صفحة : 326-346   

1- الفصل الثامن: 2- علي يتحدث عن أهل الكهف في عهد عمر

 3- أصحاب الكهف في كلام علي ×:

وذكروا: أنه لما ولي عمر بن الخطاب الخلافة أتاه قوم من أحبار اليهود فقالوا: يا عمر أنت ولي الأمر بعد محمد «صلى الله عليه وآله» وصاحبه، وإنا نريد أن نسألك عن خصال، إن أخبرتنا بها علمنا أن الاسلام حق، وأن محمداً كان نبياً، وإن لم تخبرنا بها علمنا أن الإسلام باطل، وأن محمداً لم يكن نبياً.

فقال: سلوا عما بدا لكم.

قالوا: أخبرنا عن أقفال السماوات ما هي؟!

وأخبرنا عن مفاتيح السماوات ما هي؟!

وأخبرنا عن قبر سار بصاحبه ما هو؟!

وأخبرنا عمن أنذر قومه، لا هو من الجن، ولا هو من الإنس؟!

وأخبرنا عن خمسة أشياء مشوا على وجه الأرض، ولم يخلقوا في الأرحام؟!

وأخبرنا ما يقول الدراج في صياحه؟!

وما يقول الديك في صراخه؟!

وما يقول الفرس في صهيله؟!

وما يقول الضفدع في نقيقه؟!

وما يقول الحمار في نهيقه؟!

وما يقول القنبر في صفيره؟!

قال: فنكس عمر رأسه في الأرض ثم قال: لا عيب بعمر إذا سئل عما لا يعلم أن يقول: لا أعلم، وأن يَسألَ عما لا يعلم.

فوثبت اليهود وقالوا: نشهد أن محمداً لم يكن نبياً، وأن الاسلام باطل.

فوثب سلمان الفارسي وقال لليهود: قفوا قليلاً.

ثم توجه نحو علي بن أبي طالب «عليه السلام» حتى دخل عليه، فقال: يا أبا الحسن! أغث الإسلام.

فقال: وما ذاك؟!

فأخبره الخبر. فأقبل يرفل في بردة رسول الله «صلى الله عليه وآله». فلما نظر إليه عمر وثب قائماً فاعتنقه وقال: يا أبا الحسن! أنت لكل معضلة وشدة تدعى.

فدعا علي «عليه السلام» اليهود فقال: سلوا عما بدا لكم، فإن النبي «صلى الله عليه وآله» علمني ألف باب من العلم، فتشعب لي من كل باب ألف باب.

فسألوه عنها، فقال علي «عليه السلام»: إن لي عليكم شريطة إذا أخبرتكم كما في توراتكم دخلتم في ديننا وآمنتم.

فقالوا: نعم.

فقال: سلوا عن خصلة خصلة.

قالوا: أخبرنا عن أقفال السماوات ما هي؟!

قال: أقفال السماوات الشرك بالله، لأن العبد والأمة إذا كانا مشركين لم يرتفع لهما عمل.

قالوا: فأخبرنا عن مفاتيح السماوات ما هي؟!

قال: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله.

قال: فجعل بعضهم ينظر إلى بعض، ويقولون: صدق الفتى.

قالوا: فأخبرنا عن قبر سار بصاحبه؟!

فقال ذلك الحوت الذي التقم يونس بن متى، فسار به في البحار السبع.

فقالوا: أخبرنا عمن أنذر قومه، لا هو من الجن، ولا هو من الإنس؟!

قال: هي نملة سليمان بن داود قالت: {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ}([1]).

قالوا: فأخبرنا عن خمسة مشوا على الأرض ولم يخلقوا في الأرحام؟!

قال: ذلكم: آدم، وحواء. وناقة صالح. وكبش إبراهيم. وعصى موسى.

قالوا: فأخبرنا ما يقول الدراج في صياحه؟!

قال: يقول: الرحمن على العرش استوى.

قالوا: فأخبرنا ما يقول: الديك في صراخه؟!

قال: يقول: اذكروا الله يا غافلين.

قالوا: أخبرنا ما يقول الفرس في صهيله؟!

