صفحة :291-338   

الفصل الثالث

 إهانات لا تحتمل لرسول الله

بداية:

إننا نورد في هذا الفصل فقرات من مقولات سجلها البعض حول النبي «صلى الله عليه وآله» سيتضح للقارئ العزيز: أن كثيراً منها يمكن أن تدخل في عدد من الفصول الأخرى أيضاً..

ولكننا لم نحاول الإشارة إلى ذلك في تلك الموارد، لأننا نعلم: أن القارئ الكريم يدرك: أن ما يقوله هذا البعض عن نبينا «صلى الله عليه وآله» لا يمكن استثناء سائر الأنبياء منه، فإن ما يجوز على أكرم الخلق وأفضلهم لا بد أن يكون جائزاً على من عداه من أنبياء الله، الذين لم يدركوا مقامه، ولم يصلوا إلى درجته.

كما أن القارئ الكريم قادر على الربط بين الأمور، والإستفادة من المقولة الواحدة في المواقع المختلفة التي تناسبها.

وعليه، فإننا نقدم للقارئ الكريم الأمور التالية:

487 ـ لا تفعلوا مثل فعل النبي «صلى الله عليه وآله».

488 ـ لا تكن منطلقاتكم منطلقات النبي محمد «صلى الله عليه وآله».

489 ـ النبي «صلى الله عليه وآله» لا يعرف المهم من الأهم.

490 ـ النبي «صلى الله عليه وآله» يقوم بتجربة غير ذات موضوع.

491 ـ الله يربي رسوله تدريجيا بعد الوقوع في الخطأ.

492 ـ النبي «صلى الله عليه وآله» يحتاج إلى تكامل الوحي، وسعة الأفق، وعمق النظر للأمور.

493 ـ النبي «صلى الله عليه وآله» يستغرق فيما فيه مضيعة للوقت.

494 ـ النبي يفوّت الفرص المهمة.

495 ـ النبي «صلى الله عليه وآله» يخطيء في التشخيص.

496 ـ النبي «صلى الله عليه وآله» لا يعرف مسؤوليته المباشرة.

ويقول البعض، إن آيات عبس وتولى قد نزلت في النبي محمد «صلى الله عليه وآله»، وكلماته حول هذا الأمر كثيرة، ونحن نختار منها ما يلي:

   يقول البعض:

«لكن الله أراد أن يبين طبيعة المسألة، وأن يخاطب الآخرين: إذا ابتليتم بمثل هذه القضية طبعاً لا تكن منطلقاتكم منطلقات النبي «صلى الله عليه وآله»، فلا تفعلوا مثل ذلك»([1]).

   يقول هذا، مع أن الله سبحانه يقول: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ([2]).

ويقول:

«..﴿أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى([3])، للإيحاء له بأن عدم حصوله على التزكية، بعد إقامة الحجة عليه من قبلك مدة طويلة، لا يمثل مشكلة بالنسبة إليك، لأنك لم تقصر في تقديم الفرص الفكرية بما قدّمته من أساليب الإقناع، مما جعل من التجربة الجديدة تجربة غير ذات موضوع لأنه ـ يعني ذلك الغني ـ يرفض الهداية من خلال ما يظهر من سلوكه، الأمر الذي يجعل من الإستغراق في ذلك مضيعة للوقت، وتفويتا لفرصة مهمة أخرى، وهي تنمية معرفة هذا المؤمن الداعية الذي يمكن أن يتحول إلى عنصر مؤثر في الدعوة الإسلامية»([4]).

وذكر في موضع آخر كيف أن النبي قد أخطأ في تشخيص ما ينبغي عليه، فهو يقول:

«..﴿فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى([5])، لأنك تحسب أن إيمان هؤلاء الصناديد قد ينفع الإسلام أكثر من نمو إيمان هذا الأعمى الذي يمكن أن يؤجل السؤال لوقت آخر، ولكن المسألة ليست كذلك.. لأن هذا الأعمى وأمثاله، يمثلون مسؤوليتك المباشرة كرسول يعمل على تنمية خط الدعوة بتنمية الدعاة حوله، من أجل أن يؤثروا عليك في بعض الجهد، أو يوسعوا ساحة الدعوة في مواقع جديدة.

   وهذا هو ما يريد الله أن يفتح قلبك عليه فيما يريد لك من تكامل الوعي، وسعة الأفق، وعمق النظرة للأمور.

   ولا مانع من أن يربي الله رسوله تدريجياً، ويثبت قلبه بطريقة متحركة الخ..»([6]).

   ويقول عن ابن أم مكتوم:

«فأراد أن ينتهز فرصة وجود النبي مع المسلمين أن يأخذ من علمه فيما أنزله الله عليه من كتاب، وما ألهمه من علم الشريعة والمنهج والحياة.. ولكن النبي لم يستجب له لأن هناك حالة مهمة يعالجها في دوره الرسالي المسؤول في محاولة لتزكية هؤلاء الكفار من وجهاء المشركين، طمعاً في أن يسلموا ليتسع الإسلام في اتباع جماعتهم لهم، لأنهم يقفون كحاجز بين الناس وبين الدعوة، ولذلك أجّ‍ل النبي «صلى الله عليه وآله» الحديث مع هذا الأعمى إلى وقت آخر، فيما كانت الفرص الكثيرة تتسع للقاء به أكثر من مرة فتكون له الحرية في إغناء معلوماته بما يجب في جوّ هادئ ملائم، بينما لا تحصل فرصة اللقاء بهؤلاء دائما، فكانت المسألة دائرة، ـ في وعيه الرسالي ـ بين المهم، في دور هذا الأعمى، وبين الأهم، في دور هؤلاء الصناديد.

   ولكن الله يوجه المسألة إلى ما هو الأعمق في قضية الأهمية في مصلحة الرسالة، باعتبار أن هذا الأعمى قد يتحول إلى داعية إسلامي كبير، ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى([7])، فيما يمكن أن يستلهمه من آيات القرآن التي يسمعها، مما يُغني له روحه، فتصفو أفكاره، وترقّ مشاعره، وتتسع آفاقه»([8]).

 وقفة قصيرة:

ونقول:

إن آيات سورة عبس هي التالية: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى([9]).

ونحن نشير هنا إلى ما يلي:

1 ـ إن الذي يلاحظ الآيات الشريفة لا يجد فيها أي شيء يدل على أن المقصود بها هو شخص رسول الله «صلى الله عليه وآله» بل فيها ما يدل على أنها لا تليق به «صلى الله عليه وآله»، فلماذا الإصرار على ذلك من قبل البعض، وبشكل لا يقول به حتى من يدّعي نزولها في النبي «صلى الله عليه وآله» من العامة؟!

2 ـ إنّ قوله تعالى: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ﴾ ليس خطاباً لرسول الله، وإنما هو التفات من الغيبة إلى الخطاب، مع العابس نفسه.

3 ـ إنّ قوله تعالى: ﴿فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى﴾ لا يدل على أنّه كان يتصدى له لأجل الدين، فلعله كان يتصدّى للأغنياء لأهداف دنيوية، ولعل ذلك العابس يتظاهر بأنّه مهتمّ بنشر هذا الدين، وقد جاء مع أولئك الأغنياء مظهرا حرصه على إيمانهم، فكان يتلهّى بالحديث معهم، مظهرا الضّيق والإشمئزاز من ذلك الفقير.

   4 ـ وقوله تعالى: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى﴾ ليس فيه أن الغني سوف يزّكى على يد ذلك العابس، فلعله يتزكى على يد شخص آخر غيره، ممن هم في ذلك المجلس، كالنبي «صلى الله عليه وآله»..

   5 ـ إن الآيات تشعر ـ إن لم نقل تدل ـ: أنّه قد كان من عادة العابس أن يتصدّى للأغنياء ويتلهّى عن الفقراء، ولم يكن ذلك من عادة النبي «صلى الله عليه وآله».

   6 ـ قد روي عن أهل البيت «عليهم السلام»: أن الآيات قد نزلت في رجل من بني أمية، وبعض الروايات قد صرحت باسمه([10])، وروى الطبرسي أيضاً عن الإمام الصادق «عليه السلام»: أن رسول الله كان إذا رأى ابن أم مكتوم قال: مرحباً مرحباً، لا والله، لا يعاتبني الله فيك أبداً، وكان يصنع به من اللطف، حتى كان يكفّ عن النبي «صلى الله عليه وآله» مما يفعل به.

والظاهر: أنه «صلى الله عليه وآله» كان يريد بهذا الفعل التعريض بمن صدر منه ذلك في حق ابن أم مكتوم.. كأنه يقول له: والله أنا لا أعاملك كما عاملك فلان..

هذا بالإضافة إلى أن دعوى نزول الآيات في النبي «صلى الله عليه وآله» إنما وردت في روايات غير الشيعة.

واغترار البعض بها، وقبوله لها وترك ما روي عن أهل البيت «عليهم السلام»، لا يعلم له وجه صحيح، علماً أن بعض مفسري العامة، ومنهم الفخر الرازي في رسالته في عصمة الأنبياء قد طرح هذه الروايات، وعلل ذلك: بأنها أخبار آحاد، ومخالفتها للقواعد العقلية.

7 ـ إن الإعتذار عن نزول الآية في النبي «صلى الله عليه وآله»: بأن ابن أم مكتوم كان أعمى، وليس في العبوس إساءة له، لأنه لا يرى، إعتذار غير سديد، لأن الله سبحانه قد طالب العابس بهذا الأمر، واعتبره أمراً يستحق اللوم والعتاب..

وإذا كان ابن أم مكتوم لا يرى العبوس، فإن الحاضرين قد رأوه وأدركوه، واستقر في أنفسهم: أن العابس غير مرتاح من ذلك الأعمى.

