الصفحات الاخيرة من كتاب المكاسب المحرمة ..لسماحة السيد علي مكي دامت بركاته - منتديات موقع الميزان
موقع الميزان السلام عليك أيتها الصدِّيقة الشهيدة يا زهراء السيد جعفر مرتضى العاملي
يا مُمْتَحَنَةُ امْتَحَنَكِ اللهُ الَّذي خَلَقَكِ قَبْلَ اَنْ يَخْلُقَكِ، فَوَجَدَكِ لِمَا امْتَحَنَكِ صابِرَةً، وَزَعَمْنا اَنّا لَكِ اَوْلِياءُ وَمُصَدِّقُونَ وَصابِرُونَ لِكُلِّ ما اَتانا بِهِ اَبُوكِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَاَتى بِهِ وَصِيُّهُ، فَاِنّا نَسْأَلُكِ اِنْ كُنّا صَدَّقْناكِ إلاّ اَلْحَقْتِنا بِتَصْديقِنا لَهُما لِنُبَشِّرَ اَنْفُسَنا بِاَنّا قَدْ طَهُرْنا بِوَلايَتِكِ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * صَدَقَ اللّهُ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ – منتديات موقع الميزان للدفاع عن الصدِّيقة الشهيدة فاطمة الزهراء صلوات الله عليها – منهاجنا الحوار الهادف والهادئ بعيداً عن الشتم والذم والتجريح ولا نسمح لأحد بالتعرض للآخرين وخصوصاً سب الصحابة أو لعنهم وهذا منهاج مراجعنا العظام والعلماء الأعلام حفظ الله الأحياء منهم ورحم الماضين
 
اضغط هنا
اضغط هنا اضغط هنا اضغط هنا
اضغط هنا
عداد الزوار
العودة   منتديات موقع الميزان .: مراجع عظام وعلماء أعلام :. إضاءات من نور المراجع والعلماء
إضاءات من نور المراجع والعلماء قال رسول الله (ص) : مداد العلماء أفضل من دماء الشهداء

إضافة رد
كاتب الموضوع جارية العترة مشاركات 0 الزيارات 2353 انشر الموضوع
   
أدوات الموضوع ابحث في الموضوع

جارية العترة
الصورة الرمزية جارية العترة
المدير العام
رقم العضوية : 12
الإنتساب : Mar 2007
الدولة : لبنان الجنوب الابي المقاوم
المشاركات : 6,464
بمعدل : 1.04 يوميا
النقاط : 10
المستوى : جارية العترة will become famous soon enough

جارية العترة غير متواجد حالياً عرض البوم صور جارية العترة



  مشاركة رقم : 1  
المنتدى : إضاءات من نور المراجع والعلماء
افتراضي الصفحات الاخيرة من كتاب المكاسب المحرمة ..لسماحة السيد علي مكي دامت بركاته
قديم بتاريخ : 07-Jul-2009 الساعة : 04:33 PM

اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم والعن أعدائهم


قراءة التعازي:[

وأما قراءة التعزية على الحسين (ع) فيجوز أخذ الأجرة عليها، وهو مِن الأعمال المهمة والراجحة، خصوصاً إذا انضم إليها مِن تعليم الفضائل والكمالات والمعارف والعلوم التي تجمع الناس على الخير والحق وتؤكد إيمانهم وولاءهم وارتباطهم بأهل البيت ، فإن كل مظاهر الحزن وغيرها التي تقام على الحسين (ع) تعبير عن الولاء لأهل البيت ، ومواساة للنبي (ص) وللزهراء وعلي والأئمة أجمعين. فما يجري وما يقوله قرّاء التعزية في هذه المجالس عمل مِن الأعمال يستحقون عليه الأجرة، وإن كان الأولى والأفضل أن لا يشترط أحد منهم شَيْئاً مِن المال، لأن المقام مهمّ وعظيم لا يمكن أن يشترط فيه المال. وعلى الباذلين مِن أهل المجلس والذين يقيمون هذه المجالس البذل والسخاء في مجالس الحسين وأهل البيت أجمع، فإنه بذل في سبيلهم مبارك ومعوّض مِن قبل الله سبحانه وتعالى، لأنه خدمة للدين وإحياء لأمر الدين، وأهل البيت (ع) هم الَّذينَ بذلوا أنفسهم في سبيل الله وفي سبيل دينه.

ولذلك لا يسمع لأقوال الَّذينَ يعيبون هذه المجالس وينتقدونها، ممن يحمل الحقد والضغينة على الموالين لأهل البيت ، وإشاعة الافتراءات الباطلة والكاذبة التي يطلقونها بين حين وآخر.

