مناظرة أُمّ سلمة مع عائشة في حكم الخروج على أمير المؤمنين عليه السلام

قال أبو محمد أحمد بن أعثم الكوفي في كتابه الفتوح ـ عند ذكره أخبار وحوادث حرب الجمل ـ : وأقبلت عائشة(1)حتى دخلت على أم سلمة(2)زوجة النبي صلى الله عليه وآله وهي يومئذ بمكة ، فقالت لها : يا بنت أبي أمية ! إنك أول ظعينة هاجرت مع رسول الله صلى الله عليه وآله ، وأنت كبيرة أمهات المؤمنين ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله يقسم لنا بين بيتك ، وقد خُبّرت أن القوم استتابوا عثمان بن عفان حتى إذا تاب وثبوا عليه فقتلوه ، وقد أخبرني عبدالله بن عامر أن بالبصرة مائة ألف سيف يقتل فيها بعضهم بعضاً ، فهل لك ، أن تسيري بنا إلى البصرة ، لعل الله تبارك وتعالى أن يصلح هذا الاَمر على أيدينا ؟
قال : فقالت لها أم سلمة رحمة الله عليها : يا بنت أبي بكر ! بدم عثمان تطلبين ! والله لقد كنتِ من أشدّ الناس عليه ، وما كنتِ تسميه إلاّ نعثلاً(3)، فما لك ودم عثمان؟ وعثمان رجل من عبد مناف وأنت امرأة من بني تيم بن مرّة ، ويحكِ يا عائشة ! أعلى عليّ وابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله تخرجين ، وقد بايعه المهاجرون والاَنصار ؟
(إنّكِ سُدَّةُ رسول الله صلى الله عليه وآله بين أمته وحجابُكِ مضروبٌ على حرمته ، وقد جمع القرآن ذيلك فلا تندحيه ، ومكّنك خفرتك فلا تضحيها ، الله الله من وراء هذه الآية ! قد علم رسول الله صلى الله عليه وآله مكانك ، فلو أراد أن يعهد إليك لفعل ، بل نهاك عن الفُرطة في البلاد ، إن عمود الدين لا يُقام بالنساء إن مال ، ولا يُرأب بهن إنْ صُدِع ، حُماديات النساء ، غضُّ الاَطراف ، وخفُّ الاَعطاف ، وقصر الوهازة ، وضم الذيول ، ما كنتِ قائلة لو أن رسول الله صلى الله عليه وآله عارضكِ ببعض الفلوات ، ناصَّة قلوصاً من منهل إلى آخر ! قد هتكتِ صداقتهُ ، وتركتِ حرمتَهُ وعهدَته ، إن بعين الله مهواكِ ، وعلى رسول الله صلى الله عليه وآله تردين ، والله لو سِرتُ مسيركِ هذا ثم قيل لي: أدخُلي الفردوس ، لاستحييت أن ألقى محمداً صلى الله عليه وآله هاتكةً حجاباً قد سترهُ عليَّ ، اجعلي حصنكِ بيتكِ ، وقاعة البيت قبرك ، حتى تلقينه ، وأنتِ على ذلك أطوع ما تكونين لله لزمْتِه ، وأنصرُ ما تكونين للدين ما جلستِ عنه .
فقالت لها عائشة : ما أعرفني بوعضك ، وأقبلني لنصحكِ ، ولنعم المسيرُ مسيرٌ فزعتُ إليه ، وأنا بين سائرةٍ أو متأخرةٍ ، فإن أقعدْ فعن غير حرج ، وإن أسر فإلى ما لا بُدَّ من الاَزدياد منه)(4).
ثم جعلت أم سلمة رضوان الله عليها تذكّر عائشة فضائل علي عليه السلام فقالت لها: (وإنكِ لتعرفين منزلة علي بن أبي طالب عليه السلام عند رسول الله صلى الله عليه وآله أفأذكّرك ؟
قالت : نعم .
قالت : أتذكرين يومَ أقبل صلى الله عليه وآله ونحن معه ، حتى إذا هبط من قديد ذات الشمال ، خلا بعليّ يناجيه ، فأطال ، فأردتِ أن تهجُمين عليهما ، فنهيتُكِ ، فعصيتيني ، فهجمتِ عليهما ، فما لبثتِ أن رجعتِ باكيةً .
