سيدة نساء العالمين

   

:   

سيدة نساء العالمين:

من الواضح: أن التنظير، وإعطاء الضابطة الفكرية، أو إصدار الأحكام لا يعطي الحكم أو الفكرة أو الضابطة من الثبات والقوة و التجذر في النفوس ما يعطيه تجسيدها، وصيرورتها واقعا حيا ومتحركا، لأن الدليل العقلي أو الفطري مثلا قد يقنع الإنسان ويهيمن عليه، ولكن تجسد الفكرة يمنح الإنسان رضا بها، وثقة وسكونا إليها، على قاعدة: ﴿قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي([1]).

فالقناعة الفكرية والعقلية والعملية، التي تستند إلى البرهان والحجة القاطعة متوفرة وليس فيها أي خلل أو نقص، ولكن سكون النفس قد يحتاج إلى تجسيد الفكرة في الواقع الخارجي ليتلائم السكون النفسي ويتناغم مع تلك القناعة الفكرية والعقلية الراسخة، ليكونا معا الرافد الثر للمشاعر والأحاسيس.

وقد كانت الزهراء «عليها السلام» أول امرأة تجسدت فيها الأسوة والنموذج والمثل الأعلى لكل نساء العالمين، بعد مسيرة طويلة للإنسانية، كمل فيها عدد من النساء حتى كانت فاطمة ذروة هذا الكمال. وكما تجسد الإنسان الكامل بآدم «عليه السلام» أولا ليكون واقعا حيا، يعيش إنسانيته بصورة متوازنة، لا عشوائية فيها، يعيشها بكل خصائصها وميزاتها، وبكل خلوصها وصفائها وطهرها، وبكل طاقاتها: فكرا، وعقلا، وأدبا، وحكمة، وتدبيرا، حتى كان أسوة وقدوة للبشر كلهم من حيث هو آدم النبي والانسان، لا آدم التراب من حيث هو تراب، بل التراب الذي أصبح إنسانا كاملا بما لهذه الكلمة من معنى.

واستمرت المسيرة نحو الكمال في الإنسانية، فكمل رجال أنبياء «عليهم السلام» كثيرون، وكملت أيضاً نساء، مثل آسية بنت مزاحم، ومريم، وخديجة، ثم بلغ الكمال أعلى الذرى في رسول الله «صلى الله عليه وآله»، الرجل، وفي الزهراء المرأة، ولم تستطع أهواء النفس وشهواتها، وكذلك الطموحات والغرائز وغير ذلك من مغريات وتحديات، بالإضافة إلى الضغوطات البيئية والاجتماعية وغيرها، ثم بغي وجبروت الطواغيت، لم يستطع ذلك كله أن يمنع الإنسان من أن يجسد إنسانيته، ويعيش حياة الإيمان، وحياة الكمال والسلام الشامل.

وكانت أسوة بني البشر وقدوتهم هذه النماذج الماثلة أمامهم التي استطاعت أن تقنع الإنسان بأن عليه أن يتحدى، وأن يواجه، وأن يقتحم، وأن باستطاعته أن ينتصر أيضاً، ومثله الأعلى هم الأنبياء والأولياء بدءا من آدم، وانتهاء برسول الله «صلى الله عليه وآله» وأهل بيته الطاهرين، فهو لا يتلقى الفكرة فقط، بل هو يرى الحركة والموقف في الرسول والوصي، والولي.

ولأجل ذلك فهو لم يقتصر على الأمر والزجر كما في قوله تعالى: ﴿ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ([2])، بل تعداه ليقول: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ([3])، فهو يريه الحركة والموقف والصفاء والطهر متجسدا أمامه في النبي والوصي، وفي نسوة واجهتهن أعظم المحن والبلايا كامرأة فرعون، وفي الزهراء فاطمة «عليها السلام»، وحيث واجهتها أجواء الانحراف والشدة والظلم، وفي مريم بنت عمران التي واجهت ضغوط البيئة في أشد الأمور حساسية بالنسبة لجنس المرأة بصورة عامة.


 

([1]) الآية 260 من سورة البقرة.

([2]) الآية 7 من سورة الحشر.

([3]) الآية 21 من سورة الأحزاب.

 
   
 
 

موقع الميزان