كل الفكر الإسلامي (فكر بشري) ما عدا البديهيات

   

صفحة :   

كل الفكر الإسلامي (فكر بشري) ما عدا البديهيات:

وفي حديث لنا مع بعض المسؤولين في المركز الإسلامي الثقافي، نجده يعترض علينا، فيقول ما مفاده:

إن الحقيقة ليست ملكا لأحد، فلا يستطيع أحد حتى المجتهد أن يدعي أنه يملك الحقيقة كل الحقيقة. والإسلام باستثناء البديهيات عبارة عن اجتهادات بشرية في فهم النصوص، فكل التراث الفقهي فكر بشري وليس إلهيا.

وعليه فلا معنى لإصدار أحكام قاسية ـ كما هو الحال في كتاب «مأساة الزهراء «عليه السلام».. شبهات وردود» ـ ضد من يخالف في الرأي، فالحقيقة ليست ملكا لأحد.

بل يقول البعض أيضاً: إن الحقيقة نسبية!!

ولم نكن نريد التعرض إلى هذا الاعتراض لو لا أننا وجدنا أخيرا هذا البعض قد سجل ذلك بصورة أكثر وضوحا في بعض مؤلفاته..

فإنه بعد أن ذكر: أنه ليس من شك في أن القرآن كتاب الله، ولكن كلمات القرآن تبقى خاضعة لاجتهاد المفسرين والعلماء.

بعد أن ذكر ذلك في جملة كلام له، قال:

«ونحن نعتقد، من خلال ذلك، أن كل ما جاءنا من تراث فقهي، وكلامي، وفلسفي، هو نتاج المجتهدين والفقهاء والفلاسفة والمفكرين، من خلال معطياتهم الفكرية. ولا يمثل الحقيقة إلا بمقدار ما نقتنع به من تجسيده للحقيقة، على أساس ما نملكه من مقاييس الحقيقة، وبهذا فإننا نعتبر أن كل الفكر الإسلامي ـ ما عدا الحقائق الإسلامية البديهية ـ هو فكر بشري، وليس فكرا إلهيا، قد يخطئ فيه البشر في ما يفهمونه من كلام الله وكلام رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وقد يصيبون.

وعلى هذا الأساس فإننا نعتقد أنه من الضروري جدا أن ننظر إلى التراث المنطلق من اجتهادات المفكرين ـ أينما كانت مواقع تفكيرهم ـ نظرة بعيدة عن القداسة في حياتهم ومؤهلاتهم الروحية والعملية في حياة الناس الآخرين فيمن قد يكونون على مستوى المراجع أو الأولياء في تقواهم لله سبحانه وتعالى، لأن ذلك شيء ومسألة الفكر شيء آخر. ولذلك فإننا ندعو إلى دراسة التراث دراسة ناقدة، نعيش فيها شخصيتنا الفكرية، ونعيش فيها انفتاحنا الفكري الذي عاشه الأقدمون في ما مارسوه من تجربتهم الفكرية»([1]).

ونقول:

إن هذا الاعتراض ـ وإن كان ظاهر البطلان ـ ولكنه مع ذلك يعتبر على درجة عالية من الخطورة، وذلك يجعله أكثر الإعتراضات أهمية وحساسية.. ونحن نذكر هنا بعض المآخذ.

على أن تستكمل هذه المؤاخذات في فرصة أخرى، يمكن معها التوسع في البيان والمعاني.

فنقول:

1 ـ إذا كان كل ذلك بشريا، ـ باستثناء بديهيات محدودة منه ـ عبر عنها البعض البعض بالثابت ـ كالتوحيد، والنبوة، والمعاد، ومسلمات الشريعة، مثل: وجوب الصلاة، والصوم، والجهاد، والحج، والزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتحريم الزنا والسرقة، والخمر، والميسر، والنميمة، واللواط، والغيبة وقتل النفس المحرمة، ونحوها مما لا يخرج عن دائرة العناوين العامة جدا، دون تفاصيلها، فإن التفاصيل تدخل في نطاق الاجتهادات الشخصية البشرية، غير الإلهية وهو ما عبر عنه البعض بالمتحول([2]).