قال: يقول، إذا مشى المؤمنون إلى الكافرين إلى الجهاد: اللهم انصر عبادك المؤمنين على الكافرين.

قالوا: فأخبرنا ما يقول الحمار في نهيقه؟!

قال: يقول: لعن الله العشار. وينهق في أعين الشياطين.

قالوا: فأخبرنا ما يقول الضفدع في نقيقه؟!

قال: يقول: سبحان ربي المعبود، المسبح في لجج البحار.

قالوا: فأخبرنا ما يقول القنبر في صفيره؟!

قال: يقول: اللهم العن مبغضي محمد وآل محمد.

وكان اليهود ثلاثة نفر..

قال اثنان منهم: نشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله.

ووثب الحبر الثالث فقال: يا علي لقد وقع في قلوب أصحابي ما وقع من الإيمان والتصديق، وقد بقي خصلة واحدة أسألك عنها.

فقال: سل عما بدا لك.

فقال: أخبرني عن قوم في أول الزمان ماتوا ثلاثمائة وتسع سنين، ثم أحياهم الله، فما كان من قصتهم؟!

قال علي «عليه السلام»: يا يهودي هؤلاء أصحاب الكهف وقد أنزل الله على نبينا قرآنا فيه قصتهم، وإن شئت قرأت عليك قصتهم؟!

فقال اليهودي: ما أكثر ما قد سمعنا قراءتكم، إن كنت عالما فأخبرني بأسمائهم، وأسماء آبائهم، وأسماء مدينتهم، واسم ملكهم، واسم كلبهم، واسم جبلهم، واسم كهفهم، وقصتهم من أولها إلى آخرها.

فاحتبى علي ببردة رسول الله «صلى الله عليه وآله» ثم قال: يا أخا العرب، حدثني حبيبي محمد «صلى الله عليه وآله»: أنه كان بأرض رومية مدينة يقال لها: «أفسوس»، (ويقال: هي «طرسوس». وكان اسمها في الجاهلية «أفسوس»، فلما جاء الاسلام سموها «طرطوس»).

قال: وكان لهم ملك صالح، فمات ملكهم، وانتشر أمرهم، فسمع به ملك من ملوك فارس، يقال له: دقيانوس. وكان جباراً كافراً، فأقبل في عساكر حتى دخل أفسوس، فاتخذها دار ملكه، وبنى فيها قصراً.

فوثب اليهودي وقال: إن كنت عالما فصف لي ذلك القصر ومجالسه.

فقال: يا أخا اليهود، ابتنى فيها قصراً من الرخام، طوله فرسخ، وعرضه فرسخ، واتخذ فيه أربعة آلاف أسطوانة من الذهب، وألف قنديل من الذهب، لها سلاسل من اللجين، تسرج في كل ليلة بالأدهان الطيبة، واتخذ لشرقي المجلس مائة وثمانين كوة، ولغربيه كذلك.

وكانت الشمس من حين تطلع إلى حين تغيب تدور في المجلس كيفما دارت، واتخذ فيه سريراً من الذهب، طوله ثمانون ذراعاً في عرض أربعين ذراعاً، مرصعاً بالجواهر،

ونصب على يمين السرير ثمانين كرسياً من الذهب، فأجلس عليها بطارقته، واتخذ أيضاً ثمانين كرسياً من الذهب عن يساره، فأجلس عليها هراقلته، ثم جلس هو على السرير، ووضع التاج على رأسه.

فوثب اليهودي وقال: يا علي، إن كنت عالما فأخبرني مم كان تاجه؟!

قال: يا أخا اليهود، كان تاجه من الذهب السبيك، له تسعة أركان على كل ركن لؤلؤة تضيء كما يضيء المصباح في الليلة الظلماء، واتخذ خمسين غلاماً من أبناء البطارقة، فمنطقهم بمناطق الديباج الأحمر، وسرولهم بسراويل القز الأخضر، وتوجهم ودملجهم، وخلخلهم، وأعطاهم عمد الذهب، وأقامهم على رأسه.

واصطنع ستة غلمان من أولاد العلماء، وجعلهم وزراءَه، فما يقطع أمراً دونهم، وأقام منهم ثلاثة عن يمينه، وثلاثة عن شماله.