وكذلك لا يسمع إلى أقوال الَّذينَ يطلقون مقالات التجديد والتصحيح لهذه المجالس وتهذيبها، فليهذبوا أنفسهم وعقولهم أولاً، حتى يستطيعوا فهم ومعرفة أهل البيت (ع) مَن هم؟ وبعد ذلِكَ يتكلمون. لأنهم عندما يعرفون أهل البيت (ع) مَن هم؟ يندمون على مقالاتهم هذه ويتحسرون ألماً وأسى، لأنهم قالوا قولاً زوراً.

وبالجملة فإن القراءة في المجالس الحسينية شيء غير النوح المتعارف، ولذلك هو عمل راجح وصحيح، ويصح أخذ الأجرة عليه.
(16)

هجاء المؤمن

الهجاء: هو ذمّ الإنسان وهتكه، بذكر المعائب التي فيه، وتتبُّع عثراته وزلاته للتشهير به وهتكه بين الناس، وإسقاطه مِن أعينهم وإهانته بكل وسيلة، سواء كان بالشعر أو النثر أو غيرها مِن الوسائل المتعارفة اليوم.

ولا إشكال ولا ريب في حرمة الهجاء، وخاصة للمؤمن.

قال تَعالَى: {ويلٌ لِكُلِّ هـُمَزَةٍ لـُمَزَةٍ}، فإن الهمز واللمز هما الوقيعة في الغير وهتكه، ولذلك فهو يشمل الهجاء.

وقد ورد في الأخبار الشريفة وهي كثيرة جداً، ما يدل على حرمة الهجاء.

روى حماد بن بشير عن أبي عبد الله (ع) قال: قال رسول الله (ص): قال اللّـهُ عزّ وجل: مَن أهان لي ولياً فقد أرصد لمحاربتي (1).

وعن أبان بن تغلب عن أبي جعفر (ع) قال: لما أسري بالنبي (ص) قال: يا ربِّ ما حال المؤمن عندك؟. قال: يا محمّد، مَن أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة، وأنا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي (2).

وفي صحيحة هشام بن مسالم قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: قال اللّـهُ عزّ وجل: ليأذن بحربٍ مني مَن آذى عبدي المؤمن، وليأمن غضبي مَن أكرم عبدي المؤمن (3).

وهل يفرّق في ذلِكَ، أي في هجاء المؤمن، بين العادل والفاسق أم لا؟. الَّذي يظهر مِن إطلاق الروايات عدم الفرق بينهما، فإن الفاسق وإن كان مرتكباً لبعض المعاصي، ولكنه مادام غير متجاهر بها، وما دام لم يخرج بها عن حدود الإيمان وواقعه، فلا يجوز هجاؤه أبداً.

وأما أخذ الأجرة على الهجاء للمؤمنين والمؤمنات فقطعاً غير صحيح ولا جائز، وإنما هي حرام لما فيها مِن الإيذاء والضرر والهتك له، ولا غاية صحيحة ولا منفعة منها أبداً. والنهي في هذه الأمور واضح، إلى أنه إرشاد إلى بطلان المعاملة وفسادها.

نعم بالنسبة إلى أهل البدع والضلال، ومن أية ملة كانوا ومن أي مذهب كانوا، يجوز هجاؤهم، وذلك لإبطال بدعهم وإفساد مقالتهم، لئلا يضل الناس بمقالاتهم الفاسدة وأفكارهم الباطلة، ويؤثّروا عليهم في دينهم وعقائدهم وشرائعهم وأخلاقهم وعاداتهم، كما هو حاصل وموجود في زماننا هذا، وأصبحوا يشكلون خطراً كبيراً على المذهب بل على الدين، بنشرهم قضايا تمسّ بأسس وثوابت المذهب والدين معاً، فإن مثل هؤلاء يجوز التشهير بهم وهجاؤهم وانتقادهم، فضلاً عن أنه لا يجوز الرجوع إليهم في الشؤون الدينية عقيدةً وشريعةً وأخلاقاً، وإن ادَّعَوا اللياقة والريادة والقيادة لأنفسهم. والسبب في جواز ذلِكَ أن مقالاتهم بأجمعها تدخل في باب البهتان والكذب والافتراء على الله وعلى أهل البيت (ع) الَّذينَ هم المصدر الأساسي بعد القرآن والسنة في تأكيد العقيدة و والإيمان والشريعة والأحكام. إضافة إلى أنها جرأة على الله تعالى، وقد قال سبحانه: {آللهُ أَذِنَ لَكُم، أم على اللهِ تَفْتَرُون}وقال تَعالَى: {ومَن أظلَمُ مِمَّنِ افْتَرى على اللهِ كذِباً، أُولئِكَ يُعرَضونَ على رَبِّهِم، ويقولُ الأشهادُ: هؤلاءِ الَّذينَ كَذَبوا على رَبـِّهِم، ألا لعنةُ اللهِ على الظالمين}(4).

