صفحة :313-336   

 

أم سلمة تنهى وتستدل:

وروى الواقدي، عن أفلح بن سعيد، عن يزيد بن زياد، عن عبد الله بن أبي رافع، عن أم سلمة زوجة النبي «صلى الله عليه وآله»، قالت: كنت مقيمة بمكة تلك السنة حتى دخل المحرم، فلم أدرِ إلا برسول طلحة والزبير قد جاءني عنهما، يقول: إن طلحة والزبير ابنيك يقولان: إن أم المؤمنين عائشة تريد أن تخرج للطلب بدم عثمان، فلو خرجت معنا رجونا أن يصلح الله بكما فتق هذه الأمة..

فأرسلت إليهما: والله ما بهذا أمرت ولا عائشة، لقد أمرنا الله أن نقر في بيوتنا، فكيف نخرج للقتال والحرب مع أن أولياء عثمان غيرنا؟!

والله ما يجوز لنا عفو، ولا صلح، ولا قصاص. وما ذاك إلا إلى ولد عثمان.

وأخرى نقاتل علي بن أبي طالب «عليه السلام» ذا البلاء والعناء، أولى الناس بهذا الأمر!

والله ما أنصفتما رسول الله «صلى الله عليه وآله» في نسائه، حيث تخرجوهن إلى العراق وتتركون نساءكم في بيوتكم.

ثم أرسلت إلى عائشة فنهتها أشد النهي عن طلحة والزبير في الخروج لقتال علي بن أبي طالب «عليه السلام»، وذكرتها أموراً تعرفها، وقالت لها: أنشدك الله! هل تعلمين أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» قال لك: «اتق الله، واحذري أن تنبحك كلاب الحوأب»([1]).

فقالت: نعم.

وردعتها بعض الردع، ثم رجعت إلى رأيها في المسير([2]).

استدلالات أم سلمة القاطعة:

ولا نملك إلا البخوع والخضوع أمام هذا الوعي العميق والشامل الذي تجلى في جواب أم سلمة «رحمها الله» لطلحة والزبير. الذي أظهر أنها تملك قدراً كبيراً من العلم بالشريعة وآدابها، وأنها من أشد الناس التزاماً بها، ورعايةً لأحكامها، وأرسخهم إيماناً، وأصدقهم لساناً، وأطهرهم جناناً..

وقد تضمن جوابها استدلالاً دقيقاً وعميقاً على أن الإسلام يمنعهم من هذا التصرف ويدينه، فذكرت لهم أموراً أربعة هي التالية:

1 ـ أن الله لم يأمر النساء بالحرب والقتال، بل أمرهن بالقرار في بيوتهن.

2 ـ أنهن لسن من أولياء المقتول، فلا يجوز لهن العفو عن القاتل، ولا القصاص، ولا المصالحة على الدية. وإنما ذلك لولد عثمان. وهم موجودون، وبإمكانهم التصدي لهذا الأمر..

3 ـ لا يجوز قتال علي بن أبي طالب «عليه السلام»، وهو صاحب أعظم التضحيات في سبيل الدين، وأولى الناس بإمامة الأمة.

4 ـ كيف يجوز لهم في شريعة العدل والإنصاف، حجب نسائهم في البيوت، وإخراج نساء رسول الله «صلى الله عليه وآله» من الحجاز إلى العراق.

ثم إنها خصت عائشة بنهيها الشديد لها، وذكرتها بما سمعته ورأته هي من رسول الله «صلى الله عليه وآله»، مما سنذكره في فصل مستقل..

وأكدت صحة ذلك بتذكيرها بإخبار النبي «صلى الله عليه وآله» لعائشة بأمر غيبي، حذرها فيه من الوقوع في هذه الحرب والمخالفة الظاهرة لله ولرسوله، حيث جعل لها علامة ذلك: أن تنبحها كلاب الحوأب. (وهذا ما حصل لها فعلاً)، فأوجب ذلك بعض التردد لدى عائشة، ثم غلبت عليها رغبتها الطاغية في قتال علي «عليه السلام». فخرجت وقاتلت، وكان النصر لأمير المؤمنين «عليه السلام»..