فوثب اليهودي وقال: يا علي، إن كنت صادقاً فأخبرني ما كانت أسماء الستة؟!

فقال علي «عليه السلام»: حدثني حبيبي محمد «صلى الله عليه وآله»: أن الذين كانوا عن يمينه أسماؤهم: (تمليخا، ومكسلمينا، ومحسلمينا) وأما الذين كانوا عن يساره (فمرطليوس، وكشطوس، و سادنيوس)، وكان يستشيرهم في جميع أموره.

وكان إذا جلس كل يوم في صحن داره، واجتمع الناس عنده دخل من باب الدار ثلاثة غلمة، في يد أحدهم جام من الذهب مملوء من المسك، وفي يد الثاني جام من فضة مملوء من ماء الورد، وعلى يد الثالث طائر، فيصيح به، فيطير الطائر حتى يقع في جام ماء الورد، فيتمرغ فيه، فينشف ما فيه بريشه وجناحيه.

ثم يصيح به الثاني، فيطير، فيقع في جام المسك، فيتمرغ فيه فينشف ما فيه بريشه وجناحيه.

فيصيح به الثالث، فيطير فيقع على تاج الملك، فينفض ريشه وجناحيه على رأس الملك بما فيه من المسك وماء الورد.

فمكث الملك في ملكه ثلاثين سنة، من غير أن يصيبه صداع، ولا وجع، ولا حمى، ولا لعاب، ولا بصاق، ولا مخاط.

فلما رأى ذلك من نفسه عتا وطغى، وتجبر واستعصى، وادعى الربوبية من دون الله تعالى، ودعا إليه وجوه قومه، فكل من أجابه أعطاه وحباه، وكساه، وخلع عليه، ومن لم يجبه ويتابعه قتله.

فأجابوه بأجمعهم، فأقاموا في ملكه زماناً يعبدونه من دون الله تعالى.

فبينما هو ذات يوم جالس في عيد له على سريره، والتاج على رأسه، إذ أتى بعض بطارقته فأخبره أن عساكر الفرس قد غشيته يريدون قتله، فاغتم لذلك غماً شديداً حتى سقط التاج عن رأسه، وسقط هو عن سريره.

فنظر أحد فتيته الثلاثة الذين كانوا عن يمينه إلى ذلك، وكان عاقلاً يقال له: تمليخا.

فتفكر وتذكر في نفسه، وقال: لو كان دقيانوس هذا إلهاً كما يزعم لما حزن، ولما كان ينام، ولما كان يبول ويتغوط، وليس هذه الأفعال من صفات الإله.

وكانت الفتية الستة يكونون كل يوم عند واحد منهم، وكان ذلك اليوم نوبة «تمليخا»، فاجتمعوا عنده، فأكلوا وشربوا، ولم يأكل تمليخا ولم يشرب.

فقالوا: يا تمليخا! ما لك لا تأكل ولا تشرب؟!

فقال: يا إخواني قد وقع في قلبي شيء منعني عن الطعام والشراب والمنام.

فقالوا: وما هو يا تمليخا؟!

فقال: أطلت فكري في هذه السماء.

فقلت: من رفعها سقفاً محفوظاً، بلا علاقة من فوقها، ولا دعامة من تحتها؟! ومن أجرى فيها شمسها وقمرها؟! ومن زينها بالنجوم؟!

ثم أطلت فكري في هذه الأرض: من سطحها على ظهر اليم الزاخر، ومن حبسها، وربطها بالجبال الرواسي لئلا تميد.

ثم أطلت فكري في نفسي فقلت: من أخرجني جنينا من بطن أمي؟! ومن غذاني ورباني؟!

إن لهذا صانعاً ومدبراً سوى دقيانوس الملك.

فانكبت الفتية على رجليه يقبلونهما، وقالوا: يا تمليخا، لقد وقع في قلوبنا ما وقع في قلبك، فأشر علينا.

فقال: يا إخواني ما أجد لي ولكم حيلة إلا الهرب من هذا الجبار إلى ملك السماوات والأرض.

فقالوا: الرأي ما رأيت.