وقد قال رسول الله (ص): كل بدعةٍ ضلالةٌ، وكلُّ ضلالةٍ سبيلها إلى النار (5).

وفي صحيح محمّد بن مسلم (قال) قال أبوجعفر (ع): لا دينَ لمن دان بطاعة مَن عصى اللهَ، ولا دين لمن دان بفرية باطل على الله، ولا دين لمن دان بجحود شيء مِن آيات الله (6).

فالإسلام يحاول دائماً وأبداً وفي جميع قضاياه التأكيد على الالتزام والارتباط به والانقياد له ولأحكامه، وهو يستهدف مِن خلال هذا المعنى أن يعيش الإنسان آفاق الدين ومفاهيمه وأحكامه وكافة أموره بشكل يتأكد عنده أنه يعيش حياته ويعيش أمراً هو كل شيء بالنسبة له، ولا يفرّق في ذلِكَ بين الكبير والصغير - إن صحّ هذا التعبير - لأن كل أحكام الشريعة وأمور هذا الدين مهمة، وكلها تتدخل في شؤون الحياة وتعالجها. ويؤكد الدين على موضوع الترابط والتلاحم بين أفراد المجتمع وبين طبقاته، كما يؤكد على الاحترام المتبادل ونظرة بعضهم إلى بعض بموضوعية وبمساواة وعدم الشعور بالفرق بين شخص وآخر. كما يقول أمير المؤمنين (ع) في وصيته لابنه الحسن (ع): يا بُنَيَّ اجعلْ نفسَك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك، فأحبِبْ لغيرك ما تحبّ لنفسك، واكره له ما تكره لها، ولا تظلِمْ كما لا تحب أن تُظلم...

وإنما حرّم الإسلام هجاء المؤمن، وجعل محاربته وهجاءه حرب لله، فذلك لأن حق المؤمن عظيم وكبير عند الله سبحانه، فهو مشتقّ مِن الإيمان بالله سبحانه، فهو منسوب لله، ولذلك كان حقه كبيراً.

وقد ورد في بيان حقه ماروي، أنه سئل الإمام الرضا (ع): ما حقّ المؤمن على المؤمن؟. فقال (ع): إن مِن حقّ المؤمن على المؤمن المودة له في صدره، والمواساة له في ماله، والنصرة له على مَن ظلمه. ولا يظلمه ولا يغشّه ولا يخونه ولا يخذله ولا يغتابه ولا يكذبه.. إلى أن قال (ع): وإن أبا جعفر الباقر (ع) استقبل الكعبة وقال: الحمد لله الَّذي كرّمك وشرّفك وعظّمك، وجعلك مثابةً للناس وأمناً. واللهِ لَحرمةُ المؤمن أعظم حرمةً منك (7). الحديث

ولقد أكدت الأخبار الكثيرة المتواترة على حقوق المؤمنين بعضهم على بعض وعدم التهاون بها، وعلى ضرورة التواصل والتعاطف، وأن يكونوا فيما بينهم إخوة بررة متواصلين متراحمين ومتحابين في الله، وأنهم بعض لبعض سكن، كما ورد في الحديث الشريف عن جعفر بن محمّد عن آبائه (ع) قال: قال رسول الله (ص): إن المؤمن ليسكن إلى المؤمن كما يسكن قلب الظمآن إلى الماء البارد (8).

وإذا كانت مكانة المؤمن بهذا النحو الَّذي تستعرضه الأخبار الشريفة، كيف يمكن هجاؤه وإيذاؤه وتتبع عثراته، وكيف لا يكون ذلِكَ حراماً وجرماً كبيراً. إن محاربة المؤمن وهجاءه وإيذاءه قطعٌ لكل أواصر الصلة والترابط بين الناس، وتحطيم للكيان الاجتماعي الَّذي يريده الإسلام أن يكون أبرز شيء في دنياهم. لقد اعتبر الإسلام أن المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كالجسد الواحد. ومعنى الجسد الواحد، أن الأخوّة بين المؤمنين بعضهم مع بعض ليست على نحو تجمّع الإخوة والتودد بينها، يجمعها الحب والعطف وإن تعددوا، وإنما أخوتهم بنحو الاتحاد والوحدة التي هي غير قابلة للتعدد، كالجسد الواحد تتعدد أعضاؤه وأجزاؤه ويبقى واحداً. وأكد هذه الوحدة والاتحاد بأنه إذا تألم عضو مِن هذا الجسد تداعت له سائر الأعضاء بالحمى والسهر، لوحدتها وترابطها وعدم إمكانية انفكاكها عن بعضها.. هكذا يبني الإسلام مجتمعه المسلم المؤمن، وبهذا الشعور والواقع يتعايشون ويبنون مجتمعهم وكيانهم.

