صفحة :341-364   

 

الفصل الثالث: التعبئة الروحية..

أفرغ الله علينا الصبر:

إن أول طلب توجه به «عليه السلام» إلى الله هو أن يفرغ عليه وعليهم الصبر، مشيراً بذلك إلى أمور عديدة:

الأول: إن كون النصر يأتي من الله تعالى لا يعفي المسلمين من المسؤولية، ولا يبيح لهم التفرغ والإهمال، والإنصراف عن التصدي وبذل الجهد..

الثاني: إن هذا التصدي ليس شكلياً، لمجرد إبراء الذمة، وتسجيل الموقف، بل هو جهد مضن، وبذل وعطاء حقيقي، وتضحيات جلَّى بالأموال والأنفس، وبكل ما يمكن الإستفادة منه بصورة صحيحة ومشروعة.. ولأجل ذلك احتاج إلى طلب إفراغ الصبر عليه وعلى أصحابه..

الثالث: إن المطلوب هو إفراغ الصبر على أهل الإيمان، لا مجرد أن يمنحهم تعالى طرفاً منه يتشبثون به، وإفراغ الصبر معناه: أن يستوعب هذا الصبر كل وجودهم، ويشتمل على كيانهم كله، كما تشتمل اللامة على جسد المقاتل كله وتلامسه، وتتآخى معه.. وتلتئم عليه، لتحصنه من بأس الأعداء ومن كل سوء يأتي من قبلهم.. ولذا يقال: «أفرغ عليه لامته. أي لبسها بشكل تام، والتأمت عليه».

الرابع: إن هذا الطلب قد جاء بصيغة فردية وجماعية في آن واحد، بنص صريح فيهما معاً، ولم يقتصر على أحدهما، فقد قال: «علينا وعليكم». لأن الصبر على نحوين:

أحدهما: صبر الشخص بما له من قوة ذاتية، وجهد شخصي وفردي.

والآخر: الجهد المشارك لجهود الغير، المستمد منهم المزيد من المحفزات للتحمل، والذي يسد الثغرات، ويعالج الفجوات والنقائص. ويرتق بعض الفتق، ويفتق من العدو كل رتق.

فقد طلب «عليه السلام» من الله: أن يفرغ عليهم الصبر بما هم أفراد، ولهذا الصبر خصوصياته، وطرائق للحصول عليه، وتقويته وترشيده، والاستفادة منه..

وطلب أن يفرغ عليهم الصبر بما هم جماعة. ولهذا النوع من الصبر خصوصياته. وقد تكون له ميزات وطرائق وصول وحصول، وتقوية، وترشيد، وجهات وشرائط استفادة، تختلف وتتفاوت مع ما للصبر الآخر المرتبط بالفرد من خصوصيات، وأحوال، وغير ذلك..

الخامس: إن بذل الجهد وحده لا يأتي بالنصر، بل هو شرط لاستحقاق الكرامة الإلهية، المستتبعة للتدخل والفيض الإلهي للنصر، حتى وإن كان الجهد الإنساني لا ينتجه في حد نفسه..

وهذا هو الفرق بين الجهد الذي يبذله أعداء الله، ويتحقق به النصر لهم، فإنه جهد يكفي لتحقيق النصر الإلهي أيضاً بذاته، ولكنه يبقى بالنسبة لأعداء الله في معرض الزوال بسبب الخذلان الإلهي، الذي يسقطه من دون المساس باختيار أولئك الناس.. بل بتحريك الأسباب الخارجة عن دائرة اختيارهم..

السادس: أما قوله «عليه السلام»: «لنا ولكم».. فالظاهر: أن المراد بقوله: «لنا» هو نفس علي «عليه السلام»، لأنه الإمام والحاكم والعنوان، والحافظ للإسلام كله.. فإنه يحتاج إلى أعظم درجات الصبر، والتحمل لكل أنواع الأذى في سبيل حفظ الدين وشرائعه وأحكامه، ومفاهيمه وقيمه وأهله، والبلاد والعباد..

والمراد بقوله: «ولكم» هو الناس الذين هم في عسكره بما هم مسلمون، فإنهم مسؤولون عن حفظ دينهم وإنسانهم، وبلادهم، وأموالهم وأعراضهم، وعن مؤازرة إمامهم ووصي نبيهم في مواجهة أعظم التحديات، بكل ما آتاهم الله من قوة وحول.

وهذا يجعلهم بحاجة إلى المدد والتأييد الإلهي، وإلى الصبر والتحمل إلى أقصى مدى..

