كتابه إلى بعض أصحابه المعروف برسالة الحقوق ( بصورة مفصلة )

اعلم - رحمك الله - إن لله عز وجل عليك حقوقا محيطة بك في كل حركة تحركتها ، أو سكنة سكنتها ، أو حال حلتها ، أو منزلة نزلتها ، أو جارحة قلبتها ، أو آلة تصرفت بها ، بعضها أكبر من بعض .

وأكبر حقوق الله عليك ما أوجبه لنفسه تبارك وتعالى من حقه الذي هو أصل الحقوق ، ومنه تتفرع ، ثم أوجبه عليك لنفسك من قرنك إلى قدمك على اختلاف جوارحك ، فجعل لبصرك عليك حقا ، ولسمعك عليك حقا ، وللسانك عليك حقا ، وليدك عليك حقا ، ولرجلك عليك حقا ، ولبطنك عليك حقا ، ولفرجك عليك حقا .

فهذه الجوارح السبع التي بها تكون الأفعال .

ثم جعل عز وجل لأفعالك عليك حقوقا ، فجعل لصلاتك عليك حقا ، ولصومك عليك حقا ، ولصدقتك عليك حقا ، ولهديك عليك حقا ، ولأفعالك عليك حقا . ثم تخرج الحقوق منك إلى غيرك من ذوي الحقوق الواجبة عليك ، فأوجبها عليك حقوق أئمتك ، ثم حقوق رعيتك ، ثم حقوق رحمك . فهذه حقوق تتشعب منها حقوق .

فحقوق أئمتك ثلاثة ، أوجبها عليك حق سائسك بالسلطان ، ثم حق سائسك في بالعلم ، ثم حق سائسك بالملك ، وكل سائس إمام . وحقوق رعيتك ثلاثة ، أوجبها عليك حق رعيتك بالسلطان ، ثم حق رعيتك بالعلم ، فإن الجاهل رعية العالم ، وحق رعيتك بالملك من الأزواج وما ملكت الأيمان . وحقوق رحمك كثيرة ، متصلة بقدر اتصال الرحم في القرابة ، فأوجبها عليك حق أمك ، ثم حق أبيك ، ثم حق ولدك ، ثم حق أخيك ، ثم الأقرب فالأقرب ، والأول فالأول .

ثم حق مولاك المنعم عليك ، ثم حق مولاك الجارية نعمتك عليك ، ثم حق ذوي المعروف لديك ، ثم حق مؤذنك بالصلاة ، ثم حق إمامك في صلاتك ، ثم حق جليسك ، ثم حق جارك ، ثم حق صاحبك ، ثم حق شريكك ، ثم حق مالك ، ثم حق غريمك الذي تطالبه ، ثم حق غريمك الذي يطالبك ، ثم حق خليطك ، ثم حق خصمك المدعي عليك ، ثم حق خصمك الذي تدعي عليه ، ثم حق مستشيرك ، ثم حق المشير عليك ، ثم حق مستنصحك ، ثم حق الناصح لك ، ثم حق من هو أكبر منك ، ثم حق من هو أصغر منك ، ثم حق سائلك ، ثم حق من سألته ، ثم حق من جرى لك على يديه مساءة بقول أو فعل ، أو مسرة بذلك بقول أو فعل ، عن تعمد منه ، أو غير تعمد منه ، ثم حق أهل ملتك عامة ، ثم حق أهل الذمة ، ثم الحقوق الجارية بقدر علل الأحول ، وتصرف الأسباب . فطوبى لمن أعانه الله على قضاء ما أوجب عليه من حقوقه ! ووفقه وسدده .

1 . فأما حق الله الأكبر عليك : فإن تعبده لا تشرك به شيئا ، فإذا فعلت ذلك بإخلاص ، جعل لك على نفسه أن يكفيك أمر الدنيا والآخرة ، ويحفظ لك ما تحب منهما .

2 . وأما حق نفسك عليك : فأن تستوفيها في طاعة الله عز وجل ، فتؤدي إلى لسانك حقه ، وإلى سمعك حقه ، وإلى بصرك حقه ، وإلى يدك حقها ، وإلى رجلك حقها ، وإلى بطنك حقه ، وإلى فرجك حقه ، وتستعين بالله على ذلك .