ومن هنا نجد أن ما حُرّم على المؤمن مِن أخيه المؤمن كبير جداً، ومهم جداً وخطير جداً، يؤدي إلى تهديم هذا الكيان الكبير الواسع الَّذي يملأ الدنيا.

ويؤكد هذا المعنى الخبر الشريف عن أبي جعفر الباقر (ع) قال: قال جدي رسول الله (ص): أيها الناس حلالي حلال إلى يوم القيامة، وحرامي حرام إلى يوم القيامة. ألا وقد بيّنهما اللّـهُ عزّ وجل في الكتاب، وبيَّنْتـُهما لكم في سيرتي وسنَّتي. وبينهما شبهات مِن الشيطان، وبِدَع بعدي، مَن تركها صلح له أمر دينه، وصلحت له مروءته وعِرضه.. إلى أن قال: ألا وإن ودَّ المؤمن
مِن أعظم سبب الإيمان. ألا ومَن أحبّ في الله وأبغض في الله ومنع في الله عزّ وجل، فهو مِن أصفياء المؤمنين عند الله تبارك وتعالى (9).



--------------------------------------------------------------------------------

(1) الوسائل، ج12 باب 164 باب العشرة

(2) الوسائل، ج12 باب 164 أحكام العشرة

(3) الوسائل، ج12 باب 165 أحكام العشرة

(4) سورة هود 18

(5) الوسائل، ج5 ص 192 باب 10 حديث 1

(6) الوسائل، ج11 ص 421 باب 11

(7) بحار الأنوار، ج 74 ص 232 و233

(8) بحار الأنوار، ج 74 ص 280

(9) بحار الأنوار، ج 74 ص 280


(17)

الفـُحش والبِذاء


الفُحش، ويطلق عليه: الهُجر ( بضم الهاء ). وهو أن يتكلم الرجل بالكلام القبيح أو ما يستقبح التصريح به، مثل أن يقول لشخص: ابن الفاعلة، ويذكر اللفظ القبيح، أو أن يذكر المواضع والأعضاء الجنسية والتناسلية، ويتلفظ بها في مقام وبشكل قبيح وبذيء. وهذا الأمر لا خلاف بين المسلمين أجمع على بغضه وحرمته أيضاً، وكذا الأمر بين العقلاء على بغضه وحرمته.

وقد وردت بذلك روايات عديدة متواترة، تنص على أن البذاء والفحش على المؤمن حرام.

ففي صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (ع) قال: قال رسول الله (ص): إذا رأيتم الرجل لا يبالي ما قال ولا ما قيل له، فهو شِرك شيطان (1).

وفي معتبرة سُليم بن قيس عن أمير المؤمنين قال: قال رسول الله (ص): إن الله حرّم الجنّة على كل فحّاش بذيء قليل الحياء، لا يبالي ما قال ولا ما قيل له، فإنك إن فتّشته لم تجده إلا لغية أو شرك شيطان. قيل: يا رسول الله (ص) وفي الناس شِرك شيطان؟ فقال رسول الله (ص): أما تقرأ قول الله عزّ وجل:
{وشارِكْهُم في الأموال والأولاد}؟ (2).

وفي صحيحة أبي عبيدة عن أبي عبد الله (ع) قال: البِذاء مِن الجفاء، والجفاء في النار (3).

وفي صحيحته الأخرى عن أبي عبد الله (ع) قال: الحياء مِن الإيمان، والإيمان في الجنة. والبِذاء مِن الجفاء، والجفاء في النار (4).

وورد في وصية النبيّ (ص) لعلي (ع) قال: يا علي، حرّم اللّـهُ الجنّة على كل فاحش بذيء، لا يبالي ما قال ولا ما قيل له. يا علي طوبى لمن طال عمره وحسن عمله (5).

وفي وصية النبيّ (ص) أيضاً لعلي (ع) قال: يا علي أفضل الجهاد مَن أصبح لا يهمّ بظلم أحد. يا علي مَن خاف الناسُ لسانَه فهو مِن أهل النار. يا علي شرّ الناس مَن أكرمه الناس اتّقاءَ شرّه وأذى فُحشه. يا علي شرّ الناس مَن باع آخرته بدنياه، وشرّ منه مَن باع آخرته بدنيا غيره (6).

وفي صحيحة العيص بن القاسم عن أبي عبد الله (ع) قال: إن أبغض خلق الله عبدٌ اتُّقِيَ لسانُه (7).