أعز لنا ولكم النصر:

ثم إنه «عليه السلام» طلب النصر من الله تعالى، حيث قال: «أعز لنا ولكم النصر». فأشار:

أولاً: إلى أن النصر وإن كان يحتاج إلى جهد وبذل، وتضحية، ولكنه مرتبط بالله تعالى أيضاً، كما شرحناه في الفقرة السابقة.. فإن الله تعالى لا يمنح النصر للخانعين والمتخاذلين، لعدم أهليتهم له، وعدم لياقتهم للكرامة الإلهية..

ثانياً: إن النصر قد يكون عزيزاً، وهو النصر الظاهر والباهر والحاسم، الذي يقلَّ نظيره، والذي يعطي العزة، والأمن، وفراغ البال، والشوكة، والعظمة والهيبة، ويمنح المنتصر القدرة على تحقيق مرامه الأقصى بأيسر الوجوه وأتمها، ومن دون أن يخشى كرَّة عدوه، حيث يكون قد أبار كيده، وقضى على كل نبضات الحياة والقوة لديه..

وهذا بالذات هو النصر الذي طلبه «عليه السلام» لنفسه ولأصحابه، ولم يطلب نصراً في معركة، ولا نصراً يبقى للعدو معه شوكة، وقوة وكيان.

ثالثاً: قد ظهر أن المقصود بقوله: «لنا ولكم» هو نفس ما ذكرناه في الأمر السادس في الفقرة السابقة.

كان الله ظهيرنا في كل أمر:

ثم طلب «عليه السلام» من الله تعالى المعونة والتأييد، فقال:

«وكان لنا ولكم ظهيراً في كل أمر».. وقد تضمنت هذه الفقرة بالإضافة إلى ما أشار إليه بقوله: «لنا ولكم»، وما ذكر من أهمية بذل الجهد والتضحية في الحصول على المعونة والنصر والتأييد الإلهي، حسبما أوضحناه فيما أسلفناه.. ـ تضمنت ـ ما يلي:

أولاً: الظهير: هو المعين.. والمطلوب هنا: هو دفع توهم أن يكون العمل الذي هو شرط في المدد الإلهي، وإنزال النصر العزيز. هو جهد يستقل الإنسان بإنجازه ويتولاه بمفرده، بحيث يكون عمل الإنسان في جانب، ويكون النصر والمدد الإلهي هو الجانب الآخر.

فجاء هذا الطلب الذي يقول: وكان لنا ولكم ظهيراً في كل أمر، ليدلنا على: أن الإنسان بحاجة إلى المدد والمعونة الإلهية حتى في هذا الجهد الذي هو الشرط لاستحقاقه النصر أيضاً..

وبعبارة أخرى: إن الإنسان يحتاج إلى معونة الله أولاً في نفس العمل الذي يقوم به، ليكون شرطاً للنصر أولاً، ويحتاج إلى الله في إيجاد الصبر وزيادة التحمل لديه ثانياً.. ويحتاج إلى الله في تحقيق نفس النصر ثالثاً.. ويحتاج إلى الله في جعله نصراً عزيزاً رابعاً..

ثانياً: إنه «عليه السلام» قد أوضح أيضاً: أن الحاجة إلى الله تعالى لا تنحصر في دفع العدو، بل يحتاج البشر إلى معونته تعالى في كل أمورهم. وكأن هذا بمثابة الدليل على لزوم طلب النصر والمعونة من الله تعالى: فيصير هذا المورد من القضايا التي قياساتها، أو فقل: دليلها معها. أي أن ظهور حاجة الإنسان إلى المعونة الإلهية في كل أمر يجعل طلبه المعونة والتأييد في مورد حرب الأعداء بطريق أشد وآكد وأولى.. فهو من قبيل قوله تعالى: ﴿فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ﴾([1]). في الدلالة على حرمة ضرب الوالدين..

لماذا خصوص هذه الآية؟!:

قالوا: «وطاف علي «عليه السلام» على أصحابه، وهو يقرأ: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ([2]).

ثم قال «عليه السلام»: أفرغ الله علينا وعليكم الصبر، وأعزَّ لنا ولكم النصر، وكان لنا ولكم ظهيراً في كل أمر»([3]).

ثم رفع مصحفاً بيده، فقال: من يأخذ هذا المصحف، فيدعوهم إلى ما فيه.. ثم تذكر الرواية حديث الشاب الذي حمل المصحف إلى الناكثين، فأمرتهم عائشة بقتله الخ..

