الصفحة 421
ورسوله ؟ ! كلا فيا ليته ترك الأمة تختار لنفسها، ولم يجعلها شورى، لكان خيرا " له وللأمة على فرض أنهم لم يتفقوا.

ثم انظر إلى قوله: فإن اختلف ثلاثة وثلاثة، فأرجع الأمر إلى عبد الرحمن بن عوف، تجد الأمر ظاهرا " جليا " في عداوته إلى علي عليه السلام ولم لم يرجعهم إلى علي عليه السلام رأسا " ! ؟ ولكن الأمر مدبر بليل كما قدمنا لك في كتابتهم صكا "، وذلك بعد رجوعهم من يوم الغدير، إذ أنهم تصافقوا على إخراج علي منها، وإن أردت الوقوف على الحقيقة أكثر مما ذكرنا، فراجع الكتب المؤلفة في هذا الموضوع (كإحقاق الحق) (والصوارم المهرقة في الرد على الصواعق المحرقة) للشهيد السعيد الإمام القاضي نور التستري و (تشييد المطاعن) (1) وعبقات الأنوار، وغاية المرام، والغدير، ومؤلفات الإمام شرف الدين (ره) وغيرها من الكتب المؤلفة في هذا الشأن.

____________

1 - قال المؤلف: إن كتاب تشييد المطاعن لهو من أنفس الكتب وضعا "، وأجلها قدرا "، وأعظمها مكانة، ولعمر الله إنه لجوهرة قيمة، ودرة فريدة، ونادرة ثمينة، ويتيمة الدهر، ومعجزة العصر، ومفخرة الأيام، لم يأت مؤلف بمثله مؤلفا "، سبق فلم يسبق، وتقدم فلم يلحق، ولقد جمع فيه ما لم يوجد في غيره من المؤلفات الضخمة المشهود لها من كبار علماء الإسلام وفطاحلهم، لا يغبن من اقتناه، ولم يجهل من احتواه، وكم قد اهتدى بهذا السفر العظيم أقوام جمة، وطوائف عدة ممن لا يحصى عدهم في هذا الإملاء، وذلك في بلاد الهند وغيرها من البلاد الإسلامية وغير الإسلامية فاستبصروا، وأخذوا بمذهب الشيعة الأبرار، مذهب أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله الذي لا يرتاب أحد =

الصفحة 422

____________

= في أحقيته وصحته إلا مكابر معاند.

ولقد طبع هذا الكتاب القيم منذ زمن يربو على قرن تقريبا " في مجلدين ضخمين جدا " كل مجلد تربو عدد صفحاته على ألفي صحيفة تقريبا "، وذلك بالحجم الكبير، ولما طبع وانتشر آنذاك تلقفته أيدي العلماء والبلغاء وأرباب الفكر والقلم، وانهال عليه الناس من كل حدب وصوب حتى نفد، ولم يوجد منه في هذه الأيام سوى نسختين أو ثلاث أو أربع أو خمس على الأكثر على ما حدثني حفيد المؤلف سماحة العلامة الحجة المجاهد المولى السيد محمد سعيد (سعيد الملة) أسعده الله وحماه، ومن كل مكروه وقاه، ومن حسن التوفيق رأيت نسخة منه عام زيارتي للعتبات المقدسة لأئمة أهل البيت عليه السلام في مكتبة سماحة العلامة الحجة المجاهد السيد العباس الحسيني الكاشاني حفظه الله في مدينة كربلاء المقدسة، وقد رأيته أعظم وأعظم بكثير عما كنت أسمع عنه، فإنه جوهرة غالية لا قيمة لها.

وقد حدثني بعض الأعلام من أهالي النجف الأشرف إن نسخة منه كانت في مكتبة المرجع الأعلى زعيم الإسلام الأكبر المغفور له الإمام السيد أبي الحسن الإصفهاني (ره) وبعد وفاته بيع قسم وافر من مكتبته قضاء لديونه التي تكبدها في سبيل إعلاء كلمة الدين الحنيف، وترويج المذهب، وأخيرا " انتقلت تلك النسخة القيمة إلى مكتبات أوربا، وقد عزم سماحة العلامة السيد الكاشاني أيده الله على إعادة طبع هذا الأثر الخالد، وجعل المجلدين عشرين مجلدا " حسب الأسلوب الحديث مع تعليقات هامة نفيسة، فحيا الله سيدنا الحجة الكاشاني بهذه الخدمة الجليلة، والمشروع الحيوي الثقافي الإسلامي المقدس، وجزي عن الإسلام والمسلمين خيرا ".

أما مؤلف هذا السفر القيم، فهو سماحة المجتهد الأكبر، والمجاهد الأعظم، =

الصفحة 423

ثم جاء دور عثمان

قدمنا لك قريبا " أن عمر جعل أمر الخلافة في ستة، وأوصلها إلى عثمان بطريق خفي، وأسلوب دقيق، قال لعثمان ما سمعت بأنه سيحمل بني أمية وبني معيط على رقاب الناس، وسيأتي جماعة من ذؤبان العرب ويذبحونه، وقال: إذا كان ذلك فاذكروا قولي، وحقا " صدقت فراسة عمر في عثمان ! !

ففي اليوم الذي استولى فيه على دفة الحكم، اجتمع بنو أمية على عثمان، فدخل على ذلك الحشد الطاغي أبو سفيان، وقال: هل من عين علينا. قالوا: لا.

فقال: يا بني أمية ! تلقفوها تلقف الصبيان للكرة، فوالله ما من جنة ولا نار ! ثم طلب أن يأخذ واحد بيده، لأنه كان قد عمي، فذهب

____________

= عز الشريعة ورافع رأس الشيعة، سيد الطائفة وزعيمها آية الله العظمى، وحجتها الكبرى، الإمام السيد محمد قلي الموسوي النيسابوري، ثم الهندي والد سماحة المرجع الديني العظيم ونابغة المسلمين الإمام السيد (حامد حسين) صاحب الموسوعة الكبرى (عبقات الأنوار) كان (ره) من أكابر علماء الإسلام وفطاحل نوابغ المسلمين، وله اليد الطولى في ترويج الدين والمذهب، وله خدمات مشكورة، ومؤلفات جليلة خدم بها مذهب أجداده الطاهرين عليه السلام ولد (ره) سنة 1188 ه‍، وتوفي في يوم التاسع من محرم الحرام سنة 1268 في بلدة لكهنو، وكان يوم وفاته يوما " مشهودا " وقبره اليوم هناك مزار يتبرك به، فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيرا ".


الصفحة 424
إلى قبر الحمزة، وركل القبر برجله، وقال:

يا أبا عمارة ! إن الأمر الذي تضاربنا عليه قد صار إلينا ! !

هذه أول بادرة بدرت من شيخ الأحزاب أبي سفيان.

ولننظر الآن إلى ما يحدثه الخليفة الثالث عثمان.

