أحمد بن أبي عبد الله البرقي، عن
أبيه، عن علي «عليه السلام» قال:
يجب على الإمام أن يحبس الفساق من العلماء، والجهال من
الأطباء، والمفاليس من الأكرياء([1]).
ونقول:
إن العلماء هم أطباء الروح، والقلب، وهم الحفظة للسلوك،
ودعاة الانضباط في خط الشريعة والطاعة لله، فإذا كان العالم فاسقاً،
بارتكابه المعاصي، فلن يتحمس لصيانة الناس في إيمانهم، وأخلاقهم،
وسلوكهم، وفي طاعتهم لله تعالى..
ورؤية فسقه ستسهل على الناس الوقوع في المفاسد، وفي
الخروج عن خط الطاعة لله تبارك وتعالى، والإستقامة على جادة الصواب في
السلوك والمحاسبة..
فإن العالم قدوة للجاهل، في قوله وفعله، وفي طاعاته وفي
معاصيه.
ولذلك فرض الله تعالى على الإمام حبس الفساق من
العلماء.
لا ريب في أهمية وحساسية علم الطب بالنسبة للإنسان، وأن
بعض الأخطاء فيه قد تودي بحياة الإنسان، وبعضها الآخر ربما يلحق به
ضرراً بالغاً لا يرضاه العقلاء لأنفسهم، ولذلك اهتم الإسلام بسلامة
الناس في أجسادهم أيضاً، وفرض على الإمام أن يحبس من يتصدى لعلاج
الناس، اعتماداً على حدسيات لا تسمن ولا تغني من جوع، بل قد تكون هي
سبب استفحال المرض، إن لم تكن سبباً فيما هو أدهى وأمر، وأخطر وأضر،
وأسوأ وأشر.
أما المفاليس من الأكرياء، فالمراد بهم أولئك الذين
يستأجرون من غيرهم دابتهم أو دارهم أو غير ذلك، وبعد الاستفادة منها
يظهرون فلسهم.. فإن استسهالهم لهذا الأمر يدعو إلى عقوبتهم، ودفع شرهم
عن الناس بواسطة الحبس.
قال الزبيدي:
«والصواب: أن الأكرياء إنما هو جمع كري على فعيل، يقال: هو كري من
الأكرياء. صرح به ابن سيدة، والأزهري، والزمخشري؛ كأنه سقط من العبارة:
وجمع الكري والمكاري أكرياء ومكارون؛ كما هو نص ابن سيده»([2]).
وقالوا:
يقال كري، للمُكْري والمكتري([3]).
وروي بسند صحيح، عن ابن أبي عمير، عن حفص بن البختري،
عن أبي عبد الله «عليه السلام»: أتى أمير المؤمنين «عليه السلام» برجل
وُجِد تحت فراشه رجل، فأمر به «عليه السلام» فلوث في مخرؤّه([4]).
وفي معتبر طلحة بن زيد، عن جعفر، عن
أبيه «عليهما السلام»:
أنه رفع إلى أمير المؤمنين «عليه السلام» رجل وجد تحت فراش امرأة في
بيتها، فقال: هل رأيتم غير ذلك؟!
قالوا:
لا.
قال:
فانطلقوا به
إلى مخرؤّه، فمرغوه عليها ظهراً لبطن، ثم خلوا سبيله..([5]).
ونقول:
1 ـ
إن ما أقدم عليه هذا الرجل من الدخول إلى بيت امرأة، والإختباء تحت
فراشها عمل محرم، وذنب يستحق عليه التعزير الرادع.. والحاكم هو الذي
يقدر ويقرر، ما يصلح لردع مرتكب هذا الذنب، ملاحظاً حاله، وأحواله
النفسية، وجرأته، ومدى شعوره بالكرامة، أو إحساسه بالضعة والحقارة.
فما ورد في معتبرة طلحة بن زيد لا يدل على انحصار
العقوبة بما ذكر فيها.