ونقول:

إن لقراءته «عليه السلام» للآية المباركة وهو يطوف على أصحابه أهدافاً ومقاصد شريفة، وإشارات لطيفة، لا مجال لبسط القول فيها.. ولعل كثيراً منها لا تناله أفهامنا القاصرة. ولا تحيط به عقولنا، ولا تبلغه أوهامنا.. ولكننا عملاً بمقولة: ما لا يدرك كله، لا يترك جله، نشير إلى بضعة نقاط، هي التالية:

1 ـ إنه «عليه السلام» من خلال قراءته لهذه الآية على مسامع أصحابه قد أفهمهم: أن عليهم أن يكون لهم هدف نبيل وجليل في حياتهم، إذ لا معنى للحياة، بلا هدف، لأنها تصبح حياة عبثية، وبلا قيمة، ولا مبرر..

2 ـ إنه «عليه السلام» من موقع إمامته وقيادته للأمة، وكونه هو المربي لها، والمهتم بشؤونها، والعامل لرفع مستواها الإنساني، والإيماني والأخلاقي، والسلوكي، وهو الذي يذكي فيها الطموح، وينشر القيم، ويحدد الأهداف ـ إنه «عليه السلام» قد حدد لأصحابه ـ في أكثر اللحظات حساسية وأهمية هدفاً سامياً ونبيلاً، يتناسب مع إيمانهم وفكرهم، وسعيهم، وجهدهم، وجهادهم، وطموحهم.. وهو الحصول على رضا الله تعالى، أو نيل ألطافه ودخول جنانه..

3 ـ لقد أفهمهم: أن نيل الأماني لا يكون بمجرد التمني.. بل يحتاج إلى الجهد والعمل، والصبر على المصاعب..

4 ـ إنه «عليه السلام» قد أفهمهم أن ما يطلب منهم من جهد، وعمل وتضحية وصبر على المتاعب والمصاعب ليس أمراً ينفردون به، لكي يشعروا بالمرارة والمظلومية، بل هو السنة الإلهية الجارية في الخلق في كل زمان..

وأفهمهم أنهم ليسوا هم أول من تجري هذه السنة فيه، بل سبقتهم الأمم إلى خوض غمار التجربة.. فجدوا وجاهدوا، واجتهدوا وبذلوا، وصبروا.

ومن الطبيعي: أن الإنسان الذي يسير في الفلاة وحده يستوحش ويتردد، ويخاف، ويحاول الخروج والهروب من الواقع الذي هو فيه..

أما إذا عرف أنه ليس وحده، بل هو أحد الحلقات في سلسلة تتلاحق حلقاتها، أو قافلة سبقتها وستلحقها مثيلاتها، فسوف تسكن نفسه، ويطمئن قلبه، وترضى روحه..

5 ـ واللافت هنا: أنه تعالى لم يقل: ولمَّا يجر لكم ما جرى للذين من قبلكم.. بل قال: ﴿وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ([4]). حيث ضمَّن الكلام إلزامية حدوث ذلك التماثل في ترتب الآثار، وحصول الغايات، ولو قال: لمَّا يجر لكم، لم يفهم هذا المعنى، بل قد يفهم أن الأمر اتفاقي الحصول، وليس سنة من السنن..

6 ـ إن الآية قد ألمحت أيضاً إلى أن إتيان المثل هو الذي يحتاجون إليه، وليس إتيان خبر ذلك إليهم .. وإتيان المثل معناه التجسد العملي لما يشبه ما جرى للأمم السالفة..

7 ـ إن التعبير بكلمة «لمَّا» يفيد توقع واقتراب ومشارفة الحصول في الواقع العملي.. وارتهان الحصول على الجنة بهذا الحصول العملي.

8 ـ والتعبير بـ «خَلَوْا» لعله لإفادة انقطاع الصلة بالسابقين، وأنه لا يتحدث عن سابق اتصل زمانه بزمانهم..

9 ـ إنه «عليه السلام» قد أفهمهم أيضاً، من خلال هذه الآية المباركة: أن ما سوف يواجهونه سيكون في ثلاثة اتجاهات.

أولها: الشدائد التي تأتي من خارج نفس الإنسان، مثل الضائقة المالية، أو شح المياه، أو ذهاب الجاه، أو المصيبة في الأهل، أو غير ذلك.. فإن البأساء ضد النعماء..

الثاني: ما يلحق الإنسان من ضرر وسوء حال في نفسه، مثل القتل، أو الجرح، أو المرض، أو نقص جارحة. وهو ما يسمى بالضراء، في مقابل السراء..