3 . وأما حق اللسان : فإكرامه عن الخنا ، وتعويده على الخير ، وحمله على الأدب ، وإجمامه إلا لموضع الحاجة ، والمنفعة للدين والدنيا ، وإعفائه عن الفضول الشنعة ، القليلة الفائدة ، التي لا يؤمن ضررها مع قلة عائدتها ، ويعد شاهد العقل ، والدليل عليه ، وتزين العاقل بعقله حسن سيرته في لسانه ، ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

4 . وأما حق السمع : فتنزيهه عن أن تجعله طريقا إلى قلبك ، إلا لفوهة كريمة تحدث في قلبك خيرا ، أو تكسبك خلقا كريما ، فإنه باب الكلام إلى القلب ، يؤدي إليه ضروب المعاني على ما فيها من خير أو شر ، ولا قوة إلا بالله .

5 . أما حق بصرك : فغضه عما لا يحل لك ، وترك ابتذاله إلا لموضع عبرة تستقبل بها بصرا ، أو تستفيد بها علما ، فإن البصر باب الاعتبار .

6 . وأما حق رجليك : فألا تمشي بهما إلى ما لا يحل لك ، ولا تجعلهما مطيتك في الطريق المستخفة بأهلها فيها ، فإنها حاملتك وسالكة بك مسلك الدين ، والسبق لك ، ولا قوة إلا بالله .

7 . وأما حق يديك : فألا تبسطها إلى ما لا يحل لك ، فتنال بما تبسطها إليه من الله العقوبة في الآجل ، ومن الناس بلسان اللائمة في العاجل ، ولا تقبضها عما افترض الله عليها ، ولكن توقرها بقبضها عن كثير مما لا يحل لها ، وبسطها إلى كثير مما ليس عليها ، فإذا هي قد عقلت وشرفت في العاجل ، وجب لها حسن الثواب من الله في الآجل .

8 . وأما حق بطنك : فألا تجعله وعاء لقليل من الحرام ولا لكثير ، وأن تقتصد له في الحلال ، ولا تخرجه من حد التقوية إلى حد التهوين ، وذهاب المروءة ، وضبطه إذا هم بالجوع والظمأ ، فإن الشبع المنتهي بصاحبه إلى التخم مكسلة ومثبطة ومقطعة عن كل بر وكرم ، وإن الري المنتهي بصاحبه إلى السكر مسخفة ومجهلة ، ومذهبة للمروءة .

9 . وأما حق فرجك : فحفظه مما لا يحل لك ، والاستعانة عليه بغض البصر - فإنه من أعون الأعوان - وكثرة ذكر الموت ، والتهدد لنفسك بالله ، والتخويف لها به ، وبالله العصمة والتأييد ، ولا حول ولا قوة إلا به .

ثم حقوق الأفعال .

10 . فأما حق الصلاة : فأن تعلم أنها وفادة إلى الله عز وجل ، وإنك قائم بها بين يدي الله ، فإذا علمت ذلك ، كنت خليقا أن تقوم فيها مقام الذليل الراغب الراهب ، والخائف الراجي ، المسكين المتضرع ، المعظم من قام بين يديه بالسكون والإطراق ، وخشوع الأطراف ، ولين الجناح ، وحسن المناجاة له في نفسه ، والرغبة إليه في فكاك رقبتك التي أحاطت بها خطيئتك ، واستهلكتها ذنوبك ، ولا قوة إلا بالله .

11 . وأما حق الصوم : فأن تعلم أنه حجاب ضربه الله على لسانك وسمعك وبصرك ، وفرجك وبطنك ؛ ليسترك به من النار ، وهكذا جاء في الحديث : " الصوم جنة من النار " ، فإن سكنت أطرافك في حجبتها ، رجوت أن تكون محجوبا ، وإن أنت تركتها تضطرب في حجابها ، وترفع جنبات الحجاب ، فتطلع إلى ما ليس لها بالنظرة الداعية للشهوة ، والقوة الخارجة عن حد التقية لله ، لم تأمن من أن تخرق الحجاب ، وتخرج منه ، ولا قوة إلا بالله .