أم سلمة تتصدى وتتحدى:

وقال المفيد «رحمه الله»:

«فلما رأت أم سلمة أن عائشة لا تقلع عن الخروج (أي إلى حرب علي «عليه السلام») عادت إلى مكانها، وبعثت إلى رهطٍ من المهاجرين والأنصار، فقالت لهم: «لقد قتل عثمان بحضرتكم، وكانا هذان الرجلان ـ تعني طلحة والزبير ـ يسعيان عليه كما رأيتم، فلما قضى الله أمره بايعا علياً. وقد خرجا الآن، زعما أن يطلبا بدم عثمان، ويريدان أن يخرجا حبيسة رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وقد عهد إلى جميع نسائه عهداً واحداً أن يَقِرْنَ في بيوتهن، فإن كان مع عائشة عهد سوى ذلك، تظهره وتخرجه إلينا نعرفه.

لا والله، ما بايعتم أيها القوم وغيركم علياً مخافةً له، ولا بايعتموه إلا على علم منكم بأنه خير هذه الأمة، وأحقهم بهذا الأمر قديماً وحديثاً.

والله ما أستطيع أن أزعم أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» خلف يوم قبض خيراً منه، ولا أحق بهذا الأمر منه، فاتقوا الله عباد الله فإنا نأمركم بتقوى الله والإعتصام بحبله، والله ولينا ووليكم»([3]).

قال: فتقاعد كثير عن طلحة والزبير عند سماع هذا الخبر والقول من أم سلمة.

ثم أنفذت أم سلمة إلى عائشة، فقالت لها: قد وعظتك فلم تتعظي، وقد كنت أعرف رأيك في عثمان، وأنه لو طلب منك شربة من ماء لمنعتيه، ثم أنت اليوم تقولين: إنه قتل مظلوماً، وتريدين أن تثيري لقتال أولى الناس بهذا الأمر قديماً وحديثاً! فاتقي الله حق تقاته، ولا تتعرضي لسخطه.

فأرسلت إليها:

أما ما كنت تعرفينه من رأي في عثمان، فقد كان، ولا أجد مخرجاً منه إلا الطلب بدمه.

وأما علي فإني آمره برد هذا الأمر شورى بين الناس، فإن فعل وإلا ضربت وجهه بالسيف، حتى يقضي الله ما هو قاض.

فأنفذت إليها أم سلمة: أما أنا فغير واعظة لك من بعد، ولا مكلمةٍ لك جهدي وطاقتي.

والله إني لخائفة عليك البوار، ثم النار!

والله ليخيبن ظنك، ولينصرن الله ابن أبي طالب على من بغى عليه.

وستعرفين عاقبة ما أقول، والسلام([4]).

ونقول:

هذه هي أم سلمة:

إن أم سلمة «رضوان الله تعالى» عليها كانت على درجة كبيرة من الحكمة وبعد النظر، والإلتزام بأحكام الله تعالى، والغيرة على الدين وأهله. وموقفها الحكيم، والصارم هنا خير شاهد على ما نقول. حيث لم تتصرف بعشوائية، ولا بخفة ورعونة، بل اختارت تحريك رهط من المهاجرين والأنصار لنصرة الحق وأهله، وتخذيل الناس عن نصرة الناكثين. لأن أي شخص ينصرف عن اللحاق بهم، فإنه ينجو بدينه، وربما بنفسه أيضاً.

ثمرات جهاد أم سلمة:

لقد أثمر مسعى أم سلمة تقاعد كثير من الناس عن طلحة والزبير وعائشة، لأنها عرفت كيف ومن تختارها لخطابها، الذي تضمن حجة دامغة، وهو أمر الله لهن بالقرار في البيوت، بل تضمن تحدياً صريحاً لشخص عائشة بأن تأتي بعهد آخر من رسول الله «صلى الله عليه وآله» يجيز لها الخروج من بيتها، فضلاً عن خروجها على إمام زمانها..

أعمالهم تشهد عليهم:

تضمن كلامها «رحمها الله» إدانة لطلحة والزبير، حين صرحت بأنهما سعيا على عثمان. ولم تكتف بإيراد ذلك بصورة الخبر، بل بينت: أن ذلك الرهط من المهاجرين والأنصار قد عاينوا فعل طلحة والزبير بعثمان.. فلا سبيل بعد هذا لتوهم أن تكون «رحمها الله» هي التي ادعت ذلك، وأظهر الصحابة تصديقها احتراماً منهم لها، ولا لتوهم أنه لم يكن لهم سبيل للتصديق ولا للتكذيب لما تدعيه، لأنه أمر غابوا عنه..

