كتاب الإختصاص للشيخ المفيد

   

صفحة :   

كتاب الإختصاص للشيخ المفيد:

تقدم أن البعض: قد جعل التشكيك في نسبة كتاب «الإختصاص» للشيخ المفيد (قده)، ذريعة لرفض الاعتماد عليه فيما يرويه عن مظالم الزهراء «عليها السلام»، ولرفض نسبة رواية ذلك إلى المفيد «رحمه الله».

ونقول: إننا بعد التأمل فيما يثار حول كتاب «الإختصاص» للشيخ المفيد، وجدنا أن تلك التساؤلات لا تصلح للاعتماد عليها للطعن في صحة هذه النسبة إلى ذلك العالم الجليل.

ونحن نجيب فيما يلي بإيجاز عن بعض الأمور التي أثيرت حول هذا الكتاب فنقول:

1 ـ إن في الكتاب روايات كثيرة تبدأ هكذا: «حدثني جعفر بن الحسين المؤمن»، فظن البعض: أن الكتاب من تأليف هذا الرجل.

ونقول:

إن هناك روايات كثيرة وردت في الكتاب وهي لا تبدأ باسم هذا الرجل، بل تبدأ بأسماء آخرين، أو تضيف أشخاصا آخرين بواسطة واو العطف، وهذا لا يناسب نسبة الكتاب إلى الرجل المذكور.

2 ـ إن أصحاب الفهارس، مثل النجاشي في رجاله، والطوسي في فهرسته، وابن شهرآشوب في معالم العلماء، لم يذكروا هذا الكتاب، في عداد مؤلفات المفيد.

ويجاب: بأن جميع هؤلاء لم يذكروا جميع مؤلفات المفيد، بل كل منهم قد عد جملة منها، وليكن كتاب الإختصاص من جملة ما لم يذكروه.

وسيأتي وجه عدم ذكرهم له في عداد مؤلفاته إن شاء الله.

3 ـ إن النسخ الخطية لهذا الكتاب فيها تشويش، فإن خطبة الكتاب في نسخة تجدها بعد صفحات من الكتاب في نسخة أخرى.

ويجاب عن ذلك: بأنه قد تكون بعض النسخ قد انفرط عقدها، فظمها منظموها حسبما تيسر لهم.

4 ـ وهنا سؤال آخر أيضاً، وهو أنه يقول: «قال محمد بن محمد بن النعمان» فمن الذي قال ذلك يا ترى؟!

والجواب:

أنه من قول المؤلف نفسه، كما جرت عليه عادة المؤلفين القدامى، وليس قول آخرين نقلوا ذلك عنه «رحمه الله».

واحتمال أن تكون هذه العبارة قد كتبها البعض توضيحا، ثم أدخلها النساخ في الأصل اشتباها لا يعتد به، وهو يحتاج إلى إثبات.

فإن كان اختياره للمفيد دون سواه لأجل وجود بعض مشايخ المفيد في الكتاب، فإنه يقال له: كما كان هؤلاء من مشايخه فقد كانوا أيضاً من مشايخ غيره.

مع أن في الكتاب آخرين لم يعلم أنهم من مشايخ المفيد وهم ثلاثة أضعاف أولئك، فلماذا استفاد من ذلك العدد القليل من المشايخ، أن الكتاب للمفيد، ولم ينظر إلى من تبقى منهم، وهم أكثر عدداً؟!

5 ـ كون الكتاب أشبه بكشكول روائي قد جاء معظمه في فضائل أهل البيت «عليهم السلام»، ولا يسير الكتاب في ترتيبه، وفق منهج منطقي منسجم، والمفيد يمتاز بالدقة والإبداع.

ونقول:

إن هذا ليس عيباً في الكتاب، إذ قد يتعلق غرض بعض المؤلفين بتأليف مجموعات كشكولية، روائية أو غيرها. والمفيد نفسه هو صاحب كتاب الأمالي الذي هو كتاب حديثي كشكولي أيضاً. ودقة وأبداع الشيخ المفيد لا يجب أن تتجلى في كتبه الحديثية كما هو ظاهر.

هذا، مع غض النظر عن حقيقة: إن الكتاب هو اختيار وانتخاب من الشيخ المفيد لكتاب الإختصاص لابن عمران، كما سنرى..

6 ـ توجد في هذا الكتاب بحوث لا تنسجم مع آراء المفيد في سائر كتبه، ولا يدل إطار الكتاب العام على أنه من تأليف متكلم عقلي كالشيخ المفيد، بل هو أقرب إلى تأليف أحد المحدثين كالشيخ الصدوق مثلا.