ومن أراد المزيد مِن الروايات كي يحصل له اليقين بالتواتر، فليراجع مِن الوسائل الأبواب التي ذكرناها وغيرها، يتأكد عنده الحرمة، وأن هذه الصفة مِن أقبح الأمور التي يتصف ويوصف بها المرء، وهي محرمة قطعاً.

والذي يظهر أن الحرمة لا تختص بحال دون حال، فسواء كان الشخص جاداً في التلفظ بهذه الألفاظ القبيحة ومن باب السب والشتم والتعيير، أو كان عن مزاح كما يفعله البعض في مجالس الأنس واللهو، حتى أن بعضهم يصل بكلامه إلى حدّ القذف مِن باب المزاح.

ولا يبعد أن تستفاد الحرمة مِن قوله تَعالَى: {قد أفلحَ المؤمنونَ * الَّذينَ هُم في صلاتهم خاشعون * والّذينَ هُم عن اللَّغو مُعرضون}(8).

وأما أخذ الأجرة على هذا العمل فقطعاً حرام، لما يؤدي إليه مِن إضرار وإيذاء للمؤمن، وهو سرف وتبذير مِن الباذل، ولا خير في مثل هذا الكسب والرزق ولا بركة فيه.

إن أقبح شيء يوصف به الإنسان أن يقال عنه إنه شرير، وأقبح منه أن يقال عنه أنه يُتَّقى منه لشرّه، وأقبح مِن هذا وذاك أن يقال عنه إنه يُكرم اتقاءَ شرّه، وشرّ مِن ذلِكَ مَن تكره مجالسته لفحشه، وشرّ مِن هذا كله مَن لا يُؤمن شرُّه ولا يُرجى خيُره.

هذه الصفات ليست مجرد أفكار، وإنما لها واقع خارجي، فهناك مَن يوصف بهذه الأمور. والشخص السليط اللسان البذيء في أقواله وكلماته أحد مصاديقه وأفراده المتميزة. إن الشخص الَّذي يعيش بهذه الصورة لا يمكن أن نعتبره إنساناً له قيمته واعتباره في المجتمع، ولا يمكن أن يُتعامل معه في شأن مِن الشؤون. والشارع المقدس حين يشدّد في قبح هذه المعاني وقُبح المتصف بها، يستهدف مِن ذلِكَ بيان قيمة الكلمة واعتبارها في ميزان الحياة والأوضاع الاجتماعية، وأنها كبيرة جداً، ولا ينبغي أن يكون فيها جنوح أو سوء حتى لا تلغى قيمتها ولا تعدم فائدتها. ولذلك قال تَعالَى: {لا يُحِبُّ اللّـهُ الجـَهرَ بالسُّوء مِن القول}. الكلمة أداة للتعبير والكشف عن الحقائق والمعاني المخزونة في أعماق الإنسان، بل هي تعبير وتجسيد للواقع ولما يحمله مِن صفات وأخلاق وعواطف ومشاعر وأحاسيس وغير ذلِكَ. ولأجل ذلِكَ أُلزم الإنسان بأن يكون مهذباً في أقواله وتعابيره، مؤدباً في كلماته وما يترجم به خواطره وما في نفسه وحوله، وفي نظرته للناس، وفي أعماله وفي تعامله معهم. ومما يؤكد ذلِكَ أن الله سبحانه أعطى للكلمة القيمةَ والأهمية، وبها شرّع شرائعه، وبها خاطب عباده، وبها بيّن جميع ما يلزم للبشر وما يصبون إليه وما يصلح مِن شؤونهم وينظم حياتهم.

والكلمة هي الكلمة الأداة المعبّرة، يمكن أن تكون صالحة وتصون أفكار الإنسان وتحدد له أهدافه وقيمه وكافة أمور الخير والصلاح، ويمكن أن تكون أداة شرّ. وحتى لا يكون الميل إلى الباطل وإلى الشرّ وتضيع الكلمات في متاهات الاعتبارات والمصالح، وحتى لا يغلب الإنسان على كلمته مِن المؤثرات، أوضح اللّـهُ للإنسان حدود الكلمة، وأعطاها الاعتبار اللائق، لتبقى لها الأصالة ولها القوة والإبداع. قال تَعالَى:

{ألم تَرَ كيفَ ضربَ اللّـهُ مَثَلاً كلمةً طَيِـّبَةً كشجرةٍ طيّـِبَةٍ، أصلُها ثابتٌ وفَرعُها في السَّماء * تُؤتي أُكُلَها كلَّ حينٍ بِإذنِ ربّـِها، ويضربُ اللّـهُ الأمثالَ للناس لَعلَّهُم يتَذكَّرون * ومَثَلُ كلمةٍ خبيثةٍ كشجرةٍ خبيثةٍ، اجْتُثـَّتْ مِن فَوقِ الأرضِ ما لَها مِن قَرار * يُثَبّـِتُ اللّـهُ الذينَ آمَنوا بالقَول الثابتِ في الحياة الدُّنيا وفي الآخرة. ويُضِلُّ اللّـهُ الظالمينَ، ويفعلُ اللّـهُ ما يشاء}
" سورة إبراهيم مِن 24 - 27 ".