12 . وأما حق الصدقة : فأن تعلم أنها ذخرك عند ربك ، ووديعتك التي لا تحتاج إلى الإشهاد ، فإذا علمت ذلك كنت بما استودعته سرا ، أوثق منك بما استودعته علانية ، وكنت جديرا أن تكون أسررت إليه أمرا أعلنته ، وكان الأمر بينك وبينه فيها سرا على كل حال ، ولم تستظهر عليه فيما استودعته منها بإشهاد الأسماع والأبصار عليه بها ، كأنها أوثق في نفسك ، لا كأنك لا تثق به في تأدية وديعتك إليك ، ثم لم تمن بها على أحد ؛ لأنها لك ، فإذا امتننت بها ، لم تأمن أن تكون بها ، مثل تهجين حالك منها إلى من مننت بها عليه ؛ لأن في ذلك دليلا على أنك لم ترد نفسك بها ، ولو أردت نفسك لم تمتن بها على أحد ، ولا قوة إلا بالله .

13 . وأما حق الهدي : فأن تخلص بها الإرادة إلى ربك ، والتعرض لرحمته وقبوله ، ولا تريد عيون الناظرين دونه ، فإذا كنت كذلك ، لم تكن متكلفا ولا متصنعا ، وكنت إنما تقصد إلى الله .

واعلم أن الله يراد باليسير ولا يراد بالعسير ، كما أراد بخلقه التيسير ، ولم يرد بهم التعسير ، وكذلك التذلل أولى بك من التدهقن ؛ لأن الكلفة والمؤونة في المتدهقنين ، فأما التذلل والتمسكن فلا كلفة فيهما ، ولا مؤونة عليهما ؛ لأنهما الخلقة ، وهما موجودان في الطبيعة ، ولا قوة إلا بالله .

ثم حقوق الأئمة

14 . فأما حق سائسك بالسلطان : فأن تعلم إنك جعلت له فتنة ، وأنه مبتلى فيك بما جعله الله له عليك من السلطان ، وأن تخلص له في النصيحة ، وألا تماحكه وقد بسطت يده عليك ، فتكون سبب هلاك نفسك وهلاكه .

وتذلل وتلطف لإعطائه من الرضا ما يكفه عنك ، ولا يضر بدينك ، وتستعين عليه في ذلك بالله ، ولا تعازه ولا تعانده ، فإنك إن فعلت ذلك عققته وعققت نفسك ، فعرضتها لمكروهة ، وعرضته للهلكة فيك ، وكنت خليقا أن تكون معينا له على نفسك ، وشريكا له فيما أتى إليك ، ولا قوة إلا بالله .

15 . فأما حق سائسك بالعلم فالتعظيم له ، والتوقير لمجلسه ، وحسن الاستماع إليه ، والإقبال عليه ، والمعونة له على نفسك فيما لا غنى بك عنه من العلم ، بأن تفرغ له عقلك ، وتحضره فهمك ، وتزكي له قلبك ، وتجلي له بصرك بترك اللذات ، ونقض الشهوات ، وأن تعلم أنك فيما ألقى إليك رسوله إلى من لقيك من أهل الجهل ، فلزمك حسن التأدية عنه إليهم ، ولا تخنه في تأدية رسالته والقيام بها عنه إذا تقلدتها ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .

16 . وأما حق سائسك بالملك : فنحو من سائسك بالسلطان إلا أن هذا يملك ما لا يملكه ذلك ، تلزمك طاعته فيما دق وجل منك ، إلا أن تخرجك من وجوب حق الله ، فإن حق الله يحول بينك وبين حقه وحقوق الخلق ، فإذا قضيته رجعت إلى حقه ، فتشاغلت به ، ولا قوة إلا بالله .

ثم حقوق الرعية

17 . فأما حقوق رعيتك بالسلطان : فأن تعلم أنك إنما استرعيتهم بفضل قوتك عليهم ، فإنه إنما أحلهم محل الرعية لك ضعفهم وذلهم ، فما أولى من كفاكه ضعفه وذله حتى صيره لك رعية ، وصير حكمك عليه نافذا ، لا يمتنع منك بعزة ولا قوة ، ولا يستنصر فيما تعاظمه منك إلا بالله ، بالرحمة والحياطة والأناة ، وما أولاك إذا عرفت ما أعطاك الله من فضل هذه العزة والقوة - التي قهرت بها - أن تكون لله شاكرا ، ومن شكر الله ، أعطاه فيما أنعم عليه ، ولا قوة إلا بالله .