فأول ما أحدث من البدع:

رده مروان الطريد ابن الطريد (1) الذي أبعده وأباه رسول الله صلى الله عليه وآله ولا زال مبعدا " مدة حياة الرسول صلى الله عليه وآله ثم مدة خلافة أبي بكر، فإنه قد كلم عثمان أبا بكر ليرده، فأبى عليه وقال له: لا أفعل أمرا " خلاف رسول الله صلى الله عليه وآله.

ثم لما صارت الخلافة إلى عمر كلمه من أجل مروان فأبى عليه، وأغلظ له في الكلام، ولما صارت الخلافة إلى عثمان رده فعوتب في ذلك، فقال:

إنما هو من أرحامي، واحتج على أنه كلم رسول الله صلى الله عليه وآله فوعده، كذا ذكر الحديدي.

أقول: إنه اختلق هذه الدعوى ليخفف من اللوم عليه فيما ابتدع.

ثم شرع في عزل من ولاهم عمر على البلاد، وخلف من الأمويين مكانهم، ثم أخذ يرتكب من الأمور التي سببت له القتل، وهي كثيرة نلتقط من أمهاتها ما يتيسر لنا، ونحيل القارئ على كتب التاريخ

____________

1 - قال المؤلف: ولم يكتف برده حتى زوجه ابنته واستوزره. ! !


الصفحة 425
المطولة، فإنه يجد أكداسا " مكدسة من أعمال بني أمية المنكرة التي هيجت الشعب على عثمان.

ومن أحداث عثمان إغداقه المال على بني قومه: طلب منه عبد الله بن خالد صلة، فأعطاه أربعة آلاف درهم ! وأعطى أبا سفيان مائتي ألف من بيت المال في اليوم الذي أمر فيه لمروان مائة ألف درهم، وزوجه ابنته واستوزره، كما تقدم.

وجاء زيد بن أرقم صاحب بيت المال بالمفاتيح، فوضعها بين يدي عثمان وبكى، فقال له عثمان: أتبكي أن وصلت رحمي ؟ قال:

لا، ولكن أبكي لأني أظنك أنك أخذت هذا المال عوضا " عما كنت أنفقته في سبيل الله في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وأنه لو أعطيت مروان مائة درهم لكان كثيرا ".

فغضب عثمان عليه، وقال:

ألق المفاتيح يا بن أرقم، فإننا نجد غيرك.

وأتاه أبو موسى بأموال من العراق جليلة، فقسمها في بني أمية.

وأنكح ابنته الأخرى للحارث بن الحكم، فأعطاه مائة ألف درهم من بيت المال أيضا " بعد أن صرف زيد بن أرقم.

وانضم إلى هذه الأمور أمور أخرى كثيرة نقم عليه المسلمون.

وضرب ابن مسعود ضربا " مبرحا "، فكسر أضلاعه، وفتق فيه فتقا "، وعلى أثرها مات !

وأبعد أبا ذر الغفاري إلى الربذة وابنته وزوجته، فمات أبو ذر

الصفحة 426
غريبا " في تلك الأرض القاحلة !

وأرسل كتابا إلى معاوية يأمره بقتل جماعة من المسلمين !

إلى كثير وكثير جدا " مما هو ملئ في كتب السير والتاريخ لأعاظم علماء السنة، فراجع.

أقول: أهكذا ينبغي أن يكون خليفة المسلمين ! ؟

وخلافة عثمان ومن تبعه نتيجة يوم السقيفة، وهي نتيجة عدم تقبلهم نصوص القرآن، ومخالفتهم أوامر الرسول صلى الله عليه وآله ولو أنهم سمعوا وأطاعوا لما وقعوا في مثل هذه الأحوال التي لا تليق بشرع النبي صلى الله عليه وآله.

فالرسول الأعظم صلى الله عليه وآله ما ترك شيئا " يقرب الأمة من الجنة، وما ترك شيئا " يبعدهم من النار إلا بينه لهم، ولكن النفوس الخبيثة تأبى قبول الحق، وسمعت قول عمر عندما عاب على الستة، قال لعلي عليه السلام:

لله أبوك ! أنت لولا دعابة فيك، أما والله لئن وليتها لتحملنهم على الحق الواضح، والمحجة البيضاء.

تأمل قول عمر لعلي عليه السلام: (فيك دعابة) !

ليت شعري أي دعابة فيه ؟ !

نعم كان الإمام سمحا " طلق الوجه، ذا بشاشة لا عيب فيه، سليما " من كل ما في غيره من الفظاظة والمماكرة، متواضعا " مستوفي الصفات الكاملة، كابن عمه سيد الأنبياء الذي جاء ليتمم مكارم الأخلاق، لكن عمر لما لم يجد فيه ما يخدشه، عاب عليه بما هو من الكرم بمكان.


الصفحة 427
ثم لماذا جعلها شورى وعلي هو علي ؟ !

فهل كان عمر لا يريد للأمة خيرا " حتى أتى بهذا الأسلوب ليصرفها عن علي ويسلمها إلى عثمان الأموي، حتى جنى على الأمة جناية باقية على مدى الدهر، فكانت سببا " قويا " تذرع بها معاوية حيث قتل عثمان، وهو لا يريد أن يثأر لعثمان، بل جعلها ذريعة لمخالفة علي فحسب ؟ !

ونراه لما تدعم أمره، لم يطالب بما كان يطالبه من ذي قبل.

ثورة الشعب على الخليفة

ثار الشعب على الخليفة لما رأوا عثمان تجاوز الحدود من أهل المدينة، ومن البصرة، ومن مصر وغيرها، وحاصروه في داره، وطلبوا منه أن يخلع نفسه، أو يسلمهم مروان.

وذلك أن واليه في مصر أخذ يجحف بأهلها، فتوسط بالحادث علي عليه السلام فأجابه عثمان على عزله، ووضع محمد بن أبي بكر، فكتب كتابا " إلى عامله ابن أبي سرح: (إذا أتاك كتابي هذا، فاعزل نفسك).

فركب محمد بن أبي بكر، ومعه وفد ساروا يريدون مصر، ولما ساروا مسافة ثلاثة أيام، فبينما هم سائرون، وإذا براكب ناقة يحث السير، فرأوه من بعيد يجانب عنهم، فقطعوا عليه الطريق، وإذا هو عبد عثمان، والناقة له، فقالوا له: إلى أين ؟

قال: إلى مصر.

قالوا: لماذا ؟


الصفحة 428
قال: أحمل كتابا " للخليفة. فأخذوا الكتاب منه، وإذا فيه:

إذا أتاك محمد بن أبي بكر فاقتله ! ! !

بدل كلمته [إلى] فاقتله على ما رواه المؤرخون وأهل السير (1)، فخافوا من ذلك، ورجعوا إلى المدينة، وعرضوا الكتاب على الناس الذين كانوا محيطين بالدار، فلما أخذ علي الكتاب وقرأه، اغتاظ ودخل على عثمان، وقال:

ما هذا يا عثمان ؟ فأنكر وحلف الأيمان بأنه لا علم له، فقالوا له: الخط خطك، والختم ختمك، والجمل جملك !

