تقديم

   

صفحة :    15-18

تقديم([1])

بداية:

إن حياة المجتمعات ليست أحداثاً متباينة ومنفصلة عن بعضها البعض، وإنما هي استمرار، يضع الماضي كل ما حصل عليه من عمله الدائب، وجهاده المستمر في صميم هذا الحاضر، ليستمد منه الكثير من عناصر قوته وحركته، ووسائل تطوره، ثم تقدمه بخطى ثابتة ومطمئنة نحو المستقبل الذي يطمح له، ويصبو إليه.

فمن الطبيعي إذن، أن نجد لكثير من الأحداث التاريخية، حتى تلك التي توغلت في أعماق التاريخ، حتى لا يكاد يظهر لنا منها شيء ـ نجد لها ـ آثاراً بارزة، حتى في واقع حياتنا اليومية الحاضرة، بل تظهر آثارها في حياة الشعوب، وفي تصرفاتها، بل وفي مفاهيمها وعواطفها، فضلاً عن تأثيرها على الحالة الدينية، والأدبية، والعلمية، والسياسية والاقتصادية، والعلاقات الاجتماعية، وغير ذلك.

وإن كان تأثير هذه الأحداث يختلف شمولاً وعمقاً من أمة لأخرى،


 

ومن شعب لآخر أيضاً.

مهمة التاريخ:

أما مهمة التاريخ، فهي أن يعكس بدقة وأمانة حياة الأمة في الماضي، وما مرت به من أوضاع وأحوال، وما تعرضت له من هزات فكرية، وأزمات اقتصادية واجتماعية وغيرها.

وهذا يؤكد لنا أهمية التاريخ، ويبرز مدى تأثيره في الحياة، ويعرفنا سر اهتمام الأمم على اختلافها به تدويناً، ودرساً، وبحثاً، وتمحيصاً، وتعليلاً. فهي تريد أن تتعرف من خلال ذلك على بعض الملامح الخفية لواقعها الذي تعيشه.

ولتستفيد منه كلبنة قوية وصلبة لمستقبلها الذي تقدم عليه، ولتكتشف منه أيضاً بعضاً من عوامل رقيها وانحطاطها، ليكون ذلك معيناً لها على بناء نفسها بناء قوياً وسليماً، والإعداد لمستقبلها على أسس متينة وقوية وراسخة.

ونحن هل نملك تاريخاً:

ونحن أمة تريد أن تحيا الحياة بكل قوتها وحيويتها، وفاعليتها، ولكننا في الوقت الذي نملك فيه أغنى تاريخ عرفته أمة، لا نملك من كتب التاريخ والتراث ما نستطيع أن نعوِّل عليه في إعطاء صورة كاملة وشاملة ودقيقة عن كل ما سلف من أحداث؛ لأن أكثر ما كتب منه تتحكم فيه النظرة الضيقة، ويهيمن عليه التعصب والهوى المذهبي، ويسير في اتجاه التزلف للحكام.

وأقصد ب‍ـ «النظرة الضيقة» عملية ملاحظة الحدث منفصلاً عن جذوره وأسبابه، ثم عن نتائجه وآثاره.

وبكلمة أوضح وأصرح:

إن ما لدينا هو ـ في الأكثر ـ تاريخ الحكام والسلاطين، وحتى تاريخ الحكام هذا، فإنه قد جاء مشوَّهاً وممسوخاً، ولا يستطيع أن يعكس بأمانة وحَيَدةٍ الصورة الحقيقية لحياتهم ولتصرفاتهم ومواقفهم؛ لأن المؤرخ كان لا يسجل إلا ما يتوافق مع هوى الحاكم، وينسجم مع ميوله، ويخدم مصالحه، مهما كان ذلك مخالفاً للواقع، ولما يعتقده المؤرخ نفسه ويميل إليه.

ومن هنا، فإننا لا نفاجأ إذا رأينا المؤرخ يهتم بأمور تافهة وحقيرة، فيسهب القول في وصف مجلس شراب، أو منادمة لأمير أو حاكم، أو يختلق أحداثاً، أو شخصيات لا وجود لها، ثم يُهمل أحداثاً خطيرة، أو يتجاهل شخصيات لها مكانتها وأثرها العميق في التاريخ، وفي الأمة، أو يشوه أموراً صدرت من الحاكم نفسه، أو من غيره، أو يحيطها ـ لسبب أو لآخر ـ بالكتمان، ويثير حولها هالة من الإبهام والغموض.