8 ـ إن الإعتذار عن ذلك بوجود وحدة حال بين الأعمى وبين النبي «صلى الله عليه وآله» هو الآخر اعتذار غير سديد، إذ لا يوجد ما يثبت وجود وحدة الحال هذه، وقصة دخوله على بعض زوجات النبي «صلى الله عليه وآله» لا تدل على وجود وحدة حال.. وذلك لعدة أمور:

أولاً: عدم وجود ما يشهد لتكرر ذلك، فالرواية لا تذكر أزيد من أنه جاء واستأذن، فقال النبي «صلى الله عليه وآله» لزوجتيه: قوما وادخلا البيت، فاحتجتا بأنه أعمى، فقال لهما: أفعمياوان أنتما؟! ألستما تبصرانه؟!([11]).

ثانياً: إن وقوع مثل هذه الأمور لا يدل على وحدة الحال، فقد كان الكثيرون من الصحابة يدخلون على النبي «صلى الله عليه وآله»، في حين تكون زوجاته عنده، لا سيّما مع عدم تعدد الحجرات التي كانت تسكنها النساء مما قد بني حول المسجد.

   ثالثاً: إذا كانت هذه الحادثة قد حدثت في مكة وفي أوائل البعثة، فمن أين يثبت لنا وجود وحدة الحال هذه، في تلك الفترة بالذات، فيما بين ابن ام مكتوم وبين النبي «صلى الله عليه وآله»..

رابعاً: إن وجود وحدة الحال المزعومة، لا يبرر تضييع حق ذلك الأعمى، ففي الخبر: لا تضيعن حق أخيك اتكالا على ما بينك وبينه، فإنه ليس لك بأخ من أضعت حقه ([12]).

خامساً: إن نفس صدور ذلك من النبي «صلى الله عليه وآله» أمام المشركين يعطي انطباعاً سيئاً عن أخلاق الإسلام، ومنطلقاته في التعامل مع الآخرين.

سادساً: إنه لا معنى للنهي عن أن يفعل الناس مثل فعل النبي «صلى الله عليه وآله»، وقد قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ([13]).

سابعاً: كيف يمكن أن يقول أحد عن أفضل الرسل: إنه لا يعرف الأهم من المهم، وإنه يستغرق فيما هو مضيعة للوقت، ويفوت الفرص، ويفرط في تنمية المعرفة الإيمانية لدى المؤمنين، وإنه يجهل بحقيقة مسؤولياته، ويخطيء في تشخيص تكليفه، وأي نبي هذا الذي أرسله الله وفيه كل هذه العلل؟!

497 ـ الخطأ غير المقصود للنبي «صلى الله عليه وآله».

ويتحدث ذلك البعض عن الخطأ غير المقصود لنبينا محمد «صلى الله عليه وآله»، فيورد احتمالا يقول:

«..﴿عَفَا اللهُ عَنْكَ([14]). وهذا أسلوب في العتاب لا يعنف في المواجهة، بل يرق ليخفف من وقع الخطأ، انطلاقا من عدم الإطلاع على مواقفهم الحقيقية، مما يؤدي إلى تصديقهم فيما يقولون»([15]).

وقفة قصيرة:

   إن من المعلوم: أنه ليس ثمة من خطأ على الإطلاق، وأن النبي «صلى الله عليه وآله» كان مطلعا على حالهم، ولا يصح احتمال الخطأ، وغيره مما ذكره في حق النبي «صلى الله عليه وآله»، بل المتعين أن يقال: إن النبي «صلى الله عليه وآله» كان عالما بحقيقة نواياهم، ولكنه كان يظهر تصديقهم لأن عليه أن يعاملهم وفق الأمارات الظاهرية، لا وفق علمه الخاص بحالهم، كما أشارت إليه الآيات، فإذا كان يعرف ذلك، ثم يعاملهم بمنتهى الإحسان والرفق، فانه يكون غاية في الخلق النبوي الكريم..

   وقوله: ﴿عَفَا اللهُ عَنْكَ([16]). تعبير يستعمل عادة في مقام إظهار استحقاق الطرف الذي يجري الحديث عنه إلى العقوبة، ولكن استعمال هذا التعبير لا يعني أن العفو عنه كان خطأ، فهو كقولك: سامحك الله لم عفوت عن فلان، فان العفو عنه حسن، لكن المطلوب هو إبراز استحقاقه للعقوبة، وهنا قد جاء التعبير الإلهي عنهم بذلك من أجل فضحهم، واظهار نواياهم، بل إننا إذا رجعنا إلى ما هو المتعارف عند الناس في مجال التعامل، فإننا نجدهم لا يتسامحون مع هذا النوع من الناس، بل يعاملونهم بصرامة وحزم، حين يدركون خبث باطنهم وسوء نواياهم، ومكرهم، واحتيالهم، ويرون أن معاملتهم بهذا المستوى من الصفح واللين خطيئة وذنب، فيكون قوله: ﴿عَفَا اللهُ عَنْكَ﴾. أيضاً مشيراً إلى ما بلغته معاملة رسول الله «صلى الله عليه وآله» لهم من نبل وكرامة وصفاء، مع وجود هذا الحجم الهائل من خبثهم، ومن إجرامهم الكبير، ولا ينبغي إغفال حقيقة كون نسبة الخطأ إلى النبي «صلى الله عليه وآله» منافية لعصمته في مذهب الشيعة الإمامية، لأنهم قائلون بعصمة الأنبياء «عليهم السلام» عن الخطأ والخطيئة والسهو والنسيان قبل البعثة وبعدها في التبليغ والإعتقاد والأفعال والأحكام.

498 ـ الزهراء «عليها السلام» عوضت النبي «صلى الله عليه وآله» ما فقده من حنان.

499 ـ جوع النبي «صلى الله عليه وآله» وهو في القمة إلى الحنان.

   إن البعض يقول:

«..وإذا كانت كلمة «أم أبيها» تعني الإحساس القوي باستعادة عاطفة الأم التي فقدها في طفولته فعاش فراغها في مشاعره من خلال ابنته فاطمة..

إلى أن يقول: إن النبي استعاد أمه في ابنته، ومعنى ذلك، أنه عاش الإمتلاء الروحي العاطفي الشعوري الذي يحتاجه في بشريته حتى وهو في قمة الفعلية لأن الرسول بشر، يتألم ويفرح، ويحزن ويتعب، ويتحسس كل الأجواء التي تثبت موقفه وتثبت موقعه، وتطلق آفاقه..»([17]).

   ونجده يقول أيضاً:

«بدأ النبي حياته وهو يشكو فقد حنان الأم، لأن حنان الأم ليس شيئاً يمكن أن تتكفله مرضعة أو مربية، إنه شيء من عمق الروح، من عمق القلب، لأن الولد جزء من الأم، ولذلك فإن إحساسه كإحساس الإنسان بنفسه، ليس شيئاً خارجاً عن حياته، ولكنه شيء داخل في حياته وكانت هي جزءا من الرسول، والجزء يتفاعل مع الأجزاء الأخرى، ولذلك أعطته أمومتها باحتضانها له، وقالها رسول الله وهو يشعر أن ذاك الفراغ الذي فقده بفقدان أمه استطاع أن يملأَه من خلال ابنته، فابنته هي أمه بالروح وابنته بالجسد، ولذلك قال عنها: إنها «أم أبيها»، كم تحمل هذه الكلمة من دلالات الخ..»([18]).

   ويقول في نص آخر:

«إن كلمة النبي «صلى الله عليه وآله» عن الزهراء «عليها السلام»: إنها «أم أبيها» توحي لنا: أن النبي «صلى الله عليه وآله» عاش مع ابنته الزهراء «عليها السلام» حنان الأم وعطفها، بحيث عوضته عما فقده من حنان أمه وعاطفتها، حتى إنه «صلى الله عليه وآله»، وهو يتمثلها كيف ترعاه، وتحنو عليه، وتبكي إذا مسّه سوء، كان يحس كما لو أن أمه كانت تفعل ذلك، وتعيش معه، وليس هذا عقدة نقص في شخصيته «صلى الله عليه وآله» وهو «صلى الله عليه وآله» لم يشكُ عقدة نقص على الإطلاق».

إلى أن قال:

«فالنبي «صلى الله عليه وآله» يمثل الكمال كله. وعلى هذا، فإن إحساس البشر بالجوع لا يعني نقصا فيه، وليس هناك فرق بين الجوع إلى الطعام، وبين الجوع إلى الحنان. فنحن نعيش الجوع إلى الحنان كما نعيش الجوع إلى الطعام. فهل هناك نقص في النبي «صلى الله عليه وآله» عندما يحس بالجوع، إن كان جوعا للحنان، أو للطعام؟‍ الخ..»([19]).

ونقول:

إنه ليس في كلام النبي «صلى الله عليه وآله»، ما يشير إلى وجود هذا الجوع إلى الحنان في داخل نفسه كما ينسبه إليه هذا البعض.

وإذا صح قياس الجوع إلى الحنان على الجوع للطعام، صح أيضاً قياسه على الجوع الجنسي أيضاً. فهل يصح أن يقال: إن عزوبة النبي «صلى الله عليه وآله» التي استمرت سنوات، قد أوجدت عنده جوعاً جنسياً يحتاج إلى تعويض؟! ثم يفسّر تعدد زوجاته «صلى الله عليه وآله» على هذا الأساس؟! وهل أن النبي «صلى الله عليه وآله» قد بقي جائعاً إلى الحنان ما يقرب من خمسين سنة، حتى أصبح جوعاً «مزمناً» يكتوي «صلى الله عليه وآله» بناره، وفراغا مستمرا، لا يجد ما يدفع غائلته، أو يدفع عنه؟!

إننا نقول:

إنه لا يصح قياس الجوع إلى الحنان على الجوع إلى الطعام. فلو افترضنا أن النبي «صلى الله عليه وآله» قد احتاج في طفولته إلى العطف، فذلك لا يعني أن تستمر حاجته إليه إلى ما بعد خمسين سنة، ولا أن يكون لديه فراغ عاطفي يحتاج إلى ملء وتعويض، وذلك لأن بعض الأمور تفقد مبرراتها ومواقعها ومقتضياتها، ولا يبقى لها مجال، فتزول وتتلاشى. فمن حرم في طفولته من الرضاعة، فإنه لا يعوض عنها برضاعه بعد خمسين سنة بحيث يحتاج إلى أم يلتقم ثديها، ويرتضع من لبنها.