فوثب تمليخا، فابتاع تمراً بثلاثة دراهم، وسرها في ردائه وركبوا خيولهم، وخرجوا، فلما ساروا قدر ثلاثة أميال من المدينة. قال لهم تمليخا: يا إخوتاه قد ذهب عنا ملك الدنيا وزال عنا أمره، فانزلوا عن خيولكم، وامشوا على أرجلكم، لعل الله يجعل من أمركم فرجاً ومخرجاً.

فنزلوا عن خيولهم، ومشوا على أرجلهم سبعة فراسخ، حتى صارت أرجلهم تقطر دماً، لأنهم لم يعتادوا المشي على أقدامهم، فاستقبلهم رجل راع. فقالوا: أيها الراعي، أعندك شربة ماء أو لبن؟!

فقال: عندي ما تحبون، ولكني أرى وجوهكم وجوه الملوك، وما أظنكم إلا هراباً فأخبروني بقصتكم.

فقالوا: يا هذا إنا دخلنا في دين لا يحل لنا الكذب، أفينجينا الصدق؟!

قال: نعم. فأخبروه بقصتهم.

فانكب الراعي على أرجلهم يقبلهما ويقول: قد وقع في قلبي ما وقع في قلوبكم، فقفوا لي ههنا حتى أرد الأغنام إلى أربابها وأعود إليكم.

فوقفوا له حتى ردها، وأقبل يسعى، فتبعه كلب له.

فوثب اليهودي قائماً وقال: يا علي، إن كنت عالماً فأخبرني ما كان لون الكلب واسمه؟

فقال: يا أخا اليهود، حدثني حبيبي محمد «صلى الله عليه وآله»: أن الكلب كان أبلق بسواد، وكان اسمه «قطمير».

قال: فلما نظر الفتية إلى الكلب، قال بعضهم لبعض: إنا نخاف أن يفضحنا هذا الكلب بنبيحه، فألحوا عليه طرداً بالحجارة، فلما نظر إليهم الكلب وقد ألحوا عليه بالحجارة والطرد أقعى على رجليه وتمطى. وقال بلسان طلق ذلق:

يا قوم، لم تطردونني وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، دعوني أحرسكم من عدوكم، وأتقرب بذلك إلى الله سبحانه وتعالى.

فتركوه، ومضوا، فصعد بهم الراعي جبلاً، وانحط بهم على كهف.

فوثب اليهودي وقال: يا علي، ما اسم ذلك الجبل؟! وما اسم الكهف؟!

قال أمير المؤمنين: يا أخا اليهود، اسم الجبل: «ناجلوس» واسم الكهف «الوصيد». وقيل: «خيرم».

قال: وإذا بفناء الكهف أشجار مثمرة، وعين غزيرة، فأكلوا من الثمار، وشربوا من الماء، وجنهم الليل فآووا إلى الكهف، وربض الكلب على باب الكهف، ومد يديه عليه، وأمر الله ملك الموت بقبض أرواحهم، ووكل الله تعالى بكل رجل منهم ملكين يقلبانه من ذات اليمين إلى ذات الشمال، ومن ذات الشمال إلى ذات اليمين.

قال: وأوحى الله تعالى إلى الشمس، فكانت تزاور عن كهفهم ذات اليمين إذا طلعت، وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال.

فلما رجع الملك «دقيانوس» من عيده سأل عن الفتية فقيل له: إنهم اتخذوا إلهاً غيرك، وخرجوا هاربين منك، فركب في ثمانين ألف فارس، وجعل يقفو آثارهم حتى صعد الجبل، وشارف الكهف، فنظر إليهم مضطجعين، فظن أنهم نيام.

فقال لأصحابه: لو أردت أن أعاقبهم بشيء ما عاقبتهم بأكثر مما عاقبوا به أنفسهم، فأتوني بالبنائين.

فأتي بهم، فردموا عليهم باب الكهف بالجبس والحجارة، ثم قال لأصحابه: قولوا لهم: يقولوا لإلههم الذي في السماء إن كانوا صادقين: يخرجهم من هذا الموضع.

فمكثوا ثلاثمائة وتسع سنين، فنفخ الله فيهم الروح، وهبوا من رقدتهم لما بزغت الشمس.