ثم إنها لم تقل لهم: علمتم. بل قالت: «رأيتم»، لأنه أبلغ في الإثبات، وعدم إمكان تطرق الريب إليه..

علي  هو الإمام:

واحتجت أيضاً بما يبطل دعوى كون البيعة لعلي «عليه السلام» كانت بدافع الخوف منه، وعن إكراه منه أو اضطرارٍ وحاجة إليه، لعدم تصدي غيره لهذا الأمر.

وقد أكدت ذلك.. بتصريحها: بأنهم قد بايعوا علياً «عليه السلام» مع علمهم بأمرين:

أحدهما: أنه خير هذه الأمة، فلا يقاس به أحد، ولا يعدل عاقل عن خير الناس وأفضلهم إلى من لا فضل عنده، أو إلى من هو في المراتب الدنيا من الفضل.

الثاني: أنه الأحق بهذا الأمر قديماً وحديثاً..

أي منذ عهد رسول الله «صلى الله عليه وآله» حيث سمعوا بتصريحاته في حقه، ورأوا وسمعوا الآيات التي تؤكد إمامته «عليه السلام»، وقد أخذ رسول الله «صلى الله عليه وآله» البيعة منهم له في يوم الغدير.

ثم أثبتت الوقائع: أنه «عليه السلام» الأسدّ رأياً، والأعظم فضلاً، والأرجح عقلاً، وأعلم أهل الأرض، وهو الأعدل، والأزهد، والأورع والأتقى، والأصفى والأنقى، والأبرع والأشجع، والأكمل والأفضل في كل شيء.

وبهذا التعبير تكون رضوان الله تعالى عليها قد أسقطت ما تدعيه عائشة أو غيرها، من تقديم غيره عليه، فإذا كان «عليه السلام» أحق بالخلافة قديماً، فهو أفضل من أبي بكر أو عمر، أو عثمان، فضلاً عن أن تكون إصبع عثمان خير منه على حد تعبير عائشة. فهل تصل النوبة بعد هذا إلى توهم تقدم طلحة أوالزبير عليه؟!

علي خير البشر:

ثم زادت في الإيضاح والبيان حين أقسمت بالله: أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» لم يخلف يوم قبض خيراً منه «عليه السلام».

ولا خلف منذئذ من هو أحق منه بالخلافة بعده.

ولم تستثن أبا بكر ولا غيره، فلا معنى لادعاء عائشة لأحد أي تقدم على علي «عليه السلام».

وقد صدَّق أولئك الرهط من المهاجرين والأنصار أقوالها بصورة عملية بانصياعهم إلى طلبها، وقعد كثير منهم ومن غيرهم عن الخروج مع عائشة وطلحة والزبير عند سماع هذا الخبر منها. كما صرحت به الرواية، أي أن خبرها هو الذي اقعدهم، وليس الرغبة في إرضائها.

عائشة تريدها شورى:

وعن طلب عائشة رد الأمر شورى بين الناس نقول:

هل هناك شورى للناس أعظم من التي حصلت بعد قتل عثمان، حيث بقي الناس خمسة أيام يلاحقون علياً «عليه السلام» ليبايعوه، وهو يمتنع منهم؟!

أم أنها تريد الشورى العمرية التي اقتصرت على الستة، ثم سلطت عليهم واحداً، فإن أخذوا برأيه وإلا قتلوا؟!

وأية شورى هذه يا ترى؟!

عائشة لم تعترض:

واللافت: أن عائشة لم تناقش أم سلمة، ولم تعترض على قولها: إنه «عليه السلام» أحق بهذا الأمر قديماً وحديثاً، ولو استطاعت أن ترد ذلك لم تصبر لحظة واحدة، لأنه يسقط ما تدعيه لأبيها، وفي عمر، وعثمان، وطلحة، والزبير وغيرهم. ويضعها أمام اختبار صعب فيما تسعى إلى إشاعته، وتسويقه في الناس.