18 . وأما حق رعيتك بالعلم : فأن تعلم أن الله قد جعلك لهم خازنا فيما آتاك من العلم ، وولاك من خزانة الحكمة ، فإن أحسنت فيما ولاك الله من ذلك ، وقمت به لهم مقام الخازن الشفيع ، الناصح لمولاه في عبيده ، الصابر المحتسب ، الذي إذا رأى ذا حاجة أخرج له من الأموال التي في يديه ، كنت راشدا ، وكنت لذلك آملا معتقدا ، وإلا كنت له خائنا ، ولخلقه ظالما ، ولسلبه وعزه متعرضا .

19 . وأما حق رعيتك بملك النكاح : فأن تعلم أن الله جعلها سكنا ومستراحا ، وأنسا وواقية ، وكذلك كل واحد منكما ، يجب أن يحمد الله على صاحبه ، ويعلم أن ذلك نعمة منه عليه ، ووجب أن يحسن صحبة نعمة الله ، ويكرمها ويرفق بها ، وإن كان حقك عليها أغلظ ، وطاعتك بها ألزم فيما أحببت وكرهت ، ما لم تكن معصية ، فإن لها حق الرحمة والمؤانسة ، وموضع السكون إليها قضاء اللذة التي لابد من قضائها ، وذلك عظيم ، ولا قوة إلا بالله .

20 . وأما حق رعيتك بملك اليمين : فأن تعلم أنه خلق ربك ، ولحمك ودمك ، وأنك تملكه ، لا أنت صنعته دون الله ، ولا خلقت له سمعا ولا بصرا ، ولا أجريت له رزقا ، ولكن الله كفاك ذلك ، ثم سخره لك ، وائتمنك عليه ، واستودعك إياه لتحفظه فيه ، وتسير فيه بسيرته ، فتطعمه مما تأكل ، وتلبسه مما تلبس ، ولا تكلفه ما لا يطيق ، فإن كرهته ، خرجت إلى الله منه ، واستبدلت به ، ولم تعذب خلق الله ، ولا قوة إلا بالله .

وأما حق الرحم

21 . فحق أمك : فأن تعلم أنها حملتك حيث لا يحمل أحد أحدا ، وأطعمتك من ثمرة قلبها ما لم يطعم أحد أحدا ، وأنها وقتك بسمعها وبصرها ويدها ورجلها وشعرها وبشرها ، وجميع جوارحها مستبشرة بذلك فرحة ، مؤابلة محتملة لما فيه مكروهها وألمها ، وثقلها وغمها ، حتى دفعتها عنك يد القدرة ، وأخرجتك إلى الأرض ، فرضيت أن تشبع وتجوع هي ، وتكسوك وتعرى ، وترويك وتظمأ ، وتظلك وتضحى ، وتنعمك ببؤسها ، وتلذذك بالنوم بأرقها ، وكأن بطنها لك وعاء ، وحجرها لك حواء ، وثديها لك سقاء ، ونفسها لك وقاء ، تباشر حر الدنيا ، وبردها لك ودونك ، فتشكرها على قدر ذلك ، ولا تقدير عليه إلا بعون الله وتوفيقه .

22 . وأما حق أبيك : فأن تعلم أنه أصلك ، وأنك فرعه ، وأنك لولاه لم تكن ، فمهما رأيت في نفسك مما يعجبك فاعلم أن أباك أصل النعمة عليك فيه ، واحمد الله واشكره على قدر ذلك ، ولا قوة إلا بالله .

23 . وأما حق ولدك : فأن تعلم أنه منك ، ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره ، وأنك مسؤول عما وليته من حسن الأدب ، والدلالة على ربه ، والمعونة له على طاعته فيك وفي نفسه ، فمثاب على ذلك ومعاقب ، فاعمل في أمره عمل المتزين بحسن أثره عليه في عاجل الدنيا ، المعذر إلى ربه - فيما بينك وبينه - بحسن القيام عليه ، والأخذ له منه ، ولا قوة إلا بالله .

