.

([453]) سورة مريم: آية 87.

([454]) سورة طه: آية 109.

([455]) سورة سبأ: آية 23.

([456]) سورة النجم: آية 26.

 

العودة إلى الصفحة الرئيسية

www.mezan.net <‎/TITLE> ‎<META HTTP-EQUIV="Content-Type" CONTENT="text/html; charset=windows-1256">‎ ‎<META NAME="keywords" CONTENT=" السيد محمد حسين فضل الله في الميزان ">‎ ‎<META NAME="description" CONTENT=" مقولات السيد فضل الله في كتبه ">‎ ‎<META NAME="author" CONTENT=" مقولات السيد فضل الله بصوته ">‎ ‎<META NAME="copyright" CONTENT=" رأي المراجع العظام والعلماء ">‎ <‎/HEAD>