فقال بعضهم لبعض: لقد غفلنا هذه الليلة عن عبادة الله تعالى، قوموا بنا إلى العين، فإذا بالعين قد غارت، والأشجار قد جفت.

فقال بعضهم لبعض: إنا من أمرنا هذا لفي عجب، مثل هذه العين قد غارت في ليلة واحدة، ومثل هذه الأشجار قد جفت في ليلة واحدة؟!

فألقى الله عليهم الجوع.

فقالوا: أيكم يذهب بورقكم هذه إلى المدينة، فليأتنا بطعام منها، ولينظر أن لا يكون من الطعام الذي يعجن بشحم الخنازير، وذلك قوله تعالى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى المَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً}([2]). أي أحل، وأجود، وأطيب.

فقال لهم تمليخا: يا إخوتي، لا يأتيكم أحد بالطعام غيري، ولكن أيها الراعي، ادفع لي ثيابك، وخذ ثيابي.

فلبس ثياب الراعي ومرَّ، وكان يمر بمواضع لا يعرفها، وطريق ينكرها حتى أتى باب المدينة، فإذا عليه علم أخضر، مكتوب عليه: لا إله إلا الله عيسى روح الله صلى الله على نبينا وآله وعليه وسلم.

فطفق الفتى ينظر إليه، ويمسح عينيه ويقول: أراني نائماً، فلما طال عليه ذلك دخل المدينة، فمر بأقوام يقرأون الإنجيل، واستقبله أقوام لا يعرفهم، حتى انتهى إلى السوق، فإذا هو بخباز، فقال له: يا خباز، ما اسم مدينتكم هذه؟!

قال: أفسوس.

قال: وما اسم ملككم؟!

قال: عبد الرحمن.

قال تمليخا: إن كنت صادقاً فإن أمري عجيب، إدفع إلي بهذه الدراهم طعاماً.

وكانت دراهم ذلك الزمان الأول ثقالاً كباراً، فعجب الخباز من تلك الدراهم.

فوثب اليهودي وقال: يا علي، إن كنت عالماً فأخبرني كم كان وزن الدرهم منها؟!

فقال: يا أخا اليهود: أخبرني حبيبي محمد «صلى الله عليه وآله»: وزن كل درهم عشرة دراهم وثلثا درهم.

فقال له الخباز: يا هذا، إنك قد أصبت كنزاً، فاعطني بعضه، وإلا ذهبت بك إلى الملك.

فقال تمليخا: ما أصبت كنزاً، وإنما هذا من ثمن تمر بعته بثلاثة دراهم منذ ثلاثة أيام، وقد خرجت من هذه المدينة، وهم يعبدون دقيانوس الملك.

فغضب الخباز وقال: ألا ترضى إن أصبت كنزاً أن تعطيني بعضه؟! حتى تذكر رجلاً جباراً كان يدعي الربوبية، قد مات منذ ثلاثمائة سنة، وتسخر بي؟!

ثم أمسكه واجتمع الناس، ثم إنهم أتوا به إلى الملك وكان عاقلاً عادلاً.. فقال لهم: ما قصة هذا الفتى؟!

قالوا: أصاب كنزاً.

فقال له الملك: لا تخف، فإن نبينا عيسى «عليه السلام» أمرنا أن لا نأخذ من الكنوز إلا خمسها، فادفع إليَّ خمس هذا الكنز، وامض سالماً.

فقال: أيها الملك، تثبت في أمري، ما أصبت كنزاً، وإنما أنا من أهل هذه المدينة.

فقال له: أنت من أهلها؟!

قال: نعم.

قال: أفتعرف فيها أحداً؟!

قال: نعم.

قال: فسم لنا.

فسمى له نحواً من ألف رجل، فلم يعرفوا منهم رجلاً واحداً.

قالوا: يا هذا ما نعرف هذه الأسماء، وليست هي من أهل زماننا، ولكن هل لك في هذه المدينة دار؟!

فقال: نعم أيها الملك، فابعث معي أحداً.

فبعث معه الملك جماعة حتى أتى بهم داراً أرفع دار في المدينة وقال: هذه داري.

