شكر وعرفان

إلى التي فتحت أمامي آفاق العلم والمعرفة

إلى التي غرست في قلبي حب أهل بيت النبوة عليهم السلام.

إلى التي عمقت في كياني الولاء المطلق لآل بيت الرسول..

إلى التي علّمتني البذل والإنتاج والعطاء.

إلى التي علّمتني الإصرار على سلوك النهج القويم مهما كانت الظروف والمحن..

إلى حوزة القائم (عج) المباركة أقدم شكري وامتناني..


الصفحة 2

إهداء

إلى المولودة في معقل العصمة والتقى، ومهبط الوحي والهدى، والمورّثة عظيم الفضل والندى..

إلى المرأة الصالحة، والمجاهدة الناصحة، والحرة الأبية، واللبوة الطالبية، والمعجزة المحمدية، والذخيرة الحيدرية، والوديعة الفاطمية..

إلى من أطاعت الله تعالى في السر والعلن، وتحدت بمواقفها أهل النفاق والفتن.

إلى من أرهبت الطغاة في صلابتها، وأدهشت العقول برباطة جأشها، ومثلت أباها علياً بشجاعتها، وأشبهت أمها الزهراء في عظمتها وبلاغتها..

إلى المنسوبة لأسرة النبوة والإمامة، الموهوبة وسام الشرف والمجد والكرامة..

إلى.. بطلة كربلاء عقيلة بني هاشم..

سيدتي ومولاتي زينب (ع)


الصفحة 3

الصفحة 4

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والشكر على ما أنعم وهدى وتضل علينا وصلى الله على محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

أيها القارئ الكريم: ثلاث شروط لمعرفة الحقيقة الضائعة.

أولاً: أعظم هبة من الله للإنسان هي العقل الذي أودعه فيه إذ هو سر من أسرار الله وحجة ونور يرفع قدر الإنسان من الجهل إلى العلم ومن الظلمات إلى النور ومن الباطل إلى الحق.

أنه السفينة التي تعبر بالانسان عباب البحر وتشق طريقه وسط أمواجه إلى شاطئ السلامة والنجاة.. وو جناحه الذي يطير به إلى الآفاق العالية ويحلق به في سماء الحقائق ويتغنى بذكر الله ويستريح على أغصان العبادة والصلاة ويترنم بآيات الله صباحاً وآناء اليل ويسرح في نجوم السماوات وضوء القمر. قائلاً: (ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار) (آل عمران: 191).

أخي القارئ العزيز

أن هذا المصباح الذي أودعه الله في الإنسان جعل منه اليوم يسبر أغوار العلم ويكتشف الذرة وجزئياتها التي هي أصغر شيء، ويحولها إلى طاقات هائلة جبارة يتقدم الإنسان عبرها كل يوم مسافات طويلة نحو العلم والمكتشفات الجديدة، وتسخير الطبيعة في البحار والبراري والقمر..


الصفحة 5
نعم إن الله يدعوك أيها الإنسان لكي تطلق سراح عقلك وتكسر الأغلال عنه عبر رفع الحجب وتصفيته من الشوائب والأفكار المسبقة، وعدم الخضوع لضغوط المجتمع والإرهاب الفكري الذي يفرضه المؤرخون والكتاب وأنصاف العلماء.

إن الحق هو المقياس الذي يجب ان يبحث عنه الإنسان في الحياة ويتبع فإذا كانت سيرة السلف والرواة وأنصاف المثقفين يخالفون نور الحق فإن الخضوع لها تكون أصناماً تعبد من دون الله.. (قالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراؤنا فأضلونا السبيلا) (الأحزاب/67).

ثانياً: في رحلتك التي تبحث فيها عن النور واليقين فإن مظاهر الحياة والطبيعة من حولك تدلك على الحقائق لأن الطبيعة والقلب مخلوقان وكلاهما يتفاعل مع الآخر وبينها قواسم مشتركة.

فكما أن الأرض الموات والعمارى القاحلة سرعان ما تتحول جنة وربوة ذات بهجة حينما ينزل عليها المطر بقدرة الله سبحانه كذلك قلب الإنسان الخاشع اللين حينما يتعرض إلى نور لاح فإنه يحيى وينبعث نحو الهدى.

ولكن ومضة النور هذه التي تأتي في قلبك لا بد لك أن تجري ورائها بشكل دائم حتى تستولي على قلبك وتزداد هدى واستقامة على طريق الحق. (والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم) (محمد: 7).

ولا بد أن يواصل الإنسان مسيرته نحو البحث عن الحقيقة والتسليم لله حتى يصل شاطئ النجاة والصراط المستقيم الذي هو صراط الأنبياء والأوصياء والشهداء والصالحين (صراط الذين أنعمت عليهم).

وإذا يفعل الإنسان ذلك فإنه يتعرض لحالة الانتكاسة والتراجع إلى الوراء كما هي تلك الجنة الخضراء التي سرعان ما بهيج بها هواء حارق فتصبح يابسة حطاماً تذرها الرياح.

ويضرب الله لنا مثلاً واضحاً من القرآن الكريم على هذه الحقيقة حيث يقول تعالى (الم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعاً مختلفاً ألوانه ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يجعله حطاماً إن في ذلك لذكرى لأولى الألباب، أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ظلال مبين) (الزمر: 21ـ22).