دراسة التاريخ:

إذن، فلا بد لمن يريد دراسة التاريخ والاستفادة من الكتب التاريخية والتراثية، من أن يقرأها بحذر ووعي، وبدقة وتأمل، حتى لا يقع في فخ التضليل والتجهيل.

فلا بد له من أن يفتح عينيه وقلبه على كل كلمة تمر به، ويحاول قدر المستطاع أن يستنطقها، ويستخلص منها ما ينسجم مع الواقع، مما تؤيده الدلائل والشواهد المتضافرة، ويرفض أو يتوقف في كل ما تلاعبت به الأهواء، وأثرت عليه الميول والعصبيات.

وليس ذلك بالأمر اليسير والسهل، ولاسيما فيما يرتبط بتاريخ الإسلام الأول الذي هبت عليه رياح الأهواء الرخيصة والعصبيات الظالمة، وعبثت به أيدي الحاقدين، وابتزت منه رواءه وصفاءه إلى حد كبير وخطير.

ماذا نريد:

ونحن بدورنا في كتابنا هذا سوف نحاول استخلاص صورة نقية وواضحة قدر الإمكان عن تاريخ نبينا الأكرم «صلى الله عليه وآله».

ولسوف ينصبُّ اهتمامنا بصورة أكثر وأوفر على إبعاد كل ذلك الجانب المريض من النصوص، المجعولة تاريخاً، مع أن الكثير منها لا يعدو أن يكون أوهاماً وخيالات، ابتدعها المحدثون المغرضون والقصاصون الأفاكون، وأصحاب الأهواء والمتزلفون.

ميزات أساسية في تاريخ الإسلام المدوَّن:

نقول ما تقدم بالرغم من أننا قد قلنا آنفاً: إننا على قناعة من أن تاريخ الإسلام المدوَّن ـ على ما فيه من هنات ونقص ـ أغنى تاريخ مكتوب لأية أمة من الأمم، وهو يمتاز عن كل ما عداه بدقته وشموله، حتى إنك لتجده كثيراً ما يسجل لك الحركات، واللفتات، واللمحات، فضلاً عن الكلمات والمواقف والحوادث، بدقة متناهية واستيعاب لا نظير له.

أضف إلى ذلك: أنه يملك من الآيات القرآنية، ثم من النصوص الصحيحة والصريحة الشيء الكثير، مما لا تجده في أي تاريخ آخر على الإطلاق.

هذا إن لم نقل إن هذا الأمر من مختصات تاريخ الإسلام، إذا تأكدنا أنه ليس بإمكان أي تاريخ أن يثبت من مقولاته إلا النزر اليسير، ولاسيما في جزئيات الأمور، وفي التفاصيل والخصوصيات.

وميزة أخرى يمتاز بها تاريخ الإسلام، وهي أنه يمتلك قواعد ومنطلقات تستطيع أن توفر للباحث السبل المأمونة، التي يستطيع من خلال سلوكها أن يصل إلى الحقائق التي يريدها، دقت، أو جلت.

ولسوف يأتي الحديث عن بعض من ذلك في بعض فصول ما اصطلحنا عليه أنه «المدخل لدراسة السيرة النبوية الشريفة».

البداية الطبيعية لتاريخ الإسلام:

وواضح: أن البداية الطبيعية لتاريخ الإسلام، وأعظم وأهم ما فيه هو سيرة سيد المرسلين محمد «صلى الله عليه وآله الطاهرين».

فلا بد من البدء بها، ولو ببحث قضايا وأحداث رئيسة فيها، ليكون ذلك بمثابة خطوة أولى على طريق التصدي لبحوث مستوعبة وشاملة، من قبل المتخصصين والباحثين، من ذوي الكفاءات والهمم العالية.

ولكن ذلك يحتاج إلى تقديم مدخل، من شأنه أن يعطي انطباعاً عاماً عن أجواء ومناخات البحث، فإلى هذا المدخل الذي يشتمل على عدة فصول..

والله هو الموفق والمسدد، وهو المستعان، وعليه التكلان.


([1]) هذا التقديم عبارة عن ملامح من تقديم كتابنا: >الحياة السياسية للإمام الرضا عليه السلام»، ونوردها هنا لصلتها المباشرة بموضوع بحثنا هذا، وحتى لا نضطر إلى إحالة القارئ على ذلك الكتاب.

 
   
 
 

العودة إلى موقع الميزان