فاعترف بكل ذلك، فقالوا: اعزل نفسك. فأبى وامتنع من أن يسلم مروان !

هنا ثارت عليه ذؤبان العرب كما قال عمر، ولكن لله در أبي الحسن تدخل في الأمر فخفض من غلواء ثورة القوم، فجاء عثمان الجامع، واكتظ الجامع بالناس مع وجود أمير المؤمنين عليه السلام فصعد عثمان المنبر، وأوعز إلى القوم ما شرط من تبديل عماله، وإعطاء الحقوق لذويها، إلى كثير مما كان، وأشهد على نفسه بذلك، وعزم كل إلى الذهاب إلى بلده.

دخل الخليفة داره، وإذا بمروان جالس ينتظره، فقال: ما كان من هذا الاجتماع ؟ فأخبره بما كان، فقال له:

____________

1 - راجع تاريخ اليعقوبي: 2 / 175.


الصفحة 429
للموت أهون من إعطائك الدنيئة، وأنت الخليفة ونحن قومك، ارسل إلى ابن عمك معاوية، واطلب منه النصر.

فنقض الخليفة التوبة، وسار على رأي مروان صهره ووزيره.

وكانت زوجة عثمان نائلة (1) تسمع ما قال مروان، وما عزم عليه الخليفة من الرجوع عما أعطى القوم من العهد والميثاق، فانبرت إلى مروان، وقالت: لا شك أنك قاتله، وميتم أولاده !

فقال لها مروان: اسكتي إن أباك لا يصلح الوضوء.

فأجابت مروان بجواب أزعجته به، ثم التفتت إلى زوجها وقالت له:

إن أنت بقيت على الأخذ بمشورة مروان، فاعلم أنك مقتول لا محالة.

وانتظر الثوار طويلا "، فرأوه لم يف شيئا " مما أعطى لهم من المواعيد، وكان قد كتب إلى الطاغية معاوية أن ينصره على الثوار، فأرسل معاوية جيشا "، أمر عليه أحد قواده وأوصاه أن لا يدخل المدينة، وأكد عليه، وقال: إياك أن تخالف ما أمرتك به !

أقول: هكذا ينبغي أن يكون الخليفة، وهكذا أن يكون الوزير، وهكذا ينبغي أن يكون الناصر، ذرية أموية بعضها من بعض ! !

وقصد الطاغية معاوية بوصيته تلك أن يعلم الثوار بمجئ الجيش لنصرة الخليفة عثمان فيعجلوا بقتله، واجتمع الثوار، وأحاطوا

____________

1 - هي نائلة بيت الفرافصة الكلبية.

الصفحة 430
بالدار، ومنعوا عنه الماء، فأرسل إلى أبي الحسن أن يتدارك له الأمر، فأرسل إليه بالماء، ولم يأته إذ أنه نصحه، فلم يصغ للنصيحة.

ويقول المؤرخون: إن أمير المؤمنين عليه السلام أرسل الحسن والحسين والخادم قنبر أن لا يدعوا أحدا " يدخل عليه الدار، ولما طال الحال بهم، وسمعوا بمدد جاء من قبل الطاغية معاوية، تسلقوا الحائط، ونزلوا إلى الدار وقتلوه، فرمت زوجته نفسها عليه، فقطعت أصابعها فقتل الخليفة، ورجع الجيش حسبما أشار عليهم معاوية (1).

الفتنة بمقتله

ثارت ثورة معاوية، وأخذ يحرض أهل الشام على أخذ الثأر ويطلب من علي أن يسلمه قتلة عثمان الخليفة المظلوم !

وحمل إليه قميصه وزوجته، فرفعوا القميص ليراه كل داخل.

وأما الخليفة، فبقي ثلاثة أيام بغير دفن على ما رواه الرواة حتى أكلت الكلاب فخذه، ودفنوه ليلا " في (حش كوكب) وهو مقبرة لليهود.

تحريض عائشة على عثمان

وقد فاتنا أن نذكر تحريض عائشة على عثمان، إذ سألت عن ذلك الحادث فقالت: اقتلوا (نعثلا) فقد كفر - تعني عثمان - وقالت: لو أني

____________

1 - راجع نهج البلاغة: 2 / 157.

الصفحة 431
تمكنت من مروان وعثمان، لجعلت في رجل كل منهما رحى، وقذفت بهما في البحر.

ثم ركبت جملها، وأخذت عبدها، وذهبت إلى مكة تقصد العمرة، وبقيت هناك حتى بلغها قتل عثمان، فركبت وقصدت المدينة، فقابلها رجل في الطريق، وهو مقبل من المدينة، فقالت: ما وراءك ؟ قال: قتل الخليفة عثمان.

قالت: ثم ماذا ؟ قال: تخلف علي بن أبي طالب.

فقالت: ردوني، فوالله لو طبقت هذه على هذه - تعني السماء على الأرض - لكان أهون علي من قتل عثمان !


الصفحة 432

الخلافة الحقة للإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام

فلما قتل عثمان، وانتهى دوره، ردت الخلافة إلى أهلها، أعني الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أخو رسول الله صلى الله عليه وآله، وخدنه ووارث علمه، وأبو ذريته، وقاضي دينه، والخليفة من بعده، الذي نص الله ورسوله عليه بالخلافة دون غيره في كثير من المواطن المشهورة.

فبايعه الناس، وأول من بايع له طلحة، ثم الزبير، ثم انهال الناس عليه حتى وطئ الحسنان، وأعلن الإمام علي عليه السلام أن لا يكره أحد على البيعة، وهذا صحيح لأنه هو الإمام، وإن لم يبايعه أحد، لأن الوصي كالرسول لقيامة مقامه سواء بسواء إلا النبوة، فيكون منصوصا " عليه من الله والرسول معصوما "، فلا تنعقد خلافة بأهل الحل والعقد (1) لعدم معرفتهم بمن يصلح لها فلا وزن لهم حتى ولا بالشورى ولا بالانتخاب.

وقد رأينا في عصرنا الحاضر كثيرا " من الوقائع ما يدلنا على الزمن الغابر، فالناس ناس، والزمان زمان، قديما " وحديثا "، وقد رأينا من

____________

1 - قال المؤلف: إذ أن أهل الحل والعقد هم بؤرة الفساد، فكل منهم يجر النار إلى قرصه فتأمل.

الصفحة 433
كثير من الصحابة ممن تعرفهم [أتى] عملا "، فور وفاة الرسول صلى الله عليه وآله، لا يأتي به أوساط الناس في أي عصر وزمان، فتركوا النبي صلى الله عليه وآله مسجى على فراشه - بأبي وأمي - وأخذوا يتراكضون على الخلافة، كأنها سلعة ينالها من سبق إليها، مع علمهم بما رأوا وسمعوا من النصوص على علي أمير المؤمنين عليه السلام.

وهذا دليل على عدم صحة مدعى القوم بعدالة الصحابة أجمعين، ونحن نقول فيهم العدل وغير العدل.