2 ـ
إن الرواية الأولى لم تصرح بأن مقصود ذلك الرجل هو الفساد، ولكن حكم
أمير المؤمنين «عليه السلام» بتعزيره بما يعزر به من وجد تحت فراش
امرأة، يدل على أنه كان قاصداً للفساد، والعمل الشنيع مع ذلك الرجل،
ولو بالقوة، وليس المقصود مجرد الدخول تحت فراش الرجل، فإن الدخول تحت
فراشه ليس محرماً، وليس عملاً يقصده الناس، ويقع في دائرة اهتماماتهم.
3 ـ
بالرغم مما ذكرناه، نقول:
يحتمل أن تكون الروايتان تحكيان واقعة واحدة، ولكن
الأمر شبه على الراوي في إحداهما بين المرأة والرجل.
ويحتمل أن نسبة الفراش للرجل، لأنه صاحب الفراش كما
يفهم من قاعدة: «الولد للفراش وللعاهر الحجر».
4 ـ
إن اختيار هذا النوع من التعزير، الذي يهدف إلى تحقير ذلك الرجل،
وإذلاله، وإهانته، يتناسب مع طبيعة الذنب الذي ارتكبه..
في
معتبرة إسحاق بن عمار عن الصادق عن أبيه «عليه السلام»:
أن رجلاً قطع من بعض أذن رجل شيئاً، فرفع ذلك إلى علي «عليه السلام»
فأقاده..
فأخذ الآخر ما قطع من أذنه، فرده على أذنه بدمه،
فالتحمت وبرئت
فعاد الآخر إلى علي «عليه السلام» فاستقاده، فأمر بها
فقطعت ثانيةً وأمر بها فدفنت، وقال: إنما يكون القصاص من أجل الشين([6]).
ونقول:
1 ـ
إن الذي أورده الجاني على المجني عليه ـ وهو قطع بعض
أذنه ـ يبقى أثره عليه مدى الحياة، والقصاص إنما هو مقابلة بالمثل، أي
أن يلحق به نفس ما لحق به، فيفعل به فعلاً مشابهاً يبقى أثره مدى
الحياة.
فإعادة الأذن المقطوعة إلى موضعها تزيل ذلك الأثر، عنه
فلا يبقى للعقوبة أثر، ويبقى الشين في المجني عليه، ويزول عن الجاني..
2 ـ
إنما أمر بها «عليه السلام» أن تدفن ليزيل عنها صلاحيتها للالتحام..
3 ـ
ولكن لو تمكن المجني عليه من نقل جزء مشابهٍ للمقطوع ـ
نقله ـ من جسد آخر تجوز الاستفادة منه في ذلك، ووصله بأذنه، وأعادها
إلى ما كانت عليه بعملية جراحية. فقد يقال: إنه ليس لأحد عليه سبيل،
فإنه إنما أريد حرمانه من الاستفادة من الجزء الأصلي لإزالة الشين..
إلا أن يقال:
إن عموم التعليل بأن المطلوب هو بقاء الشين عقوبة
للجاني.. لا يفرق فيه عدم السماح برفعه بين ما يؤحذ من جسده وبين ما
كان من جسد آخر، وذلك قد يمنع من السماح له بذلك أيضاً..
وروي:
أنه رفع إلى أمير المؤمنين «عليه السلام» رجل داس بطن
رجل حتى أحدث في ثيابه، فقضى عليه أن يداس بطنه حتى يحدث في ثيابه كما
أحدث، أو يغرم ثلث الدية([7]).
ونقول:
1 ـ
قال بعضهم: إن هذه الرواية ضعيفة، فالوجه هو الرجوع إلى
ما يحكم به الحاكم، لأنها جناية ليس لها مقدار شرعاً.
ولكننا نقول:
إن الأكثر قد عملوا برواية السكوني، وهي ليست ضعيفة
عندهم، بل معتبرة.
على أن الأولى هو العمل بالرواية الضعيفة في مثل هذه
الموارد التي لا يرى أن ثمة دواعي للكذب فيها.
2 ـ
المراد بإحداثه في ثيابه: خروج البول والغائط بسبب دوس بطنه.
3 ـ
وربما يستدل على عقوبته بالدوس في بطنه بآيات منها قوله تعالى:
﴿فَمَنِ
اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى
عَلَيْكُمْ﴾([8]).
ونحوها مما دل على المقابلة بالمثل..