ولا ندري لماذا يقيس هذا البعض الحاجة إلى الحنان في الطفولة على الحاجة للأكل والشرب، ولا يقيسها على الحاجة إلى الرضاعة، فإنها بها أنسب وإليها أقرب؟! فإن الكلام هو عن حاجات الطفولة، وليس الكلام عن وسائل بقاء الحياة واستمرارها. وهل إذا كان الطفل يحتاج في حال طفولته إلى ثوب يلبسه ولم يحصل له ذلك، فهل يبقى بعد خمسين سنة بحاجة إلى لبس نفس الثوب؟! واستبعاد كلمة عقدة نقص لا يدفع الإشكال ولا يحل العقدة.

فإن القول بوجود فراغ نفسي في الشخصية الإنسانية للنبي «صلى الله عليه وآله»، أمر مرفوض.. تماماً كرفضنا لمقولة معاناته «صلى الله عليه وآله» من عقدة نقص..

ونحن نعتقد: أنه «صلى الله عليه وآله» هو الإنسان الكامل في عقله، وفي مشاعره، وفي تكوينه النفسي والعاطفي.

ونعتقد: أنه «صلى الله عليه وآله» حتى حين تعطف ابنته عليه، فإنها إنما تقوم بمسؤولياتها وتؤدي واجباتها، وتعبر عن رفيع أدبها تجاهه «صلى الله عليه وآله». والزهراء هي الأسوة والقدوة في ذلك كله..

ويمكن تقريب هذا المعنى إذا لاحظنا حال أي إنسان يكرم والديه أو يحترم معلمه، أو يعبد الله تعالى فإنه إذا فعل ذلك وقبل يد والده أو معلمه، أو صلّى لربّه لا يكون قد ملأَ فراغاً في نفس والده أو لدى ذلك العالم، كما أن الله ليس بحاجة إلى صلاته، ولا هي تملأ له فراغا، أو تحل له عقدةً تعالى الله وأنبياؤه عن ذلك علوّا كبيراً.

وأما معنى قوله «صلى الله عليه وآله» في حقّها «سلام الله عليها»: إنها أمّ أبيها، فلا يعني: أن أباها كان بحاجة إلى عاطفتها، بل معناه: أنها على صِغَرِ سنّها قد ظهر منها من العطف والحنوّ والتفاعل الروحي والعاطفي معه «صلى الله عليه وآله» كما لو كانت أمّاً تتفاعل مع ولدها، دون أن يكون النبي «صلى الله عليه وآله» بحاجة إلى ذلك، ولا كان يعاني من فراغ ملأته عليه. فلماذا هذا الإصرار على أن ينسب للنبي «صلى الله عليه وآله» فراغاً في تكوينه النفسي وفي شخصيته النبوية؟!

500 ـ قد يكون ما ألقاه الشيطان في أمنية الرسول انفتاحاً في الإنجذاب العاطفي إليهم.

501 ـ ما ألقاه الشيطان يؤدي إلى اهتزاز الموقف في حركة الرسالة.

502 ـ ما ألقاه الشيطان يؤثر على صلابة الفكرة في حركة المواجهة.

503 ـ ما ألقاه الشيطان يؤدي إلى إضعاف المؤمنين.

504 ـ ما ألقاه الشيطان يوجب اهتزاز إيمان المؤمنين.

505 ـ أسلوب النبي «صلى الله عليه وآله» (وهو ما ألقاه الشيطان) قد يوحي بغير ما يريده.

506 ـ ألقى الشيطان للنبي «صلى الله عليه وآله» أن يحاول احتواء الساحة بالموقف المهادن.

507 ـ ألقى الشيطان إليه «صلى الله عليه وآله» أن يجامل عقيدتهم دون اعتراف بها.

508 ـ إلقاءات الشيطان هي خطورات ذهنية تبرز في مظاهر السلوك.

509 ـ النبي يخطئ في تشخيص تكليفه الشرعي.

510 ـ يزيل القاءات الشيطان، حتى لا يبقى أثر سلبي على حركة الرسالة في الفكرة والأسلوب.

511 ـ المجتمع المؤمن يتأثر سلباً بإلقاءات الشيطان.

512 ـ المجتمع المشرك يتأثر إيجاباً بإلقاءات الشيطان.

513 ـ إلقاء الشيطان يدخل في فكر النبي وقلبه.

514 ـ الآتي من الشيطان داخل في عمق الأمنية في داخل الذات.

515 ـ إلقاءات الشيطان تطوف بذهن النبي وتتحرك بسرعة في مظاهر سلوكه.

516 ـ هذه الأفكار كانت تخطر في أذهان الأنبياء والرسل السابقين أيضاً.

قال الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آَيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ([20]).

ويقول البعض في شرح هذه الآية:

   «..وقد فسر المفسرون المعترضون على هذه الرواية، الآية بطريقة أخرى. فقد جاء في الميزان: أن معنى الآية: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى..﴾  وقدّر بعض ما يتمناه من توافق الأسباب على تقدم دينه وإقبال الناس عليه وإيمانهم به ﴿أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ﴾ وداخل فيها بوسوسة الناس وتهييج الظالمين وإغراء المفسدين فأفسد الأمر على ذلك الرسول أو النبي وأبطل سعيه فينسخ الله ويزيل ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته بإنجاح سعي الرسول أو النبي وإظهار الحق والله عليم حكيم..

   وقد نلاحظ على هذا التفسير: أنه حاول أن ينظر إلى مسألة إلقاء الشيطان في الأمنية النبوية في الواقع الخارجي لحركة الأمنية في ساحة الصراع بين خط الله وبين خط الشيطان.. مما يجعل الآية جارية على أساس الأجواء التي تتحدث عن إغراء الشيطان للآخرين في إبطال الأمنية في خط الواقع ولم يحاول أن ينظر إليها من الداخل، فيما تختزنه كلمة: فيلقي ﴿الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ﴾ من معنى إدخال شيء فيها بحيث تكون ظرفاً له وموقعاً من مواقعه، لا حركة خارجية من الآخرين في مواجهتها، ليكون النسخ ـ من خلال ذلك ـ نسخاً في حركة الواقع، لا نسخاً في طبيعة خصوصيات الأمنية.

   إن هذا المعنى الذي ذكره صحيح في الإعتبار، ولكنه لا ينسجم مع ظهور الآية في كلماتها، كما نفهمه.. لأنها ظاهرة في وجود شيء ما من الشيطان في طبيعة الأمنية.. وقد لا يكون من الضروري ظاهراً: أن يكون هذا الشيء فعلياً فيما يصدر عنه من قول أو فعلٍ.. أو يكون منافياً للمبادئ التي يبشّر بها، فقد يكون انفتاحاً في الإقبال عليهم والإستماع لهم والإنجذاب العاطفي إليهم والإيحاء لهم بالتفكير فيما يقولونه مما قد يطمعهم فيه، أو يوحي إليهم: بأن موقفه قد أصبح أكثر مرونة.. فيؤدي ذلك إلى اهتزاز الموقف في حركة الرسالة، من حيث تأثيره على صلابة الفكرة في خط المواجهة وتبيان الموقع في ساحة الصراع.. وإضعافه للمؤمنين الذين قد تكون المرونة في الموقف في علاقة النبي بالمشركين، موجباً لتخفيف حالة التوتر النفسي لديهم، فيهتز إيمانهم من خلال ذلك.

   قد تكون المسألة متحركة في خط الإيحاء في الأسلوب الذي قد يوحي بغير ما يريده.. مما يدخل في محاولة احتواء الساحة، بالموقف المهادن لهم، والمجامل لعقيدتهم، من دون إعطاء أي اعتراف بها أو أي انجذاب إليها، وذلك من باب السكوت عنهم، والاكتفاء بالإعلان عن وحدانية الله من الناحية الإيجابية التي ترتبط بعبادته، لا من الناحية السلبية التي ترتبط برفض عبادة غيره، ليكون ذلك بمثابة الهدنة التي تخف فيها حدة الصراع، من أجل إيجاد الجو الملائم لإدارة الحوار معهم في جو هادئ..

   قد تكون هذه الأفكار وأمثالها هي التي كانت تخطر في ذهن النبي محمد «صلى الله عليه وآله» في بعض الحالات الصعبة كما كانت تخطر في أذهان الأنبياء والرسل من قبله، عندما تشتد التحديات أمام الدعوة، ويتعرض المؤمنون للزلزال النفسي من خلال الضغوط التي تضغط عليهم بكل قسوة.

   ولكن هذه الإيحاءات لا تترك أثرها في الواقع، ولا تملك موقعا مستقراً في عمق الذات، بل هي خطورات ذهنية تطوف بالذهن، وتتحرك ـ بسرعة ـ في مظاهر السلوك، فيتأثر بها المجتمع المؤمن بطريقة سلبية، وينجذب إليها المجتمع الكافر، بطريقة إيجابية.. ولكنها سرعان ما تزول أمام الحاجة إلى الموقف الحاسم الذي يفصل بين الإيمان والشرك بفاصل واضح، لا مجال فيها لأية مهادنة، أو لأي لقاء لأن المسألة تتصل بالأسس لا بالتفاصيل.. ولعل هذا هو المعنى الإيحائي الذي نستوحيه في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا([21]).