وبالجملة فلما تم أمر الخلافة له عليه السلام أراد أن يقيم العدل بين الناس، فيجعل الضعيف يساوي القوي في العدل، لا فرق بينهما، وأن يقيم الحدود التي أنزلها الله في كتابه، وأمر بتنفيذها وأمثالها، غير أنه قامت عليه فرقة من المنافقين من حثالات الأمويين، وأذناب المروانيين، فأضرموا يوما " نار البصرة (الجمل) وأخرى نار (صفين) وثالثة حرب (الخوارج).

وهكذا رابعة وخامسة، فلم يجد - بأبي وأمي - راحة يدير دفة الحكم فيها، ويطبق نظام الإسلام، وقوانين القرآن بين المجتمع الإسلامي، ويحق الحق، ويبطل الباطل، ويحيي ما أماته غيره من الفرائض والسنن، فلم يتمكن - روحي فداه - من تنفيذ جميع ما أراده حتى يوم قتل بيد أشقى الأشقياء، ولحق بالرفيق الأعلى.


الصفحة 434

الصفحة 435

الفصل الثامن





1 - حادثة طارئة [مناظرة قبل استبصاره].
2 - مناظراته [بعد استبصاره].




الصفحة 436

الصفحة 437

حادثة طارئة

وفي بعض الأيام بينما أنا مشغول بتأليف كتاب (التفسير) (1) إذ أتاني آت - وهو ممن قد استبصر على يدنا، وذلك بعد الأخذ بمذهب الحق، مذهب الشيعة - رجل من قرية (حربنوش) يدعى (مصطفى عريش) وأخبرني أن رجلا " من قرية (الفوعة) التابعة إلى محافظة (أدب) يدعى الحاج (أحمد رشيد مندو) يقول:

إن الشافعي... !

فغاظني هذا الخبر، فاضطررت لمقابلته.

فاجتمعت معه في يوم من الأيام، وقلت له: أنت الذي تقول: إن الشافعي... ؟ قال: لا، قلت: سبحان الله ! إن فلانا أخبرني عنك أنك قلت ذلك !

قال: أنتم تقولون !

قلت: وكيف ذلك ؟ قال: إنكم تقولون:

بقي في بطن أمه أربع سنين !

قلت: كذا يقولون، ويدعون إنها كرامة له.

قال: وأي كرامة

____________

1 - وذلك قبل استبصاره بقرينة ما يأتي.

الصفحة 438
هذه ؟ ! والله لو بقي يوما " واحدا " لمات !

ثم شرعنا بالبحث، ووقع بيننا جدال عنيف، واحتدم النزاع بيننا في أمر الخلافة، فلم يحصل لنا في مجلسنا هذا سوى اتساع شقة الخلاف، مع حقد في الصدور، وهكذا ثانية وثالثة، غير إني أجد في نفسي عجزا " عن الدفاع والمقاومة، إذ الحق يعلو ولا يعلى عليه.

ومضت علينا مدة طويلة لم نجتمع، ثم أخبرني من أثق به أن رجلا " من قرية (بنش) وهي قرية قريبة من (الفوعة) يدعى الحاج (أحمد عبيد) هبط إلى (حلب) ونزل في فندق عند رجل شيعي يدعى السيد (عبد القادر الحاج موسى) وهو من السادة الأشراف من بني زهرة، وهو رجل جدلي، متعمق في الجدل حتى إذا أعجزه أمره، قال له:

أنتم تقولون: تاه الأمين !

قال له: لا نقولها، وحاشا مذهب الشيعة من هذه الخرافات والتهم الباطلة، وأنتم تنسبون كل ذلك للشيعة الأبرار كذبا " وعنادا " وتعصبا " ! قال: بلى تقولون: تاه الأمين.

فغضب الشيعي، وقال له مغضبا ": قم وانصرف من فندقي.

فقام الرجل وانصرف، فغاظني هذا الخبر أيضا "، فعزمت على الاجتماع به، ولما تمكنت من الاجتماع به، أتيته فوجدته بالفندق جالسا "، فبدأته بالسلام، فرد علي السلام بكل احترام، وأجلسني إلى جنبه.

وأخذ معي بالبحث العلمي، وكلما أعترض عليه يردني بالحجج القوية، ويرد على السنة من كتبهم، وأقوال علمائهم، بحيث يفحمني

الصفحة 439
ويقنعني، إلى أن وصلنا إلى مقتل عثمان، فقال لي: أنتم تقولون:

لعنة الله على من قتله، ثم تقولون: رضي الله عنهم ! كيف يجوز لعنهم والترضي عنهم في آن واحد ؟ ! فسكت عن الجواب.

فتركني وذهب إلى منزل السكنى، وأتاني بكتاب، وإذا هو كتاب (المراجعات) وقال لي: خذ هذ الكتاب.

قلت: وما هذا الكتاب ؟ قال: كتاب من مؤلفات الشيعة.

قلت: لا حاجة لي به فأعاد علي القول، فقلت له: إن الكتاب لا يقرأ في مجلس واحد !

فقال: خذه معك عارية.

وكان الوقت بعد العصر، فحملته وذهبت إلى منزلي، وبعد أن نام الأولاد وأمهم، خلوت بنفسي، وبدأت بالمطالعة، وهذا أول كتاب وصل إلي من كتب الشيعة، وما أن بدأت بقراءة المقدمة حتى أخذتني دهشة لما فيها من البلاغة، وتركيب الألفاظ، وسبك جملها... كما قدمنا قريبا "، وزادت دهشتي عند وصولي إلى (المراجعة الرابعة) إذ فيها القول الفصل لمن كان له عقل أو ألقى السمع وهو شهيد.

ولم أقتصر عليها، بل أخذت كلما انتهيت من واحدة بدأت في الأخرى، وهكذا إلى أن مضى علي أكثر من ثلثي الليل، وأنا لا أشعر بملل ولا كلل، لما وجدت فيه من حلاوة ألفاظه، وطلاوة عباراته، وحينئذ تفتحت أمامي أبواب الصدق والصواب الصائب الذي لا مرية فيه، ولست بمغال إن قلت: كأني صهرت في بودقة، وفقدت شعوري لأنه قد استدرجني الكتاب، وقادني إليه، فسرت معه مختارا "

الصفحة 440
أو غير مختار، فنمت قليلا "، وعند الصباح أتيت أخي، وكنا إذ ذاك في دار واحدة، فطرقت عليه الباب، وقلت له: خذ هذا الكتاب...

إلى آخر ما ذكرناه (1).

ثم رجعت إلى منزلي، وجعلت أفكر في هذا الأمر العظيم الشأن، فبينما كنا نعتقد أن الشيعة فرقة ضالة، وأن غيرها من الفرق على الصواب، وإذا الأمر بالعكس، فعقدت الضمير على التشيع، وهكذا أخي إذ أن الذي صرت إليه صار إليه سواء بسواء، فكان تشيعي ليلا "، وأخي صباحا "، وعند ذلك عزم أخي لمقابلة مؤلف هذا الكتاب العظيم (الإمام شرف الدين - ره -) وفعلا " ذهب إليه، وبقي عند سماحته ضيفا " بضعة أيام مكرما " معززا "، ولما عاد زوده بكتاب (أبي هريرة) وهذا كتاب ثان من كتب الشيعة.