تكفِّر عن ذنبها بقتل شطر من الأمة:

ومن العجب قول عائشة: إنها لا تجد مخرجاً لها مما كان من رأيها في عثمان إلا الطلب بدمه..

فأولاً: إن الطلب بدم عثمان ليس مخرجاً من ذلك الرأي. بل المخرج هو التوبة والإستغفار، إن كانت قد أصبحت تراه ذنباً.

ثانياً: لا يطاع الله من حيث يعصى، فإنها مأمورة بالقرار في بيتها، فما معنى خروجها منه.

ثالثاً: هل يصح أن يؤحذ الحق من غير صاحبه؟! فإن علياً «عليه السلام» لم يقتل عثمان، ولم يحرض عليه. فما معنى أن يطلب دمه منه.

رابعاً: إن الطلب بدم عثمان ليس بالحرب، بل له طرق مشروعة، وهو أن يطلب ولي الدم من الحاكم الإقتصاص له من القاتل، وليست عائشة من أولياء الدم. بل هي من الآمرين بقتل عثمان، والمحرضين عليه.

خامساً: هل يطلب بدم عثمان بقتل شطر من المؤمنين والمسلمين، وإثارة العداوة بينهم، وافتعال الحروب، ونقض نظام الأمة، ومحاربة ولي الأمر؟!

هل هذه عداوة الضرائر؟!:

قال المدائني:

«وكانت أم سلمة بمكة في ذلك العام، فلما رأت صنع عائشة قابلتها بنقيض ذلك، وأظهرت موالاة علي «عليه السلام»، ونصرته على مقتضى العداوة المركوزة في طباع الضرتين»([5]).

ونقول:

إن هذا الكلام غير سليم ولا قويم، وذلك لما يلي:

أولاً: من أين علم المدائني، أو غيره: أن أم سلمة قد انطلقت في موالاتها لعلي «عليه السلام» من عداوتها المركوزة لضرتها عائشة، فهل كشف الله تعالى لهم وله عن قلبها، وأظهر له مشاعرها، وخلجات نفسها، وما استقر في ضميرها؟!

ثانياً: إن البشر يختلفون في مستوى وعيهم، وفي التزامهم الديني، وفي درجات تأثرهم بالقيم، وانقيادهم لأحكام الشريعة، فلماذا لا ينسب موقف أم سلمة وموقف عائشة إلى الإختلاف في هذه الأمور؟!

كما أننا نجد الفرق الكبير ظاهراً بين غيرة عائشة من ضرائرها في عهد الرسول «صلى الله عليه وآله»، وغيرة غيرها من بقية النساء..

ثالثاً: إن قول المدائني المتقدم يتضمن تكذيباً لرسول الله «صلى الله عليه وآله»، إذ من المعلوم: أن أم سلمة حين خطبها النبي «صلى الله عليه وآله» طلبت منه «صلى الله عليه وآله» أن يدعو الله تعالى لها بأن يذهب عنها الغيرة من ضرائرها، فدعا لها بذلك.. ولذلك لم نجد منها طيلة حياتها معه «صلى الله عليه وآله» أية بادرة تدخل في سياق الغيرة من الضرائر([6]).

أما عائشة فغيرتها لم يكن لها حد.. كما تظهره النصوص الناقلة لتصرفاتها([7]).

وهذا الطلب من أم سلمة يدل على شدة مراقبة أم سلمة لنفسها، وتحفظها الشديد على حدود الله إلا إن كان المدائني يزعم أن الله تعالى لم يستجب لنبيه دعاءه، ولا يجرؤ أحد على إطلاق دعوى من هذا القبيل.

رابعاً: لم نعرف عن أم سلمة منذ أسلمت، وتزوجها الرسول «صلى الله عليه وآله»، وسمعت منه «صلى الله عليه وآله» ما سمعته في حق علي «عليه السلام»، وعرفت ما عرفته من فضائله ـ لم نعرف عنها ـ إلا الولاء لعلي «عليه السلام»، والوفاء بما أخذه الله ورسوله عليها وعلى سائر الناس في هذا الأمر، فما معنى أن يعتبر المدائني أن ولاءها قد ظهر بعد البيعة له بالخلافة، وبالتحديد حين أظهرت عائشة الطلب بدم عثمان، وأعلنت عن منابذتها لعلي «عليه السلام»؟!