   إن هذه الآيات وأمثالها قد توحي بأن هناك شيئاً ما يخطر بالبال، ولكنه لا يثبت في النفس بل يطفو على سطح بعض الممارسات، ثم ينتهي بشكل حاسم.. من دون أن يسيء إلى فكرة العصمة في الذات، أو العصمة في التبليغ، لأن تأثر الإنسان بما حوله في مسائل الخطورات الذهنية السريعة الطارئة، تماماً، كما هو تأثره بما حوله من الروائح الطيبة أو النتنة، أو بما تثيره الأطعمة اللذيذة القريبة منه، من إفرازات جسدية في حالة الجوع، أو الاشتهاء.. فان العصمة، لا تلغي العنصر الإنساني الذاتي في شخصيته، بل تلغي الحركة المنحرفة في خط العقيدة التي يعتقدها، والفكرة التي يتبناها، والكلمة التي يقولها، والحركة التي يتحرك فيها..

   ربما يكون هذا الذي عرضناه تفسيراً للآيات، فيما نستوحيه من معناها، لأنه يتناسب مع طبيعة الأسلوب والكلمات الذي يؤكد أن الشيء الآتي من الشيطان يدخل في عمق الأمنية في داخل الذات، لا أنه يتحرك في دائرة الآخرين الذين يعيشون أجواء الرسالة بحيث يكون الإلقاء حركة في خط الأمنية في خط الآخرين، كما أنه لا يتنافى مع الشخصية النبوية الرسالية في التزامها بالتوحيد وإصرارها عليه، وابتعادها عن كل الإيحاءات والكلمات التي تتنافى معه، حتى بنحو الغفلة والسهو.. والله العالم بحقائق آياته.

   ﴿فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ﴾ ويزيله من فكر النبي أو الرسول وقلبه، حتى لا يبقى منه أي أثر سلبي على حركة الرسالة في الفكرة والأسلوب، لأن الله يتعهد رسله بالرعاية في مشاعرهم وأفكارهم، كما يتعهدهم في حياتهم وحركتهم في خط الرسالة، وذلك من خلال رعايته لرسالته من خلالهم ﴿ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آَيَاتِهِ([22])، يثبتها فلا يدع أي مجال للريب فيها، من أية جهة كانت، وذلك من خلال ألطافه التي يغدقها على رسوله، فيمنع ـ بذلك أي تحريف للكلمة، وأي زيادة فيها، لأن ذلك هو السبيل لإحكام الآيات على أساس الثقة الشاملة بموافقتها للوحي الإلهي».

إلى أن يقول:

«..﴿لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ من الكفر أو النفاق ﴿وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ([23]). الذين تحجرت قلوبهم بالجهل والتخلف حتى لم تعد تنفتح على شيء من الفكر الحق، وتجمدت مشاعرها بالغلظة والقسوة، حتى لم تعد تنبض بالرحمة والخير. وذلك من خلال هذه الأجواء التي تثيرها الأساليب المتنوعة في الطبيعة الإيحائية لحركة النبي في الساحة.. حيث تأخذهم العزة بالإثم من جهة، باعتبار ذلك مظهر قوة لهم فيما يمثله من التنازلات الإيحائية لحسابهم، أو تحركهم في طريق الفتنة»([24]).

 وقفة قصيرة:

   ونقول:

   إن لنا هنا وقفات عديدة نكتفي ببعض منها، روماً للاختصار، كماً وكيفاً، فنقول:

   1 ـ إن هذا البعض يصر على أن إلقاء الشيطان قد كان على شكل خطورات ذهنية تبرز في مظاهر سلوك النبي «صلى الله عليه وآله» ([25]).

وأن الشيطان قد ألقى في فكر النبي «صلى الله عليه وآله» وفي قلبه، مع أن الله سبحانه يقول:

﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ([26]).

ويقول: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ([27]).

وقال تعالى: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ([28]).

   وقد يقال: إن الخطور بالبال ليس من الغواية، فلا تشمله الآية الشريفة، غير أننا نقول:

إن هذا البعض لا يقتصر على مجرد الخطور بل هو يقول: إنه ينعكس على الممارسة ويظهر في سلوك النبي «صلى الله عليه وآله» أيضاً.

   2 ـ إن هذا البعض يقول:

«إن ما ألقاه الشيطان في فكر النبي وقلبه قد انعكس على ممارساته، وتحول إلى سلوك وتجسد انجذابا إليهم، واستماعاً لهم، وقد أدى ذلك إلى إضعاف المؤمنين في ساحة الصراع، وتقوية الكافرين، وإلى اهتزاز الموقف في حركة الرسالة.

كما أنه قد تمثل بالموقف المجامل لعقيدتهم والمهادن لهم ».

ويقول هذا البعض أيضاً:

«إن ذلك يحصل لجميع الأنبياء في المواقف الصعبة التي يواجهونها».

   ولا ندري كيف نوفق بين أقواله هذه وبين قوله الذي أورده تتمة له: «من دون أن يسيء إلى فكرة العصمة في الذات أو العصمة في التبليغ».

إلى أن قال:

«فإن العصمة لا تلغي العنصر الإنساني الذاتي في شخصيته، بل تلغي الحركة المنحرفة في خط العقيدة التي يعتقدها، والفكرة التي يتبناها والكلمة التي يقولها، والحركة التي يتحرك فيها».

   فهل يتوافق هذا مع قوله: «إن الذي ألقاه الشيطان قد انعكس على بعض ممارسات النبي «صلى الله عليه وآله» وتجسد استماعا وانجذابا عاطفيا إليهم، وإقبالا عليهم، وموقفا مهادناً لهم، ومجاملا لعقيدتهم، وأدى إلى تقوية الكافرين وإلى اهتزاز الموقف في حركة الرسالة، وإلى إضعاف المؤمنين. وإن الشيطان قد ألقى ما ألقاه في فكر النبي وفي قلبه؟‍‍‍!».

   وأين هي العصمة في الحركة التي يتحرك فيها هذا النبي، وفي الأسلوب الذي ينتهجه ويمارسه، لا سيما وأنه يلتزم أحياناًً كثيرة بما يسميه بالعصمة التكوينية، فأين العصمة مع كل هذا، وأين تكوينيتها التي الزم نفسه بها؟!

وأي خلل أعظم من هذا الخلل الذي حصل بسبب ما ألقاه الشيطان؟! وبسبب ممارسات النبي التي نشأت عن ذلك؟!

   3 ـ ألا يعتبر كل هذا الذي حدث بسبب ما يطفو على سطح بعض ممارسات النبي «صلى الله عليه وآله» مما نشأ عن إلقاء الشيطان، ألا يعتبر ذلك كله ناشئاً عن جهل النبي ـ والعياذ بالله ـ تكليفه الشرعي، وخطأه في تشخيص الوظيفة في مقام التبليغ؟!

   وإذا كان ذلك قد أوجب كل تلك السلبيات التي ذكرها هذا البعض، حسبما ذكرناه آنفاً، فإن المصيبة تصبح بالنسبة لحفظ الدين ونشره أعظم وأخطر، وأدهى وأكبر. حيث لا يبقى وثوق بالنبي «صلى الله عليه وآله» حتى من ناحية تبليغ الرسالة وحفظ رسوم الشريعة.

   لا سيما إذا كان ذلك سيحصل لجميع الأنبياء، ولا يتعلم لاحقهم من سابقهم، وآخرهم من أولهم!.

   4 ـ بقي أن نشير إلى أن المراد من الآية الشريفة هو: أن كل نبي من الأنبياء يحب ويرغب (لأن التمني هو الرغبة في الأمر المحبوب) ما يتناسب مع وظيفته كرسول. وأعظم ما يتمناه هو ظهور الحق والهدى، وطمس الباطل، ورد كيد الأعداء.

   فيلقي الشيطان في أمنيته (ولم يقل: في فكره ولا في قلبه) وأمنيته هي ظهور الحق. يلقي فيها ما يفسدها ويوجب عدم ظهورها.

   فالأمنية هي: الشيء الذي يتمناه الإنسان ويرغب فيه، كما تقول: أمنيتي شفاء ولدي، أو نجاحه في الإمتحان، ثم يحصل ما لم يكن بالحسبان مما يمنع من شفائه أو من نجاحه، كخطأ الطبيب في الدواء، وغيبة معلمه، فنقول: إن الشيء الفلاني ضيّع عليّ أمنيتي تلك وأفسدها، ولا يعني ذلك أن ذلك الشيء وهو خطأ الطبيب مثلا قد دخل في فكرك وقلبك، وأفسد التمني والرغبة.

   بل هو قد افسد الأمنية والمتمنى. فالرغبة باقية، ولا تزال قائمة، والمتمني لم يزل يحب شفاء ولده ونجاحه بالامتحان.

ولأجل ذلك فإن كل نبي يتمنى أمراً وذلك الأمر هو أمنيته، فيلقي الشيطان في تلك الأمنية وفي ذلك الأمر بالذات (لا في نفس التمني والرغبة) ما يفسده ويضيعه، فيراه الناس ويفتتن الذين في قلوبهم مرض بفعل الشيطان هذا. فتتدخل الإرادة الإلهية لتبطل كيد الشيطان، ويظهر نور الهدى، ويتجلى بطلان الباطل.

   والقرينة على أن المراد بالأمنية هو ظهور الحق وزهوق الباطل هو قوله تعالى بعد هذا ﴿فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ﴾ أي من شبهات وغوايات ﴿ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آَيَاتِهِ﴾ ويظهر نور الحق والله عليم حكيم.

وبذلك أيضاً يعرف السبب في أن الله سبحانه قال: ﴿أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ﴾، ولم يقل: في تمنَيه.

   5 ـ إن هذا البعض قد رفض ما ذكره العلامة السيد الطباطبائي من أن إلقاء الشيطان في الأمنية النبوية إنما هو في الواقع الخارجي وان الآية تتحدث عن إغواء الشيطان للآخرين.

   نعم.. لقد رفض هذا القول مدعياً أن هذا يخالف دلالة الآية على وجود شيء ما من الشيطان، في طبيعة الأمنية أي في الداخل علىشكل خطورات في البال أو في الذهن.. الخ.. حيث قال تعالى: ﴿أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ﴾. ثم فسر قوله تعالى:

﴿فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ﴾ بالإزالة من فكر النبي وقلبه.