روى الكليني والشيخ في الصحيح، عن محمد بن قيس، عن أمير
المؤمنين «عليه السلام» قال: قضى أمير المؤمنين في رجل أعور أصيبت عينه
الصحيحة ففقئت، أن تفقأ إحدى عيني صاحبه ويعقل له (أي صاحبه) نصف
الدية، وإن شاء أخذ دية كاملة، ويعفو عن عين صاحبه([9]).
روى الشيخ عن السكوني عن الصادق
«عليه السلام»:
أن أمير المؤمنين «عليه السلام» ألقى صبيان الكتاب
ألواحهم بين يديه، ليخيّر بينهم.
فقال:
أما إنها حكومة، والجور فيها كالجور في الحكم.
أبلغوا معلمكم:
إن ضربكم فوق ثلاث ضربات في الأدب اقتص منه([10]).
ونقول:
1 ـ
إن هذا الحديث الفريد لم ينقل لنا أنه حصل مع أي من
الخلفاء قبله ولا بعده «عليه السلام»، وهو يشير إلى أن عدل علي «عليه
السلام» قد شمل حتى صغار الأطفال في أدق تفاصيل حياتهم، وحتى علاقاتهم
بمعلميهم. وشتان بين من كل همه هو سلب الناس حقوقهم، والعدوان على كل
ما تصل إليه يده، وبين من يحرص على أن لا يظلم نملة جلب شعيرة، حتى لو
اعطي الأقاليم السبع، وما فيهن، وما بينهن.
2 ـ
إن صبيان الكتاب حين وضعوا ألواحهم بين يدي أمير
المؤمنين، إنما أرادوا منه أن ينظر فيها ليختار من بينها الأفضل من حيث
الخط، والأداء، والمضمون، وحسن التنظيم، لكي يميز الطالب الناجح من
غيره..
وهذا يعني:
تمييز الطالب الناجح، والأفضل من غيره كان متداولاً
ومعروفاً منذئذٍ..
3 ـ
إن أمر التمييز والإختيار، والأفضل لم يوكل لمعلمهم، بل
أوكل ذلك إلى الرئيس والخليفة، والرجل الأول.. ربما ليكون حافزاً لهم
على المزيد من الجهد والعطاء..
4 ـ
إنه «عليه السلام» قد أوضح لنا خطورة هذه المهمة، حتى
لقد جعل الجور فيها كالجور في الحكم، وأنه يترتب على هذا الجور
مسؤوليات لا تقل في خطورتها وآثارها عن مسؤوليته عن الجور في الحكم..
وهذا يعطينا درساً هاماً جداً وحساساً فيما يرتبط
بإمتحانات المدارس، فإن التهاون في وضع العلامات، والتجني على الطالب
ولو بتضييع نصف علامة، بمثابة الجور في القضاء الذي تلحقه العقوبة
الأخروية الصعبة والهائلة جداً.
5 ـ
إن الجور في الحكومة بين الصبيان بالغ الخطورة، خصوصاً
لجهة السلبيات التي يتركها هذا الجور على نفوس الطلاب، فإن كسر معنى
العدل في نفوسهم سوف يهيؤهم للكفر بالقيم، والتشكيك في أقدس الشخصيات،
وإسقاط الرموز، كما أنه سيتسبب بالعقد النفسية لدى من وصفوا بأنهم
فاشلون..
6 ـ
إنه «عليه السلام»، قد حدد عدد الضربات التأديبية التي
لا تجوز..
7 ـ
إن هذا القرار قد تبعه قرار آخر بقوله: إنه لو زاد أحد
على ثلاثة أسواط، فإنه سيتعرض لتأديب الإمام له، لكي يشعر بطعم
العقوبة، فإنه ليس بأفضل عنده من تلميذه، ولذلك يعاقب بذنبه بنفس
الأسلوب.
وإنما تعتبر هذه العقوبة من موارد الإقتصاص منه،
للدلالة على أن المعلم قد جعل في مستوى تلميذه الذي كان قد اعتدى عليه
هو قبل ذلك..
عن طلحة بن زيد، عن الإمام الصادق
«عليه السلام»:
أن أمير المؤمنين «عليه السلام» أتي برجل عبث بذكره،
فضربه على يده حتى احمرت، ثم زوجه من بيت المال..