قلت: كيف وجدت هذا الرجل ؟ فأجاب بما معناه أنه فوق ما نتصور، عالم كريم، سمح الخلق، يمت بالنسب إلى موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زين العابدين بن الحسين بن علي ابن أبي طالب عليهم السلام.

وعندئذ باشرنا في التبليغ، وتشيع معنا ثلة من ذوي الرأي، ثم ثلة وثلل كما تقدم منا قريبا " تفصيل ذلك، وقد ذكرنا أسماء المستبصرين في كتابنا (سبل الأنوار) ولما أخذنا بالمذهب الحق، واشتهر أمرنا أخذ يأتي إلينا الناس

____________

1 - في ص 53.

الصفحة 441
جماعات وأفرادا "، فمنهم متبسما "، ومنهم متغيظا "، وذلك للاحتجاج والمناظرات وللاستفادة.

وهناك مناظرات عديدة جرت بيننا وبين القوم، سنسجل جملة منها في كتابنا هذا تتميما " للفائدة، راجيا " من الله الثواب، ومن أصحاب العصمة آل بيت الرسول عليهم السلام الشفاعة يوم الحساب.

[مناظراته بعد استبصاره]

مناظرتي مع كبير علماء الشافعية

بعد اشتهار أمرنا بالتشيع، أتاني أحد أعاظم علماء الشافعية المشهورين بالعلم والفضيلة في مدينة حلب الشهباء، وسألني بكل لطف: لماذا أخذتم بمذهب الشيعة، وتركتم مذهبكم ؟

وما هو السبب الداعي لكم، واعتمادكم عليه ؟

وما هو دليلكم على أحقية علي بالخلافة من أبي بكر ؟

فناظرته كثيرا "، وقد وقعت المناظرات فيما بيننا مرارا "، وأخيرا " اقتنع الرجل (1).

ومن جملة المناظرة أنه سألني عن بيان الأحقية في أمر الخلافة.

هل أبو بكر أحق أم علي ؟

فأجبته إن هذا شئ واضح جدا " بأن الخلافة الحقة لأمير المؤمنين

____________

1 - قال المؤلف: استبصر سلمة الله تعالى أيضا "، وأخذ بالمذهب الحق، المذهب الجعفري، وإنما لم نصرح باسمه لأمر ما، والله العالم.

الصفحة 442
علي عليه السلام فور وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله ثم من بعده إلى الحسن المجتبى عليه السلام ثم إلى الحسين الشهيد بكربلاء عليه السلام ثم إلى علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام، ثم إلى محمد بن علي الباقر عليه السلام، ثم إلى جعفر بن محمد الصادق عليه السلام (1)، ثم إلى موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام، ثم إلى علي بن موسى الرضا عليه السلام، ثم إلى محمد بن علي الجواد عليه السلام ثم إلى علي بن محمد الهادي عليه السلام، ثم إلى الحسن بن علي العسكري عليه السلام، ثم إلى الحجة ابن الحسن المهدي الإمام الغائب المنتظر (عجل الله فرجه الشريف).

____________

1 - قال المؤلف: وهو الذي شهر المذهب، إذ سنحت له الفرصة يوم تكالبت الدولتان (الأموية والعباسية) على الدنيا، فنهض الإمام الصادق عليه السلام ونشر المذهب حتى كان ما يربو عنده على الأربعة آلاف طالب كلهم ملأ دلوه إلى غربه، فكان كل واحد منهم جدلي لا يمارى، ولا يجارى، لا يدركه الباطل ولا يفوته الحق، وعلى الأقل كان أحدهم يحفظ ستين أو سبعين ألفا " من الحديث، أو أكثر، كهشام بن الحكم، وزرارة، وأبي بصير، وجابر بن حيان، وغيرهم.

وأما أبو حنيفة، وإن كان قد أخذ عن الصادق عليه السلام سنتين كما يدعي هو لكنه انحرف أخيرا "، وألف لنفسه مذهبا " خاصا "، خالف فيه بكثير أستاذه الصادق عليه السلام، وكان بينهما بونا " شاسعا "، وقد غضب عليه الإمام جعفر عليه السلام، ودعا عليه لارتكابه ما لا يرضي الله.

فانصف بربك أيها المسلم واحكم بعدل وإخلاص، ودع العصبية، فإنك سوف تلاقي ربك، أمثل هذا يكون رئيسا " للمذهب ؟ !

فلا حول ولا قوة إلا بالله.

وإن شئت أن تعرف حال أبي حنيفة، فراجع أي كتاب من كتب التواريخ خصوصا " تاريخ بغداد للخطيب البغدادي المجلد الثالث عشر ص 181.


الصفحة 443
ودليل الشيعة على ذلك:

الكتاب الكريم، والسنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وآله من الطرفين وكتبهم مليئة من الحجج والبراهين الرصينة، ويثبتون مدعاهم من كتبكم ومؤلفاتكم إلا أنكم أعرضتم عن الرجوع إلى مؤلفات الشيعة والوقوف على ما فيها، وهذا نوع من التعصب الأعمى.

أما الكتاب فقوله تعالى: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) (1).

وإن هذه الآية نزلت في ولاية (علي) بلا ريب بإجماع الشيعة، وأكثر علماء السنة في كتب التفسير، كالطبري، والرازي، وابن كثير، وغيرهم فإنهم قالوا بنزولها في علي بن أبي طالب عليه السلام.

ومما لا يخفى على ذي مسكة بأن الله جل وعلا هو الذي يرسل الرسل إلى الأمم، لا يتوقف أمرهم على إرضاء الناس، وكذلك الوصاية تكون من الله لا بالشورى، ولا بأهل الحل والعقد، ولا بالانتخاب أبدا "، لأن الوصاية ركن من أركان الدين، والله جل وعلا لا يدع ركنا " من أركان الدين إلى الأمة تتجاذبه أهواءهم، كل يجر إلى قرصه.

بل لا بد من أن يكون القائم بأمر الله بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله منصوصا " عليه من الله، لا ينقص عن الرسل ولا يزيد، معصوما " عن الخطأ.

____________

1 - قال المؤلف: وقد تقدم القول في تفصيل هذه الآية الكريمة، وأنها نزلت في علي عليه السلام في ص 80.

الصفحة 444
فالآية نص صريح في ولاية علي عليه السلام، وقد أجمعت الشيعة وأكثر المفسرين من السنة أيضا " أن الذي أعطى الزكاة حال الركوع هو (علي) بلا خلاف، فتثبت ولايته عليه السلام أي خلافته بعد رسول الله صلى الله عليه وآله بهذه الآية:

فأورد علي حجة يدعي بها تدعيم خلافة أبي بكر، فقال:

إن أبا بكر أحق بالخلافة !