   ولكنه هو نفسه قد عاد وادعى أن هذه الخطورات تنعكس على السلوك والممارسة، وتنشأ عنها آثار سلبية في الواقع الخارجي، فيضعف المؤمنون ويقوى الكافرون بسبب ذلك. وذلك ليتمكن من تفسير قوله تعالى: ﴿لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾. لأن مجرد الخطورات الذهنية لا توجب الافتتان من أحد ما لم تظهر على صعيد الواقع حركة وسلوكا وموقفا.

   وبذلك يكون هذا البعض قد قرّر للآية معنى يسيء إلى العصمة، حيث تستقر هذه الخطورات في النفس وتترجمها بالممارسة كما أنه قد خالف ظاهر الآية أيضاً لأن الآية تقول إن نفس ما ألقاه الشيطان هو الذي يكون فتنة للذين في قلوبهم مرض، فإذا كان هو هذه الخطورات الذهنية وحسب، فإنها لا يعرفها الناس ولا يرونها. فكيف يفتتنون بها!؟ فلا بد من التأويل في الآية لتنطبق على الحركة والسلوك الخارجي للنبي «صلى الله عليه وآله». بادعاء أنها هي الخطورات الذهنية بسبب تجسدها فيه.

والنتيجة هي: أن ما ألقاه الشيطان له معنيان:

أحدهما: الخطور في البال والقلب في قوله تعالى: ﴿أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ﴾. وفي قوله تعالى: ﴿فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ﴾.

   الثاني: الحركة الخارجية والسلوك والممارسة: وذلك في قوله تعالى: ﴿لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾.

   ثم هو يقصد بالأمنية معنيين:

   أحدهما: الرغبة والتمنّي، وذلك في قوله تعالى: ﴿فِي أُمْنِيَّتِهِ﴾. وقوله: ﴿فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ

   الثاني: ما نشأ عن الرغبة من حركة وسلوك، ومن مشاكل وآثار في الواقع الخارجي. وهو الذي افتتن به الذين في قلوبهم مرض، في قوله تعالى: ﴿لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾.

   والذي ذكرناه نحن في معنى الآية، وكذلك الذي ذكره العلامة الطباطبائي لا يلزم عليه شيء من ذلك. حيث قلنا: إن المراد بالأمنية هو الشيء الذي يتمناه الإنسان، وليس المراد بها الرغبة والتمني.. وهذا هو الظاهر المتبادر.

   أما ما ذكره ذلك البعض فهو مخالف لظاهر القرآن من اكثر من جهة ولا مجال للأخذ به وليس كلام صاحب الميزان.

   6 ـ وقد أورد هذا البعض في سياق كلامه الآيات الكريمة التالية، مستشهدا بها على ما يذهب إليه: ﴿وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا([29]).

ونقول:

إن هذه الآيات لا تؤيد ما ذهب إليه، لا من قريب ولا من بعيد، لأنها تقول: انه «صلى الله عليه وآله» لم يركن إليهم، بل ولم يقترب من الركون، لأن الله سبحانه قد أعطاه من العزيمة والثبات ما جعله في منأى عن ذلك كله.

وذلك بقرينة كلمة (لولا) الدالة على أنه لم يكد يركن، ولم يطف في ذهنه أيّ خيال، ولا خطر في باله من هذا الفعل حتى الإحتمال، فضلاً عن أن ينعكس ذلك على سلوكه، وممارسته، ويتسبب بخلق مشاكل، وتنشأ عنه آثار، أو ما إلى ذلك.

فلا معنى للإستشهاد بهذه الآية بأيّ وجه.

517 ـ إمكانية أن تثير التحديات ضعفاً في النبي.

518 ـ قد يكون النبي يبحث دائماً عن الهروب.

519 ـ قد يحطم هذا الضعف شخصية النبي.

520 ـ قد يسيء هذا الضعف إلى موقع النبي.

521 ـ إمكانية أن يتعقد النبي بسبب ضعف تثيره التحديات.

522 ـ إمكانية أن يتحول النبي إلى مخلوق مختنق بأزمته.

يقول البعض في تفسير قوله تعالى: ﴿فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ([30]):

«وهنا يكمن سؤال: ماذا تعني هذه الآية في تقييم شخصية النبي محمد «صلى الله عليه وآله»؟! فهل كان يضعف أمام التحديات، لتجيء هذه الآية وأمثالها من أجل أن تقوّي ضعفه، أو تُسند له موقفه، أو تخفف عنه أحزانه، وتطيب به نفسه، وتزيل عنه آلامه؟! وهل جاءت في أجواء التأنيب الإلهي له، أو ماذا؟!

والجواب عنه: إن الآية ليست في مورد الحديث عن الحالة الواقعية الفعلية التي كانت تحيط بموقف النبي «صلى الله عليه وآله» أو تمثل شخصيته، بل كانت في مورد تقييم الطبيعة الموضوعية لما يمكن أن تثيره التحديات التعجيزية في الحالة الإنسانية من ضعف يبحث دائماً عن الهروب، مما يمكن أن يحطم شخصيته أو يسيء إلى موقعه، أو يتعقد من ذلك، فيتحول إلى مخلوق مختنق بأزمته، وربما كان هذا السبب هو السر في الإتيان بكلمة (لعل) التي توحي بإمكانية الموضوع، لما تختزنه مثل هذه الأمور من نتائج على مستوى الإنفعالات الإنسانية، في مواجهة عوامل الإثارة.

وبذلك يمكن أن تكون الآية عاملاً وقائياً يريد الله به حماية النبي «صلى الله عليه وآله» من الوقوع في مثل هذه التجربة، أو الخضوع لهذا الإنفعال، أو تكون عملية إيحائية للعاملين ـ من خلال النبي ـ ألا يستسلموا لهذه الحالة، لو واجهوا مثلها، انطلاقاً من فهمهم لطبيعة الدور الذي أوكله الله إليهم من الدعوة إلى سبيله بالوسائل الواقعية المألوفة ومما يجعلهم لا يعيشون الضعف في مواجهة هذه التحديات، لأنهم لا يعتبرونها تحدياً لدورهم أو لقدرتهم الطبيعية، بل كل ما هنالك، أنها التحدي لما يتوهمه أولئك من دور، دون ارتكاز إلى علم أو إيمان»([31]).

 وقفة قصيرة:

ونقول:

1 ـ إن دلالات كلمات هذا البعض ترسم للقارئ طرفاً من الصورة التي تعيش في ذهنه لأنبياء الله «صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين» وليس هذا المورد الذي نحن بصدد الحديث عنه إلا أحد المفردات الكثيرة التي تجسد هذا المعنى، وتؤكده.

فقد استهل كلامه بالإشارة إلى أن الآية الشريفة لا تتحدث عن حالة واقعية فعلية.. لكنه أكد على أن الآية تتحدث عن إمكانية حدوث ذلك لنبينا الأعظم «صلى الله عليه وآله»، أي أنه يمكن أن يتعقد أو أن يختنق بأزمته، واعتبر أن هذا هو السبب في الإتيان بكلمة لعل، في قوله تعالى: ﴿فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ([32]).

ولكن من الواضح: أنه حتى احتمال حصول ذلك للأنبياء مرفوض جملة وتفصيلاً.. فالنبي لا يتعقد، ولا يختنق بأزمته، ولا يضعف إلى درجة أن يبحث دائماً عن الهروب إلى آخر ما هنالك مما ذكره..

2 ـ إنه قد ذكر أخيراً: احتمال أن يكون ذلك عملاً إيحائياً للعاملين من خلال النبي «صلى الله عليه وآله»، ألَّا يستسلموا لهذه الحالة فيما لو واجهوا مثلها.

ونقول له:

إنه إذا كان هذا الإحتمال كافياً في إعطاء الخطاب في الآية قيمته، وحيويته، فلماذا تثار احتمالات فيها انتقاص لمقام النبي الكريم «صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطاهرين»؟!

3 ـ بل إنه حتى لو لم يهتد هذا البعض إلى هذا المعنى الذي تشير إليه الآية، فإنه لا يحق له إبداء احتمالات لا يشك عاقل في أنها تتنافى مع حقيقة النبوة، ومع مقام النبي المعصوم.. بل عليه أن يعترف بالعجز عن فهم المراد من الآية، ويرجع علمها إلى أهله، وهم الراسخون في العلم من أهل بيت النبوة «صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين».

4 ـ ولماذا لم يلتفت هذا البعض إلى ما ذكره العلامة الطباطبائي: من أن هذه الآية تريد أن توبخ الكفار على استمرارهم في العناد، والتحدي؟!

وضرب مثلاً لذلك، بملك تمرد عليه بعض ضعفاء رعيته، فبعث إليهم عاملاً له برسالة يقرؤها عليهم تدعوهم إلى السمع والطاعة، وتلومهم على تمردهم، واستكبارهم، فيردون على رسوله ما بلغهم إياه، فيكتب إليهم رسالة ثانية، ويأمره بقراءتها عليهم، وإذا فيها:

«لعلك لم تقرأ كتابي عليهم خوفاً من أن يقترحوا عليك أموراً تعجيزية، أو أنهم زعموا: أن الكتاب ليس من قبلي، وإنما هو مفترى منك؟!

فإن كان الأول، فإنما أنت رسول ليس عليك إلا البلاغ.

وإن كان الثاني، فإن الكتاب بخطّي، كتبته بيدي، وختمته بخاتمي».

والآيات القرآنية التي هي موضع البحث هي تماماً في هذا السياق.. والآيات هي التالية:

﴿فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ([33]).

523 ـ لعل انفعال النبي لشخصه يتجاوز انفعاله لأجل الله.

524 ـ التسلية للنبي لعلها لتخليصه من حالة ذاتية ترهقه.