ورواه زرارة عن أبي جعفر الباقر «عليه السلام»([11]).
ونقول:
1 ـ
من الواضح أن ذلك الرجل كان لا يملك من المال ما يمكنه
من الزواج..
2 ـ
إنه لولا حاجته إلى هذا الزواج، لم يكن ليفعل ما يستحق
به هذه العقوبة..
3 ـ
إن هذا النص وإن لم يصرح بأنه قد عبث بذكره حتى أخرج
المني، ولكن رواية زرارة عن أبي جعفر صريحة في ذلك..
إنه لا شك في حرمة هذا الفعل منه،
ويدل على ذلك:
رواية محمد بن عيسى، عن أبيه، عن الإمام الصادق «عليه
السلام»: أنه قال حين سئل عن الخضخضة: إثم عظيم، قد نهى الله تعالى عنه
في كتابه، وفاعله كناكح نفسه، ولو علمت بمن يفعله ما أكلت معه..
قال السائل:
فبين لي يابن رسول الله من كتاب الله فيه.
فقال:
قوله تعالى:
﴿فَمَنِ
ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ﴾([12]).
وهو مما وراء ذلك.
فقال الرجل:
أيهما أكبر؟! الزنا أم هي؟!
فقال:
هو ذنب عظيم إلخ..
([13]).
وأما رواية حسين بن زرارة قال:
سألت أبا جعفر «عليه السلام» عن رجل يعبث بيده حتى
ينزل؟!
قال:
لا بأس به، ولم يبلغ به ذلك شيئاً([14]).
فقد حملها الشيخ على أن المراد:
أنه ليس عليه شيء موظف لا يجوز خلافه، بل عليه التعزير
بحسب ما يراه الإمام، فقوله: لا بأس به أي لا بأس بأي شيء يختاره
الإمام في تعزيره.
وقال الحر العاملي:
ويمكن حمله على التقية([15]).
بل إن العقوبة على العابث بذكره تدل على حرمة هذا
العبث.
فما يدعيه بعض الناس، من عدم الملازمة بين الحرمة وبين
التعزير، لا قيمة له..
1 ـ
إن تزويج هذا الرجل من بيت المال يدل على أن من
مسؤوليات الدولة، تزويج الشباب، ولكن بشرطين:
أولهما:
أن لا يملكوا من القدرة المالية ما يمكنهم من الزواج.
الثاني:
أن تظهر حاجتهم لهذا التزويج أيضاً، أو على الأقل.. إن
هذا هو مورد الرواية، وهو القدر المتيقن منها.
2 ـ
وروي أن الإمام الكاظم «عليه السلام» أخذ من هارون
الرشيد مالاً لتزويج عزاب آل أبي طالب. فدل فعل الإمام «عليه السلام»
هذا على لزوم الاهتمام بهذا الأمر، ولعل من الراجح إنشاء الجمعيات
والمؤسسات التي تهتم بهذا الأمر، وتساعد على الزواج.
يلاحظ:
أنه «عليه السلام» قد ضرب يد ذلك العابث بذكره، ولم
يوزع الضرب على جسده. مع أنه ورد في بعض الروايات: أن الجسد كله يشارك
في حدوث الجنابة.
ولعله لا خصوصية لليد هنا، لأن هذا من مفردات التعزير
الذي يختار الحاكم الكيفية والمقدار الرادع منه.
عن قضايا القمي قال:
«وانتهى علي «عليه السلام» إلى قوم يلعبون بالشطرنج، فوقف فقال: ما هذه
التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟! وعاقبهم عقوبة لم يدر ما هي، وعقلهم
في الشمس([16]).
وتقول رواية أخرى:
مر علي «عليه السلام» على قوم يلعبون بالشطرنج، فأمر رجلاً من فرسانه،
فخرق رقعها، وأمر بكل رجل منهم، فَعَقَل له رِجْلاً، وأقامه عليها.
فقالوا:
لا نعود.
قال:
﴿إِنْ
عُدْتُمْ عُدْنَا﴾([17])»([18]).