إذا أنه أنفق أموالا " كثيرة قدمها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وزوجه ابنته، وقام إماما " في الجماعة أيام مرض النبي صلى الله عليه وآله.

فأجبته قائلا ": أما إنفاق أمواله، فدعوى تحتاج إلى دليل يثبتها، ونحن لا نعترف بهذا الإنفاق، ولا نقر به، ثم نقول:

من أين اكتسب هذه الأموال الطائلة ؟ ومن الذي أمره به ؟

ولنا أن نسألك: هل الإنفاق كان في مكة أم بالمدينة ؟

فإن قلت: في مكة، فالنبي صلى الله عليه وآله لم يجهز جيشا "، ولم يبن مسجدا "، ومن يسلم من القوم يهاجره (1) إلى الحبشة، والنبي صلى الله عليه وآله وجميع بني هاشم لا تجوز عليهم الصدقة، ثم إن النبي صلى الله عليه وآله غني بمال خديجة كما يروون (2).

وإن قلت: بالمدينة، فأبو بكر هاجر ولم يملك من المال سوى

____________

1 - يعني يأمره بالهجرة.

2 - فإنفاق أبي بكر - على ما يدعيه الخصم - وعدمه سواء بسواء أمام هذا الحديث المشهور، إذ لا أثر له في سير الرسالة المباركة، لا بل هو لا يعد بشئ إذا قيس بسيف علي عليه السلام ناهيك عن بيتوتة علي عليه السلام على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وبذله مهجته وروحه وفاء له صلى الله عليه وآله والجود بالنفس أقصى غاية الجود، فتدبر، وانصف.

الصفحة 445
(600) درهم، فترك لعياله شيئا "، وحمل معه ما بقي ونزل على الأنصار، فكان هو وكل من يهاجر عالة على الأنصار، ثم إن أبا بكر لم يكن من التجار، بل كان تارة بزازا " يبيع - يوم اجتماع الناس - أمتعة يحملها على كتفه، وتارة معلم الأولاد، وأخرى نجارا " يصلح لمن يحتاج بابا " أو مثله.

وأما تزويجه ابنته لرسول الله صلى الله عليه وآله فهذا لا يلزم منه تولي أمور المسلمين به.

وأما صلاته في الجماعة - إن صحت - فلا يلزم منها تولي الإمامة الكبرى والخلافة العظمى، فصلاة الجماعة غير الخلافة، وقد ورد أن الصحابة كان يؤم بعضهم بعضا "، حضرا " وسفرا "، فلو كانت هذه تثبت دعواكم لصح أن يكون منهم حقيق بالخلافة، ولو صحت لادعاها يوم السقيفة لنفسه لكنها لم تكن آنذاك، بل وجدت أيام الطاغية معاوية لما صار الحديث متجرا "، ثم حديث الجماعة جاء عن ابنته عائشة فقط !

ولا ننسى لما سمع النبي صلى الله عليه وآله تكبيرة الصلاة، قال من يؤم الجماعة ؟ فقالوا: أبو بكر.

قال: احملوني فحملوه - بأبي وأمي - متعصبا " مدثرا "، يتهادى بين رجلين (علي، والفضل) حتى دخل المسجد.

فعزل أبا بكر وأم الجماعة بنفسه، ولم يدع أبا بكر يكمل الصلاة، فلو كانت صلاة أبي بكر بإذن النبي صلى الله عليه وآله أو برضاه، فلماذا خرج بنفسه صلى الله عليه وآله وهو مريض وأم القوم ؟ !

والعجب كل العجب من إخواننا أنهم يقيمون الحجة بهذه الأشياء

الصفحة 446
التي لا تنهض بالدليل، ويتناسون ما ورد في علي عليه السلام من الأدلة التي لا يمكن عدها، كحديث يوم الإنذار (1) إذ جمع رسول الله صلى الله عليه وآله عشيرته الأقربين بأمر من الله: (وأنذر عشيرتك الأقربين) فجمعهم الرسول صلى الله عليه وآله وكانوا إذ ذاك أربعين رجلا "، يزيدون رجلا " أو ينقصونه، وصنع لهم طعاما " يكفي الواحد منهم، فأكلوا جميعهم حتى شبعوا، وبعد أن فرغوا، قال النبي صلى الله عليه وآله:

(يا بني هاشم ! من منكم يؤازرني على أمري هذا ؟ فلم يجبه أحد، فقال علي عليه السلام: أنا يا رسول الله، أوازرك، قالها ثلاثا "، وفي كل مرة يجيب علي: أنا يا رسول الله.

فأخذ برقبته، وقال: أنت وصيي، وخليفتي من بعدي، فاسمعوا له وأطيعوا).

وحديث (يوم الغدير) المشهور (2) وحديث (الثقلين) (3) وحديث (المنزلة) (4) وحديث (السفينة) (5) وحديث (باب حطة) (6) وحديث (أنا مدينة العلم وعلي بابها) (7) وحديث (المؤاخاة) وحديث (تبليغ سورة براءة) و (سد الأبواب) (قلع باب خيبر) و (قتل عمرو بن عبد ود) و (زواج بضعة الرسول فاطمة الزهراء عليها السلام) إلى كثير

____________

1 - { تقدم في ص 193 فراجع }.

2 - { تقدم في ص 143 فراجع }.

3 - { تقدم في ص 203 }.

4 - { تقدم في ص 225 }.

5 - { تقدم في ص 232 }.

6 - { تقدم في ص 233 }.

7 - { تقدم في ص 245 }.

الصفحة 447
وكثير من ذلك النمط مما لو أردنا جمعها لملأنا المجلدات الضخمة.

أفكل هذه الروايات المتفق عليها لا تثبت خلافة علي عليه السلام وتلك الروايات المختلف فيها، المفتعلة، تثبت لأبي بكر تولي منصب الرسالة ؟ !

وهذا شئ عجاب !

ثم قال لي: أنتم لا تعترفون بخلافة أبي بكر.

قلت: لا، هذا لا نزاع فيه عندنا، ولكن ننازع في الأحقية والأولية، هل كان أبو بكر أحق بها أم أمير المؤمنين عليه السلام ؟ ها هنا النزاع، ولنا عندئذ [أن] ننظر في هذا الأمر العظيم الذي جر على الأمة بلاء، وفرق الأمة ابتداء يوم السقيفة إلى فرقتين بل إلى أربع فرق، فالأنصار انقسموا على أنفسهم قسمين: قسم يريد عليا " - وذلك بعد خراب البصرة - والآخر استسلم وسلم الأمر إلى أبي بكر، وكذلك المهاجرون: منهم من يريد أبا بكر والآخر عليا "، ثم إلى فرق تبلغ الثلاث والسبعين، كل فرقة تحمل على من سواها من الفرق حملة شعواء لا هوادة فيها، فجر الأمة الإسلامية إلى نزاع دائم عنيف، فكفر بعضهم بعضا "، ولا زالت الأمة تمخر في بحور من الدماء، من ذلك اليوم المشؤوم إلى يوم الناس هذا، ثم إلى يوم يأتي الله بالفرج، هذا الذي نحاول فيه.