الكلمة الطيبة كما وصفها القرآن كالشجرة التي تضرب جذورها عمقاً في باطن الأرض، لتشتدّ وتكون قوية ثابتة ارتفاعاً في أجواء الفضاء، الفضاء الَّذي يزهو بالشجرة جمالاً وبهاء وعطاء، ثمّ تعطي ثمارها اليانعة الطيبة الوفيرة الكريمة. هكذا الكلمة الطيبة في أثرها وكما يصفها القرآن الكريم. بخلاف الكلمة السيّئة الخبيثة التي ما لها مِن قرار، جذور طافية على سطح الأرض، وما أسرع ما تهوي أمام العواصف وأمام عوامل الطبيعة. لذلك على الإنسان أن يحسن استعمال الكلمة أولاً، لتكون مِن أسباب الخير والصلاح ودواعي المحبة، وأن يختار الكلمات الفاضلة الصالحة التي تقرّب وتعطي الخير، وأن لا يكون بذيئاً فحّاشاً لعّاناً وشريراً. ويعلمنا اللّـهُ كيف تكون الكلمة. قال تَعالَى: {وقولوا قولاً سديداً}وقال: {وعبادُ الرَّحمنِ الَّذينَ يمشونَ على الأرض هَوناً * وإذا خاطبهُمُ الجاهلونَ قالوا: سلاماً}وقال: {فاصفحْ عنهم وقُل: سلام}.

إن الإنسان البذيء الطعان اللعان، أبغض شيء إلى الله. وقد ورد في الحديث أن رسول الله (ص) قال:

يعذِّب اللّـهُ اللسانَ بعذابٍ لا يُعَذِّبُ به شَيْئاً مِن الجوارح. فيقول: أي ربِّ عذَّبْتَني بعذاب لم تُعَذِبْ به شَيْئاً؟. فيقال له: خرجتْ منك كلمةٌ بلغت مشارق الأرض ومغاربها، فسُفك بها الدم الحرام، وانتُهب بها المال الحرام، وانتُهك بها الفرج الحرام. وعزّتي وجلالي لأعذّبنّك بعذاب لا أعذّب به شَيْئاً مِن
جوارحك (9).



--------------------------------------------------------------------------------

(1) الوسائل، ج11 ص 329

(2) الوسائل، ج11 ص 329

(3) الوسائل، ج11 ص 330

(4) المصدر السابق

(5) المصدر السابق

(6) الوسائل، ج11 ص 328

(7) الوسائل، ج11 ص 326

(8) سورة المؤمنون مِن 1 - 3

(9) الكافي للكليني، ج2 ص 115

(18)

الرَّشــوة
الرّشوة في القضاء، سواء بالحق أو بالباطل حرام قطعاً. والحكم بالحرمة عليها مِن الضروريات المعروفة بين المسلمين، إلى درجة أنها لا تحتاج إلى دليل. وهي مِن الكبائر المهلكة التي لا تبقي ولا تذر، لأنها لا تبقي للحق أي معلَم ولا أثر، وتصيّر الحياة إلى فوضى لا ترتكز على أساس.

ولا فرق في حرمة الرشوة كذلك، سواء قلنا بأن القاضي كان عالماً أو كان جاهلاً، وسواء قلنا بأنه يجوز له الارتزاق مِن بيت المال أو لم نقل، فأخذ المال على الحكم الَّذي يسمى رشوة حرام بلا إشكال.

ويستدل على حرمة الرشوة بالكتاب العزيز والسنّة وبالإجماع مِن المسلمين.

قال تَعالَى: {ومَن لَم يحكُم بِما أنزلَ اللّـهُ، فأُولئكَ همُ الكافرون}“ المائدة 48 “. وقال تَعالَى: {ولا تأكُلُوا أموالَكُم بينَكُم بالباطلِ، وتُدْلُوا بِها إلى الحـُكّامِ، لِتأكُلُوا فريقاً مِن أموال النّاس بالإثم}“ النساء 29 “.