ونقول:
لاحظ ما يلي:
1 ـ
إن سياق الرواية يفيد: أن هؤلاء اللاعبين بالشطرنج
كانوا يمارسون هوايتهم في الملأ العام، وبمرأى ومسمع من الناس. الأمر
الذي يدل على عدم مبالاتهم بحفظ المظهر العام لأهل الإيمان.
2 ـ
إن قراءة
الآية:
﴿مَا
هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ﴾([19])
على أولئك اللاعبين بالشطرنج، تشير إلى استغراقهم في تلك التماثيل،
وانقطاع تفكيرهم عن كل ما عداها من شؤون الحياة رغم أنها مجرد تماثيل
جامدة وهامدة، لا تمثل أية قيمة، ولا تمنحهم أية صلة بكل ما هو حياة
ونشاط، وتحريك، وتطور، ونمو وتكامل..
3 ـ
إن العقوبة التي اختارها أمير المؤمنين «عليه السلام»
لهم وتقول الرواية الأولى: إنها لم يدر ما هي، لعلها تلك التي أشارت
إليها الرواية الثانية، وهي أنه عقل رِجْلَ كل واحد منهم، وأقامهم
عليها.. ويبدو: أنه «عليه السلام» أقامهم عليها في الشمس كما في
الرواية الأولى.
وهي عقوبة تبدو أنها ليست من العبث بهم، وإن أوجبت
سخرية الناس وازدراءهم لهم، فإنه «عليه السلام» أراد أن يفهمهم أن
الإستغراق في أمر عبثي لا نتيجة له، وهو تعطيل لهم، وسلب لقدرتهم عن
التصرف بصورة مجدية، أو مؤثرة إيجاباً في حياتهم، وفي تطورهم، وتنامي
قدراتهم.. تماماً كما هو حال من يقوم في الشمس على رجل واحدة.
كما أن إقامتهم في الشمس يشبه إلى حد كبير استغراقهم في
المبهم، وفيما لا أثر له ولا حياة فيه، وهو مجرد إتلاف لنبضات الحياة
فيهم، وصرف أرعن للعمر، وللطاقات الحية، بالإضافة إلى ما في ذلك من أذى
يلحقهم من حرارة الشمس.
4 ـ
لا بأس
بالتأمل في كلمته «عليه السلام»:
﴿إِنْ
عُدْتُمْ عُدْنَا﴾([20]).
التي هي اقتباس من الآية الكريمة التي ذكرت وعيد الله تعالى لليهود على
إفسادهم في الأرض مرتين.
5 ـ
ويستفاد من
بعض الروايات في الشطرنج:
أن نفس لعب المؤمن بالشطرنج مبغوض لله تعالى، ولم تشر إلى موضع الرهن
فيه..
عن الإمام الصادق «عليه السلام»:
أن أمير المؤمنين قضى في رجل يشتم آخر، ووصفه بابن
المجنون.
فقال له الآخر:
أنت ابن المجنون.
فأمر الإمام أول الرجلين أن يجلد صاحبه عشرين جلدة.
فلما جلده أعطى المجلود السوط، فجلده عشرين جلدة. وكان
ذلك تنكيلاً بهما كليهما.
ونقول:
1 ـ
إنما اعتبر ذلك تنكيلاً من جهتين:
إحداهما:
جدية ذلك الغريم في عقوبة غريمه، فلا يتراخى في صب
الضربات العشرين بالمستوى المسموح به من الشدة في مثل هذه العقوبات.
الثاني:
إن العقوبة حين تأتي من الغريم تكون أشد إيلاماً لذلك
الذي يتعرض لها. إذ هي تجمع عليه العذاب الجسدي مع العذاب الروحي، لأنه
كان يتمنى أن يعاقب غريمه وحده ويسلم هو، وإذ به يواجه العقوبة على يد
نفس ذلك الغريم وسيشتد عليه ذلك. ويزيده حسرةً وألماً..
2 ـ
إن تعرض الغريم الآخر للعقوبة على يد غريمه الذي كان
قبل لحظات يتولى صب السياط على جسده سيزيد هذا المعاقب ألماً وحسرة
وحنقاً، كما أنه سيشتد في صب السياط على جسد غريمه، وسيكون تنكيله به
أشد. وذلك واضح لا يخفى.