إذا كان كذلك، فلماذا ندعو غير المسلمين للدخول في الإسلام، فهل ندعوهم لخصوص هذه البديهيات في عناوينها العامة والغائمة، واليسيرة جدا؟ أم ندعوهم إلى وجهات نظر أشخاص، هم بشر مثلهم؟!.

وحين يقال: إن علينا أن نقدم الإسلام للآخرين باعتباره دينا، وفكرا، وقانونا قادرا على حل جميع المشكلات، وهو النموذج الأمثل للبشر جميعا، وفي كل مجال، فأي إسلام نقدم؟!

هل نقدم خصوص البديهيات؟! أم نقدم الفكر البشري، ونقول لهم: هذا الفكر البشري هو الإسلام الذي أنزله الله تعالى لعباده؟!

وأي فكر من أفكار هؤلاء البشر نقدم للناس؟!

2 ـ إن كان المقصود بالبديهي هو الذي لم يناقش أحد فيه، فإن ذلك لا يصح، وذلك لأن وجود النقاش في أمر من الأمور لا يعني صيرورته فكراً بشرياً، وقد ناقش الكثيرون في وجود الله، بل أنكروه، ويناقش غير المسلمين في نبوة النبي «صلى الله عليه وآله»، ولا يعني ذلك صيرورتهما فكراً بشرياً، وتناقش طوائف كثيرة في فكرة الإمامة، ولا يعني ذلك صيرورتها فكراً بشرياً، ويناقش كثيرون في حقائق دينية وأحكام شرعية، ولا يعني ذلك أن تصبح تلك الأحكام أو الحقائق فكراً بشرياً.

خذ مثلاً على ذلك محاولة البعض تحليل نظر الرجل إلى عورة الرجل ونظر المرأة إلى عورة المرأة([3])، مع أن حرمة ذلك من الأمور القطعية، وهذا الحكم بالحلية من قبل البعض لا يجعل هذا الحكم الثابت ـ أعني الحرمة ـ فكراً بشرياً.

وإن كان المقصود بالبديهي هو الأمر الذي، يعرف وجه الحق فيه بمجرد التوجه والإلتفات إليه..

فإن من الواضح: أن الحقيقة الإسلامية وإن لم تكن بديهية في نفسها، أو لم تكن بديهية عند البعض بهذا المعنى، ولكنها لما كانت تنال بواسطة الأمارات والحجج والأدلة الشرعية عليها، فاستخراج الحقيقة من الدليل، أو تحصيل الإجماع عليها بعد بذل الجهد والعناء الطويل لا يجعلها فكراً بشرياً. لمجرد أنها ليست من الأمور البديهية.

وكذا الحال لو لم تكن بديهية عند البعض كمثال النظر إلى العورة المذكور آنفاً.

غير أن بعض الأحكام أو بعض الأمور قد لا يكون الدليل عليها حاسما وقاطعا فإذا أخطأتها الأمارات والأدلة التي لسانها لسان الكاشفية، صار المكلف معذورا في مخالفته للحكم الواقعي أمام الله سبحانه وتعالى، غير أن العمل وفق القواعد المقررة شرعا يجعل جميع النتائج متصفة بصفة الإسلامية والإلهية، حتى وإن لم يصب الحكم الواقعي فإن صحة العمل لتحصيل العذر أمام الله تعالى من خلال تطبيقه على الوسائل المجعولة والمنصوبة من قبل الشرع هو حكم إلهي وليس فكراً بشرياً فقولهم: إن البديهيات فقط هي التي تتصف بكونها فكرا إلهيا لا يصح (لو صح استعمال كلمة: فكر إلهي).