والمراد: أن تمسهم البأساء والضراء بآلامها، لا مجرد عروضها..

الثالث: المصائب والفتن والبلايا الهائلة، الموجبة لاضطراب الأحوال، وعدم الثبات، والتزلزل الذي يعني عدم القدرة على حسم الأمور، بسبب الاضطراب في فهم الأمور، وعدم القدرة على اتخاذ القرار، ثم العجز عن الإجراء والتنفيذ..

10 ـ وهذه الأمور الثلاثة هي الوصف الدقيق للحالة التي كان يواجهها الناس في حرب الجمل.. فإن للحرب ضغوطها وشدائدها النفسية، والإقتصادية، في مجال العلاقات، وفيها الكثير من الأخطار، التي تتهدد الإنسان المسلم في دينه، وفي دنياه على كل صعيد..

وتلامس هذه الضراء، والبأساء بأجلى وأدق المعاني وجود الإنسان المسلم، وحياته، وكل واقعه، وفي جميع المجالات..

هذا بالإضافة إلى الإحراجات، وإلى تأثير الشبهات والشائعات على كل صعيد.

إذ يكفي أن ينظر الإنسان في الواقع من حوله، فيرى في هذا الجانب إمامه علياً «عليه السلام»، ووصي رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وأخاه، وزوج ابنته، وصاحب بيعة يوم الغدير، وأفضل الخلق، وأعلمهم، وأقربهم من رسول الله «صلى الله عليه وآله».. والخليفة الذي أجمعت الأمة عليه، وأرادته على الخلافة، فتمنَّع من قبولها أياماً كثيرة، ثم قبلها.. وهو الذي أصبح الخروج عليه محرماً بنص القرآن الكريم إلخ..

وينظر إلى الجهة الأخرى، فيرى فيها: عائشة زوجة رسول الله «صلى الله عليه وآله» وأم المؤمنين، وبنت أبي بكر، ومدللة عمر، وهي المرأة الجريئة، وذات النفوذ الواسع.. التي جاءت لتكرس نهجاً يقوم على مخالفة القرآن والسنة، ويسعى إلى تغيير النظام بالقوة..

وهي تطلق شعار الأخذ بثأر عثمان، وقد يتوهم الناس: أنه شعار معقول في ظاهره، وقليل هم الذين يعرفون مكامن الخلل فيه.. وهو أيضاً يسمع زعماء الناكثين يتهمون علياً «عليه السلام» بدم عثمان..

فيتحير في موقفه، ولا يدري مع من يكون، ومن يحارب، وقد لا يكون قادراً على حسم خياره بسهولة.. فيقع في المحذور الكبير والخطير.

11 ـ ومن جهة أخرى: إن كل ناظر من حوله، من أنصار عائشة بالخصوص، سيجد شراسة هائلة لدى أصحاب علي «عليه السلام» في دفاعهم عن الحق. وعن أهله.. وسخاء لا يوصف بالأرواح في نصرة الدين وأهل الدين..

كما سيرى أن أصحاب علي «عليه السلام» سيجدون لدى أصحاب عائشة إصراراً عظيماً على نصرتها، وحرصاً لا يوصف على بذل الأنفس والأرواح دفاعاً عنها.. وسوف تمسهم البأساء والضراء بذلك.. دون أن يكون لهم منهما أي خلاص أو مناص..

كما أن الناس سوف يواجهون في مثل هذه الحال سيلاً هائلاً من الشائعات والشبهات المضللة، التي تريد أن تجعل الباطل حقاً والحق باطلاً.. وسيهتز كيانهم وكل وجودهم، من الأعماق أيضاً نتيجة لذلك..

وسيقول علي «عليه السلام» والذين آمنوا معه، وهم يواجهون ذلك كله بصبر وأناة: متى نصر الله، لأنهم يعرفون ويشعرون: أن القوة لله جميعاً وأن النصر لا بد أن يأتي من عنده، فهم يتوقعونه، منه ولا يعتمدون إلا عليه، لا على قدراتهم الذاتية..

12 ـ وتأتيهم بشائر النصر الإلهي القريب من خلال علامات ودلالات، كثيرة تظهر لهم، ولعل منها: قتل طلحة في بدايات المعركة، فضلاً عن ظهور خذلان الناكثين من خلال اعترافاتهم العملية والقولية بما يبطل دعاواهم.. كما حصل من الزبير حين اعترف لعلي «عليه السلام» بما قاله رسول الله «صلى الله عليه وآله»، له عن علي «عليه السلام»: «ستقاتله وأنت له ظالم».. ثم تراجعه عن الحرب، وإن كان قد عاد إليها، فهزم شر هزيمة وقتل..