فالشيعة برمتهم يحكمون بما ثبت عندهم من الأدلة قرآنا وسنة وتاريخا "، ويحتجون من كتب خصومهم السنة، فضلا " عن كتبهم،

الصفحة 448
بالخلافة لعلي عليه السلام، ولبنيه الأئمة الأحد عشر عليهم السلام الذين تمسك الشيعة بإمامتهم.

إلى غير ذلك من الأدلة التي أوردتها على فضيلته، فسمع وقنع، وخرج من عندنا وهو في ريب من مذهبه، وشاكرا " لنا على ما قدمناه له من الأدلة، وقد طلب مني بعض كتب الشيعة ومؤلفاتهم، فأعطيته جملة منها، وفيها من كتب الإمام الحجة المجاهد السيد (عبد الحسين شرف الدين).

ولا بأس بأن نطالب في هذا المقام إخواننا السنة أن يقفوا على كتب الشيعة ومؤلفاتهم بلا تعصب، ونرشدهم إلى جل من الكتب كمؤلفات سيدنا الإمام (شرف الدين) وكتاب (الغدير) للعلامة الأميني، وإحقاق الحق) و (الصوارم المهرقة) وكلاهما للشهيد السعيد الإمام (القاضي نور الله) و (عبقات الأنوار) للإمام السيد (حامد حسين الهندي) و (غاية المرام) للإمام (البحراني) و (السقيفة) و (دلائل الصدق) للحجة العلامة (المظفر) و (أصل الشيعة وأصولها) للإمام (كاشف الغطاء) وغيرها فإن فيها ما فيه الكفاية لأولي الألباب المخلصين، المجردين عن العصبية المذهبية، وبالله التوفيق.

شيعي وسنتي يترافعان عندي

دخل علي يوما " في حلب نفران من أهل حمص: أحدهما شيعي مستبصر، والآخر سني مستهتر، وكانت بينهما مناقشة أولوية

الصفحة 449
علي عليه السلام بالخلافة، فقال لي الشيعي: يقول صاحبي هذا، وهو من أهل السنة: ليس هناك نص على علي عليه السلام بأنه الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله بلا فصل !

فسألني السني هل هناك نص صريح ؟

فأجبته: نعم، بل نصوص صريحة في كتبكم ومصادر كم، وأحلته على تاريخ الطبري، وابن الأثير، والتفاسير أجمع، وذكرت له تفسير آية (وأنذر عشيرتك الأقربين) من تاريخ الكامل لابن الأثير، والحديث بطوله، وقد رواه ابن الأثير بزيادة ألفاظ على ما رواه الطبري إلى أن انتهيت إلى قول النبي صلى الله عليه وآله: (أيكم يا بني عبد المطلب يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي، وخليفتي من بعدي ؟) وإجابة علي عليه السلام لما لم يجبه أحد منهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله:

(هذا أخي، ووزيري، ووصيي، وخليفتي من بعدي، فاسمعوا له وأطيعوا) (1).

ثم قلت له: أيها المحترم، أتطلب نصا " أصرح من هذا النص ؟

فقال: إذا ما صنعوا ؟ ففهمت من قوله (ما صنعوا) يشير إلى اجتماعهم في السقيفة، وتنازعهم فيمن يخلف رسول الله صلى الله عليه وآله أمهاجرون أم أنصار فقلت له: هذا ما وقع.

فقال: عجبا "، عجبا "، وانتهى الأمر، وقال قولا في هذا المقام، ولا أريد ذكره، ثم استبصر وذهب حامدا " شاكرا ".

____________

1 - تقدم الحديث ص 193.

الصفحة 450
وقد بلغني من بعض الثقات أنه قام بالدعوة إلى المذهب الحق، فاستبصر على يده جماعات.

والحمد لله على هذه النعمة، وهي نعمة الولاء والبراء.

مناظرة مع جماعة من أهل السنة

وفي الليلة الخامسة من شهر رمضان المبارك سنة 1371 ه‍ بينما أنا مشتغل في مكتبتي بكتابة كتاب: (الشيعة وحجتهم في التشيع) إذ وفد علي جماعة يبلغ عددهم نحو خمسة عشر شخصا "، أو أكثر، وفيهم العلماء وغير العلماء فتلقيتهم بالترحاب، وبصدر رحب، وقلب ملؤه السرور، وما أن اطمأن بهم الجلوس حتى فاتحوني بالبحث العلمي، يريدون الإيضاح عن مذهب الشيعة، وعن اعتقادهم في الخلافة، وما يدور حولها.

فبادرت إلى الجواب، وهم صامتون يصغون إلى ما أورد عليهم من الأدلة الواضحة، والحجج القاطعة، والبراهين الساطعة القائمة لدينا ولديهم حتى مضى علينا أكثر من ثلثي الليل، وبعد انتهائنا من البحث، قاموا: فمنهم الشاكر، ومنهم المنكر، ومن جملة ما أفدت عليهم، قلت:

لا شك في أن النبي صلى الله عليه وآله كان يعلم أن أمته الجديدة القريبة العهد بالإسلام، وما هي عليه من الرغبة في الخلافة، ويعلم أنه سينقلب

الصفحة 451
الكثير منهم على الأعقاب (1)، ولا يسلم منهم إلا مثل همل النعم (2) عند ورودهم على الحوض - كما جاء في البخاري في حديث الحوض - ويعلم علم اليقين أن أصحابه كانوا يضمرون الشر لوصيه وخليفته من بعده علي عليه السلام، وأنهم فور موته يحدثون حدثا ".

إذن، فلا بد أن يكون قد وضع للخلافة حلا " لها، يوقف من تدعوه نفسه إلى الخلافة.

ولا يخفى عليه أمر أصحابه، إذ أنه قد سبرهم، وعرف المستقيم منهم والملتوي.

وهو القائل لهم: (ستتبعون سنن من قبلكم شبرا " بشبر، وذراعا " بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه) (3).

وكان شيخنا العلامة الشيخ (أحمد أفندي الطويل الأنطاكي) يرويه لنا في أثناء الدرس، وعلى المنبر، ويقول في ختام الحديث:

ولو جامع أحدهم امرأته في السوق لفعلتموه ! ! وهو القائل: (من لم يعرف إمام زمانه، مات ميتة جاهلية) أي كفر (4).

____________

1 - قال تعالى في سورة آل عمران: 144: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا " وسيجزي الله الشاكرين) 2 - قال ابن الأثير في النهاية: 5 / 274: في حديث الحوض:

(فلا يخلص منهم إلا مثل همل النعم) الهمل: ضوال الإبل، واحدها هامل أي إن الناجي منهم قليل في قلة النعم الضالة.