فقلتُ : ما شأنك ؟
فقلتِ : انّي هجمت عليهما وهما يتناجيان ، فقلتُ لعلي عليه السلام : ليس لي من رسول الله صلى الله عليه وآله إلاّ يومٌ من تسعة أيّام ، أفما تدَعني يا بن أبي طالب ويومي ! فأقبل رسول الله صلى الله عليه وآله عليّ ، وهو غضبان محمرّ الوجه ، فقال صلى الله عليه وآله : ارجعي وراءك ، والله لايبغضه أحدٌ من أهل بيتي ولا من غيرهم من الناس إلاّ وهو خارج من الاِيمان ، فرجعتِ نادمةً ساخطة !
قالت عائشة : نعم أذكر ذلك .
قالت : وأذكّركِ أيضاً ، كنتُ أنا وأنتِ مع رسول الله صلى الله عليه وآله وأنتِ تغسلين رأسه ، وأنا أحيس له حيساً ، وكان الحيس(5)، يعجبه ، فرفع رأسه ، وقال صلى الله عليه وآله : يا ليت شعري أيتكنّ صاحبة الجمل الاَذنب(6)، تنبحها كلاب الحوأب(7) ، فتكون ناكبةً على الصراط ! فرفعت يدي من الحيس ، فقلت : أعوذ بالله وبرسوله من ذلك ، ثم ضرب على ظهرك ، وقال صلى الله عليه وآله : إيّاك أن تكونيها ، ثم قال : يا بنت أبي أمية إيّاك أن تكونيها يا حُميراء ، أما أنا فقد أنذرتك ، قالت عائشة : نعم ، أذكر هذا .
قالت : وأذكركِ أيضاً ، كنتُ أنا وأنتِ مع رسول الله صلى الله عليه وآله في سفر له ، وكان عليّ عليه السلام يتعاهد نعلَي رسول الله صلى الله عليه وآله فيخصِفها ، ويتعاهد أثوابه فيغسلها ، فنقبت له نعلٌ ، فأخذها يومئذٍ يخصفها ، وقعد في ظل سَمُرة ، وجاء أبوك ومعه عمر ، فاستأذنا عليه ، فقمنا إلى الحجاب ، ودخلا يحادثانه فيما أراد ، ثمّ قالا : يا رسول الله ، إنّا لا ندري قدر ما تصحبنا ، فلو أعلمتنا مَنْ يستخلف علينا ، ليكون لنا بعدك مفزعاً؟ فقال لهما : أما إنّي قد أرى مكانه ، ولو فعلت لتفرّقتم عنه ، كما تفرقت بنو إسرائيل عن هارون بن عمران ، فسكتا ثم خرجا ، فلما خرجنا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله قلتِ له ، وكنتِ أجرأ عليه منّا ! مَنْ كنت يا رسول اللهصلى الله عليه وآله مستخلفاً عليهم ؟ فقال صلى الله عليه وآله : خاصف النعل ، فنظرنا فلم نر أحداً إلاّ علياً عليه السلام .
فقالت : فأي خروج تخرجين بعد هذا ؟
فقالت : إنما أخرج للاِصلاح بين الناس ، وأرجو فيه الاَجر إن شاء الله.
فقالت : أنتِ ورأيكِ !) (8).
وعبدالله بن الزبير على الباب يسمع ذلك كلّه ، فصاح بأم سلمة وقال : يا بنت أبي أمية ! إننا قد عرفنا عداوتكِ لآل الزبير .
فقالت أم سلمة : والله لتورِدنّها ثم لا تصدرنّها أنت ولا أبوك ! أتطمع أن يرضى المهاجرون والاَنصار بأبيك الزبير وصاحبه طلحة ، وعلي بن أبي طالب عليه السلام حي ، وهو ولي كلّ مؤمن ومؤمنة ؟
فقال عبدالله بن الزبير : ما سمعنا هذا من رسول الله صلى الله عليه وآله ساعة قط !
فقالت أم سلمة رضوان الله عليها : إن لم تكن أنت سمعتَه فقد سمعتهُ خالتك عائشة ، وها هي فاسألها ! فقد سمعته صلى الله عليه وآله يقول : علي خليفتي عليكم في حياتي ومماتي فمن عصاه فقد عصاني ، أتشهدين يا عائشة بهذا أم لا ؟
فقالت عائشة : اللهمّ نعم !
قالت أم سلمة رضوان الله عليها : فاتّقي الله يا عائشة في نفسك ، واحذري ما حذرك الله ورسوله صلى الله عليه وآله ، ولا تكوني صاحبة كلاب الحوأب ، ولا يغرنك الزبير وطلحة فإنهما لا يغنيانِ عنكِ من الله شيئاً .