13 ـ وأما الدعاء الذي دعا به «عليه السلام» لأصحابه بعد تلاوته هذه الآية، فقد تضمن أموراً ثلاثة، هي:

ألف: أفرغ الله علينا وعليكم الصبر..

ب: أعزّ لنا ولكم النصر.

ج: وكان لنا ولكم ظهيراً في كل أمر([5]).

دعاء.. وابتهال:

1 ـ قال الإمام الصادق «عليه السلام»: لما توافق [لعل الصحيح: تواقف] الناس يوم الجمل، خرج علي «صلوات الله عليه» حتى وقف بين الصفين، ثم رفع يده نحو السماء، ثم قال: يا خير من أفضت إليه القلوب، ودعي بالألسن، يا حسن البلايا، يا جزيل العطاء، احكم بيننا وبين قومنا بالحق، وأنت خير الحاكمين([6]).

2 ـ وعن الإمام علي «عليه السلام» ـ في دعائه يوم الجمل ـ: «اللهم إني أحمدك ـ وأنت للحمد أهل ـ على حسن صنعك إليَّ، وتعطفك علي، وعلى ما وصلتني به من نورك، وتداركتني به من رحمتك، وأسبغت علي من نعمتك، فقد اصطنعت عندي ـ يا مولاي ـ ما يحق لك به جهدي وشكري؛ لحسن عفوك، وبلائك القديم عندي، وتظاهر نعمائك علي، وتتابع أياديك لدي، لم أبلغ إحراز حظي، ولا صلاح نفسي.

ولكنك يا مولاي بدأتني أولاً بإحسانك، فهديتني لدينك، وعرفتني نفسك، وثبتني في أموري كلها بالكفاية والصنع لي، فصرفت عني جهد البلاء، ومنعت مني محذور الأشياء، فلست أذكر منك إلا جميلاً، ولم أر منك إلا تفضيلاً.

يا إلهي، كم من بلاء وجهد صرفته عني، وأريتنيه في غيري، فكم من نعمة أقررت بها عيني، وكم من صنيعة شريفة لك عندي.

إلهي أنت الذي تجيب عند الاضطرار دعوتي، وأنت الذي تنفس عند الغموم كربتي، وأنت الذي تأخذ لي من الأعداء بظلامتي، فما وجدتك ولا أجدك بعيداً مني حين أريدك، ولا منقبضاً عني حين أسألك، ولا معرضاً عني حين أدعوك، فأنت إلهي، أجد صنيعك عندي محموداً، وحسن بلائك عندي موجوداً، وجميع أفعالك عندي جميلاً، يحمدك لساني، وعقلي، وجوارحي، وجميع ما أقلت الأرض مني.

يا مولاي، أسألك بنورك الذي اشتققته من عظمتك، وعظمتك التي اشتققتها من مشيتك، وأسألك باسمك الذي علا أن تمن علي بواجب شكري نعمتك.

رب ما أحرصني على ما زهدتني فيه وحثثتني عليه! إن لم تعني على دنياي بزهد، وعلى آخرتي بتقواي، هلكت.

ربي، دعتني دواعي الدنيا؛ من حرث النساء والبنين، فأجبتها سريعاً، وركنت إليها طائعاً. ودعتني دواعي الآخرة من الزهد والاجتهاد فكبوت لها، ولم أسارع إليها مسارعتي إلى الحطام الهامد، والهشيم البائد، والسراب الذاهب عن قليل.

رب خوفتني وشوقتني واحتجبت علي([7])، فما خفتك حق خوفك، وأخاف أن أكون قد تثبطت عن السعي لك، وتهاونت بشيء من احتجابك.

اللهم فاجعل في هذه الدنيا سعيي لك وفي طاعتك، واملأ قلبي خوفاً، وحوَّل تثبيطي وتهاوني وتفريطي وكل ما أخافه من نفسي فَرَقَاً([8]) منك، وصبراً على طاعتك، وعملاً به، يا ذا الجلال والاكرام.

واجعل جُنَّتي من الخطايا حصينة، وحسناتي مضاعفة؛ فإنك تضاعف لمن تشاء.

اللهم اجعل درجاتي في الجنان رفيعة، وأعوذ بك ربي من رفيع المطعم والمشرب، وأعوذ بك من شر ما أعلم ومن شر ما لا أعلم، وأعوذ بك من الفواحش كلها؛ ما ظهر منها وما بطن.