3 - راجع شرح النهج لابن أبي الحديد: 9 / 286 (منشورات مكتبة المرعشي).

4 - راجع شرح النهج لابن أبي الحديد: 13 / 242.

الصفحة 452
إذن، فلا بد أن يضع للخلافة حلا " يوقفهم عند حدهم.

ونحن ما دمنا نعتقد أنه نبي مرسل من الله، ويعلم أنه الذي ختم الرسل [وأن رسالته] مستمرة إلى أخر الدنيا، فلا يبقى له أن يترك أمته فوضى مع علمه أنها ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة كما في الحديث هذا ودعوى إيكال أمر الخلافة إلى الأمة باطلة لأمور:

أولا: إن أهل الحل والعقد، أو الانتخاب، أو ذوي الشورى لا يتم [الأمر] بما أوكل إليهم إلى مدى الدهر، بل هو عين إيقاع الأمة في الفوضى التي توقع الأمة في هوة ساحقة لا حد لها ولا قرار، لهذا نرى الأمة لا زالت تمخر في بحور من الدماء من ذلك اليوم إلى يومنا هذا، ثم إلى انتهاء حياة البشر يوم البعث والنشور.

ثانيا ": مما لا خفاء فيه أن الناس مختلفون في معتقداتهم، ومتباينون في آرائهم، ونرى أنه لا ينفق اثنان في الرأي، بل الإنسان نفسه لا يتفق له أن يستمر على رأي دائم، بل يتقلب رأيه في كل لحظة، فكيف يمكن أن يكون الأمر موكولا " إلى أهل الحل والعقد ؟ ! وهذا يأباه العقل والوجدان.

ثالثا ": يستحيل أن يحصل الاتفاق بإيكال الأمر إلى أهل الحل والعقد، فلا بد من وقوع اضطرب شديد بين الشعوب والقبائل، ووقوع القتل والسلب والنهب وغيرها، مما هو موجود كما هو موجود في كل عصر ومصر، ولم يمكن لرئيس أن يتم على يده نظام حياة الإنسان إلا بالقوة القاهرة، وهذه مؤقتة زائلة، ومتى زالت رجع كل

الصفحة 453
واحد إلى ما كان عليه من الأعمال الضارة بالسكان.

لهذا قلنا مكررا ":

إن الله لا يدع أمرا " من أمور الدين للأمة تتجاذبه أهواءهم، بل لا بد من أن يوكل الأمر إلى أربابه ممن له أهلية، كاملة في العلم الغزير الذي كان عند الرسول صلى الله عليه وآله (1) والشجاعة، والحكم، والكرم، والزهد، والتقى، والفراسة، والإعجاز، وأهمها العصمة.

وغير ذلك مما يكون الوصي الذي يقوم مقام الرسول في حاجة إليه في إدارة دفة الحكم، وهذا لا يمكن أن يتمكن منه أحد إلا الله العالم بما تكنه الصدور، ويعلم السر وأخفى، والرسول قد بين بصراحة في كل مناسبة أن الوصي والخليفة من بعده (علي) عليه السلام.

كما وإن هناك أدلة كثيرة أخرى ترشدك إلى ما تقوم به الحجة، زيادة على ما قدمنا، مما هو ثابت لدنيا معاشر الشيعة، والكتاب والسنة بنيتا على ذلك، ثم استحسن جميعهم ما أفدت عليهم، وطلبوا مني بعض مؤلفات الشيعة، فأعطيتهم بعض ما كانت عندي، فقاموا واستسمحوا الله تعالى على هذه النعمة.

____________

1 - قال المؤلف: كحديث (أنا مدينة العلم وعلي بابها).

الصفحة 454

مناظرة لطيفة بيني وبين بعض مشايخ الأزهر

في اليوم السابع من شهر ذي القعدة الحرام عام 1371 ه‍ قبيل الظهر، أخبرني أحد وجهاء حلب، وهو الأستاذ (شعبان أبو رسول) بأن أحد مشايخ الأزهر، وهو علامة كبير، ومؤلف شهير يقصد زيارتكم، فمتى يأتكم ؟ فقلت: يا أهلا وسهلا، فليشرف في هذا اليوم.

فجاءني بعد العصر، ويعد أن بنا المجلس ورحبت به، سألني قائلا ": إنني قصدتك للاستفسار عن السبب الذي دعاكم على الأخذ بالمذهب الشيعي، وترككم المذهب السني الشافعي ؟

فأجبته بكل لطف: الدواعي كثيرة جدا "، منها:

رأيت اختلاف المذاهب الأربعة فيما بينهم، ومنها، ومنها، وقد أخذت أعدد له الأسباب التي دعتني إلى الأخذ بالمذهب الشيعي، ثم قلت: وأهمها أمر الخلافة العظمى التي هي السبب الأعظم في وقوع الخلاف بين المسلمين إذ لا يعقل أن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله يدع أمته بلا وصي عليهم يقوم بأمر الشريعة التي جاء بها عن الله كسائر الأنبياء، إذ ما من نبي إلا وله وصي أو أوصياء معصومون يقومون بشريعته، وقد ثبت عندي أن الحق مع الشيعة، إذ معتقدهم أن النبي صلى الله عليه وآله قد أوصى لعلي عليه السلام قبل وفاته، بل من

الصفحة 455
بدء الدعوة، وبعده أولاده الأئمة الأحد عشر، وأنهم يأخذون أحكام دينهم عنهم، وهم أئمة معصومون في معتقدهم بأدلة خاصة بهم، لهذا وأمثاله أخذت بهذا المذهب الشريف، ثم إنا لم نعثر على دليل يوجب علينا الأخذ بأحد المذاهب الأربعة، بل ولا مرجح أيضا " غير إننا عثرنا على أدلة كثيرة توجب الأخذ بمذهب أهل البيت عليهم السلام وتقود المسلم إلى سواء السبيل.

ثم عرضت له كثيرا " من الأدلة القطعية الصريحة بوجوب الأخذ بمذهب أهل البيت عليهم السلام - وكلمه سمع يصغي إلي - إلى أن قلت: يا فضيلة الشيخ ! أنت من العلماء الأفاضل، فهل وجدت في كتاب الله، وسنة الرسول صلى الله عليه وآله دليلا " يرشدك إلى الأخذ بأحد المذاهب الأربعة ؟

فأجابني: كلا.

ثم قلت له:

ألا تعرف أن المذاهب الأربعة كل واحد منهم يخالف الآخر في كثير من المسائل (1)، ولم يقيموا دليلا " قويا " وبرهانا " جليا " واضحا " على أنه الحق دون غيره، وإنما يذكر الملتزم بأحد المذاهب أدلة لا قوام لها، إذ ليس لها معضد من كتاب أو سنة، فهي كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار ؟

مثلا لو سألت الحنفي: لم اخترت مذهب الحنفية دون غيره ؟

ولم اخترت أبا حنيفة إماما " لنفسك بعد ألف عام من موته، ولم تختر

____________

1 - راجع ص 36.