كتاب أم سلمة إلى علي :

قال ابن أعثم:

«وكتبت أم سلمة «رحمة الله عليها» إلى علي بن أبي طالب «عليه السلام»:

لعبد الله علي أمير المؤمنين، من أم سلمة بنت أبي أمية.

سلام عليك ورحمة الله وبركاته..

أما بعد..

فإن طلحة والزبير، وعائشة، وبنيها بني السوء، وشيعة الضلال خرجوا مع ابن الجزار، عبد الله بن عامر إلى البصرة، يزعمون: أن عثمان بن عفان قتل مظلوماً، وأنهم يطلبون بدمه.

والله كافيكم، وجعل دائرة السوء عليهم إن شاء الله تعالى.

وتالله لولا ما نهى الله عز وجل عنه من خروج النساء من بيوتهن، وما أوصى به رسول الله «صلى الله عليه وآله» عند وفاته لشخصت معك.

لكن قد بعثت إليك بأحب الناس إلى النبي «صلى الله عليه وآله»، ابني عمر بن أبي سلمة، والسلام.

قال: فجاء عمر بن أبي سلمة إلى علي «عليه السلام»، فصار معه. وكان له فضل، وعبادة وعقل([8]).

وعند البلاذري: شهد عمر بن أبي سلمة مع علي «عليه السلام» الجمل، بعثت به معه أمه ـ أم سلمة، وقالت: قد دفعته إليك، وهو أعز عليّ من نفسي. فليشهد مشاهدك، حتى يقضي الله ما هو قاض. فلولا مخالفة الرسول «صلى الله عليه وآله» لخرجت معك، كما خرجت عائشة مع طلحة والزبير([9]).

مدائح الناس لأم سلمة رحمها الله:

قال: فأنشأ رجل من أصحاب علي «عليه السلام» يمدح أم سلمة، وهو يقول أبياتاً مطلعها:

أم، يـا أمـة لُـقِّـيـتِ الــظــفــر            ثـم لا زلـت تُـسَـقِّـيـــن الـمـطر

إلى آخرها..

وذكر بقيتها في الهامش، كما يلي:

أنـت لـلـنـاس جـمـيـعـاً رحمةً           ووقــــاراً ونـجــاحـــاً بـنــظـر

لعل الصحيح: ووقار ونجاح. أو أن الصحيح: كنت.

أعـظـم الخـلـق عـلـيـهـا أنهــا           مـدت الـسـير وقـدت  بـالحـجـر

ثـم قـالـت: إذ رأت مـن أختهـا           مـا رأت والـخـير  قـدمــاً بـقـدر

لابــنــهـــا ائــت عـلـيــاً إنـه             أفـضـل الـنـاس جـمـيـعاً يا عمر

وأطـعـن الخـيـل إذا لاقـيـتـهـا            ...

إلى أن قال:

ثـم فـي الحـرب فـلا يـدرى بـه           ثـم فـي الـرأي كـما الأفعى الذكر

ثم قال ابن أعثم: «ثم أنشأت امرأة أيضاً من نساء بني عبد المطلب، تمدح أم سلمة، زوج النبي «صلى الله عليه وآله»، وتذكر عائشة وفعلها، فقالت أبياتاً، مطلعها:

أبـنـت أبي أمـيـة الـداهـشـــة            بكف إلى الخير لها (كذا) مائشة

وبقيتها في الهامش هكذا:

أطـعـت عـلـيـاً، ولم تـنقُـضـي            كـما نـقـضـت أمـنــا  عـائــشــة

أتــاهـــا الــزبــير بأمـنـيـــة              وطـلـحـة بـالـفـتـنـة الـنـاهـشـة

فــلــم تـركــاهــا على ذنبهـا              وكـانـت لهـا الـنـعـمـة الـنـاعشة

وكـــان دعـاهـا إلى بـغـضـها            بـنـفـس تحـن لـهــــا جـائـشــة

وقــد وقــعــا بـيـن أنـيـابــه               وبـيـن أضـافــيره الخـــامــشــة

ومــا فَــوَّقَــتَ (....) نـبـلها               ومـــا هـــي بـالـنـبــل  بالرائشة

وإن عــلــيــاً لــه صـــــورة              تـدر بـأرجـائـهـا الجـائــشــة([10])

ونقول:

يستوقفنا في هذا النص أمور، نذكر منها:

1 ـ إن وصية النبي «صلى الله عليه وآله» لنسائه كانت عند وفاته. وهذا يعني أنه لا مجال لتوهم أحد أن يكون قد استجد شيء جعله «صلى الله عليه وآله» يسمح لهن أو لبعضهن بالخروج. ولو ادعى أحد ذلك لم يقبل منه.