وأعوذ بك ربي أن أشتري الجهل بالعلم كما اشترى غيري، أو السفه بالحلم، أو الجزع بالصبر، أو الضلالة بالهدى، أو الكفر بالإيمان.

يا رب من علي بذلك؛ فإنك تتولى الصالحين، ولا تضيع أجر المحسنين، والحمد لله رب العالمين»([9]).

3 ـ قال الشيخ المفيد «رحمه الله»: لما رأى أمير المؤمنين «عليه السلام» ما قدم عليه القوم من العناد، واستحلوه من سفك الدم الحرام، رفع يديه إلى السماء وقال:

اللهم إليك شخصت الأبصار، وبُسطت الأيدي، وأفضت القلوب، وتقربت إليك بالأعمال، ﴿رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ ([10])»([11]).

ونقول:

لا بأس بملاحظة الأمور التالية:

رفع اليدين إلى السماء في الدعاء:

تقدم: أن أمير المؤمنين «عليه السلام» رفع يديه بالدعاء نحو السماء.. وهذا يثير بعض الأسئلة، فهل الله تعالى في السماء ليرفع الداعي يديه إليه، ويطلب منه؟!

وما فائدة رفع اليدين على هذا النحو؟!

ويجاب بما يلي:

أولاً: إن الله تعالى كان ولا مكان.. وليس له مكان، فرفع اليدين إلى جهة السماء لا يعني أنه تعالى في السماء..

ثانياً: قد بينت الروايات: أن الله تعالى هو الذي أمرنا برفع أيدينا إلى جهة السماء حين الدعاء لعدة أسباب:

أولهما: إظهار التذلل والإستكانة، وعلامة على العبودية.

الثاني: إن الإنسان حين يحتاج إلى المعونة، فإنه سيبحث عن المعين، وسيتوقع الجهة التي يأتيه منها العون، وهو يشعر بأن من يعينه له تسلط وهيمنة وعظمة.. وجهة العلو هي التي ترمز إلى ذلك كله، بل إنك تجد حتى فراخ الطير ترفع رأسها فاغرة أفواهها تطلب الطعام وتتوقعه من الأعلى.

الثالث: إنه تعالى قد جعل العرش معدن الرزق، وقال تعالى: ﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ([12]).. فلاحظ ما يلي:

1 ـ روي: أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» كان يرفع يديه إذا ابتهل ودعا كما يستطعم المسكين([13]).

2 ـ كان فيما أوحى الله إلى موسى «عليه السلام»: ألقِ كفيك ذلاً بين يدي، كفعل العبد المستصرخ إلى سيده، فإذا فعلت ذلك رُحِمْتَ، وأنا أكرم القادرين([14]).

3 ـ روي: أن زنديقاً سأل أبا عبد الله «عليه السلام» فقال: ما الفرق بين أن ترفعوا أيديكم إلى السماء وبين أن تخفضوها نحو الأرض؟!

قال أبو عبد الله «عليه السلام»: ذلك في علمه وإحاطته وقدرته سواء، ولكنه عز وجل أمر أولياءه وعباده برفع أيديهم إلى السماء نحو العرش، لأنه جعله معدن الرزق.

فثبتنا ما ثبته القرآن والأخبار عن الرسول «صلى الله عليه وآله» حين قال: ارفعوا أيديكم إلى الله عز وجل([15]).

4 ـ عن أبي عبد الله «عليه السلام»: أن أمير المؤمنين «عليه السلام» قال:

إذا فرغ أحدكم من الصلاة، فليرفع يديه إلى السماء، ولينصب في الدعاء.

فقال ابن سبأ: يا أمير المؤمنين، أليس الله في كل مكان؟!

قال: بلى.

قال: فلم يرفع يديه إلى السماء؟!

قال: أما تقرأ في القرآن: ﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ﴾؟!([16]). فمن أين طلب الرزق إلا من موضعه؟! وموضع الرزق وما وعد الله السماء([17]).

5 ـ وسأل أبو قرة الإمام الرضا «عليه السلام»: ما بالكم إذا دعوتم رفعتم أيديكم إلى السماء؟!

قال أبو الحسن «عليه السلام»: إن الله استعبد خلقه بضروب من العبادة..

إلى أن قال: واستعبد خلقه عند الدعاء والطلب والتضرع ببسط الأيدي ورفعها إلى السماء لحال الاستكانة وعلامة العبودية والتذلل له([18]).