الصفحة 6
إذا من شروط الهداية والعاقبة الحسنى هو خشوع القلب والتعرض لنور الحق وإستعداده لقبول الحق وإن كان مخالفاً لهواه وأفكاره السابقة وسيرة الأسلاف.

عزيزي القارئ: إن ترويضك لنفسك وتسليمك لله ولرسوله هو الذي يوصلك لمزيد من الهداية والنجاة والعكس كذلك فإن القساوة والتزمت وعدم الانفتاح تجعل الإنسان بعيداً عن الحقائق الجديدة التي كانت غائبة عنه.

والمشكلة أن الإنسان دائما يفضل المسبقات التي سار عليها كي يريح نفسه من عناء الحقيقة المجهولة عليه ويخدع بذلك نفسه ويطيع هواه ويستجيب لوسوسة الشيطان التي تصده عن الحق.

ثالثاً: عزيزي القارىء: لكي تصل إلى تلك الحقائق وتثبيت نفسك عليها لابد من طلب العون من الله سبحانه والإلحاح بالدعاء إلى الله والتوكل وحده والخشية منه فقط.....وبدون التوجه إلى الله سبحانه يصبح الإنسان عرضه لضغوط المجتمع والأهواء مما يجعله في عناء الحيرة والشكوك والتردد.

ذلك لأن الإنسان بطبيعته الضعيفة تميل إلى الراحة وعدم العناء من أجل التقدم والتطور، فتأتي السوابق الفكرية وسيرة الأجداد والتاريخ المقدس حاجباً ومبرراً لعدم الخوض في عباب القضايا الفكرية المصيرية.

المؤمن الخاضع لله يصبح قلبه صلباً لا يميل لأي قوى مهما كانت التحديات والصعوبات لأنه أتصل بالقوة المطلقة المهيمنة على كل القوى في الأرض سواء كانوا أنس أم جن..

المؤمن يسعى دائماً للوصول للحقيقة ويزيح عن قلبه كل الحجب ويكسر كل الأغلال التي تقف دون وصوله للحقيقة.. لأن الأمور لا تقاس إلا بالحق الذي أراده الله حاكماً ومهيمناً في هذه الدنيا..

وطالما أن الحق هو المقياس فلا تصبح هنالك أزمة في رؤية الإنسان أن الأشياء كلها إذا قيست على أساس الحق فإنها تصبح واضحة جلية..


الصفحة 7
أن الحق لا يقاس بالرجال ولكن الرجال يقاسون بالحق. وإذا وصلت عزيزي إلى هذه القناعة فقد وصلت إلى ثلاثة أرباع الحقيقة ويبقى عليك البحث عن الربع الباقي بمجهر الحق والاستعانة بالله تعالى بإياك نعبد وإياك نستعين.

وخلاصة الحقائق السالفة هي التي تحتاجها في رحلة النور هي:

أولاً: العقل اللبيب المتحرر.

ثانياً: القلب المسلم لله فقط.

ثالثاً: الإرادة المستقلة المستعينة بالله فقط.


الصفحة 8

أيها القارئ النبيه:

هذا الكتاب إنما هو تجرية مستحقة للدراسة والتقيم والوقوف عليها لأنها تجربة انسان عاش في مجتمع وبنى فكره على عقيدة الآباء والأجداد والمجتمع ثم تفكر وانفتح وتحر وسلم لله نفسه فوصل إلى حقائق جديدة وحرى بأي انسان عاقل شجاع لا يهاب إلا الله ولا يتوكل إلا عليه ولا يعتمد غيره.. أن يفتح لبه وقلبه وبعده لقراءة هذا الكتاب.

وللعلم فإن الكاتب يعرض لنا دراسة بأسلوب علمي وموضوعي يعتمد على أسلوب المقارنة العلمية بين فكرين ومدرستين في حياة المسلمين من أجل التعرف على الخيار الأفضل وعلى تجربة عاشها وأراد أن يعرضها بكل تفاصيلها وشواهدها وأدلتها العلمية.

والمهم في الأمر أن الأدلة تعتمد على قاعدة (الزموهم بما ألزموا أنفسهم) وهي قاعدة علمية موضوعية عند كل العقلاء وأهل الشرع والقانون المدني يقبلون بها ويطبقونها في معاملاتهم.

أنها فعلاً رحلة شيقة في البحث عن الحقيقة الضائعة التي سماها الكاتب.. فهل نحن من الذين نبحث عنها كي نجدها.


جمعية الرسالة والتضامن
السودان ـ الخرطوم   


الصفحة 9


الفصل الأول
مقتطفات من حياتي


  أيام صباي
  كيف كانت البداية
  في الجامعة
  في قريتنا
  مناظرة مع شيخ الوهابية
  ملاحظات للباحث لا بد منها



الصفحة 10

الصفحة 11

مقتطفات من حياتي

  أيام صباي:

كانت تنتابني الرغبة منذ صغري.. وتسدني الفطرة نحو الالتزام بالدين، وكانت الصورة التي تراود ذهني واستشف منها مستقبلي، لا تخرج عن إطار التدين، فكنت أرى نفسي عبر أحلام اليقظة بطلاً، وفارساً إسلامياً مجاهداً، أردُّ للدين حرمته وللإسلام عزته، لم أكن قد تجاوزت المراحل الأولى في المدارس وحضارتهم محدوداً، ولم أكن أعرف إلا بعض القصص عن رسول الله (ص) وحروبه مع الكفار، وبطولات الإمام علي (ع) وشجاعته.. وبعد دراستنا لتاريخ الدولة المهدية في السودان، أعجبت بشخصية (عثمان دقنة) وهو أحد قواد جيش المهدي الثائر في شرق السودان، وكان يشدني جهاده عندما كان استأذنا في التاريخ يصور لنا استبساله وعظمة شخصيته، وهو مجاهد بين الجبال والوديان.. وهكذا تعلق قلبي به، وبنت آمالي على أن أكون مثله، وبدأت أفكر بعقلي الصغير، للوصول لهذا الهدف فكان طريقي الوحيد الذي كنت أتصوره أن أكون خريجاً في المستقبل من الكلية الحربية العسكرية، حتى أتدرب على فنون القتال واستعمال السلاح، وعشت على هذا الهوس سنين من عمري.. حتى انتقلت إلى المرحلة الثانوية، وفيها تفتحت مداركي وازدادت معرفتي،

الصفحة 12
فتعرفت على قادات التحرر في العالم الإسلامي، أمثال عبد الرحمن الكواكبي، والسنوسي، وعمر المختار.. وجمال الدين الأفغاني، ذلك الثائر والعبقري المفكر الذي انطلق من أفغانستان وتنقل في عواصم الدول الإسلامية والغير إسلامية ناشراً الفكر الحيوي الذي يتناول أبعاد التخلف في العالم الإسلامي وكيفية علاجها.

وما شدّ انتباهي! هو أسلوبه الذي كان يمارسه في عمله الجهادي من الحكمة والحنكة ونشر الثقافة وإعطاء الرشد الفكري للأمة الإسلامية، من غير أن يحمل سلاحاً..!

فقد كنت أعتقد، أن كل من يريد أن يجاهد ويدافع عنالمسلمين، لا بد أن يرفع السيف ويخوض الحروب والمعارك، فكان أسلوبه مغايراً تماماً لما كنت أتصوره، فأسلوب الكلمة والثقافة الواعية شيء جديد في تفكيري الديني، ولكني لم أستطع التخلي بسهولة عما بنيت عليه أفكاري وطموحاتي، رغم اكتشافي أن أزمة الأمة أزمة ثقافة رسالية ناضجة، لأن الثقافة هي التي يمكن أن تُحمّل كل فرد مسؤوليته، فهذا هو جمال الدين طاف العالم وهو يبث نوره وبركته وينشر الفكر والثقافة التي تلقاها المسلمون بترحيب وتفاعل، لأنها كانت تحل لهم مشاكلهم وتتعامل مع واقعهم، فأرهب بذلك القوى الاستعمارية الحاقدة، فكانت العروة الوثقى(1) وحدها تحد شامخ لهم جعلهم يعملون على محاصرتها ومنع إصدارها.

فكان التساؤل الذي يراودني:

كيف تمكن هذا لفرد الوحيد أن يغير تلك الموازنات، وكيف أرهب كل هذه القوى المستكبرة؟!

____________

1- وهي جريدة اصدرها جمال الدين وتلميذه محمد عبده في لندن.


الصفحة 13
وللإجابة على هذا السؤال، انفتحت أمامي بوابة من الأسئلة بعضها بسيط، وبعضها لا إجابة له في الواقع السوداني.. مما جعلني أحاول أن أتحرر من هذا الواقع، وأفك كل القيود والأغلال التي كانت تدعوني للاستسلام والخضوع لهذا الواقع الديني، لكي أسير في هذه الحياة كما كان آبائي وأجدادي، ولكن شعوري بالمسؤولية وحبي لجمال الدين كان ناقوساً يدق على أوتار فطرتي.. فكنت أتساءل:

كيف يمكن لي أن أصير مثل جمال الدين؟!.

وهل الدين الذي ورثته يمكن أن يحملني لذلك المستوى؟!

ثم أقول: ولِمَ لا؟!، هل كان لجمال الدين دين غير ديننا؟!، وإسلام غير إسلامنا؟!.

وللإجابة، تحيرت سنين عديدة وكل ما توصلت إليه هو تغير مفهومي للدين بصورة إجمالية، فأصبحت أرى في جمال الدين القدوة والمثال بعدما كان عثمان دقنة، وتغيرت تبعاً لذلك الوسيلة، فبعدما كانت الكلية الحربية، أصبح المنهج السليم الذي يُعرّفني على الفكر والثقافة الإسلامية الأصيلة، التيمن خلالها تكون النهضة الإسلامية.

  كيف كانت البداية:

كان البحث عن المنهج والفكر الناضج والثقافة المسؤولة صعباً، وكانت المرحلة مريرة، رغم أن بحثي كان بصورة عفوية وفطرية، ففي أثناء حياتي الطبيعية كنت أسأل وأناقش وغير ذلك، ولم يكن هناك تفرغ للبحث والمثابرة.

وبعد الغزو الوهابي العنيف على السودان، واشتداد المناظرات والمناقشات، وازدياد الحركة الدينية، انكشفت كثير من الحقائق، وظهرت

الصفحة 14
كثير من الاختلافات والمفارقات التاريخية والعقائدية والفقهية، وبدأت عملية تفكير بعض الفرق وإخراجها من ربقة الإسلام، مما أدى إلى التمذهب وتباين الخطوط.

ورغم مرارة ما حدث، فقد وجدت بغيتي وازداد بحثي، وأصبحت أشعر بواقعية تلك الأسئلة العفوية التي كانت تراود ذهني.