ولأجل ذلك نلاحظ: أن عائشة لم تستطع أن تتذرع بأية ذريعة لدفع هذا المأخذ عنها، وقد تكرر الاحتجاج عليها بهذا الأمر..

كما أن أحداً من محبيها وانصارها لم يستطع دفع هذا الإشكال عنها، رغم حرصهم الشديد على ذلك.

2 ـ إن هذا النهي النبوي الشريف لنسائه عن الخروج من بيوتهن، والذي صدر في آخر لحظات حياته، قد حصن القرآن الكريم من الافتئات عليه بدعوى نسخه بالسنة النبوية، من قِبَلِ محبي أم المؤمنين، ورغبة منهم في دفع المؤاخذات عنها، وسعياً للتخفيف من حدة النقد الموجه إليها.

3 ـ لا بأس بالتأمل في موقف أم سلمة هذا وما يعبر عنه من التزام دقيق بأحكام الشرع والدين، ومقارنته بإصرار عائشة على مخالفة حكم نزل به القرآن، وأكده رسول الله «صلى الله عليه وآله» حين وفاته، رغم التذكير المستمر، والتحذير المتواصل لها.. ولا نريد أن نقول أكثر من ذلك..

4 ـ إن أم سلمة أظهرت عملياً أنها على استعداد للتضحية بأحب الناس إليها، وهو ولدها، الذي لم يكن شخصاً عادياً، بل كان رجلاً له فضل وعبادة وعقل، ولا شك في أن أمثال هذا الرجل يكون التفريط بهم صعباً. فكيف إذا كانت أمه التي ربته، وهي أعرف الناس بمزاياه وخصائصه؟! هي التي تدفعه إلى ساحات الجهاد بين يدي علي أمير المؤمنين «عليه السلام».

أما عائشة، فإنما كانت تحارب بالآخرين، الذين هم بالنسبة إليها مجرد أرقام يراد لها أن تبقى في خدمة مصالحها، ومصالح الناكثين للعهود، والعقود.

ويشهد لذلك: أنها حين شعرت بأن ابن أختها عبد الله بن الزبير قد وقع في متناول يد الأشتر صرخت: وا ثكل أسماء([11]). وبقي هذا الحدث يمثل ذكرى بالغة المرارة بالنسبة إليها.

5 ـ لقد أخبرتنا أم سلمة: أن لولدها امتيازاً آخر، وهو: أنه كان أحب الناس إلى النبي «صلى الله عليه وآله» وإلى علي «عليه السلام».

والمقصود بالناس هم من عدا أهل البيت «عليهم السلام». ومن صرح رسول الله «صلى الله عليه وآله» وعلي «عليه السلام» بخصوصية لهم عندهم تميزهم عن سائر الناس..

أم سلمة ترسل ولدها:

وبالنسبة لإرسال أم سلمة ولدها إلى علي «عليه السلام» نقول:

1 ـ لم ترد أم سلمة أن تصوب عائشة في فعلها حين قالت: لخرجت معك كما خرجت عائشة مع طلحة والزبير، بل أرادت أن يكون خروجها نصرة للحق، وسعياً في إبطال تأثير خروج عائشة في دعوة الناس إلى قتل بعضهم بعضاً، ومحاربة إمامهم، وتأكيد الشبهة في أذهانهم.

ولكن نهي رسول الله «صلى الله عليه وآله» لنسائه عن الخروج قد دلها على أن في قعودها في بيتها مصلحة أعظم وأهم من هذا الخروج. فآثرت أن تطيع أمر رسول الله «صلى الله عليه وآله»، لأن هذا هو المتوقع منها، وهو الواجب عليها.

