[وقفة مع ابن ميثم البحراني:]
وقد ذكر ابن ميثم البحراني «رحمه الله» أمراً هاماً هنا، فقال:
«المراد بعلم الغيب هو العلم الذي لا يكون مستفاداً عن سبب يفيده، وذلك إنما يصدق في حق الله تعالى، إذ كل علم لذي علم فهو مستفاد من جوده، إما بواسطة أو بغير واسطة، فلا يكون علم غيب. وإن كان اطلاعاً على أمر غيبي، لا يتأهل للإطلاع عليه كل الناس، بل يختص بنفوس خصت بعناية إلهية، كما قال تعالى:
﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً، إِلاَ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾([1])» انتهى كلام ابن ميثم([2]).
فابن ميثم «رحمه الله» يقول: إن علم الغيب مختص بالله سبحانه، أما الاطلاع عليه بتفضل وجود منه تعالى ـ سواء أكان ذلك بواسطة أو بغير واسطة ـ فإنه يحصل لمن تأهلت نفوسهم لتلقيه، واستعدت لنيله وقبوله.
وقد استفاد «رحمه الله» هذا المعنى من قول علي «»، لمن قال له: لقد أعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب. ـ وذلك بعد إخباره بشأن الأتراك ـ قال:
«يا أخا كلب، ليس هذا بعلم غيب، وإنما هو تعلم من ذي علم..
إلى أن قال:
وما سوى ذلك فعلم علمه الله نبيه «»، فعلمنيه، ودعا لي بأن يعيه صدري، وتضطمّ عليه جوانحي».
فاستفاد «رحمه الله» من ذلك: أن تعليم رسول الله «» له «»، لم يكن مجرد تعريف له بالصور الجزئية، بل إعداد نفسه بالقوانين الكلية، إذ لو كان ما تلقاه، من الصور الجزئية، لم يحتج إلى دعاء الرسول «» له بما ذكر، لأن فهم الصور الجزئية أمر سهل..
فالدعاء من النبي «»، لعلي «»: بأن يعيه قلبه، إلخ.. إنما هو ليكون مستعداً لفهم الكليات، وتفصيلاتها، وكيفية انشعابها.. وهذا ما يشير إليه قوله «»: «علمني رسول الله «»، ألف باب من العلم، فانفتح لي من كل باب ألف باب».
وعنه «»: «أعطيت جوامع الكلم، وأعطي علي «»، جوامع العلم».. أي ضوابطه وقوانينه، وذلك بعطاء من الله سبحانه، كما أشير إليه بكلمة «أعطي» المبنية للمفعول([3]).
[إن شاء علم:]
خامساً: إن ثمة أخباراً تفيد: أن علمه «» إختياري، أي إن شاء أن يعلم علم.. مما يشير إلى أن الله تعالى قد منحه قدرة تمكنه من ذلك ساعة يشاء. ولكنها ليست قدرة ذاتية.
ومن الواضح: أنه «» لا يشاء علم شيء إلا إذا اقتضت المصلحة أن يعلمه، وفق ما علمه الله إياه، وأوقفه عليه..
كما أنه إنما يشاء أن يعلم من الغيوب، ما له أثر في تسامي نفسه وعلو درجته في مقامات الكرامة، والمعرفة، وفق ما أعطاه الله تعالى من قدرات، وحباه به من كرامات هو أهل لها..
والخلاصة: أن الآية الكريمة إنما تأمر النبي «» بأن ينفي عن نفسه علم الغيب بصورة ذاتية، فإن هذا الذي كان المشركون يطالبونه به، للتسويق لمقولتهم الفاسدة، التي تقول: إن النبي يجب أن يكون فوق مستوى البشر، وأنه يملك لنفسه الضر والنفع، بصورة استقلالية، فلا يحتاج إلى الإستنجاد بالله في جلب المنافع ودفع المضار..
فالله تعالى يقول لنبيه قل لهم: إنما أنا بشر أرسلني الله بالإنذار والتبشير، وليس لي أن أفعل شيئاً من تلقاء نفسي، بل أفعل ما يريده الله تعالى، ويأذن به..
[أنا بشر مثلكم:]
سادساً: بالنسبة للمراد من قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾([4]). نقول:
إنها لا تريد أن تنفي علم النبي «» بالغيب، بل هي تريد أن تقرر لهم بشرية الرسول، وأن ما يطلبونه ويصرون عليه من أن لديه قدرة ذاتية على التصرفات، من دون حاجة إلى الإستعانة بالله، غير صحيح، فإن كونه بشراً مثلهم يقتضي أنه مملوك لله، وليس له قدرة مقابل الله تعالى، لأن ذلك ينافي الوحدانية، فإن إلههم واحد، ولو كان «» مستقلاً عن الله تعالى غير محتاج إليه، لكان إلها آخر، ويستحق العبادة مثله.. وهذا باطل بالبداهة..
فهذه الآية تتوافق في مؤداها مع مؤدى قوله تعالى:
﴿وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً، أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلاً، أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً..
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً﴾([5]).
وقوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ، وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ﴾([6]).
وفي الختام عليك مني وعلى من تحب ألف تحية وسلام.
والحمد لله رب العالمين.
جعفر مرتضى العاملي
حرر بتاريخ 7 / صفر / 1431هـ. الموافق 23 / 1/ 2010م.
----------
([1]) الآية 26 من سورة الجن.
([2]) راجع: شرح نهج البلاغة لابن ميثم ج1 ص84 و 85 .
([3]) راجع: شرح نهج البلاغة لابن ميثم ج1 ص84 و 85.
([4]) الآية 110 من سورة الكهف.
([5]) الآيات 90 ـ 95 من سورة الإسراء.
([6]) الآيتان 8 و 9 من سورة الأنعام.