أما حيث يكون التكليف هو العمل بالوظيفة الشرعية، أو إجراء الأصول في مواردها، فإن ذلك يكون هو الحكم الإلهي في حق المكلف، وهو فكر إلهي ـ على حد تعبير البعض ـ لا بشري، لأن الله هو الذي عين له العمل بهذه الوظيفة، أو بذلك الأصل في أمثال تلك الموارد.

فالمورد يتصف بالشرعية والإسلامية والإلهية لكونه من الموارد المقررة إلهيا وإسلاميا لهذه الحالة وللحالات المماثلة.

3 ـ إننا نفهم بعمق محاولة البعض إظهار التشيع على أنه فكر بشري حيث يقول: «لتكون المسألة السنية والشيعية مسألة مدرستين في فهم الإسلام»([4]) وأن التشيع مجرد وجهة نظر حين يقول: «وقد تكون القضية المطروحة هي أن لا يكون التشيع فيما هو التشيع وجهة نظر، في خط الإسلام حالة معزولة عن الواقع العام للمسلمين، الخ..»([5]).

ثم يجعل الإمامة، من «المتحول الذي يتحرك في عالم النصوص الخاضعة في توثيقها ومدلولها للاجتهاد، مما لم يكن صريحا بالمستوى الذي لا مجال لاحتمال الخلاف فيه، ولم يكن موثوقا بالدرجة التي لا يمكن الشك فيه. وهذا هو الذي عاش المسلمون الجدال فيه كالخلافة والإمامة، والحسن والقبح العقليين الخ..»([6]).

فإن ذلك يستبطن استبعاد النص على الإمامة، واعتبار الإمامة بل التشيع كله، اجتهادا بشريا جاء به الأئمة «عليهم السلام» كأي اجتهاد بشري آخر جاء به الآخرون وليس فكرا إلهيا، لأن الإمامة ليست من البديهيات عند بعض المسلمين، منذ وفاة الرسول «صلى الله عليه وآله» على حد زعم البعض، فهي إذن فكر بشري قابل للاجتهاد وليس إلهيا ـ على حد تعبير البعض ـ. ولو كان بديهيا لزم خروجهم عن الإسلام الأمر الذي لا يلتزم هو به.

وهل وجود شبهة في أمر بديهي لدى البعض يجعل البديهي وجهة نظر؟ ويجعله فكراً بشرياً؟ ثم يجعله من المتحول كالإمامة؟!

4 ـ إن البديهيات لا تحتاج إلى إيجاب التفقه والاجتهاد أو التقليد، أو الاحتياط، على الناس.

أما فيما عداها مما يسمى بـ‍ «الفكر البشري» فلا معنى أيضاً لإيجاب ذلك كله، ولا داعي له.

5 ـ وإذا اعترف شخص ما ببديهيات الإسلام، وأراد أن يأخذ فيما عداها بالقوانين الوضعية، أو أراد أن تكون له هو وجهات نظر بشرية غير إلهية، فلماذا يعتبر مبتدعا، وتعتبر كتبه كتب ضلال ليواجه الحكم القاسي على أهل البدع، وتحريم كتبه لأنها كتت ضلال؟ وما هو الفارق الذي جعل الفكر البشري مقبولا هنا ومرفوضا هناك؟

وقد يقال: إن وجود ما عدا البديهيات ـ على سبيل الإجمال ـ يعتبر أمرا بديهيا فهو إلهي أيضاً.

أو يقال: إن وسائل إنتاج الفكر البشري المقبولة هنا، غير مقبولة في القوانين الوضعية.

ويجاب: بأنه كيف يتحول الفكر الإلهي ـ على حد تعبيرهم ـ إلى فكر بشري؟ وكيف يعامل الفكر البشري على أنه فكر إلهي من أجل ذلك؟!. فإنه في كلا الموردين ليس إلهيا، والباء في كلا الموردين واحدة فلماذا تجر تارة ولا تجر أخرى.