فكثر اهتمامي بالوهابية، متابعاً لمناظراتهم ندواتهم التي كانت تشدني، وأهم ما تعلمته منهم فيتلك المرحلة، هي الجرأة وتحدي الواقع ومخالفته، فلقد كنت أعتقد أن الواقع مقدس لا يمكن التهجم عليه أو التعرض له، رغم ملاحظاتي الكثيرة عليه التي غالباً ما كنت استشفها من جداني وفطرتي، فكنت أتحفظ على كثير من أفعال وممارسات المجتمع الديني.

فواصلت معهم المسير، ودار بيني وبينهم كثير من المناقشات، التي كانت في الواقع عبارة عن تلك الأسئلة التي كانت حائرة في ذهني، فوجدت لبعضها أجوبة أرضتني في تلك المرحلة، وأسئلة لم أجد لها أجوبة عندهم، فكان هذا كفيلاً بالنسبة لي أن أتعاطف معهم، وأشد أزرهم، مع بقاء بعض الملاحظات التي كانت حائلاً بيني وبين أن ألتزم تماماً بالمنهج الوهابي، أولها وأهمها أنني لم أجد عندهم ما يكفيني ويلبي طموحاتي الرسالية..، وكان الوسواس يأخذني أحياناً بقوله: إن الذي تفكر فيه وتبحث عنه شيء مثالي لا واقع له، وأن الوهابية أقرب نموذج للإسلام ولا بديل غيرها..

فكنت أنساق لهذا الوسواس وأصدقه، لعدم معرفتي بالأفكار والمدارس الأخرى، ولكن سرعان ما انتبه إلى أن الذي صنع جمال الدين لا يمكن أن يكون هذا الفكر الوهابي، فكنت أصرح: إن الوهابية هي أقرب الطرق إلى

الصفحة 15
الإسلام ـ لما يقيمونه من أدلة ونصوص على صدق مذهبهم لم أشهدها في الطوائف الأخرى في السودان ـ ولكن مشكلتهم أن هذا المذهب الذي يتبنونه أشبه بقوانين الرياضيات، فهو عبارة عن قواعد وقوانين جامدة، تطبق من غير أن تكون لها انعكاسات حضارية واضحة في حياة الإنسان، وفي فن تعامله مع هذه الدنيا في شتى الأصعدة الفردية منها أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية..، وحتى في كيفية العلاقة مع الله تعالى. بل العكس تماماً فكثيراً ما تجعل الإنسان متوحشاً في عزلة عن المجتمع بما يحمله من صكوك التكفير لكل قطاعاته، فلا يستطيع الواحد منهم أن يتعايش مع المجتمع فيتميز عنهم بلباسه وتصرفاته وفي كل جزئية من حياته، ولا يتآلف إلا مع أقرانه، فكنت أحس منهم الغرور والكبر والأنفة لأنهم ينظرون إلى الناس من شاهق عال، لا يتفاعلون معهم ولا يشاركونهم في حياتهم.

وكيف يشاركونهم؟!، وكل ما يفعله المجتمع بدعة وضلال.

وأنا أذكر جيداً عندما دخل المد الوهابي إلى قريتنا، ففي مدة قليلة ومن غير دراسة ووعي، انضمت مجموعة كبيرة من الشباب على الخط الوهابي، ثم لم يستمر الزمن كثيراً حتى تخلّوا عنه جميعاً، وكان هذا توقعي، لأن المذهب الجديد منعهم من مخالطة المجتمع وحرّم عليهم كثيراً من العادات التي تربوا عليها، وهي في الواقع لا تخالف الدين.

ومن الطريف أن أذكر، أن من الأشياء التي كان يعاني منها الشباب المنضمون إلى المذهب الوهابي، أنه كان من العادة في قريتنا أن الشباب في ليالي القمر يجلسون على الرمال الصافية ويتسامرون ويقضون أوقاتهم، وهي ساعة اللقاء الوحيدة لشباب القرية الذين يعملون طوال النهار في مزارعهم وأشغالهم المتعددة فكان شيخهم يمنعهم من ذلك ويحرّمه عليهم بحجة أن رسول الله (ص) حرَّمَ الجلوس في الطرقات، رغم أن هذه

الصفحة 16
الأماكن لا تعتبر طرقات، وثانياً وهي مشكلة كل الوهابية، أن الواحد منهم بزمن قليل من تدينه وبقليل من العلم، يصبح مجتهداً يحق له أن يفتي في أي مسالة، وأذكر يوماً أن أحدهم كان جالساً معي أناقشه في كثير من الأمور، وفي أثناء النقاش انتفض قائماً بعدما سمع صوت أذان المغرب في مسجدهم، قلت له مهلاً نكمل حديثنا. قال: لا حديث، قد حان وقت الصلاة، هيا لنصلي في المسجد، قلت له: أنا أصلي في بيتي ـ رغم التزامي بالصلاة معهم ـ قال صارخاً: باطلة صلاتك. انذهلت من هذا القول.. وقبل أن استفسر أدار ظهره ليذهب. قلت له: مكانك، ما هو سبب بطلان صلاتي في البيت؟

قال (بكل افتخار وعجب): قال رسول الله (ص): لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد. قلت له: لا خلاف في أفضلية صلاة الجماعة في المسجد، ولكن هذا لا يعني سلب صحة الصلاة في غير هذا الموضع، والحديث ناظر لتأكيد هذه الأفضلية لا لتبيين حكم الصلاة في البيت، والدليل على ذلك أننا لم نر في الفقه أن من مبطلات الصلاة الصلاة في البيت، ولم يفت أحد من الفقهاء في هذه المسألة، ثم ثانياً بأي حق تصدر هذه الأحكام؟! هل أنت فقيه؟!.. ومن الصعب جداً أن يفتي الإنسان ويبين حكماً لموضوع معين، فالفقيه يقم بدراسة كل النصوص في مثل هذا المورد، ويتعرف على دلالة الأمر والنهي في النص.. هل يدل الأمر على الوجوب أم على الاستحباب، والنهي هل يدل على الحرمة أم الكراهة.. فهذا الدين عميق فأوغل فيه برفق.

