مناظرة هشام بن‌الحكم مع عالم شامي بمحضر الصادق ( عليه السلام )

عن يونس بن يعقوب قال : كنت عند أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ‍ فورد عليه رجل من أهل الشام فقال : إني رجل صاحب كلام وفقه وفرائض ، وقد جئت لمناظرة أصحابك .
فقال له أبو عبد الله ـ عليه السلام ـ : كلامك هذا من كلام رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ أو من عندك ؟
فقال : من كلام رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ بعضه ، ومن عندي بعضه .
فقال أبو عبد الله : فأنت إذاً شريك رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ ؟
قال : لا .
قال : فسمعت الوحي من الله تعالى ؟
قال : لا .
قال : فتجب طاعتك كما تجب طاعة رسول الله ؟
قال : لا .
قال : فالتفت إليّ أبو عبد الله ـ عليه السلام ـ فقال : يا يونس هذا خصم نفسه قبل أن يتكلم .
( الى أن قال يونس ) : وكنّا في خيمة لابي عبد الله ـ عليه السلام ـ في طرف جبل في طريق الحرم ، وذلك قبل الحج بأيام ، فأخرج أبو عبد الله ـ عليه السلام ـ رأسه من الخيمة فإذا هو ببعير يخب ، قال : هشام ورب الكعبة .
قال : وكان شديد المحبة لابي عبد الله ، فإذا هشام بن الحكم ، وهو أول ما اختطت لحيته ، وليس فينا إلاّ من هو أكبر منه سناً ، فوسّع له أبو عبد الله وقال : ناصرنا بقلّبه ولسانه ويده .
ثم قال للشامي : كلّم هذا الغلام ! يعني : هشام بن الحكم .
فقال : نعم ، ثم قال الشامي لهشام : يا غلام سلني في إمامة هذا يعني : أبا عبد الله ـ عليه السلام ـ ؟
فغضب هشام حتى ارتعد ، ثم قال له : أخبرني يا هذا أربك أنظر لخلقه ، أم خلقه لانفسهم ؟
فقال الشامي : بل ربي أنظر لخلقه !
قال : ففعل بنظره لهم في دينهم ماذا ؟
قال : كلفهم ، وأقام لهم حجة ودليلاً على ما كلفهم به ، وأزاح في ذلك عللهم .
فقال له هشام : فما هذا الدليل الذي نصّبه لهم ؟
قال الشامي : هو رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ .
قال هشام : فبعد رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ من ؟
قال : الكتاب والسنة .
فقال هشام : فهل نفعنا اليوم الكتاب والسنة فيما اختلفنا فيه ، حتى رفع عنا الاختلاف ، ومكننا من الاتفاق ؟
فقال الشامي : نعم
قال هشام : فلم اختلفنا نحن وأنت ، جئتنا من الشام تخالفنا ، وتزعم أن الرأي طريق الدين ، وأنت مُقرّ بأن الرأي لا يجمع على القول الواحد المختلفين ؟
فسكت الشامي كالمفكر .
فقال أبو عبد الله ـ عليه السلام ـ : مالك لا تتكلم ؟
قال : إن قلت : إنّا ما اختلفنا كابرت .
وإن قلت : إن الكتاب والسنة يرفعان عنّا الاختلاف ، أبطلت (1) ، لانهما يحتملان الوجوه (2) ، ولكن لي عليه مثل ذلك .
فقال له أبو عبد الله : سله تجده مليّاً !
فقال الشامي لهشام : من أنظر للخلق ربهم أم أنفسهم ؟
فقال : بل ربهم أنظر لهم .
فقال الشامي : فهل أقام لهم من يجمع كلمتهم ، ويرفع اختلافهم ، ويبيّن لهم حقهم من باطلهم ؟
فقال هشام : نعم .
فقال الشامي : من هو ؟
قال هشام : أما في ابتداء الشريعة ، فرسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ‍ وأما بعد النبي فعترته .
قال الشامي : من هو عترة النّبي القائم مقامه في حجته ؟
قال هشام : في وقتنا هذا أم قبله ؟
قال الشامي : بل في وقتنا هذا .
قال هشام : هذا الجّالس يعني : أبا عبد الله ـ عليه السلام ـ ، الّذي تُشَد اليه الرّحال ويخبرنا بأخبار السماء وراثة عن جده .
قال الشامي : وكيف لي بعلم ذلك ؟
فقال هشام : سله عما بدا لك .
قال الشامي : قطعت عذري ، فعليّ السؤال .
فقال أبو عبد الله ـ عليه السلام ـ : أنا أكفيك المسألة يا شامي أخبرك عن مسيرك وسفرك ، خرجت يوم كذا ، وكان طريقك كذا ، ومررت على كذا ، ومر بك كذا ، فأقبل الشامي كلّما وصف شيئاً من أمره يقول : « صدقت والله » .