6 ـ لنفترض: أن الناس قد رفضوا الإلتزام بما سمي بالفكر البشري، فهل يمكن أن يشعروا بأية حساسية أو حماس تجاه ذلك الفكر تدفعهم إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإلى الجهاد، وبذل الأنفس، والأبناء، والأموال في سبيله؟

وكيف يمكن أن نقنعهم بالتضحية بأنفسهم وأبنائهم؟! من أجل فكر بشري...

وهل كل جهود وتضحيات الأنبياء والأصفياء والشهداء كانت في سبيل تكريس وجهات نظر بشرية تختلف وتتضارب فيما بينها؟!..

وهذا الفكر البشري «الإسلام» بماذا يمتاز عن أي فكر أو قانون بشري وضعي آخر، يدعي واضعوه: أنه يكفل للناس سعادتهم، ويحل لهم مشاكلهم؟!

ألا يعني ذلك أن يصبح هذا الإسلام، الفكر البشري الذي لا روح فيه، مجرد ترف فكري أو وجهات نظر أشخاص يتداولها الناس في صالوناتهم الفاخرة، ويتفكهون بها في مكاتبهم وحفلاتهم الساهرة؟!.

7 ـ إذا كان ما يفهمه العلماء من نصوص وظواهر القرآن والسنة فكراً بشرياً، فلماذا أخفى الله سبحانه «فكره الإلهي» على حد تعبيرهم؟ وجعله رهينة التكهنات والتخيلات البشرية؟

وأية فائدة تبقى من بعث الأنبياء، ومن وضع التشريعات الإلهية، ما دامت أن هذه التشريعات ستصبح لا أهمية لها، لأن الميزان حينئذ هو تلك التصورات البشرية عنها وبالتالي ستنقطع الصلة مع الله على هذا الأساس؟!

وكيف نوفق بين هذا، وبين طلب الشارع من الناس أن يأخذوا بظواهر الكتاب والسنة، واحتجاجه بهما على العباد، ثم المثوبة والعقوبة على أساس ذلك، مع أنهما ـ حسب قول هؤلاء ـ غير قادرين على إثبات الفكر الإلهي، وإيصال حقائق الدين والشريعة إلى الناس.

وهكذا الحال في سائر الحجج التي سوف يطالبنا الله تعالى بها على أساس الإلتزام بمراعاتها وعدمه.

وكيف جاز أن يجعل الله أمرا غير قادر على إثبات المقاصد، وسيلة لنيل مقاصده؟!

إن ذلك لعجيب حقا وأي عجيب!!

8 ـ وقبل أن نختم حديثنا نشير إلى عدم صحة مقولة:

نسبية الحقيقة، فإن ذلك من سخف القول. وزائف الكلام لأن الحقيقة هي الحقيقة أخطأها من أخطأ، وأصابها من أصاب. فلا اختلاف فيها على حد اختلاف درجات الألوان أو درجات الحرارة والبرودة لتكون نسبية.

وأما الاختلاف في كثرة موارد إصابتها وقلتها، فهو لا يجعل الحقيقة نسبية..

ولو أريد تكريس اصطلاح كهذا، فإنه لا يفيد هؤلاء شيئاً في نظرية الفكر الإلهي والفكر البشري وليصبح كل التراث الفقهي والكلامي فكراً بشرياً كما يزعمون.


([1]) راجع: حوارات في الفكر والسياسة والاجتماع: ص480. عن مجلة الموسم: عدد 8 سنة 1990م.

([2]) راجع مقالة الأصالة والتجديد في مجلة المنهاج: العدد الثاني: ص60.

([3]) راجع: كتاب النكاح: ج1 ص66.

([4]) مجلة المرشد: العددان: 3 و 4 ص68.

([5]) تأملات في مواقف الإمام الكاظم «عليه السلام»: ص94.

([6]) مجلة المنهاج: عدد 2 ص60 مقالة: الأصالة والتجديد.

 
   
 
 

موقع الميزان