بدا الانكسار في وجهه، وعبس وبسر ثم قال: أنت تؤول الحديث، والتأويل حرام.. وذهب..

فاحتسبت أمري لله من هذا الأحمق الذي لا يفهم شيئاً.


الصفحة 17
هذه العقلية المتحجرة، كانت هي السبب الثاني الذي حال بيني وبين أن أكون وهابياً، رغم أنني تأثرت بكثير من أفكارهم، فكنت أتبناها وأدافع عنها.

وبقيت على هذه الحال مدة من الزمن تائهاً لا قرار لي ولا اتجاه، اقترب من الوهابية حيناً وأتبعد عنها حيناً آخر، ورأيت أن الحل الوحيد أمامي ـ بدلاً من الكلية العسكرية ـ ان أدرس في كلية أو جامعة إسلامية حتى أواصل بحثي بطريقة أكثر دقة وإمعاناً. وبعد امتحاني للجامعة، كانت هناك ستة رغبات من الجامعات والمعاهد التي رغب الطال في دراستها، فلم اختر غير الجامعات والكليات الإسلامية، وبالفعل تم قبولي في احد الكليات الإسلامية (وهي كلية الدراسات الإسلامية والعربية في جامعة وادي النيل في السودان). فطرت بها فرحاً، وأعددت العدة لهذه المرحلة الجديدة في حياتي، وبعد أداء التدريب العسكري (الدفاع الشعبي) الذي لا يمكن دخول الجامعة إلا بعد الفراغ منه، بدأت الوفود من مختلف أنحاء السودان بالمجئ إلى الجامعة وكنت أنا من أولهم، وأثناء المقابلة سألني مدير الكلية عن شخصية أعجبت بها في حياتي؟ قلت له: جمال الدين الأفغاني، وأوضحت له سر إعجابي به..، فأبدى ارتياحه من كلامي، وبعد كثير من الأسئلة تمّ قبولي رسمياً في الكلية. وبعدها انطلقت إلى المكتبة التي حوت كثيراً من الكتب والموسعات الضخمة فأصبحت ملازماً لها، ولكن المشكلة التي واجهتني هي من أين أبدأ؟ وأي شيء أقرأ؟

وبقيت على هذا الحال، انتقل من كتاب إلى آخر.. وقبل أن أضع لنفسي برنامجاً، فتح لي أحد أقاربنا باباً واسعاً ومهماً في البحث والتنقيب، وهو دراسة التاريخ وتتبع المذاهب الإسلامية لمعرفة الحق من بينها، وكان هذا الفتح توفيقاً إلهياً لم يكن في حسباني، عندما التقيت بقريبي عبد المنعم ـ وهو

الصفحة 18
خرّيج كلية القانون ـ في منزل ابن عمي في مدينة عطبرة، وقبل غروب الشمس رأيته في ساحة المنزل يتحاور مع أحد (من الأخوان المسلمين) الذي كان ضيفاً في البيت، فأرهفت السمع لأرى فيم يتحادثان.. وأسرعت إليهم عندما علمت بطبيعة النقاش وهو في الأمور الدينية، فجلست بالقرب منهم أراقب تطورات المحاورة التي امتاز فيها عبد المنعم بالهدوء التام رغم استفزازات الطرف الآخر وتهجمه، لم أعرف طبيعة النقاش بتمامه إلى أن قال الأخ المسلم: الشيعة كفّار وزنادقة...!!

هنا انتبهت، وأمعنت النظر، ودار في ذهني استفهام حائر..

من هم الشيعة؟ ولماذا هم كفّار؟

وهل عبد المنعم شيعي؟

وما يقوله من غريب الحديث، هل هو كلام الشيعة؟!

وللإنصاف إن عبد المنعم افحم خصمه في كل مسألة طُرحت في النقاش، بالإضافة إلى لباقة منطقه وقوة حجته.

وبعد الانتهاء من الحوار، وأداء صلاة المغرب انفردت بقريبي عبد المنعم، وسألته بكل احترام: هل أنت شيعي؟.. ومن هم الشيعة؟ ومن أين تعرفت عليهم؟

قال: مهلاً. مهلاً.. سؤال بعد سؤال.

قلت له: عفواً، أنا ما زلت مذهولاً مما سمعته منك.

قال: هذا بحث طويل، ومجهود أربع سنوات من العناء والتعب مع الأسف لم تكن النتيجة متوقعة.

فقاطعته: أي نتيجة هذه؟.

قال: ركانُ من الجهل والتجهيل عشناه طوال حياتنا، نركض خلف مجتمعاتنا من غير أن نسأل، هل ما عندنا من دين هو مراد الله تعالى، وهو

الصفحة 19
الإسلام؟ وبعد البحث اتضح أن الحق كان مع أبعد الطرق تصوراً في نظري وهم الشيعة.