فالآية دلّت على حرمة أكل المال بالباطل، ودلت على حرمة الإدلاء بها إلى الحكام للتوصل إلى أكل أموال الناس بالإثم. والإدلاء: هو الإعطاء والرشوة. فالرشوة محرمة بمنطوق الآية، ودلت على حرمة الأخذ مِن قبل الحاكم بالملازمة، لأنه إذا كان يحرم الإدلاء فيحرم الأخذ قطعاً.

أما الروايات التي وردت في حرمة الرشوة فهي كثيرة، وخاصة في هذه الموارد.

فقد ورد في صحيح عمار بن مروان قال: سألت أبا جعفر (ع) عن الغُلول؟. فقال: كل شيء غُلّ مِن الإمام فهو سُحت، وأكل مال اليتيم وشبهه سحت. والسُّحت أنواع كثيرة: منها أجور الفواجر، وثمن الخمر والنبيذ والمسكر، والربا بعد البيّنة. فأما الرُّشا [ جمع رشوة ] في الحُكم، فإن ذلِكَ الكفرُ بالله العظيم جلّ اسمه وبرسوله([1]).

وورد في أبواب القضاء وصفات القاضي، وكذلك فيمن أفتى بغير علم، وكذلك لو حكم في حق أو باطل لجهله وعدم علمه، فهو أيضاً حرام. وحرام أخذ الأجرة والرشوة.

ويدل على ذلِكَ معتبرة أبي عبيدة، قال أبوجعفر (ع): مَن أفتى الناس بغير علم ولا هدى مِن الله، لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، ولحقه وزرُ مَن عمل بفُتياه ([2]).

وأما الرشوة على الحكم ولو بالحق مع العلم بأن الحكم حق إما وجداناً وإما لمطابقته للقواعد الشرعية، فكذلك هو حرام كما أسلفنا ذكره. بل لو أخذ بعنوان الأجرة عليه فهو أيضاً حرام، لأنه لا يجوز للقاضي أن يقضي بأجرة أبداً، وإن كان يجوز له الارتزاق مِن بيت المال، وهذا شيء غير الأجرة وغير الرشوة، ولا ينطبق عليه أنه سحت.

ويؤيد ويؤكد هذا المعنى ما ورد في رواية يوسف بن جابر (قال) قال أبوجعفر (ع): ثمّ لعن رسول الله (ص) مَن نظر إلى فرج امرأة لا تحل له، ورجلاً خان أخاه في امرأته، ورجلاً احتاج الناس إليه لتفقهه، فسألهم الرشوة!([3]).

ففي هذه الصورة لا مجال لأخذ الأجرة، لأن منصب القضاء مِن المناصب الإلهية العظيمة، ومَن يحصل على هذا المنصب لا ينبغي له أخذ الأجرة عليه أبداً، ولأن القضاء واجب عيني أو كِفائي، فلا يصح أخذ الأجرة على الواجبات.

أما أخذ الهدية فهل يجوز للقاضي أم لا؟. فيه كلام بين الفقهاء والعلماء، والقواعد تقتضي الجواز، وذلك لعدم وجود ما يدل على التحريم. إلا أن الاحتياط ضروري في عدم أخذ الهدية حتى لا يكون القاضي والحاكم عرضة للطمع ولين الجانب، مما يؤدي إلى تضييع الحقوق والأحكام.

وهل تجوز الرشوة في غير الأحكام، أم لا؟.

الرشوة على غير الحكم ؛ مرة تكون لأجل إتمام أمر محرّم وتمشيته، وهذا قطعاً محرم، ولا يجوز أخذ هذا المال، ليس مِن جهة أنه رشوة، فهو رشوة عرفاً، ولكن الحرمة وعدم الجواز مِن جهة أنه لا يجوز للإنسان أن يأخذ أجرة أو غيرها على عمل محرّم.

ومرة تكون الرشوة لإصلاح أمر مباح وحلال، وهذا لا مانع منه لأنه عمل عادي يستحق الأجرة عليه وأخذ مقابل عمله، ولا يسمى الأخذ رشوة.

ومرة يكون أخذ الرشوة على أمر مشترك بين الحرام والحلال، والحكم تابع للقصد، فإن قصد الأمر الحرام حَرُم أخذُ المال عليه لما ذكرنا مِن أنه لا يجوز أخذ المال على العمل الحرام.

وإن كان القصد هو الجهة المحللة والمباحة، فلا مانع مِن أخذ الأجرة والمال عليه، لأنه حلال ولأنه عمل يقابل بالمال.