وقد عرف الجواب على هذا مما قدمناه آنفاً، من أن الغرض قد يتعلق بحفظ بعض الأحاديث في ضمن مجموعة كشكولية كما هو الحال في كتب الأمالي ـ مثلا ـ التي ألف الشيخ المفيد واحدا منها.

بالإضافة إلى أنه قد يكون جمع هذه الأحاديث قد حصل قبل أن يصبح المفيد إماما في العقائد والفقه وغير ذلك.

وقد لا يكون الهدف من جمعها هو أن تكون كتابا منسقا بصورة فنية يتداوله الناس ويعتمدونه.

وهذا عدا عن أن الرأي الكلامي والعقيدي لا يمنع من إيراد ما يعارضه، كإيراد ما يوافقه من أحاديث، ومن ميزة العالم أن يتقيد بقواعد البحث الكلامي حينما يتصدى للكلام، وأن يلتزم أيضاً بكل الضوابط، ويراعي كل الأصول المرعية في الحديث، ونقله واختياره، حينما يتخذ لنفسه صفة المحدث، ولأجل ذلك نجد المحدثين يروون الأخبار المتعارضة في كتبهم، رغم تبنيهم وقبولهم بطائفة منها بخصوصها، وعلى الأخص في المجال الفقهي، وبمراجعة كتب الكليني والصدوق وغيرهما من المحدثين يعلم ذلك.

هذا، وقد رأينا: أن بعض العلماء يؤلف كتبه بأكثر من صفة، فالفقيه يكتب بصفة المحدث كما وقع للطوسي (قده)، حيث كتب النهاية، وهي متون أخبار. وقد يكتب الفيلسوف بلسان العرفاء كما وقع للشيخ نصير الدين الطوسي في بعض رسائله، وقد يكتب المتكلم بلسان الفيلسوف، كما جرى للفخر الرازي، والمتصوف بلسان الفلاسفة كما جرى للغزالي، وغير هؤلاء كثير.

ومن جهة أخرى نقول: إن بعض الآراء قد تتغير على مر الزمن، ولا سيما إذا كان صاحب الرأي من العلماء الذين يتمتعون بحيوية فكرية، ويسيرون في صراط التكامل في وعيهم وفي فكرهم، وفي معرفتهم. وقد تختلف درجات تنبه المؤلف إلى الحيثيات التي يلاحظها في تآليفه بين فترة زمنية وأخرى.

مع أننا سنذكر أن هذا الكتاب هو اختيار للمفيد من كتاب آخر.

7 ـ قد سجلت ملاحظة أخرى على كتاب «الإختصاص»، وهي وجود خلل أو عدم وضوح أحيانا في إرجاعه بعض الضمائر فيه، أو وجود فاصل كبير بين الضمير وبين مرجعه.

وقد أجيب عن ذلك: بأن هذا الخلل لا ينحصر في هذا الكتاب، بل هو موجود في مختلف الكتب ومنها الكافي والتهذيب، والوسائل أيضاً.

ولهذا الأمر أسباب مختلفة، منها: أن المؤلف قد يعثر على رواية فيضعها في مكان من الكتاب، ثم لا يلتفت إلى ضرورة إعادة النظر في التناسق المفترض أن يكون فيما بين الضمير ومرجعه بين روايتين قد فصل بينهما حديث جديد، أو كلام جديد.

8 ـ ومن إيراداتهم على هذا الكتاب: أن مؤلفه قد نقل تارة من الكتب ككتب الصدوق، وبصائر الدرجات، وأخرى عن المشايخ، وإذا نظرنا إلى المشايخ الذين نقل عنهم فسنجد أن خمسة منهم هم من مشايخ المفيد، وثمة ستة عشر آخرون لم يعثر على رواية المفيد عنهم في غير كتاب الإختصاص أصلا.

ومن جهة أخرى: هناك مشايخ للمفيد لهم مكانتهم المميزة وليس في كتاب «الإختصاص» أية رواية عنهم، كالجعابي، وأحمد بن محمد بن الحسن بن الوليد، والصيرفي، وغيرهم.

والجواب عن ذلك:

أولاً: إن مؤلف الكتاب هو ابن عمران على الظاهر، والمفيد قد انتخب واختار منه ما أعجبه، فمشايخ الكتاب هم مشايخ ابن عمران، إذن، لا مشايخ المفيد. وسيأتي مزيد تأييد لهذا إن شاء الله تعالى.