وقد لوحظ:
أنه «عليه السلام» قد أمر الذي بدأ بالشتم بجلد الآخر،
لأنه يشعر بأنه كان هو المفتري والبادئ بالظلم، فلا يكون حرصه على عذاب
غريمه بمستوى حرص الشخص الثاني على الإنتقام. لأنه يرى أنه تعرض للشتم،
واستدرج لرد الشتيمة بمثلها، فيرى أن مظلوميته أشد، وسيكون أشد حرصاً
على عقوبة صاحبه، ولا سيما بعد أن عوقب على رده الشتيمة بمثلها على يد
نفس ذلك الذي بدأ بالظلم.
وظهر أنه «عليه السلام» أراد من التعبير بالتنكيل بهما،
ومن تولية كل منهما عقوبة الآخر: أن لا يكون الضرب متوسطاً، بل يريده
شديداً، يتضمن تنكيلاً وردعاً، وزجراً قوياً..
عن
الإمام جعفر «عليه السلام»:
أنه جيء إلى الإمام علي «عليه السلام» برجلين قذف كل
واحد منهما صاحبه باللواط، فدرأ عنهما الحد، وعزرهما.([21]).
ونقول:
1 ـ
إن التقاذف بين رجلين، ولا سيما مع تشابه المضامين يصلح
قرينه على عدم إرادة إثبات المضمون على الطرف الآخر، ولا ادعاؤه عليه
على نحو الحقيقة.. بل المطلوب مجرد الإيذاء بالكلام، وتسجيل الشتيمة
له، بسبب انفعال وغضب عرض لهما.
كما أن الناس لا يعتبرون كلام المتسابين معبراً عن
وقائع حقيقية، بل يرون أنها فورة غضب وحسب، ولذلك لا يعيرون من يُسَبُّ
بمضمون السباب.
ولعل هذا يكفي لتكوين الشبهة المانعة من إقامة الحد
عليهما..
2 ـ
أما التعزير فيهدف إلى الردع عن الجرأة على الآخرين،
والعدوان عليهم، وإيذائهم بالسباب والشتائم.. وأن المطلوب هو مراعات
الأدب، لا الانسياق مع الغضب.
في معتبرة بكير بن أعين، عن أبي جعفر «عليه السلام»
قال:
«كان أمير المؤمنين «عليه السلام» إذا نفى أحداً من أهل
الإسلام نفاه إلى أقرب بلد من أهل الشرك إلى الإسلام. فنظر في ذلك،
فكانت الديلم أقرب أهل الشرك إلى الإسلام»([22]).
ونشير هنا إلى الأمور التالية:
إن هذه الرواية لا تتحدث عن نفي المجلود في الزنا، لأن
الروايات الصحيحة والمعتبرة دلت على أنه يخرج من البلد الذي جلد فيه([23]).
وإن كان المقصود هو نفي المحارب، فهو لا ينسجم مع
الروايات المصرحة بأن المحارب ينفى من مصر إلى مصر، ومن بلد إلى آخر،
ولا يسمح له بالإستقرار، وفي بعض الروايات إنه يكتب إلى كل مصر يدخله
بأن لا يجالسوه، ولا يبايعوه، ولا يناكحوه، ولا يؤاكلوه، ولا يشاربوه..
وفي
رواية عبيد الله بن إسحاق المدائني، وإسحاق عن أبي الحسن:
أن النفي يستمر إلى سنة، فإنه سيتوب، وهو صاغر، فإن توجه إلى أرض الشرك
يقتل([24]).
ولكن صحيحة حنان عن أبي الحسن الرضا، ورواية زرارة
أطلقتا الحكم، ولم تقيِّداه بوقت([25]).
وأفتى بعض الفقهاء بمضمونها، ولم يقيدها برواية عبيد
الله المدائني، وإسحاق ربما لضعف هاتين الروايتين، وصحة رواية حنان.
المحارب هو من شهر سلاحه أو جهزه لإخافة الناس،
والإفساد في الأرض، وقد أعطى الشرع الشريف الفرصة لمجازاته بما يتناسب
مع ما يصدر عنه من جرائم. فقد خيَّر الإمام بين قتله، وصلبه، وقطع اليد
والرجل. والنفي من الأرض، فإن ما يفعله المحارب هو القتل، فيمكن أن
يعاقب بمثله، والتنكيل بالناس والصلب تنكيلاً، لسعيه لإخافة الناس.