525 ـ قد يحزن النبي لمسألة شخصية ككون التكذيب موجهاً إليه كشخص.

526 ـ قد يواجه النبي الموقف بالمشاعر الذاتية بدلاً من العقلية الواقعية.

527 ـ قد يواجه النبي الموقف بالمشاعر الذاتية بدلاً من الذهنية المرنة.

528 ـ تسلية النبي بالإيحاء إليه أن التكذيب موجه إلى الله لا إلى شخصه هو.

529 ـ محاولة تأكيد الفكرة في ضمير النبي لكي يفرغ ذاته من الإنفعال.

530 ـ النبي يواجه صدمات انفعالية صعبة ـ شخصية ـ تثقل حركته في الدعوة.

531 ـ ردة الفعل لدى النبي يجب أن تبتعد عن الذات والذاتيات.

532 ـ التكذيب لله وهو فوق الإنفعال لا للنبي الذي ليس كذلك.

533 ـ النبي قد يرى العمل مرتبطاً بذاته لا بمسؤوليته.

534 ـ لو أن النبي اعتبر العمل مرتبطاً بمسؤوليته لا بذاته لعمل بموضوعية، وهدوء.

535 ـ النبي قد يفهم القضية أمراً شخصياً له.. ولا يفهمها مرتبطة بالنطاق العام للرسالة.

536 ـ هناك حالة بشرية في النبي تحب التمرد.

537 ـ هناك حالة بشرية في النبي تحب الهروب من المسؤولية.

538 ـ مواجهة حالة التمرد والهروب بمنطق الواقع.

539 ـ الواقع يفرض الهدوء النفسي، وحالة النبي البشرية ليست كذلك.

540 ـ الواقع يفرض الإتزان العاطفي، والحالة البشرية في النبي خلاف ذلك.

541 ـ الواقع يفرض الثبات العقلي، والحالة البشرية في النبي ليست كذلك.

يقول البعض:

«هل كان الرسول يشعر بالحزن الروحي على ما يواجهه به قومه من تكذيب؟! وهل كانت المسألة تمثل بالنسبة إليه حالة ذاتية ترهقه ليحتاج إلى التسلية التي تبعد الموضوع عن التحدي الذاتي، وتجعله بمنأى عن النتائج السلبية المؤثرة على المشاعر الخاصة، وذلك بالإيحاء له بأن التكذيب ليس موجهاً إليه، بل موجه إلى الله من خلال ما يكذب به الظالمون من آيات الله؟!

وهل إن مثل هذا الأسلوب يريح النبي محمداً «صلى الله عليه وآله»؟!

وإذا كان الأمر على هذا الشكل، فهل يمكننا أن نفهم أن انفعاله الشخصي يتجاوز انفعاله لله؟!

وأخيراً، هل ينسجم مع شخصية النبي في ما نعرفه عن إخلاصه لرسالته لربه؟!

هذه هي علامات الاستفهام التي قد ترتسم أمام القارئ لهذه الآيات عندما يواجه معانيها من خلال الفهم الحرفي لألفاظها.

ولكننا نفهم منها أسلوباً قرآنياً يتحدث عن تحليل الموقف الرسالي للرسول، ولكل الرساليين الذين يتبعون خطاه، في ما يمكن أن يخضع له البشر من نوازع ذاتية أمام التحديات، فهو يوحي بوجود شيء من هذا القبيل، كفرضية قابلة للحدوث، ولكن ليس من الضروري أن تكون قد حدثت بالفعل، لينتقل من خلال ذلك إلى الإيحاء بأن الموضوع لا يتحمل أية صدمة انفعالية صعبة، تثقل حركة الذات في الدعوة.

فإذا كانت صفة الرسالة هي التي تطبع شخصية الرسول فإن كل ردة فعل سلبية أو إيجابية ترتبط بتلك الشخصية يجب أن تكون بعيدة عن الذات والذاتيات.

وبهذا تكون القضية متعلقة بالله الذي لا يضيره شيء من تكذيبهم، وجحودهم كما لا ينفعه شيء من إيمانهم وتصديقهم، لأنه الغني عن ذلك كله، فلا مجال لأي انفعال لأن الذات لا علاقة لها بالموضوع، والرسالة المنزلة من الله لا تتأثر بذلك، إن الله فوق الإنفعال، فماذا يبقى في الساحة؟!

إن المسألة ـ بكل بساطة ـ: هي أن يواجه الرسول الموقف بعقلية واقعية، وذهنية عملية مرنة، بعيداً عن كل الحالات الشعورية الذاتية، وبذلك تستمر القافلة الرسالية في سيرها الطبيعي، لتصل إلى أهدافها الكبيرة في نهاية المطاف.

وفي ضوء ذلك، تتحول هذه الآيات إلى خطة تربوية للعمل الرسالي، يواصل من خلالها ذاك العمل طريقه بكل موضوعية وهدوء، تماماً كأي عمل يرتبط بمسؤوليته ولا يرتبط بذاته، حيث يتحرك الداعية على أساس المعطيات الواقعية، ومدى انسجامها مع خط المسؤولية في عمله، فيعيش التجرد من كل ما لا يرتبط بالعمل، مما يجعل للحركة فاعلية قوية، ويقود الموقف إلى خطوات الواقع.

وهكذا تخرج القضية من النطاق الشخصي، لتتصل بالنطاق العام للرسالة، وللرسول، فلا تعود شيئاً شخصياً للنبي، بل تتحول إلى قاعدة عامة لكل الرسل، والرسالات، ومن هنا تتساقط كل علامات الاستفهام أمام شمولية القاعدة وثباتها.

إن القرآن يريد أن يؤكد الفكرة ـ الخط ـ في ضمير النبي الداعية، ليفرّغ ذاته من الإنفعال، فهناك حالة بشرية تحب التمرد والمواجهة، والهروب من المسؤولية، فلا بد من مواجهتها من منطق الواقع الذي يبحث في الأرض عن الإمكانيات الحاضرة، والمستقبلية لانتصار الدعوة في حركتها الفاعلة، مما يفرض المزيد من الهدوء النفسي والإتزان العاطفي، والثبات العقلي.

فالدعوة تمثل رسالة الله، والتكذيب يواجه هذه الرسالة، فهو يواجه الله في النهاية»([34]).

وقفة قصيرة:

ونقول:

لقد طرح ذلك البعض أسئلته.

أولاً: حول سبب حزنه «صلى الله عليه وآله» لتكذيب قومه له، وأنه هل هو حالة ذاتية له، أو هل أن انفعاله الشخصي يتجاوز انفعاله لله وغير ذلك؟!

ثم قرر في إجابته عنها: أن ليس من الضروري أن يكون ذلك كله قد حدث بالفعل، ولكنها تبقى فرضية قابلة للحدوث عنده، واحتمال كونها كذلك يساوق القول بإمكانها، وذلك يعني أنه لا مانع من وقوعها..

ثم أفاض في تفاصيل عناصر هذا الأمر القابل للحدوث لكل من النبي، والداعية على حد سواء..

فجاء هذا السيل من التصريحات التي حاولنا أن نشير إلى أكثرها في العناوين التي صدّرنا بها الفقرات المنقولة منه حرفياً فاقرأ، واعجب ما بدا لك!!

ـ فهل يصح احتمال ذلك كله في حق الأنبياء؟!

ـ وهل يجتمع احتمال هذه الأمور مع الاعتقاد بعصمتهم؟!

ـ وإذا كانت عصمتهم إجبارية، فما معنى احتمال أمور كهذه في حقهم؟!

ـ وأي نبي هذا الذي يخلط بين التكذيب لشخصه والتكذيب لله؟!

ـ وأي نبي هذا الذي يسلّيه، ويريحه أن يكذّب الناس الله؟! ويحزنه أن يكون التكذيب موجهاً لشخصه؟!

إلى غير ذلك من الأسئلة التي لا بد أن تدور بذهن كل منصف عاقل.. وهل يصح بعد هذا كله أن يدعي هذا البعض: أنه يعتقد بعصمة الأنبياء، وبكفاءتهم العلمية والإيمانية لتحمل شمولية الرسالة؟!

542 ـ المشاعر السلبية للنبي ربما تتحول إلى عقدة.

543 ـ المشاعر تتحول إلى تساؤل دائم عن سبب إعراض المشركين عن القرآن.

544 ـ المشاعر السلبية تتحول إلى تساؤلات عن أشياء كثيرة تضغط على وجدانه.

يقول البعض:

«..﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ﴾. الخطاب لرسول الله «صلى الله عليه وآله» الذي كان يعيش الألم والحسرة أمام بعد المشركين، وإعراضهم عن القرآن، وعن الدعوة إلى الله، وهذه المواقف تمثل خطوات المشركين العملية على صعيد خط الرسالة، تماماً كما هي الآثار التي تتركها أقدامهم على الطريق في حالة السير.

وربما تؤدي به هذه المشاعر السلبية الضاغطة إلى الهلاك، عندما تتعاظم أو تتحول إلى عقدة، وتساؤل دائم عن السبب في هذا الموقف المضاد، وعن الضعف الذي يحيط بشخصه، وبالساحة أمام قوة هؤلاء، وعن أشياء كثيرة قد تطوف في نفسه، وتضغط على وجدانه.. ﴿إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا([35])»([36]).

وقفة قصيرة:

ونقول:

إننا نجل مقام رسول الله «صلى الله عليه وآله» عن أن ينسب إليه إمكانية الإبتلاء بالعقد النفسية نتيجة لمشاعر سلبية ضاغطة، ولا بد أن نعطف كلامه هذا على حكاية الجوع العاطفي للحنان، فإن هذا يوضح ذاك، ويظهر عدم صحة ما يحاول أن يتخلص به من سلبيات ذلك القول العجيب، والغريب، وسيأتي توضيح ذلك حين الحديث عن مقولاته حول الزهراء «عليها السلام». في بعض فصول هذا الكتاب.