24 . وأما حق أخيك : فأن تعلم أنه يدك التي تبسطها ، وظهرك الذي تلتجئ إليه ، وعزك الذي تعتمد عليه ، وقوتك التي تصول بها ، فلا تتخذه سلاحا على معصية الله ، ولا عدة للظلم بحق الله ، ولا تدع نصرته على نفسه ، ومعونته على عدوه ، والحول بينه وبين شياطينه ، وتأدية النصيحة إليه ، والإقبال عليه في الله ، فإن انقاد إلى ربه ، وأحسن الإجابة له ، وإلا فليكن الله آثر عندك ، وأكرم عليك منه .

25 . وأما حق المنعم عليك بالولاء : فأن تعلم أنه أنفق فيك ماله ، وأخرجك من ذل الرق ووحشته إلى عز الحرية وأنسها ، وأطلقك من أسر الملكة ، وفك عنك حلق العبودية ، وأوجدك رائحة العز ، وأخرجك من سجن القهر ، ودفع عنك العسر ، وبسط لك لسان الإنصاف ، وأباحك الدنيا كلها ، فملكك نفسك ، وحل أسرك ، وفرغك لعبادة ربك ، واحتمل بذلك التقصير في ماله ، فتعلم أنه أولى الخلق بك ، بعد أولي رحمك في حياتك وموتك ، وأحق الخلق بنصرك ومعونتك ، ومكانفتك في ذات الله ، فلا تؤثر عليه نفسك ما احتاج إليك أبدا .

26 . وأما حق مولاك الجارية عليه نعمتك : فأن تعلم أن الله جعلك حامية عليه ، وواقية وناصرا ومعقلا ، وجعله لك وسيلة وسببا بينك وبينه ، فبالحري أن يحجبك عن النار ، فيكون في ذلك ثوابك منه في الآجل ، ويحكم لك بميراثه في العاجل ، إذا لم يكن له رحم ، مكافأة لما أنفقته من مالك عليه ، وقمت به من حقه بعد انفاق مالك ، فإن لم تقم بحقه ، خيف عليك ألا يطيب لك ميراثه ، ولا قوة إلا بالله .

27 . وأما حق ذي المعروف عليك : فأن تشكره وتذكر معروفه ، وتنشر له المقالة الحسنة ، وتخلص له الدعاء فيما بينك وبين الله سبحانه ، فإنك إذا فعلت ذلك ، كنت قد شكرته سرا وعلانية ، ثم إن أمكن مكافأته بالفعل كافأته ، وإلا كنت مرصدا له موطنا نفسك عليها .

28 . وأما حق المؤذن : فأن تعلم أنه مذكرك بربك ، وداعيك إلى حظك ، وأفضل أعوانك على قضاء الفريضة التي افترضها الله عليك ، فتشكره على ذلك شكرك للمحسن إليك ، وإن كنت في بيتك متهما ، لم تكن لله في أمره متهما ، وعلمت أنه نعمة من الله عليك لا شك فيها ، فأحسن صحبة نعمة الله ، بحمد الله عليها على كل حال ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .

29 . وأما حق إمامك في صلواتك : فأن تعلم أنه قد تقلد السفارة فيما بينك وبين الله ، والوفادة إلى ربك ، وتكلم عنك ، ولم تتكلم عنه ، ودعا لك ولم تدع له ، وطلب فيك ، ولم تطلب فيه ، وكفاك هم المقام بين يدي الله ، والمساءلة له فيك ، ولم تكفه ذلك ، فإن كان في شئ من ذلك تقصير ، كان به دونك ، وإن كان آثما لم تكن شريكه فيه ، ولم يكن له عليك فضل ، فوقى نفسك بنفسه ، ووقى صلاتك بصلاته ، فتشكر له على ذلك ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .

30 . وأما حق الجليس : فأن تلين له كنفك ، وتطيب له جانبك ، وتنصفه في مجاراة اللفظ ، ولا تغرق في نزع اللحظ إذا لحظت ، وتقصد في اللفظ إلى إفهامه إذا لفظت ، وإن كنت الجليس إليه ، كنت في القيام عنه بالخيار ، وإن كان الجالس إليك كان بالخيار ، ولا تقوم إلا بإذنه ، ولا قوة إلا بالله .