قلت له: لعلك تعجلتَ... أو اشتبهت...!..

فابتسم في وجهي قائلاً: لماذا لا تبحث أنت بتأمل وصبر؟ وخاصة أن لكم مكتبة في الجامعة تفيدك في هذا الأمر كثيراً.

قلت (متعجباً): مكتبتنا سنية، فكيف أبحث فيها عن الشيعة؟!..

قال: من دلائل صدق التشيع أنه يستدل على صحته من كتب وروايات علماء السنة فإن فيها ما يظهر حقهم بأجلى الصور.

قلت: إذن مصادر الشيعة هي نفس مصادر أهل السنة؟!

قال: لا، فإن للشيعة مصادر خاصة تفوق أضعافاً مضاعفة مصادر السنة كلها مروية عن أهل البيت عليهم السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولكنهم لا يحتجون على أهل السنة بروايات مصادرهم، لأنها غير ملزمة لهم فلا بدأن يحتجوا عليهم بما يثقون به، أي ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم.

سرني كلامه وزاد تفاعلي للبحث، قلت له: إذن كيف أبدأ؟

قال: هل يوجد في مكتبتكم ـ صحيح البخاري وصحيح مسلم ومسند أحمد والترمذي والنسائي ـ؟

قلت: نعم، عندنا قسم ضخم لمصادر الحديث.

قال: من هذه ابدأ، ثم تأتي بعد ذلك التفاسير وكتب التاريخ فإن في هذه الكتب أحاديث دالة على وجوب أتباع مدرسة أهل البيت.

وبدأ يسرد لي أمثلة منها، مع ذكر المصدر ورقم المجلد والصفحة....

توقفت حائراً، أستمع إلى هذه الأحاديث التي لم أسمع بها من قبل مما جعلني أشك في أنها موجودة في كتب السنة.....ولكن سرعان ما قطع عني

الصفحة 20
هذا الشك، بقوله: سجل هذه الأحاديث عندك، ثم ابحثها في المكتبة ونلتقي يوم الخميس القادم بإذن الله.

  في الجامعة:

بعد مراجعة تلك الأحاديث في البخاري ومسلم والترمذي.... في مكتبة جامعتنا تأكد لي صدق مقالته، وفوجئت بأحاديث أخرى، أكثر منها دلالة على وجوب أتباع أهل، مما جعلني أعيش في حالة من الصدمة..

لِمَ لَمْ نسمع بهذه الأحاديث من قبل؟!

فعرضتها على بعض زملائي في الكلية حتى يشاركونني في هذه الأزمة، فتفاعل البعض ولم يكترث لها البعض الآخر، ولكنني صممت على مواصلة البحث ولو كلفني ذلك كل عمري.. وعندما جاء يوم الخميس، انطلقت لعبد المنعم.. فاستقبلني بكل ترحاب وهدوء وقال: يجب عليك ألا تتعجل، وأن تواصل البحث بكل وعي.

ثم بدأنا في بحوث أخرى متفرقة استمرت إلى مساء الجمعة، استفدت منها الكثير وتعرفت على أشياء لم أكن أعرفها، وقبل رجوعي إلى الجامعة.. طلب مني عدة أمور أبحثها.. وهكذا دواليك إلى مدة من الزمن. وكانت طبيعة النقاش بيني وبينه تتغير من فترة إلى أخرى، فأحياناً احتد معه في الكلام، وأحياناً أكابر في الحقائق الواضحة، فكنت مثلاً عندما أراجع بعض الأحاديث في المصادر وأتأكد من وجودها، أقول له: إن هذه الأحاديث غير موجودة. ش. ولست أعلم إلى الآن ما الذي كان يدفعني إلى ذلك، سوى الشعور بالانهزام وحب الانتصار.

وبهذه الصورة وبمزيد من البحث انكشفت أمامي كثير من الحقائق لم أكن أتوقعها، وكنت في طول هذه الفترة كثير النقاش مع زملائي، وبعدما

الصفحة 21
ضاق زملائي بي ذرعاً، طلبوا مني أن أناقش دكتوراً كان يدرسنا الفقه، قلت: لام انع لدي، ولكن هناك حواجز بيني وبينه تمنعني من الحرية في الكلام، فلم يقتنعوا بهذا، وقالوا: بيننا وبينك الأستاذ، فإذا أقنعته فنحن معك..!

قلت: ليست المسألة هي الاقناع، وإنما هي الدليل والبرهان، والبحث عن الحق..

وفي أول درس للفقه بدأت النقاش معه بصورة أسئلة متعددة..

فوجدته لا يخالفني كثيراً بل العكس كان يؤكد على حب أهل البيت (ع) ولزوم أتباعهم وذكر فضائلهم.. وبعد أيام متعددة طلب مني أن آتيه في مكتبه في مقر الجامعة، وبعد الذهاب إليه قدم لي كتاباً من عدة أجزاء وهو (صحيح الكافي) من أوثق مصادر الحديث عند الشيعة. وطلب مني عدم التفريط في هذا الكتاب لأنه تراث أهل البيت.. لم أتكلم من شدة المفاجأة.. أخذت الكتاب وشكرته على ذلك، وكنت اسمع بهذا الكتاب ولم أراه، مما جعلني أشك في تشيع هذا الدكتور، مع معرفتي أنه مالكي، وبعد السؤال والاستفسار اتضح لي أنه صوفي متعلق بحب أهل البيت (ع).