2 ـ إن أم سلمة لم تحرم نفسها من ثواب الجهاد بأعلى وأغلى مراتبه، حيث بذلت ولدها، وهو أعز عليها من نفسها للدفاع عن الدين والحق.

فجزى الله هذه المرأة الصابرة والمجاهدة خير جزاء المحسنين، والصابرين والمجاهدين.


([1]) الحوأب: هو ماء قريب من البصرة على طريق مكة إليها، وهو الذي جاء فيه الحديث: أن النبي «صلى الله عليه وآله» قال لعائشة: «لعلك صاحبة الجمل الأدبب، تنبحها كلاب الحوأب». معجم ما استعجم ج2 ص472 وراجع أيضاً: معجم البلدان ج5 ص314 وتهذيب اللغة ج5 ص270.

([2]) الجمل للشيخ المفيد (ط مكتبة الداوري ـ قم) ص124 و 125 والفتوح لابن اعثم ج1 ص456 و 457 وتذكرة الخواص ص65 وحديث كلاب الحوأب من الأحاديث المتواترة، وقد جاء في كثير من المصادر مع بعض الإختلاف، منها ما يلي: المصنف لابن أبي شيبة ج7 ص536 ومسند أحمد ج6 ص52 و 97 والإيضاح لابن شاذان ص75 و 76 والإمامة والسياسة ج1 ص63 وأنساب الأشراف ص224 وتاريخ اليعقوبي ج2 ص181 وتاريخ الأمم والملوك ج4 ص469 والعقد الفريد ج4 ص332 والمحاسن والمساوي ج1 ص76 ومعاني الأخبار ص305 والمسألة الكافية كما في بحار الأنوار ج32 ص279 وأعلام النبوة ص155 وأنساب السمعاني ج2 ص286 ومناقب آل أبي طـالـب ج3 = = ص149 والسرائر ج3 ص627 والنهاية ج1 ص456 ومعجم البلدان ج2 ص314 والكامل في التاريخ ج3 ص210 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج6 ص217 وكفاية الطالب ص171 ونهاية الإرب ج20 ص32 والبداية والنهاية ج7ص230 و 231 ومجمع الزوائد ج7 ص234 والمطالب العالية ج4 ص297 والصواعق المحرقة ص119 وسمط النجوم ج2 ص434 ونور الأبصار ص184 والجمل للمفيد ص232 ـ 234.

([3]) الجمل للشيخ المفيد (ط مكتبة الداوري ـ قم) ص127 و 128 وقارن بالفتوح ج1 ص456 ـ 457 من قوله: «لا والله ما بايعتم» إلى «ولينا ووليكم» ساقط من ط.

([4]) الجمل للشيخ المفيد ص237 و 238 و (ط مكتبة الداوري ـ قم) ص128.

([5]) شرح النهج للمعتزلي ج6 ص216 والغدير ج9 ص83.

([6]) راجع: دعائم الإسلام ج2 ص204 ومستدرك الوسائل ج14 ص415 وجامع = = أحاديث الشيعة ج20 ص454 والطبقات الكبرى لابن سعد ج8 ص91 والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج3 ص410.

([7]) راجع كتابنا: الصحيح من سيرة النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله» (الطبعة الرابعة) ج3 ص291 و (الطبعة الخامسة) ج4 ص106.

([8]) راجع النصوص المتقدمة في كتاب: الفتوح لابن أعثم ج2 ص284 ـ 286 متناً وهامشاً.

([9]) قاموس الرجال ج8 ص156 عن أنساب الأشراف ج1 ص480.

([10]) راجع النصوص المتقدمة في كتاب: الفتوح لابن أعثم ج2 ص284 ـ 286 متناً وهامشاً.

([11]) راجع: شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج1 ص262 وشجرة طوبى ج2 ص320 وج15 ص101 وأنساب الأشراف ج2 ص243 و 244 وجواهر المطالب لابن الدمشقي ج2 ص31 والبداية والنهاية (ط دار إحياء التراث العربي ـ بيروت) ج7 ص272 وإمتاع الأسماع ج13 ص246 وأعيان الشيعة ج1 ص460.

 
 
   
 
 

العودة إلى موقع الميزان