والإفساد في الأرض وأخذ أموالهم. ويتناسب مع قطع يده ورجله، فيمكن
للإمام أن يعاقبه بما يختاره الإمام من هذه العقوبات.
فقد يرى القتل هو المناسب، إذا كان قد صدر منه القتل،
وقد يرى أن يصلبه إذا كان قد نكل بالناس، وقد يرى أن يقطعه إذا رأى أن
ذلك يناسب ما صدر منه من أخذ أموال الناس.
ثم ينفيه، ويذيقه طعم الخوف المتواصل والانقطاع عن
الناس، بالإضافة إلى نفور الناس منه، وعدم البر به، وحرمانه من مظاهر
الرحمة والشفقة، تماماً كما كان حاله هو مع الناس..
على أن نفس هذه الحال التي يراه الناس عليها من شأنها
أن تشفي غليل صدورهم، وأن تكون عبرة لمن تسول له نفسه التأسي به في
فساده، وإجرامه.
([1])
تحرير الأحكام للعلامة الحلي ج5 ص239 ومن لا يحضره الفقيه ج3
ص31 وتهذيب الأحكام ج6 ص319 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت)
ج27 ص301 و (ط دار الإسلامية) ج18 ص221 وجامع أحاديث الشيعة
ج26 ص79 وقضاء أمير المؤمنين «عليه السلام» للتستري (ط مؤسسة
الأعلمي) ص196.
([2])
تاج العروس ج20 ص122 ومواهب الجليل ج7 ص593.
([3])
النهاية في غريب الحديث ج1 ص375 ومعجم البلدان ج2 ص243 ولسان
العرب ج12 ص120 وتاج العروس ج16 ص142. وراجع لسان العرب ج15
مادة كرا.
([4])
من لا يحضره الفقيه ج4 ص30 وتهذيب الأحكام ج10 ص48 ووسائل
الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج28 ص163 و (ط دار الإسلامية) ج18
ص424 وجامع أحاديث الشيعة ج20 ص354 وج25 ص395 و 443.
([5])
قضاء أمير المؤمنين «عليه السلام» للتستري (ط مؤسسة الأعلمي)
ص55 والكافي ج7 ص202 ومن لا يحضره الفقيه ج4 ص30 وتهذيب
الأحكام ج10 ص48 ووسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج28 ص145 و (ط دار
الإسلامية) ج18 ص410 وجامع أحاديث الشيعة ج25 ص391 و 395
وراجع: المحلى لابن حزم ج11 ص404.
([6])
قضاء أمير المؤمنين «عليه السلام» للتستري (ط الأعلمي ـ الطبعة
العاشرة) ص220 وتهذيب الأحكام ج10 ص279 والمقنع للصدوق ص184
ووسائـل الشيعـة = = (ط مؤسسة آل البيت) ج29 ص185 و (ط دار
الإسلامية) ج19 ص139 و 140 ومستدرك الوسائل ج18 ص285 وجامع
أحاديث الشيعة ج26 ص291.
([7])
قضاء أمير المؤمنين «عليه السلام» للتستري (ط مؤسسة الأعلمي)
ص59 والكافي ج7 ص377 وتهذيب الأحكام ج10 ص251 و 279 ومن لا
يحضره الفقيه ج4 ص110 و (ط مركز النشر الإسلامي) ج4 ص47 ووسائل
الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج29 ص182 و (ط دار الإسلامية) ج19
ص138 ومستدرك الوسائل ج18 ص283 وغوالي اللآلي ج3 ص642.
([8])
الآية 194 من سورة البقرة.
([9])
قضاء أمير المؤمنين «عليه السلام» للتستري (ط مؤسسة الأعلمي)
ص55 والكافي ج7 ص317 وتهذيب الأحكام ج10 ص269 والمقنع للصدوق
ص13 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج29 ص180 و 331 و (ط
دار الإسلامية) ج19 ص136 و 252 وغوالي اللآلي ج2 ص362 وج3 ص631
وجامع أحاديث الشيعة ج26 ص290 و 407 ومسند محمد بن قيس ص125 و
129.