31 . وأما حق الجار : فحفظه غائبا ، وكرامته شاهدا ، ونصرته ومعونته في الحالين جميعا ، لا تتبع له عورة ، ولا تبحث له عن سوءة لتعرفها ، فإن عرفتها منه عن غير إرادة منك ولا تكلف ، كنت لما علمت حصنا حصينا ، وسترا ستيرا ، لو بحثت الأسنة عنه ضميرا ، لم تتصل إليه لانطوائه عليه ، لا تستمع عليه من حيث لا يعلم ، لا تسلمه عند شديدة ، ولا تحسده عند نعمة ، تقيل عثرته ، وتغفر زلته ، ولا تدخر حلمك عنه إذا جهل عليك ، ولا تخرج أن تكون سلما له ، ترد عنه لسان الشتيمة ، وتبطل فيه كيد حامل النصيحة ، وتعاشره معاشرة كريمة ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .

32 . وأما حق الصاحب : فأن تصحبه بالفضل ما وجدت إليه سبيلا ، وإلا فلا أقل من الانصاف ، وأن تكرمه كما يكرمك ، وتحفظه كما يحفظك ، ولا يسبقك فيما بينك وبينه إلى مكرمة ، فإن سبقك كافأته ، ولا تقصر به عما يستحق من المودة ، تلزم نفسك نصيحته وحياطته ، ومعاضدته على طاعة ربه ، ومعونته على نفسه ، فيما يهم به من معصية ربه ، ثم تكون عليه رحمة ، ولا تكن عليه عذابا ، ولا قوة إلا بالله .

33 . وأما حق الشريك : فإن غاب كفيته ، وإن حضر ساويته ، ولا تعزم على حكمك دون حكمه ، ولا تعمل برأيك دون مناظرته ، وتحفظ عليه ماله ، وتتقي خيانته فيما عز أو هان ، فإنه بلغنا : " إن يد الله على الشريكين ، ما لم يتخاونا " ، ولا قوة إلا بالله .

34 . وأما حق المال : فألا تأخذه إلا من حله ، ولا تنفقه إلا في حله ، ولا تحرفه عن مواضعه ، ولا تصرفه عن حقائقه ، ولا تجعله إذا كان من الله إلا إليه ، وسببا إلى الله ، ولا تؤثر به على نفسك من لعله لا يحمدك ، وبالحري ألا يحسن خلافته في تركتك ، ولا يعمل فيه بطاعة ربك ، فتكون معينا له على ذلك ، أو بما أحدث في مالك أحسن نظرا لنفسه ، فيعمل بطاعة ربه ، فيذهب بالغنيمة ، وتبوء بالإثم والحسرة ، والندامة مع التبعة ، ولا قوة إلا بالله .

35 . وأما حق الغريم المطالب لك : فإن كنت موسرا أوفيته وكفيته وأغنيته ، ولم تردده وتمطله ، فإن رسول الله قال : " مطل الغني ظلم " .

وإن كنت معسرا أرضيته بحسن القول ، وطلبت إليه طلبا جميلا ، ورددته عن نفسك ردا لطيفا ، ولم تجمع عليه ذهاب ماله وسوء معاملته ، فإن ذلك لؤم ، ولا قوة إلا بالله .

36 . وأما حق الخليط : فألا تغره ولا تغشه ، ولا تكذبه ولا تغفله ، ولا تخدعه ولا تعمل في انتقاضه عمل العدو ، الذي لا يبقى على صاحبه ، وإن اطمأن إليك أستقصيت له على نفسك ، وعلمت أن غبن المسترسل ربا ، ولا قوة إلا بالله .

ثم حق الخصم

37 . وأما حق الخصم المدعي عليك : فإن كان ما يدعي عليك حقا لم تنفسخ في حجته ، ولم تعمل في إبطال دعوته ، وكنت خصم نفسك له ، والحاكم عليها ، والشاهد له بحقه دون شهادة الشهود ، فإن ذلك حق الله عليك ، وإن كان ما يدعيه باطلا رفقت به وروعته  ، وناشدته بدينه ، وكسرت حدته عنك بذكر الله ، وألقيت حشو الكلام ولغطه الذي لا يرد عنك عادية عدوك ، بل تبوء بإثمه ، وبه يشحذ عليك سيف عداوته ؛ لأن لفظة السوء تبعث الشر ، والخير مقمعة للشر ، ولا قوة إلا بالله .