كما أننا نجل مقام النبي «صلى الله عليه وآله» عن أن يكون ـ والعياذ بالله ـ جاهلاً إلى درجة ابتلائه بالتساؤل الدائم عن أسباب الموقف المضاد للمشركين، وجاهلاً بأسباب ضعف الساحة الإسلامية أمام قوة أولئك.

وبعد ما تقدم نقول:

إن إيغال هذا البعض في الخيال الذي لا مبرر له جعله يحتمل هذه الأمور الغريبة والعجيبة، مع أن الآية صريحة في أن حزن رسول الله «صلى الله عليه وآله» الناشئ عن صدود الناس عن الحق كان حزناً عظيماً جداً، ولا غرو في ذلك فهو يرى الكفر والشرك من أعظم الموبقات بمقدار معرفته بسلبيات هذا الشرك وآثاره البغيضة.

545 ـ قد يكون آباء النبي «صلى الله عليه وآله» كفاراً.

546 ـ المهم أن لا يكونوا أبناء زنا.

547 ـ العقل لا يقبح كفر آباء النبي «صلى الله عليه وآله» بشرط أن يكون النكاح شرعياً لا زنا.

سئل البعض:

السؤال: يدور كلام كثير حول ضرورة أن يتولد النبي عموماً، أو نبينا محمد «صلى الله عليه وآله» خصوصاً من آباء مؤمنين موحدين، فما رأيكم بهذه المسألة؟!

فأجاب:

«هناك كلام للشيخ المفيد بإجماع الشيعة، على أن آباء النبي إلى آدم «عليه السلام» كانوا موحدين على الإيمان بالله.. ويستند الشيخ المفيد في كتابه تصحيح الإعتقاد في الإحتجاج لذلك إلى قوله تعالى ﴿الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ([37]).

قال: يريد به تنقله في أصلاب الموحدين.

ولكننا نلاحظ: أن الآية لا تدل على نفي تقلبه في غير الساجدين من آبائه، لأنه يكفي في صدق ذلك: أن يكون بعضهم من الساجدين.

مع ملاحظة أخرى، وهي: أن ظاهر الآية هو الحديث عن قيام النبي «صلى الله عليه وآله» لعبادة الله، وتقلبه في الساجدين من عباد الله، باعتبار استغراقه في السجود لله سبحانه.

وإذا كانت بعض الأحاديث تدل على إرادة خلاف الظاهر، مما ذكره الشيخ المفيد، فإنها تتحدث عن تقلبه في أصلاب النبيين، كما جاء في رواية محمد بن الفرات عن الإمام الباقر «عليه السلام».

وفي رواية أبي الجارود، عن الباقر «عليه السلام» قال: «سألت أبا جعفر «عليه السلام» عن قول الله ـ عز وجل ـ: ﴿وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ([38]).

قال: يرى تقلبه في أصلاب النبيين، من نبي إلى نبي، حتى أخرجه من صلب أبيه من نكاح غير سفاح من لدن آدم».

ومن المعلوم: أنه ليس المقصود بذلك ـ على تقدير صحة الحديث ـ: أن أجداد النبي بأجمعهم أنبياء، فيكون المقصود به: أنه تقلب في أصلاب الأنبياء، من دون أن يكون نافياً لتقلبه في غيرهم..».

إلى أن قال:

«أما الإجماع، فقد يكون مدركه كلام المفيد، فلا يكون تعبدياً. ولا قبح من ناحية العقل في كونهم كفاراً، إذا كان النكاح شرعياً، لا زنا»([39]).

وقفة قصيرة:

ونقول:

1 ـ إننا لا نريد أن نتصدّى في هذه العجالة لبحث هذا الموضوع، فنأتي بالروايات التي رويت في كتب الفريقين، مما دل على إيمان آباء رسول الله «صلى الله عليه وآله».. فإن هذا الكتاب ليس كتاب بحث واستدلال، وإنما هو مخصص لبيان أقاويل جاء بها البعض.. لا مجال لقبولها في نفسها، أو في سياقها الذي وضعت فيه.

ويكفي أن نشير هنا: إلى أنه حتى أهل السنة، فإنهم قد ألفوا كتباً في هذا الموضوع، وذكروا فيها الروايات التي تفيد في بيان هذا الأمر..

ومنها:

ألف: مسالك الحنفا في والدي المصطفى.

ب: الدرج المنيفة في الآباء الشريفة.

ج: المقامة السندسية في النسبة المصطفوية.

د: التعظيم والمنة في أن أبوي رسول الله «صلى الله عليه وآله» في الجنة.

هـ: السبل الجلية في الآباء العلية.

وكلها مطبوعة بعنوان الرسائل التسع ـ للسيوطي في الهند ـ حيدر آباد الدكن سنة 1380هـ.

2 ـ إنه إذا كان هذا البعض يلتزم بأن النفي يحتاج إلى دليل، كما الإثبات يحتاج إلى دليل.. فأين هو دليله على النفي؟! فإن غاية ما جاء به هو: أن علق على بعض أدلة المثبتين.. ولم يأت بدليل يثبت مقولته هذه..

3 ـ إن الدليل المطلوب من هذا البعض ـ على الخصوص ـ لا بد أن يكون مفيداً لليقين، ولا يكفيه الإستدلال بالظواهر الظنية، وبالأدلة المعتبرة في خصوص الأحكام.. لأنه هو نفسه يقرر لزوم هذا النوع من الأدلة فيما يرتبط بالتاريخ، وبالأشخاص، وبالتفسير، وفي مختلف شؤون الحياة، وسائر المعارف.. ويرفض الاستدلال عليها بالأدلة المعتبرة في الأحكام الشرعية الفقهية ويقول: هي حجة فيها دون سواها.

4 ـ إن هذا البعض قد ناقش الاستدلال بالآية، على أساس أنه يكفي في صدق تقلبه أن يكون بعض آبائه من الساجدين.

ولكن من الواضح: أنها مناقشة لا تصح.

فأولاً: إن الظاهر هو: أن هذه الآية واردة مورد الإمتنان على رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فحملها على العموم والشمول يكون هو الأظهر، والأنسب بمقام الإمتنان الإلهي.. وبيان الرعاية الإلهية له «صلى الله عليه وآله»..

ثانياً: إن الجمع المحلى بالألف واللام يفيد العموم بإجماع العلماء كما هو مقرر في علم الأصول([40]). وكلمة الساجدين جمع محلى بالألف واللام، فهي تدل على العموم.

5 ـ إن دعواه: أن ظاهر الآية هو تقلب النبي «صلى الله عليه وآله» بين عباد الله الساجدين باعتبار استغراقه في السجود لله سبحانه.. لا مجال لقبولها.. فإن غاية ما هناك: أن يكون ذلك محتملاً في معنى الآية بصورة بدوية.. فإذا جاء التفسير عن المعصوم ليعيّن أحد الإحتمالين.. فإنه يتعين، وينتفي الإحتمال الآخر.. لأن الأئمة أعرف بمقاصد القرآن من كل أحد.. فلا تكون الرواية المروية عنهم مخالفة لظاهر القرآن لمجرد أنها عينت هذا الإحتمال وأكدت أنه هو المقصود دون ذاك.

فلا يصح قوله:

«إذا كانت بعض الأحاديث تدل على إرادة خلاف الظاهر الخ..».

6 ـ بقي أن نشير إلى قوله:

«ليس المقصود أن أجداد النبي «صلى الله عليه وآله» بأجمعهم أنبياء.. بل يكفي في صدق الآية أن يتقلب في أصلاب بعضهم، دون أن تنفي تقلبه في أصلاب غيرهم..».

فقد ظهر: أن إرادة هذا المعنى لا تنسجم مع مقام الإمتنان، كما أن نفس الرواية ظاهرة في العموم والشمول لجميع أجداده «صلى الله عليه وآله»، حيث تقول: يرى تقلبه في أصلاب النبيين، من نبي إلى نبي حتى أخرجه من صلب أبيه.

فإن التعبير بحتى التي جاءت لبيان الغاية، قد أظهر.. أن تقلبه في الأنبياء قد استمر من نبي إلى نبي حتى أخرجه من صلب أبيه.. ولا يتناسب هذا التعبير مع إرادة الموجبة الجزئية..

7 ـ إن من الواضح: أن النبوة لها حالاتها، فهناك نبي مرسل إلى الأمة وهناك من أرسل إلى قوم، وإلى عشيرة، وإلى حيّ، وقد يكون نبياً يكلمه الملك، ويخبره عن الله، وليس مرسلاً لأحد.. بل يعيش هو حالة الصلاح في نفسه، ويكون الكمال المتجسد الذي يرى فيه الناس ـ دون أن يكون مأموراً بشيء تجاههم ـ الإنسان الإلهي المتوازن، والمرضي في كل حالاته.. فيهيؤهم ذلك لأجواء الإيمان، ويثير في فطرتهم كوامن الخير والصلاح، والإيمان والتقوى..

وعلى هذا الأساس، فلا ضير في أن يكون جميع آباء النبي الذين خرج من أصلابهم أنبياء إلى آدم، وإن لم تكن لهم دعوة، ولا رسالة تختص بهم، فيكون عبد الله والد النبي «صلى الله عليه وآله»، وعبد المطلب وكذلك آباؤه جميعاً لهم هذه الصفة، وإن اختلفت مقاماتهم، ومهماتهم.. حسبما ذكرنا.

8 ـ ويؤيد ذلك أيضاً: ما ورد من أن الأرض لا تخلو من حجة، إما ظاهر مشهور، أو غائب مستور، ومَن أولى من آباء رسول الله «صلى الله عليه وآله» بهذا المقام؟!

9 ـ ويبقى إجماع شيعة أهل البيت «عليهم السلام»، الذي لم يقبل هذا البعض بأن يكون تعبدياً، لأن من المحتمل أن يكون مستندهم فيه هو أدلة الشيخ المفيد..