قال : فخرجت عائشة من عند أم سلمة وهي حنقة عليها ، ثم إنّها بعثت إلى حفصة فسألتها أن تخرج معها إلى البصرة ، فأجابتها حفصة(9)إلى ذلك(10).
وفي بعض الاَخبار : وخرجت ، فخرج رسولها فنادى في الناس : مَنْ أراد أن يخرج فليخرج فإن أمّ المؤمنين غير خارجة !
فدخل عليها عبدالله بن الزبير فنفث في أذنها وقلبها في الذِّروة ، فخرج رسولها فنادى : مَنْ أراد أن يسير فليسر فإنّ أمّ المؤمنين خارجة ، فلمّا كان من ندمها أنشأت أمُّ سلمة تقول :


لو أن معتصمـاً من زلّة أحدٌ***كانت لـعائشة العتبى علـى الناس
كـم سنّة لرسول الله تـاركة*** وتلو أيًّ مـن الـقرآن مــدراس
قد ينزع الله من ناس عقولهم *** حتى يكون الذي يقضي على الناس
فيرحم الله أمَّ المـؤمنين لـقد *** كانـت تبدّل إيـحاشاً بإيناس(11)

فقالت لها عائشة : شتمتيني يا أخت !!
فقالت لها أمّ سلمة : ولكن الفتنة إذا أقبلت غضت عيني البصير ، وإذا أدبرت أبصرها العاقل والجاهل.(12)
____________
(1) عائشة : هي بنت أبي بكر عبدالله بن أبي قحافة ، وأمّها أم رومان ابنة عامر بن عويمر بن عبد شمس ، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله بعد وفاة خديجة عليه السلام وهي بنت سبع سنين وبنى عليها بالمدينة وهي بنت تسع سنين وعشرة أشهر ، وقيل أن رسول الله صلى الله عليه وآله لم يتزوج بكراً غيرها على رواية ، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وآله عنها وهي بنت عشرين سنة وقيل ثمانية عشر سنة ، وتوفيت في سنة 57 للهجرة وقيل سنة 58 للهجرة وعمرها أربع وستون سنة ، ودفنت بالبقيع في زمن معاوية ، راجع ترجمتها في : تنقيح المقال للمامقاني : ج 3 ص 81 (من فصل النساء) ، سفينة البحار للقمّي : ج2 ص 296 ، سير أعلام النبلاء : ج 2 ص 135 ترجمة رقم : 19 .
(2) أُم سلمة : هي هند بنت أبي أميّة بن المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم القرشية المخزومية ، وأمها عاتكة بنت عبد المطلب ، وكانت قبل زواجها بالنبي صلى الله عليه وآله عند أبي سلمة بن عبد الاَسد المخزومي ، وولدت له سلمة وعمر وزينب وتوفي فخلف عليها رسول الله صلى الله عليه وآله بعده في سنة اثنتين من الهجرة ، وقيل في شوال سنة أربع ، وكانت من المهاجرات إلى الحبشة ثمّ إلى المدينة ، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله ، وحالها في الجلالة والاَخلاص لاَمير المؤمنين عليه السلام والزهراء عليه السلام و والحسنين عليهما السلام أشهر من أن يذكر ، وأجلى من أن يُحرر ، وقد ورد في الاَخبار انها أفضل أزواج النبي صلى الله عليه وآله بعد خديجة عليه السلام ، ومن فضائلها تسليم رسول الله صلى الله عليه وآله لها تربة سيّد الشهداء عليه السلام وإخباره إيّاها بانّها متى فاضت دماً فاعلمي انّ الحسين عليه السلام قد قتل ، وكذلك فعل الحسين عليه السلام لما عزم على المضي إلى العراق ، وقيل أيضاً انّه عليه السلام سلم إليها كتب علم أمير المؤمنين عليه السلام وذخائر النبوّة وخصائص الاِمامة فلما قتل عليه السلام ورجع علي بن الحسين عليه السلام دفعتها إليه ، إلى غير ذلك من الاَخبار في فضلها وجلالتها ، وناهيك عن أحاديثها عن رسول الله صلى الله عليه وآله في فضل أمير المؤمنين عليه السلام ودفاعها عنه ، توفيت رضوان الله عليها في سنة 63 للهجرة ، وقيل انّها آخر من ماتت من أزواج النبي صلى الله عليه وآله : راجع ترجمتها في : تنقيح المقال للمامقاني : ج 3 ص 72 (من فصل النساء ، سفينة البحار للقمّي: ج1 ص 642 ، سير أعلام النبلاء : ج 2 ص 201 ترجمة رقم : 20 .