38 . وأما حق الخصم المدعى عليه : فإن كان ما تدعيه حقا ، أجملت في مقاولته بمخرج الدعوى ، فإن للدعوى غلظة في سمع المدعى عليه ، وقصدت قصد حجتك بالرفق ، وأمهل المهلة ، وأبين البيان ، وألطف اللطف ، ولم تتشاغل عن حجتك بمنازعته بالقيل والقال ، فتذهب عنك حجتك ، ولا يكون لك في ذلك درك ، ولا قوة إلا بالله .

ثم حق المشاورة والنصيحة

39 . وأما حق المستشير : فإن حضرك له وجه رأي ، جهدت له في النصيحة ، وأشرت عليه بما تعلم ، أنك لو كنت مكانه عملت به ، ليكن ذلك منك في رحمة ولين ، فإن اللين يؤنس الوحشة ، وإن الغلظ يوحش موضع الأنس ، وإن لم يحضرك له رأي ، وعرفت له من تثق برأيه ، وترضى به لنفسك ، دللته عليه ، وأرشدته إليه ، فكنت لم تأله خيرا ، ولم تدخره نصحا ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .

40 . وأما حق المشير عليك : فلا تتهمه فيما لا يوافقك عليه من رأيه إذا أشار عليك ، فإنما هي الآراء ، وتصرف الناس فيها واختلافهم ، فكن عليه في رأيه بالخيار إذا اتهمت رأيه ، فأما تهمته فلا يجوز لك ، إذا كان عندك ممن يستحق المشاورة ، ولا تدع شكره على ما بدا لك من إشخاص رأيه وحسن وجه مشورته ، فإذا واقفك حمدت الله ، وقبلت ذلك من أخيك بالشكر والإرصاد بالمكافأة في مثلها إن فزع إليك ، ولا قوة إلا بالله .

41 . وأما حق المستنصح : فإن حقه أن تؤدي إليه النصيحة على الحق الذي ترى له أن يحمل ، وتخرج المخرج الذي يلين على مسامعه ، وتكلمه من الكلام بما يطيقه عقله ، فإن لكل عقل طبقة من الكلام يعرفه ويجتنبه ، وليكن مذهبك الرحمة ، ولا قوة إلا بالله .

42 . وأما حق الناصح : فأن تلين له جناحك ثم تشرئب له قلبك ، وتفتح له سمعك ، حتى تفهم عنه نصيحته ، ثم تنظر فيها ، فإن كان وفق فيها للصواب حمدت الله على ذلك ، وقبلت منه ، وعرفت له نصيحته ، وإن لم يكن وفق لها فيها رحمته ولم تتهمه ، وعلمت أنه لم يألك نصحا إلا أنه أخطأ ، إلا أن يكون عندك مستحقا للتهمة ، فلا تعبأ بشيء من أمره على كل حال ، ولا قوة إلا بالله .

ثم حق السن

43 . وأما حق الكبير : فإن حقه توقير سنه ، وأجلال إسلامه ، إذا كان من أهل الفضل في الإسلام ، بتقديمه فيه ، وترك مقابلته عند الخصام ، ولا تسبقه إلى طريق ، ولا تؤمه في طريق ، ولا تستجهله ، وإن جهل عليك تحملت ، وأكرمته بحق إسلامه مع سنه ، فإنما حق السن بقدر الإسلام ، ولا قوة إلا بالله .

44 . وأما حق الصغير : فرحمته وتثقيفه وتعلميه ، والعفو عنه ، والستر عليه ، والرفق به ، والمعونة له ، ‹ صفحة 132 › والستر على جرائر حداثته ، فإنه سبب للتوبة والمداراة له ، وترك مما حكته ، فإن ذلك أدنى لرشده .