ونقول:

إن حديثه عن تعبدية الإجماع هنا غريب وعجيب، فإن هذا الإجماع ليس على حكم شرعي، ليوصف بالتعبدية تارة وتنفى عنه أخرى.. بل هو إجماع يكشف لنا عن أن هذا الأمر الذي لا يُعرف إلا من أهله ولا طريق إلى معرفته بالعقل، قد قرره أهله وهم الأئمة الطاهرون المعصومون، وتحدثوا عنه وذكروه للناس وصرحوا به، وقالوا: إن آباء النبي كلهم مؤمنون من آدم «عليه السلام» إلى عبد الله أبي رسول الله «صلى الله عليه وآله»، لأن العلماء لا يقولون ذلك من عند أنفسهم، فهو علم من ذي علم.

وواضح: أن من يريد التعرف على أي مذهب، فإنه يرجع إلى الأتباع الذين هم أعرف بقول إمامهم.

أضف إلى ما تقدم: أنه لو كان الإجماع تعبّدياً للزم أن يكون الإجماع على الإمامة تعبّدياً أيضاً، فهل يحكم هذا البعض برده لكونه مستنداً إلى الأدلة؟! فهل هذا المنهج الإستدلالي صحيح أيضاً؟!

10 ـ وقال هذا البعض في آخر كلامه:

«لا قبح من ناحية العقل في كونهم كفاراً، إذا كان النكاح شرعياً لا زنا».

وظاهر كلامه هذا: أن القبح موجود فيما إذا لم يكن النكاح شرعياً..

فهل يريد أن يقول: إن شرك الآباء لا قبح فيه من ناحية العقل، أما الزنا ففيه قبح من هذه الناحية العقلية؟!

والسؤال هو: ما هو الفرق بين الأمرين؟! من الناحية العقلية البحتة؟! ولماذا قبح هذا ولم يقبح ذاك؟!

548 ـ التقلب في أصلاب الآباء الأنبياء لا يدل على أن أولئك الأنبياء كانوا مؤمنين!!

يقول البعض:

«استدل الشيعة الإمامية على أن هذه الآية من سورة الشعراء: ﴿وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ([41]) تدل على أن جميع آباء النبي موحدون وأن معناها تقلبك في الساجدين الموحدين من نبي إلى نبي حتى أخرجك نبياً.

وقد روي عن الإمامين أبي جعفر وأبي عبد الله «عليهما السلام»: أنهما قالا: يرى تقلبه في أصلاب النبيين من نبي إلى نبي حتى أخرجه من صلب أبيه من نكاح غير سفاح من لدن آدم «عليه السلام».

ولكن ذكرنا في تفسيرنا «من وحي القرآن»: أن المراد من الآية بحسب الظاهر من السياق، وقد ذكره جمع من المفسرين: يراك في تقلبك في الساجدين المصلين الذين يصلون معك، أو يراك في تحركك في أجواء السجود مع الفريق الذي يسجد لله خشوعاً، في ما يمثله مجتمع الساجدين العابدين الذي تتقدمه أنت في الموقع الطليعي فيه، والله العالم. أما الرواية، فلا دلالة فيها إلا على طهارة الآباء من الولادة بالزنا»([42]).

وقفة قصيرة:

ونذكر هنا:

1 ـ إن ما قدمناه في الفقرة السابقة يكفي لبيان عدم صحة ما ذكره هذا البعض هنا.. ولسنا بحاجة إلى التذكير بأنه إذا كان أهل البيت قد فسروا الآية الشريفة بأن المقصود بها: أن الله سبحانه يرى تقلب نبيه في أصلاب النبيين من نبي إلى نبي حتى أخرجه من صلب أبيه. فلا بد من قبول ذلك منهم؛ فإن أهل البيت أعرف من كل أحد بمعاني القرآن، وبأهدافه ومراميه..

وكما قال الإمام الصادق :

«فليذهب الحسن يميناً وشمالاً فوالله ما يوجد العلم إلا هاهنا»([43]).

ولن نصغي ولن نقبل من أحد أن يقول لنا: قال الإمام الصادق «عليه السلام». وأقول: فما ذكره هذا البعض في تفسيره لا بد أن يردّ عليه، وأن يؤخذ فقط بكلام أهل البيت «صلوات الله وسلامه عليهم».

2 ـ والأعجب من ذلك قول هذا البعض هنا:

«وأما الرواية فلا دلالة فيها إلا على طهارة الآباء من الولادة بالزنا ».

مع أن الرواية صريحة في أن الرسول لم يزل يتقلب في أصلاب النبيين: من نبي إلى نبي حتى أخرجه من صلب أبيه.

مما يعني: أن جميع آبائه «صلى الله عليه وآله» قد كانوا مؤمنين أتقياء أبراراً. بل كانوا من الأنبياء، حتى والده عبد الله.. ولا مانع من أن يكونوا كذلك، فقد كان ثمة أنبياء تقتصر نبوتهم على أنفسهم، وعلى المحيط المحدود الذي يعيشون فيه، وقد تمتد نبوتهم إلى العشيرة أو الحي أو البلد الصغير أو الكبير.. من أجل أن يحفظوا الحق والخير في الناس بالمقدار الممكن لهم، بحسب ما يوجههم الله سبحانه إليه، ويأمرهم به.

549 ـ نفي النبوّة عن النبي «صلى الله عليه وآله» قبل سنّ الأربعين.

   ومن الواضح: أن هناك روايات رواها السنة والشيعة تدل على أن النبي «صلى الله عليه وآله» قد كان نبياً منذ ولد يكلمه الملك ويسمع الصوت ثم أرسله الله رسولا للناس كافّة بعد أن بلغ الأربعين، وكلمه الملك معاينة، ونزل عليه القرآن، قال المجلسي رحمه الله: إن ذلك ظهر له من الآثار المعتبرة والأخبار المستفيضة([44])..

   لكن البعض يقول:

«النبوّة الفعلية لا بد لها من الوحي، ومن التكليف الإلهي، ولم يكلفه الله بالنبوّة إلا بعد أربعين سنة»([45]).

وقد كنا نتمنى: أن يشير إلى تلك الآثار، والأخبار المستفيضة، ومن بينها ما هو معتبر وصحيح، التي اعتمد عليها المجلسي وغيره، خصوصا وأن هذا الأمر يحتاج إلى التعريف والتوقيف، وليس هو من الامور التي يمكن ان تنالها العقول والأفهام..


 

([1]) الموسم العددان 21 ـ 22 ص295 وراجع ص86.

([2]) الآية 12 سورة الأحزاب.

([3]) الآيات 5 ـ 7 من سورة عبس.

([4]) من وحي القرآن (الطبعة الأولى) ج24 ص 67.

([5]) الآية 10 من سورة عبس.

([6]) من وحي القرآن (الطبعة الأولى) ج24 ص 76.

([7]) الآية 3 من سورة عبس.

([8]) من وحي القرآن (الطبعة الأولى) ج24 ص73.

([9]) الآيات 1 ـ 10 من سورة عبس.

([10]) راجع تفسير القمي ج2ص405 وتفسير البرهان ج4ص427 و 428 وتفسير نور الثقلين ج5 ص508 و 509 ومجمع البيان ج10ص437.

([11]) مجمع البيان ج10ص437 وتفسير البرهان ج4ص428 وتفسير نور الثقلين ج5ص509.

([12]) الوسائل كتاب الحج ابواب العشرة باب 122 حديث12.

([13]) الآية 12 سورة الأحزاب.

([14]) الآية 43 من سورة التوبة.

([15]) من وحي القرآن ج 11 ص129.

([16]) الآية 43 من سورة التوبة.

([17]) مقابلة مع إذاعة النور بتاريخ 22 ـ 11 ـ 1997. موجود لدينا في شريط رقم 5

([18]) الندوة ج1 ص 58.

([19]) نشرة بينات عدد 35 بتاريخ 30 ـ 5 ـ 1997.

([20]) الآيتان 52 و 53 من سورة الحج.

([21]) الآيات 73 ـ 75 من سورة الإسراء.

([22]) الآية 52 من سورة الحج.

([23]) الآية 53 من سورة الحج.

([24]) من وحي القرآن (الطبعة الأولى) ج16ص108 ـ 113.

([25]) إننا قد نجد بعض المفسرين يفسر إلقاء الشيطان بالمرور بالخاطر، ولكنه مجرد خطور ذهني، وليس خطور مراودة ولا انعكاس فيه على تصرفات النبي «صلى الله عليه وآله»، كما يقول هذا البعض.

([26]) الآية 42 من سورة الحجر.

([27]) الآيتان 82 و 83 من سورة ص.

([28]) الآية 99 من سورة النحل.

([29]) الآيات 73 ـ 75 من سورة الإسراء.

([30]) الآية 12 من سورة هود.

([31]) من وحي القرآن (الطبعة الثانية ـ دار الملاك) ج12 ص31.

([32]) الآية 12 من سورة هود.

([33]) الآيات 12 ـ 14 من سورة هود.

([34]) من وحي القرآن (الطبعة الثانية ـ دار الملاك) ج9 ـ ص82 و 83.

([35]) الآية 6 من سورة الكهف.

([36]) من وحي القرآن (الطبعة الثانية ـ دار الملاك) ج 14 ـ ص 271.

([37]) الآيتان 218 و 219 من سورة الشعراء.

([38]) الآية 219 من سورة الشعراء.

([39]) المسائل الفقهية: ج2 ,ص 449 و 450.

([40]) راجع: مفاتيح الأصول.  

([41]) الآية 219 من سورة الشعراء.

([42]) بينات عدد 157 بتاريخ 11 شعبان1420هـــ 19 تشرين الثاني 1999م.

([43]) الكافي ج1 ص 51.

([44]) البحار ج18 ص277 وراجع: كتابنا الصحيح من سيرة النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله» ج2 ص195 ـ 198.

([45]) نشرة فكر وثقافة بتاريخ 3 ـ 8 ـ 1996 ص2

 
   
 
 

موقع الميزان