فقال الشامي : أسلمت لله الساعة !
فقال له أبو عبد الله ـ عليه السلام ـ : بل آمنت بالله الساعة ، إن الاسلام قبل الايمان وعليه يتوارثون ، ويتناكحون ، والايمان عليه يثُابون .
قال : صدقت ، فأنا الساعة أشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله وأنك وصيُّ الانبياء (3) .
____________
(1) ولذلك من الوظائف المعتبرة في الامام بعد النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ أن يُبيّن للامة ما أُرسل به النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ وما اختلفوا فيه ، لكي يرتفع عنهم الخلاف .
وهذان المعنيان قد نص عليهما النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ في علي بن ابي طالب ـ عليه السلام ـ ومن تلك النصوص الصريحة التي لا تقبل الشك :
(أ) ما روي عن ابي ذر عن النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ قال : « علي باب علمي ، ومبيّن من بعدي لامتي ما أرسلت به ، حبه ايمان ، وبغضه نفاق ... الحديـث » .
راجـع : كنز العمال ج11 ص614 ح32981 ، فتح الملك العلي بصحة حديث باب مدينة العلم علي ص18 ، ط الازهر ، وص47 ط الحيدرية ، الغدير للاميني ج3 ص96 .
(ب) ما روي عن أنس ، قال : قال ـ صلّى الله عليه وآله ـ « يا أنس أول من يدخل عليك من هذا الباب أمير المؤمنين وسيد المسلمين وقائد الغر المحجلين ، وخاتم الوصيين » .
قال أنس : قلت اللهم اجعله رجلاً من الانصار وكتمته .
اذ جاء علي فقال : « من هذا يا أنس ؟ » فقلت : علي ، فقام اليه مستبشراً فاعتنقه ، ثم جعل يمسح عرق وجهه بوجهه . قال علي : يا رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ لقد رأيتك صنعت شيئاً ما صنعت بي من قبل ؟ قال : « وما يمنعني وأنت تؤدي عني وتسمعهم صوتي وتبين لهم ما اختلفوا فيه بعدي » ؟
راجع : حلية الاولياء ج1 ص63 ، المناقب للخوارزمي الحنفي ص85 ح75 ، ترجمة امير المؤمنين من تاريخ دمشق ج2 ص487 ح1005 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج9 ص169 ، كفاية الطالب للكنجي الشافعي ص212 ، ميزان الاعتدال للذهبي ج1 ص64 .
(ت) ما روي عن انس ايضاً أن النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ قال لعلي : « أنت تبيّن لامتي ما اختلفوا فيه من بعدي » .
راجع : الحاكم في المستدرك ج3 ص122 ، كنزالعمال ج11 ص615 ح32983 ، المناقب للخوارزمي ص329 ح346 ، كنوز الحقائق للمناوي ص203 ، ينابيع المودة للقندوزي الحنفي ص182 ، ترجمة امير المؤمنين من تاريخ ابن عساكر ج2 ص488 ح1017 و1018 .
يقول السيد شرف الدين في كتابه المراجعات ص172 معلقاً على هذا الحديث : ان من تدبر هذا الحديث وأمثاله علم أن علياً من رسول الله بمنزلة الرسول من الله تعالى ، فان الله سبحانه يقول لنبيه : ( وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدىً ورحمة لقوم يؤمنون ) سورة النحل الاية 64 ، ورسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ يقول لعلي : « أنت تبيّن لامتي ما اختلفوا فيه من بعدي » .
(2) ومما لا يخفى أن القرآن الكريم فيه من المجمل والمفصل ، والمحكم والمتشابه ، والظاهر والمؤول ، والعام والخاص ، والناسخ والمنسوخ ، ما لا يمكن معرفته إلا بالرجوع إلى أولي الامر ، قال الله تعالى : ( ولو ردُّوه إلى الرسول وإلى أولي الامر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) سورة النساء : الاية 83 . وكذلك السنة أيضاً بالاضافة إلى وجود الدسّ ـ كما صرّحت بذلك الروايات ـ والكذب والافتراء على رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ حتى أنه قام فيهم خطيباً ـ كما يروى ـ وقال : ألا كثرت عليَّ الكذَّابة فمن كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار ، فلهذا كله وجب الرجوع إلى أولي الامر وهم أهل البيت ـ عليهم أفضل الصلاة والسلام ـ لمعرفة الوجه الصحيح من غيره والحق من الباطل .
(3) الاحتجاج للطبرسي ج2 ص364 ، ابن شهر آشوب في المناقب ج4 ص243 ، ارشاد المفيد ص278 ، اصول الكافي ج1 ص172 ، بحار الانوار ج48 ص203 ح7 .

العودة