وعندما شعر زملائي بهذا التوافق بيني وبين الاستاذ، طلبوا مني مناقشة أستاذ آخر كان يدّرسنا مادة الحديث، وكان رجلاً متديناً كثير التواضع طيب الأخلاق، وكنت أحبه كثيراً، فاستجبت لطلبهم، وبدأت بيننا نقاشات متعددة، وكنت أسأله عن صحة بعض الأحاديث فكان يؤكد صحتها، وبعد مدة من الزمن شعرت منه النفور وعدم الارتياح من نقاشي وقد أحس بذلك زملائي، ففكرت أن أفضل وسيلة لمواصلة النقاش، هي الكتابة، فكتبت له مجموعة من الأحاديث والروايات التي تدل بصراحة على وجوب أتباع مذهب أهل البيت (ع)، وطلبت منه البحث في صحتها، وكنت أسأله كل

الصفحة 22
يوم عن الإجابة فيعتذر بعدم البحث.. وتابعت معه بهذه الطريقة حتى أحس مني المضايقة.

قال لي: كلها صحيحة.

قلت: إنها واضحة في أتباع أهل البيت..

لم يجب وذهب مسرعاً على المكتب.

كان هذا التصرف صدمة بالنسبة لي، مما جعلني أشعر بصدق مقالة الشيعة. ولكني أحببت التريث وعدم العجلة في الحكم.

ومن غريب الصدفة، أن عميد الكلية وهو الأستاذ علوان، كان يدّرسنا التفسير فقال يوماً في تفسير قوله تعالى: (سأل سائل بعذاب واقع): إن رسول الله (ص) لما كان في غدير خم، نادى الناس فاجتمعوا فأخذ بيد علي (ع) فقال: (من كنت مولاه فعلي مولاه)، فشاع ذلك في أقطار البلاد وبلغ ذلك الحارث بن نعمان الفهري فأتى رسول الله (ص) على ناقته فأناخ راحلته ونزل عنها، وقال: يا محمد أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسوله فقبلناه ,أمرتنا أن نصوم رمضان فقبلناه وأمرتنا بالحج فقبلناه، ثم لم ترض بهذا حتى رفعت بضبعي ابن عمك تفضله علينا فقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه، فهذا شيء منك أم من الله؟

فقال النبي (ص: والله الذي لا إله إلا هو، إن هذا من الله عز وجل، فولى الحادث يريد راحلته وهو يقول: اللهم إن كان ما يقوله محمد حقاً فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، فما وصل إلى راحلته حتى رماه الله بحجر سقط على هامته وخرج من دبره.


الصفحة 23
فأنزل الله عز وجل: (سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع، من الله ذي المعارج)(1)..

وبعد الفراغ من الدرس لحق به أحد أصدقائي، وقال له: إنما قلته هو كلام الشيعة، توقف الأستاذ العميد هنيهة ثم نظر إلى هذا المعترض وقال له: ادع لي (معتصماً) إلى مكتب الإدارة..!

استغربت هذا الطلب، وتهيبت لقاء الأستاذ العميد، ولكني حزمت أمري وذهبت إليه، وقبل أن أجلس، قال: يقولون أنك شيعي!.

قلت: أنا مجرد باحث.

قال: إن البحث جميل ولا بد منه.

أخذ العميد يذكر لي بعض الشبهات عن الشيعة التي كثيراً ما كانت تُرَدَّدُ وقد أعانني الله على الرد عليها بأقوى الأدلة والبراهين، حيث انطلقت في الحديث بأكثر ما كنت أتوقع، وقبل ختام حديثنا أوصاني بكتاب المراجعات، وقال: إنه من الكتب الجيدة في هذا المجال.

وبعد قراءتي لكتاب المراجعات ومعالم المدرستين وبعض الكتب الأخرى، اتضح لي الحق وانكشف الباطل، لما في هذين السفرين من أدلة واضحة وبراهين ساطعة بأحقية مذهب أهل البيت. وازدادت قوتي في النقاش والبحث، حتى كشف الله نور الحق في قلبي، وأعلنت تشيعي...

ومن ثم بدأت مرحلة جديدة من الصراع، فلم يجد الذين عجزوا عن النقاش طريقاً، غير السخرية والسب والشتم والتهديد والافتراء.. وغير ذلك من أساليب الجهل فاحتسبت أمري عند الله، وصبرت على ما جرى، رغم أن الضربات قد وجّهت لي من أعز أصدقائي الذي حرّموا الأكل والنوم معي تحت سقف واحد.

____________

1- راجع نور الأبصار للشبلنجي ص75.


الصفحة 24
وضرُبت عليَّ عزلة كاملة، غلا من بعض الأخوة الذي هم أكثر فهماً وتحرراً. وبعد مدة من الزمن استعطت أن أعيد علاقتي بالجميع وبصورة أفضل من الأول بل ولقد أصبحت بينهم محترماً ومقدراً، وكان بعضهم يستشيرني في كل صغيرة وكبيرة من أمور حياته، ولكن هذا الحال لم يستمر طويلاً، فقد شبت نار الفتنة من جديد، بعدما أعلن ثلاثة من الطلبة تشيعهم، بالإضافة إلى مجموعة كبيرة من الطلبة أظهروا تعاطفهم وتأييدهم للشيعة، فدارات سلسلة أخرى من الصدامات والصراعات التزمنا فيها جميعاً الأخلاق الرسالية والحكمة، فتمكنا من امتصاص الغضب بأسرع ما يكون.