ثم حق السائل والمسؤول

45 . وأما حق السائل : فإعطاؤه إذا تهيأت صدقة ، وقدرت على سد حاجته ، والدعاء له فيما نزل به ، والمعاونة له على طلبته ، وإن شككت في صدقه ، وسبقت إليه التهمة له ، ولم تعزم على ذلك ، لم تأمن أن يكون من كيد الشيطان ، أراد أن يصدك عن حظك ، ويحول بينك وبين التقرب إلى ربك ، فتركته بستره ، ورددته ردا جميلا ، وإن غلبت نفسك في أمره ، وأعطيته على ما عرض في نفسك منه ، فإن ذلك من عزم الأمور .

46 . وأما حق المسؤول : فحقه إن أعطى قبل منه ما أعطى بالشكر له ، والمعرفة لفضله ، وطلب وجه العذر في منعه ، وأحسن به الظن ، واعلم أنه إن منع فماله منع ، وإن ليس التثريب ( 2 ) في ماله ، وإن كان ظالما ، فإن الإنسان لظلوم كفار .

47 . وأما حق من سرك الله به وعلى يديه : فإن كان تعمدها لك حمدت الله أولا ، ثم شكرته على ذلك ، بقدره في موضع الجزاء ، وكافأته على فضل الابتداء ، وأرصدت له المكافأة ، وإن لم يكن تعمدها ، حمدت الله أولا ، ثم شكرته ، وعلمت أنه منه توحدك بها ، وأحببت هذا إذ كان سببا من أسباب نعم الله عليك ، وترجو له بعد ذلك خيرا ، فإن أسباب النعم بركة حيث ما كانت ، وإن كان لم يتعمد ، ولا قوة إلا بالله .

48 . وأما حق من ساءك القضاء على يديه بقول أو فعل : فإن كان تعمدها ، كان العفو أولى بك لما فيه له من القمع وحسن الأدب مع كثير من أمثاله من الخلق ، فإن الله يقول : ( ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل ) إلى قوله عز وجل : ( من عزم الأمور ) ، وقال عز وجل : ( وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم بهى ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ) .

هذا في العمد ، فإن لم يكن عمدا ، لم تظلمه بتعمد الانتصار منه ، فتكون قد كافأته في تعمد على خطأ ، ورفقت به ورددته بألطف ما تقدر عليه ، ولا قوة إلا بالله .

ثم حق بقية الناس

49 . وأما حق أهل ملتك عامة : فإضمار السلامة ، ونشر جناح الرحمة ، والرفق بمسيئهم ، وتألفهم واستصلاحهم ، وشكر محسنهم إلى نفسه وإليك ، فإن إحسانه إلى نفسه إحسانه إليك إذا كف عنك أذاه وكفاك مؤنته ، وحبس عنك نفسه فعمهم جميعا بدعوتك ، وانصرهم جميعا بنصرتك ، وأنزلهم جميعا منك منازلهم ، كبيرهم بمنزلة الوالد ، وصغيرهم بمنزلة الولد ، وأوسطهم بمنزلة الأخ ، فمن أتاك تعاهدته بلطف ورحمة ، وصل أخاك بما يجب للأخ على أخيه .

50 . وأما حق أهل الذمة : فالحكم فيهم أن تقبل منهم ما قبل الله ، وتفي بما جعل الله لهم من ذمته وعهده ، وتكلهم إليه فيما طلبوا من أنفسهم وأجبروا عليه ، وتحكم فيهم بما حكم الله به على نفسك فيما جرى بينك وبينهم من معاملة ، وليكن بينك وبين ظلمهم من رعاية ذمة الله والوفاء بعهده وعهد رسوله حائل ، فإنه بلغنا أنه قال : " من ظلم معاهدا كنت خصمه " فاتق الله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .

العودة إلى الصفحة الرئيسية

www.mezan.net <‎/TITLE> ‎<META HTTP-EQUIV="Content-Type" CONTENT="text/html; charset=windows-1256">‎ ‎<META NAME="keywords" CONTENT=" السيد محمد حسين فضل الله في الميزان ">‎ ‎<META NAME="description" CONTENT=" مقولات السيد فضل الله في كتبه ">‎ ‎<META NAME="author" CONTENT=" مقولات السيد فضل الله بصوته ">‎ ‎<META NAME="copyright" CONTENT=" رأي المراجع العظام والعلماء ">‎ <‎/HEAD>