الأدعية في الحرب:

أما ما يرتبط بمضامين هذه الأدعية، فهي جليلة وجميلة، وفيها من روائع المعاني ما يدهش العقول، ويذهل الألباب. وشرح ذلك يحتاج إلى وقت طويل، وتفرغ تام، وتأليف مستقل..

ونحن نسجل هنا ملاحظات يسيرة جداً تيمناً وتبركاً. فلاحظ ما يلي:

الدعاء بين الصفين، لماذا؟!.. وبماذا؟!

1 ـ لقد كان بإمكان علي «عليه السلام» أن يدعو الله تعالى بين جمع أصحابه، لكي يعبئهم روحياً، ويربطهم بالله، ويشحذ هممهم..

ولكنه آثر أن يدعو بين الصفين، لأنه إمام لجميع الناس شاء الناس أم أبوا. وعليه واجبات تجاه الجميع.. فإذا دعا بين الصفين فلعل أحداً من الفريق الآخر يتأثر بهذا الدعاء، ويراجع حساباته، ويبحث عن الحق الذي طلب علي «عليه السلام» من الله تعالى أن يحكم به بينه وبين الذين جاؤوا لحربه. والله خير حاكم بين عباده، لأنه لا يمكن أن يحكم بغير الحق والعدل.

2 ـ إن نفس طلب علي «عليه السلام» هذا في لحظة الإبتهال والدعاء، يدل على يقينه بأن الحق له، ومعه، وعلى أن مناوئيه ظالمون له، ومعتدون عليه..

3 ـ إن نفس تعبيره «عليه السلام» عن الذين نكثوا بيعته بـ «قومنا» يشير إلى أنه لا يزال يعتبرهم قومه إلى تلك اللحظة، ولكن الأمر يختلف من لحظة الإحتكام إلى السيف.. فيصير هؤلاء أمة، وأولئك أمة.

4 ـ واللافت هنا: أن محاربي علي «عليه السلام» قد ألغوا كل القواسم المشتركة والجوامع التي تجمع بينهم وبين علي «عليه السلام» وأصحابه ولجأوا إلى السلاح.. ولكن علياً «عليه السلام» قد أبقى على الجامع الأهم، وهو الحق ليكون هو الفيصل والحكم بينه وبين قومه..

وهذا غاية الإنصاف: أن يبذل لعدوه الرجوع إلى الحق، والإلتزام به في لحظة هي الأشد حرجاً، حيث تهيمن على الإنسان فيها حالة الغضب والتشنج والإنفعال. ويصبح كل همه هو الدفاع عن نفسه، والبطش بعدوه..

علاقة الإنسان بالله:

وقد لاحظنا: أن النص الثاني لدعاء علي «عليه السلام» قد بدأ ببيان أصناف نعم الله، وفواضله، وإحسانه وأياديه لدى هذا الإنسان.. ليؤكد شعور الإنسان بالحضور بين يديه تعالى، وليبعث ومضات الحنين إليه تعالى، لتسهم في إشاعة جو رضي، وهني ينتهي بالرضا الإلهي الذي يغمر وجوده بالحنان، وقلبه بالمحبة، ويشيع الأنس في روحه، والسلام في حنايا وجوده، وليخجل من نفسه أن يراه الله في غير مواقع رضاه سبحانه، ويحقر كل عيش في غير مواقع الكرامة الإلهية. والألطاف والرعاية الربانية.

النصر من عند الله:

ثم إنه «عليه السلام» أشار في المقطع الثاني من كلامه إلى أن الله تعالى هو الملجأ له في الملمات وهو الآخذ له بظلامته من أعدائه، والصارف للبلاء عنه.. وهو يقول هذا أمام جيشه، الذي يواجه عدوه، ويريد أن يباشر القتال دفاعاً عن قضيته..

فقد يقال: إن هذا الكلام قد يدعو بعض مناصريه للتراخي في نصرته. لأنه يرى أن نصرته ليست ذات أهمية عنده، ولا تقع موضع الاستحسان لديه، فها هو ذا يصرح بذلك، وينسب كل شيء إلى الله تعالى.

ونجيب:

بأن هذا الكلام إنما يصح بالنسبة لمن كان منافقاً، أو ضعيف الإيمان.. أما المؤمنون الصادقون، فإن هذا اللجوء إلى الله يقوي من عزيمتهم، ويزيد من تصميمهم على نصرته، وهو يطمئنهم ويسعدهم..