الصفحة 25

  في قريتنا

قريتنا (ندي) من القرى الصغيرة في شمال السودان على ضفاف النيل، ومعظم سكانها من قبيلة الرباطاب)، وقد اشتهرت هذه القبيلة بالذكاء وسرعة البديهة، ويعتمد سكانها على الخيل وزراعة المحاصيل الموسمية.

وقد استغل الوهابيون أهلها الطيبين في نشر الفكر الوهابي، فأثروا بطريقة غير مباشرة على مفاهيمهم وعقولهم، لكثرة المحاضرات والندوات التي يقيمونها، فأديت تحفظي في البداية، وملأت أوقاتي بالقراءة والإطلاع والدعوة إلى مذهب أهل البيت (ع) بين الأهل والأقارب. وقد جرى بيني وبين أخي الأكبر كثير من المناقشات والمشادات إلى درجة أنه رفض أن يقرأ كتب الشيعة وهددني بحرقها، وبعد النقاش تمكنت من التأثير عليه، فقرأ بعض الكتب أمثال: (أهل البيت قيادة ربانية، المراجعات، معالم المدرستين...) إلى أن هداه الله إلى نور أهل البيت (ع) وأعلن تشيعه، أما بقية الأهل فقد أبدى الغالبية تعاطفهم وتأييدهم..

وبهذا انتشر أمري في القرية، وبدأت أطرح مذهب أهل البيت على كثير من أهلها، فشبت نار الوهابية وتأجج غضب مروجيها، فأصبحت كل محاضراتهم في أية مناسبة كانت هي عبارة عن سب وشتم الشيعة والافتراء عليهم وأحياناً يتعرضون لشخصيتي، وواجهت كل ذلك بالصبر والصفح الجميل.


الصفحة 26

  مناظرة مع شيخ الوهابية:

وجرى حوار بيني وبين شيخهم ـ أحمد الأمين ـ وطلبت منه العقلانية وترك الاستهتار والتهجم دون جدوى، وبعدما طفح الكيل وازداد تعنتهم وتعصبهم ذهبت إلى مسجدهم وصليت خلفه صلاة الظهر، وبعد الانتهاء من الصلاة سألته: هل تعرضت لك يوماً طوال هذه المدة، التي تسب فيها الشيعة وتكفرهم بمكبرات الصوت؟!

قال: لا.

قلت: أو تدري ما السبب؟!

قال: لا أدري.

قلت: إن كلامك تهجم وجهل، وتعرض لشخصيتي، فخفت أن اعترض عليك فيكون ذلك دفاعاً عن نفسي، وليس دفاعاً عن الحق، والآن أطلب منك مناظرة علمية ومنهجية أمام الجميع حتى ينكشف الحق.

قال: لا مانع عندي.

قلت: لا مانع عندي.

قلت: إذا حدد محاور المناظرة.

قال: تحريف القرآن، وعدالة الصحابة.

قلت: حسناً، ولكن هناك أمران ضروريان لا بد من مناقشتهما، وهما صفات الله، والنبوة في اعتقادكم ورواياتكم..

قال: لا.

قلت: ولِمَ؟

قال: أنا أحدد المحاور، فإذا طلبتُ منك ـ أنا ـ المناظرة، يكون الحق لك في تحديد المحاور.

قلت: لا خلاف.. متى موعدنا؟


الصفحة 27
قال: اليوم، بعد صلاة المغرب.. ـ ظناً منه أنه سيرهبني بهذا الموعد القريب ـ فأظهرت موافقتي بكل سرور، وخرجت من المسجد.

وبعد أداء صلاة المغرب، بدأت المناظرة. فبدأ شيخهم ـ أحمد الأمين ـ الحديث كعادته يتهجم ويتهم الشيعة بالقول بتحريف القرآن وكان يمسك في يده كتاب (الخطوط العريضة لمحب الدين)، وبعد الفراغ من حديثه، ابتدأت حديثي، وقمت بالرد على كل ما افتراه من اتهامات بالتفصيل، وبرأت الشيعة تماماً من القول بتحريف القرآن، وبعد ذلك، قلت له كما قال عيسى (ع): (ترون التبنة في أعين غيركم ولا ترون الخشبة في أعينكم)، فإن الروايات التي احتوتها كتب الحديث عند السنة ظاهرة في اتهام القرآن الكريم بالتحريف، فنسبة القول بالتحريف إلى السنة أقرب منها إلى الشيعة، وذكرت ما يقارب عشرين رواية مع ذكر المصدر، ورقم الصفحة من صحيح البخاري ومسلم ومسند أحمد والإتقان في علوم القرآن للسيوطي، مثال:

أخرج الإمام أحمد بن حنبل في مسنده، عن أبي بن كعب قال: كم تقرؤون سورة الأحزاب؟ قال: بضعاً وسبعين آية، قال: لقد قرأتها مع رسول الله (ص) مثل البقرة أو أكثر منها وإن فيها آية الرجم(1).

وأخرج البخاري في صحيحه بسنده عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب، قال: إن الله بعث محمداً (ص) بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان مما أنزل الله آية الرجم فقرأناها وعقلناها ووعيناها فلذا رجم رسول الله (ص) ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله.. إلى أن يقول: ثم إنا كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله:

____________

1- مسند أحمد ج5 ص131.