ثم قرع الباب، فخرج لهم شيخ كبير، قد استرخا حاجباه من الكبر على عينيه، وهو فزع مرعوب مذعور.. فقال: أيها الناس ما بالكم؟!

فقال له رسول الملك: إن هذا الغلام يزعم: أن هذه الدار داره.

فغضب الشيخ، والتفت إلى تمليخا وتبينه وقال له: ما اسمك؟!

قال: تمليخا بن فلسين.

فقال له الشيخ: أعد علي.

فأعاد عليه.

فانكب الشيخ على يديه ورجليه يقبلهما..

وقال: هذا جدي ورب الكعبة. وهو أحد الفتية الذين هربوا من «دقيانوس» الملك الجبار إلى جبار السماوات والأرض. ولقد كان عيسى «عليه السلام» أخبرنا بقصتهم، وإنهم سيحيون.

فأنهي ذلك إلى الملك، وأتى إليهم، وحضرهم، فلما رأى الملك تمليخا نزل عن فرسه، وحمل تمليخا على عاتقه، فجعل الناس يقبلون يديه ورجليه ويقولون له: يا تمليخا ما فعل بأصحابك؟!

فأخبرهم إنهم في الكهف.

وكانت المدينة قد وليها رجلان: ملك مسلم، وملك نصراني، فركبا في أصحابهما، وأخذا تمليخا فلما صاروا قريباً من الكهف قال لهم تمليخا: يا قوم إني أخاف أن إخوتي يحسون بوقع حوافر الخيل والدواب، وصلصلة اللجم والسلاح، فيظنون أن «دقيانوس» قد غشيهم، فيموتون جميعاً، فقفوا قليلاً حتى أدخل إليهم فأخبرهم.

فوقف الناس ودخل عليهم تمليخا، فوثب إليه الفتية واعتنقوه وقالوا: الحمد لله الذي نجاك من «دقيانوس».

فقال: دعوني منكم ومن «دقيانوس»، كم لبثتم؟

قالوا: لبثنا يوماً، أو بعض يوم.

قال: بل لبثتم ثلاثمائة وتسع سنين.

وقد مات «دقيانوس»، وانقرض قرن بعد قرن، وآمن أهل المدينة بالله العظيم وقد جاؤوكم.

فقالوا له: يا تمليخا! تريد أن تصيرنا فتنة للعالمين؟!

قال: فماذا تريدون؟!

قالوا: ارفع يدك ونرفع أيدينا.

فرفعوا أيديهم وقالوا: اللهم بحق ما أريتنا من العجائب في أنفسنا إلا قبضت أرواحنا، ولم يطلع علينا أحد.

فأمر الله ملك الموت فقبض أرواحهم، وطمس الله باب الكهف، وأقبل الملكان يطوفان حول الكهف سبعة أيام فلا يجدان له باباً ولا منفذاً ولا مسلكاً، فأيقنا حينئذ بلطيف صنع الله الكريم، وأن أحوالهم كانت عبرة أراهم الله إياها.

فقال المسلم: على ديني ماتوا، وأنا أبني على باب الكهف مسجداً.

وقال النصراني: بل ماتوا على ديني، فأنا أبني على باب الكهف ديراً.

فاقتتل الملكان، فغلب المسلم النصراني، فبنى على باب الكهف مسجداً، فذلك قوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً}([3])، وذلك يا يهودي! ما كان من قصتهم.

ثم قال علي «عليه السلام» لليهودي: سألتك بالله يا يهودي، أوافق هذا ما في توراتكم؟!

فقال اليهودي: ما زدت حرفاً ولا نقصت حرفاً يا أبا الحسن! لا تسمني يهودياً، أشهد أن لا إله الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وإنك أعلم هذه الأمة([4]).

ونقول:

في هذه الرواية إشارات عديدة هامة، نذكر منها ما يلي:

4- الخلافة تدل على النبوة:

ذكرت الرواية: أن اليهود قرروا: أن المعيار في صحة نبوة النبي «صلى الله عليه وآله» هو: أن يجيب خليفته على الأسئلة، التي لا يجيب عنها إلا نبي أو وصي نبي، فإن لم يجب عنها من يدعي خلافة النبوة علم أنه ليس وصي نبي، وبالتالي فلا يكون ذلك النبي نبياً، لأنه ليس له خليفة يجيب على مثل هذه الأسئلة.