بل إن هذه الثقة بالله، وهذه التعابير الجازمة بأن الله تعالى كان دائماً معه وإلى جانبه في كل أحواله من شأنها إذا أحسن أصحابه فهمها أن تؤكد تصميمهم على نصرته وتزيدهم اندفاعاً وتفانياً في الدفاع عنه وعن قضيته، وحرصاً على الكون معه، وتضاعف سرورهم، وابتهاجهم به.

كما أن من شأن هذا أن يكبت أعداءه، ويكسر شوكتهم، ويضاعف ترددهم وربما يدعو بعضهم إلى إعادة النظر في موقفه.

على أن هذا السياق الذي ورد فيه هذا الدعاء الشريف قد يدعو مناوئيه أو بعضهم إلى السؤال عن تاريخ علي «عليه السلام»، ليلتمس الشواهد التي اعتمد عليها «عليه السلام» في إيراد هذا الدعاء بهذه التعابير اليقينية التي تحكي تاريخاً حافلاً بالمفردات التي ظهرت فيها هذه الرعاية الإلهية..


([1]) الآية 23 من سورة الإسراء.

([2]) الآية 214 من سورة البقرة.

([3]) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج9 ص111 و 112 وأعيان الشيعة ج1 ص457.

([4]) الآية 214 من سورة البقرة.

([5]) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج9 ص111 و 112 وأعيان الشيعة ج1 ص457.

([6]) شرح الأخبار ج1 ص387 وموسوعة الإمام علي بن أبي طالب ج5 ص225 عنه، ومستدرك الوسائل ج11 ص108 ونهج السعادة ج6 ص294.

([7]) كذا. وفي بحار الأنوار نقلاً عن المصدر «احتججت» وهو أنسب.

([8]) الفرق: الخوف والفزع. راجع: النهاية ج3 ص438.

([9]) مهج الدعوات 125 وبحار الأنوار ج94 ص234 ح9 وموسوعة الإمام علي بن أبي طالب ج5 ص225 و 227 عنهما، ومستدرك الوسائل ج11 ص110.

([10]) الآية 89 من سورة الأعراف.

([11]) الجمل للمفيد ص341 و (ط مكتبة الداوري) ص182 وموسوعة الإمام علي بن أبي طالب ج5 ص225 عنه، ونهج السعادة ج6 ص295.

([12]) الآية 22 من سورة الذاريات.

([13]) عدة الداعي ص182 ووسائل الشيعة (آل البيت) ج7 ص46 و (الإسلامية) ج4 ص1100 عنه، وبحار الأنوار ج16 ص287 وج90 ص294 و 306 و 339 والأمالي للطوسي ج2 ص198 والدعوات للراوندي ص22 وكشف اللثام (ط.ج) ج4 ص152 و (ط.ق) ج1 ص237 وجواهر الكلام ج10 ص371 ومكارم الأخلاق للطبرسي ص268 وتاريخ بغداد ج8 ص62 وسنن النبي للطباطبائي ص351 .

([14]) الكافي ج8 ص46 ووسائل الشيعة (آل البيت) ج7 ص47 و (الإسلامية) ج4 ص1100 وعدة الداعي ص182 و 183 والجواهر السنية ص36 و 75 وبحار الأنوار ج74 ص36 وج90 ص307 و أعلام الدين في صفات المؤمنين ص221.

([15]) التوحيد للصدوق ص248 ووسائل الشيعة (آل البيت) ج7 ص47 و (الإسلامية) ج4 ص1100 والإحتجاج للطبرسي ج2 ص71 وبحار الأنوار ج3 ص30 و 331 وج10 ص133 وج90 ص309 ونور البراهين ج2 ص47 ونور الثقلين ج5 ص125.

([16]) الآية 22 من سورة الذاريات.

([17]) من لا يحضره الفقيه ج1 ص213 و (ط جماعة المدرسين) ج1 ص325 والخصال (حديث الأربع مئة) ج2 ص628 و 629 وعلل الشرائع ج2 ص344 وتهذيب الأحكام ج2 ص322 ووسائل الشيعة (آل البيت) ج6 ص487 و (الإسلامية) ج1 ص1057 ومستدرك الوسائل ج5 ص185 وبحار الأنوار ج10 ص107 والوافي ج5 ص118 والحدائق ج8 ص511.

([18]) الإحتجاج للطبرسي ج2 ص187 ووسائل الشيعة (آل البيت) ج7 ص47 و (الإسلامية) ج4 ص1101 وبحار الأنوار ج10 ص346 وحياة الإمام الرضا للقرشي ج1 ص133.

 
 
   
 
 

العودة إلى موقع الميزان