ثانياً: إن من الجائز أن يكون مؤلف الكتاب قد كتبه قبل أن يصبح له مشايخ كثيرون، بل قد يكون «رحمه الله» قد اختار كل رواياته أو بعضها من الكتب التي توفرت لديه، وليس في ذلك أي محذور.

ثالثاً: قولهم: إن بعض من روى عنهم مؤلف الكتاب لم نجد المفيد يروي عنهم في سائر كتبه، لا يصلح دليلا على نفي نسبة الكتاب إليه، إذ قد يروي عن شيخ له هنا شيئاً، لم ينقله له مشايخه الآخرون، وقد يستفيد شيوخا جددا فيكتب عنهم، ثم يتركهم، ويلتزم شيوخا آخرين، لأسباب تتفاوت بحسب الحالات والظروف، والأغراض عبر الأزمان...

وهل في علماء الحديث من يشترط في الراوي أن يروي في كل كتاب عن كل فرد فرد من شيوخه الذين يأخذ عنهم في كل تاريخه العلمي الطويل.؟

وبعدما تقدم نقول:

هناك عدة نسخ لكتاب الإختصاص، وهي التالية:

1 ـ النسخة المكتوبة عن نسخة الشيخ الحر([1]) وقد نسبت الكتاب إلى الشيخ المفيد، دون أي غموض، حيث كتب عليها. «كتاب الإختصاص للشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان، منتخب من الإختصاص لأحمد بن الحسين بن عمران».

وكتب في آخرها: «تم كتاب الإختصاص للشيخ المفيد قدس سره».

أما نسخة الشيخ الحر نفسه فقد كتب عليها تملك الشيخ الحر «رحمه الله» في سنة 1087 ه‍. وأما تاريخ كتابتها فغير معلوم، وهي موجودة في مكتبة آية الله الحكيم «رحمه الله» في النجف الأشرف.

2 ـ هناك نسخة أخرى توجد في مكتبة سپه سالار طهران، تاريخ كتابتها هو سنة 1118 ه‍. وذكر ناسخها أن هذا الكتاب هو مختصر كتاب الإختصاص لأحمد بن الحسين بن عمران.

وهذه العبارة لا تختلف مع ما كتب على نسخة الشيخ الحر، لأن المقصود بهذه العبارة أن الإختصاص نفسه لابن عمران، وذلك لا ينافي أن يكون مختصره للشيخ المفيد أيضاً.

3 ـ هناك نسخة قديمة توجد في مكتبة الروضة الرضوية في مشهد الرضا «عليه السلام»، تاريخ كتابتها سنة 1055 هـ وهي تذكر بعد عدة صفحات العبارة التالية:

«كتاب مستخرج من كتاب الإختصاص، تصنيف أبي علي أحمد بن الحسين بن أحمد بن عمران «رحمه الله»..».

ولا تنافي هذه العبارة أيضاً ما كتب على نسخة الشيخ الحر لعين ما ذكرناه آنفا، من أن الإختصاص نفسه من تأليف ابن عمران، وتلخيصه للشيخ المفيد.

ويبدو: أن في هذه النسخة تقديماً وتأخيراً في أوراقها، كما يظهر من ملاحظتها، وهذا الأمر يحصل لأسباب مختلفة.

إذن، لا مانع من نسبة ما في كتاب الإختصاص المطبوع، الموافق للنسختين الأوليين إلى الشيخ المفيد، باعتبار أنه قد اختاره من كتاب ابن عمران وارتضى منه ما راق له.

وقد يكون هذا الاختصار هو السبب في عدم ذكر هذا الكتاب في جملة مؤلفاته «رحمه الله»، حيث إنه لم يبادر هو إلى تأليفه، وإنما استخرجه واختاره من كتاب لشخص آخر.. وعليه فهذا يدل على مدى اهتمامه بالكتاب، حتى أنه ليبادر إلى انتخاب ما فيه من نفائس الآثار، واستخراج ما تيسر له منه من درر الأخبار.

ويشهد لذلك: أن كتاب الفصول المختارة، الذي هو اختيار الشريف المرتضى من كتاب «العيون والمحاسن» للمفيد، لم يذكر في عداد مؤلفات الشريف. بل بقيت نسبته إلى المفيد أظهر وأوضح، ولا يزال يعد من مؤلفاته كما هو معلوم.


([1]) وهي نسخة موجودة في الروضة الرضوية المقدسة في مدينة مشهد في إيران، وقد كتبت هذه النسخة في سنة 1085 هـ أو1087هـ.

 
   
 
 

موقع الميزان