وهذا يعني: أن من المسلمات لدى أهل الأديان أن الخليفة والوصي يجب أن يكون لديه علم النبوة الخاص. الذي لا يتيسر للبشر العاديين الحصول عليه.

5- يرفل في بردة رسول الله :

وقد جاءهم علي «عليه السلام» يرفل في بردة رسول الله «صلى الله عليه وآله»، في إشارة منه إلى وراثته التامة لرسول الله «صلى الله عليه وآله»، وليتطابق الظاهر مع الباطن. ويتوافق الشكل مع المضمون.

6- سلوا عما بدا لكم:

وحين أعلن علي «عليه السلام» عن استعداده للإجابة على أسئلتهم لم يدَّع: أن هذه الإجابات نتيجة جهد شخصي له، بل كان يربطها برسول الله «صلى الله عليه وآله» مباشرة. وأنهاها إليه وما زال يربطها به إلى آخر الحديث معه، ليدلهم أنه اختصه «صلى الله عليه وآله» بها ليكون هو الخليفة، والوصي دون سواه.

ولذلك أخبرهم بإنه إنما يجيبهم لأن رسول الله «صلى الله عليه وآله» علمه ألف باب من العلم، يفتح له من كل باب ألف باب.

7- لا بد من إيمانهم:

والذي نريد أن نوجه النظر إليه هنا هو أن اليهود حين جاؤا يطرحون أسئلتهم، كانوا يرون ان هذا هو سبيلهم لإثبات النبوة والإمامة ولإبطالهما، وأن من حقهم أن يعلنوا عن عدم صحة دعوى من يعجز عن الإجابة على أسئلتهم.. كما أن من حق أمير المؤمنين «عليه السلام»، ان يشترط عليهم الإيمان والإسلام إذا أجابهم على أسئلتهم وفق ما يجدونه في كتبهم..

وهذا يدل على أنه تحدٍّ مصيري.. فبنبغي أن لا يقبل منهم تكذيب دعوى النبوة والإمامة في صورة عدم الإجابة، دون أن يكون في مقابل ذلك حملهم على الإيمان في صورة الإجابة المثبتة للنبوة وللإمامة.

لأن الأمر في هذا الحال لا يمكن أن يكون مزاجياً، ولا تابعاً للهوى. ولا تقبل فيه الحلول الوسط، سواء بالنسبة لليهود، أو بالنسبة للمسلمين.

ولذلك اشترط عليهم علي «عليه السلام» الإيمان. وأخذهم به. ولا يمكن أن يرضى منهم بدون ذلك.

8- تمليخاً وسائر الفتية:

إن ما فكر فيه تمليخا وسائر الفتية، وذلك الراعي الذي التقوه، يدل دلالة واضحة على أن الفطرة التي فطر الله الناس عليها هي التوحيد.. وأن الناس كلهم لا بد أن يصلوا إلى نفس النتيجة التي وصل إليها تمليخا، لو أفسحوا المجال لعقولهم، ولفطرتهم لممارسة حريتها بالحركة وبالعمل..

كما أن هذا الفكر لا بد أن يقود إلى معرفة صفات الله تبارك وتعالى، ولا بد أن يرفض كل ما سوى الله سبحانه، ويمنع من أن يكون له أي تأثير حقيقي، من خلال ذاته في أي شيء في هذا الكون..


([1]) الآية 18 من سورة النمل.

([2]) الآية 19 من سورة الكهف.

([3]) الآية 21 من سورة الكهف.

([4]) عرائس المجالس ص413 ـ 419 وانظر أيضاً: قصص الأنبياء لقطب الدين الراوندي ص255 ـ 261. وكشف اليقين ص431 ـ 446 وبحار الأنوار ج14 ص411 ـ 419 والغدير ج6 ص148 ـ 155 وقصص الأنبياء للجزائري ص495 ـ 502.

 
   
 
 

العودة إلى موقع الميزان