([10])
قضاء أمير المؤمنين «عليه السلام» للتستري (ط مؤسسة الأعلمي)
ص196 والكافي ج7 ص268 وتهذيب الأحكام ج10 ص149 ووسائل الشيعة
(ط مؤسسة آل البيت) ج28 ص372 و (ط دار الإسلامية) ج18 ص582
وجامع أحاديث الشيعة ج26 ص85.
([11])
قضاء أمير المؤمنين «عليه السلام» للتستري (ط مؤسسة الأعلمي)
ص196 والكافي ج7 ص265 وتهذيب الأحكام ج10 ص63 و 64 ووسائل
الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج28 ص363 والإستبصار ج4 ص226
والمقنعة ص126.
([12])
الآية 7 من سورة المؤمنون.
([13])
وسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج28 ص364 و (ط دار
الإسلامية) ج18 ص575 ومستدرك الوسائل ج14 ص355 وبحار الأنوار
ج101 ص30 ونوادر أحمد بن محمد بن عيسى ص62 وجامع أحاديث الشيعة
ج20 ص381 وج25 ص426 ومستدرك سفينة البحار ج3 ص75.
([14])
تهذيب الأحكام ج10 ص64 والإستبصار ج4 ص226 ووسائل الشيعة (ط
مؤسسة آل البيت) ج28 ص363 و (ط دار الإسلامية) ج18 ص575 وجامع
أحاديث الشيعة ج25 ص427.
([15])
وسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج28 ص363 و 364 و (ط دار
الإسلامية) ج18 ص575.
([16])
قضاء أمير المؤمنين «عليه السلام» للتستري (ط مؤسسة الأعلمي)
ص196 وعجائب أحكام أمير المؤمنين للسيد محسن الأمين ص156.
([17])
الآية 8 من سورة الإسراء.
([18])
الشافي لابن حمزة ج1 ص221 والأحكام ليحيى بن الحسين ج2 ص553.
([19])
الآية 52 من سورة الأنبياء.
([20])
الآية 8 من سورة الإسراء.
([21])
راجع: الكافي ج7 ص242 وتهذيب الأحكام ج10 ص79 ومن لا يحضره
الفقيه ج4 ص55 وإحقاق الحق (الملحقات) ج32 ص159 ووسائل الشعة
(ط مؤسسة آل البيت) ج28 ص202 و (ط دار الإسلامية) ج18 ص451
ودعائم الإسلام ج2 ص461 ومستدرك الوسائل ج18 ص102 وجامع أحاديث
الشيعة ج25 ص482 و 483.
([22])
وسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج28 ص124و 317 و (ط دار
الإسلامية) ج18 ص394 و 540 وجامع أحاديث الشيعة ج26 ص11 وج25
ص381 وتهذيب الأحكام ج10 ص36.
([23])
الكافي ج7 ص178 و 236 والإستبصار ج4 ص202 وتهذيب الأحكام ج10
ص4 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج28 ص61 و 123 و (ط دار
الإسلامية) ج18 ص347 و 404 وجامع أحاديث الشيعة ج25 ص334 و 400
وموسوعة أحاديث أهل البيت «عليهم السلام» للنجفي ج4 ص141
والتفسير الصافي ج3 ص414 وتفسير نور الثقلين ج3 ص569 ومسند
محمد بن قيس (تحقيق بشير المازندراني) ص114.
([24])
تهذيب الأحكام ج10 ص133 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج28
ص316 و (ط دار الإسلامية) ج18 ص540 وتفسير نور الثقلين ج1 ص623
وجامع أحاديث الشيعة ج26 ص9 ومسند الإمام الرضا للعطاردي «عليه
السلام» ج2 ص384.
([25])
تفسير العياشي ج1 ص316 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج28
ص315 و 318 و (ط دار الإسلامية) ج18 ص539 و 541 وجامع أحاديث
الشيعة ج26 ص12 والكافي ج7 ص246 وتهذيب الأحكام ج10 ص134.
|