(3) تقدّمت تخريجاته.
(4) يوجد هذا المقطع من مناظرتهما في : الجمل والنصرة لسيد العترة للمفيد : ص 236 ـ 237 ، الاَختصاص للمفيد : ص 116 ـ 118 ، الاَحتجاج للطبري : ج 1 ص 167 ، وقد رواه عن الاِمام الصادق عليه السلام ، بحار الاَنوار للمجلسي : ج 32 ص 128 ، غريب الحديث لابن قتيبة : ج 2 ص 182 ، الاِمامة والسياسة : ج 1 ص 56 ـ 57 ، بلاغات النساء لابن طيفور: ص7 ـ 8 ، تاريخ اليعقوبي : ج 2 ص 180 ـ 181 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج6 ص 220 ـ 221.
(5) الحيس : تمر يخلط بسمن وأقط ، فيعجن ويدلك حتى تمتزج ثم يندر نواه .
(6) أو الاَدبب ، وهو كثير الشعر .
(7) الحوأب : موضع في طريق البصرة محاذي البقرة ، وهو من مياه أبي بكر بن كلاب ، وقال نصر : الحوأب من مياه العرب على طريق البصرة ، وقيل : سمي الحوأب بالحوأب بنت كلب بن وبرة ، وقال أبو منصور : الحوأب موضع بئر نبحت كلابه عائشة عند مقبلها إلى البصرة. وروى أبو مخنف بسنده عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال يوماً لنسائه ، وهنّ عنده جميعاً : ليت شعري أيتكنّ صاحبة الجمل الاَدبب تنبحها كلاب الحوأب ، يُقتل عن يمينها وشمالها قتلى كثيرة ، كلهم في النار ، وتنجو بعدما كادت !
وروى محمد بن إسحاق ، عن حبيب بن عمير ، قالوا جميعاً : لما خرجت عائشة وطلحة والزبير من مكة إلى البصرة ، طرقت ماء الحوأب ، وهو ماء لبني عامر بن صعصعة ، فنبحتهم الكلاب ، فنفرت صعاب إبلهم ، فقال قائل منهم : لعن الله الحوأب فما أكثر كلابها ! فلما سمعت عائشة ذكر الحوأب قالت : أهذا ماء الحوأب ؟ قالوا : نعم ، فقالت : ردّوني ردّوني ! فسألوها ما شأنها ؟ ما بدا لها ؟ فقالت : إنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : كأني بكلاب ماءٍ يُدعى الحوأب ، قد نبحت بعض نسائي ، ثم قال لي : إياكِ يا حميراء أن تكونيها ! فقال لها الزبير : مهلاً يرحمك الله ، فإنّا قد جزنا ماء الحوأب بفراسخ كثيرة ، فقالت : أعندك مَنْ يشهد بأن هذه الكلاب النابحة ليست على ماء الحوأب ؟ فلفق لها الزبير وطلحة خمسين أعرابياً جعلا لهم جُعلاً ، فحلفوا لها ، وشهدوا أن هذا الماء ليس بماء الحوأب ، فكانت هذه أوّل شهادة زور في الاِسلام . راجع : شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج 9 ص 310 ـ 311 ، وج 6 ص 225 ، سير أعلام النبلاء : ج 2 ص 177 ، تاريخ الطبري : ج 4 ص 457 ، الكامل في التاريخ : ج 3 ص 210 ، معجم البلدان للحموي : ج 2 ص 314 .
(8) ما بين القوسين هو ما ذكره ابن أبي الحديد عن أبي مخنف في شرح نهج البلاغة : ج 6 ص 217 ـ 218 .
(9) وفي تاريخ الطبري : ج 4 ص 451 ، وأرادت حفصة الخروج فأتاها عبدالله بن عمر فطلب إليها أن تقعد فقعدت ، وبعثت إلى عائشة أن عبدالله حال بيني وبين الخروج ، فقالت : يغفر الله لعبدالله .
(10) كتاب الفتوح لابن الاَعثم : ج 2 ص 281 ـ 283 ، بحار الاَنوار للمجلسي : ج 32 ص 162 ـ 164 ، الاختصاص للمفيد ص 116 ـ 120 ، الاَحتجاج للطبرسي : ج 1 ص 165 ـ 167.
(11) الاختصاص للمفيد : ص 119 ـ 120 ، بحار الاَنوار للمجلسي : ج 32 ص 164 .
(12) الاَحتجاج للطبرسي : ج 1 ص 168 .

العودة