ومع ذلِكَ فالاحتياط في مثل هذه الأمور ضروري، لأن الروايات الواردة في حرمة الرّشا في الحكم موضوعها الرشوة في الحكم، لذلك تكون حراماً. وأما الرشوة في غير الحكم، فإنه قد يستفاد مِن ملاحظة مفهوم الرشوة عموم الحكم، وهذا مضافاً إلى أن مفهوم الرشوة لغةً غير مختص بالرشوة في الحكم بل يشمل غيره، ولذلك القول بالحرمة فيه وجه. مِن هنا قلنا بضرورة الاحتياط والحذر مِن مثل هذه الأموال التي تؤخذ مِن هذا الطريق، ولا أقلّ مِن أنها شبهات، والوقوف عند الشبهة خير مِن اقتحام الهلكة. ومع الشك في حِلّية هذا المال فالأصل بقاؤه على ملك مالكه، فيحرم التصرف فيه.

وبهذه المناسبة أودّ أن أنبـّه على أمر مهمّ، وهو أن كثيراً مِن الموظفين أو بعضهم قد يستغل المنصب الَّذي هو فيه ويستفيد منه بما يأخذه على إنجاز المعاملات للناس، ويبرر ذلِكَ بأنه هدية مطلقة وليس وراءها شيء، وقد يمتنع عن إنجاز معاملات الناس إلا بعد دفع شيء معين بعنوان الهدية أو غيره!.

يقال لمثل هؤلاء: لماذا لا يعطون هذه الهدية لغيركم مِن الناس الَّذينَ ليسوا في موقعكم؟. وأيضاً عندما تتركون مواقعكم ووظائفكم وتُحالون على التقاعد هل يذكركم أحد مِن هؤلاء الناس بهدية أو صلة أو بشيء آخر؟.

إذن فما يؤخذ مِن هدايا وعطايا إنما هو للموقع الَّذي هم فيه الآن، ولولاه لما ذكرهم أحد بشيء إطلاقاً، ومن هنا يجب أن يكون الموظف أو صاحب الموقع نزيهاً شريفاً مترفعاً عن هذه الأمور، متوجهاً لقضاء حوائج الناس بكل صدق وإخلاص، وأن تُقَدَّر أعمال هذا الموظف أو هذا المسؤول بالشكل الَّذي يوجب له العفة والنزاهة، عن أن يمدّ يده إلى مثل هذه الأمور.

وقد ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين قال: أيُّما والٍ احتجب عن حوائج الناس، احتجب اللّـهُ عنه يوم القيامة وعن حوائجه. وإن أخذ هدية كان غُلولاً، وإن أخذَ الرشوة فهو مشرك([4]).

نعم هناك أشخاص عملهم تخليص المعاملات والإسراع بها لقاء أجر معين، فهذا لا مانع منه، لأنه عمل يستحق عليه الأجرة. وإذا أصرّ الموظف على عدم إنجاز المعاملة إلا لقاء مال معين، فإن المراجِع في هذه الحال لايحرم عليه الدفع لأنه مضطر لإنجاز معاملته ولا سبيل له إلا ذلِكَ، والموظف يحرم عليه أخذ المال، لأنه أخذ المال مِن دون طيبة نفس الدافع. قال تَعالَى: {ولا تأكُلُوا أموالَكُم بينَكُم بالباطلِ}وهذا فيما يتعلق بالرشوة.

إن عمل الرشوة والرّشا في الحكم كما ورد في الحديث الشريف، فإنه الكفر بالله العظيم جلّ اسمه وبرسوله. فالرشوة ما جعلت بهذه المثابة وكانت كفراً، إلا لأنها تجسد منطوق الآية الكريمة {ومَن لَم يحكُم بِما أنزلَ اللّـهُ، فأُولئكَ همُ الكافرون}.

إن أحكام الله تعني الدين والشريعة، والدين يجب أن يكون فاعلاً ومتحركاً في حياة الناس وكافة شؤونهم صغيراً كان أو كبيراً، وحُكم الله ودين الله يجب أن يصل إلى كل فرد طلبه أو لم يطلبه، وحين يطلبه ممن يعرفه ويقدر على إبلاغه للناس، عليه أن لا يتوانى، وإلا كان مصداقاً للآية الكريمة: {إنّ الَّذينَ يَكتُمونَ ما أنزلنا مِن البَيِّناتِ والهدى، مِن بعد ما بيَّنّاهُ للناس في الكتابِ، أولئكَ يلعنُهُمُ اللّـهُ ويلعنُهُمُ اللاعِنون}" البقرة 159 ".

فالرشوة تستدعي المرتشي إلى المنع مِن إظهار حكم الله أو تعطيل العمل به وتطبيقه في الأرض، وتمنع مِن أن يكون دين الله وشريعة الله هي الحاكمة في شؤون الناس وشؤون الحياة. ويكون (المرتشي) هو الحاكم في قبال الله تَعالَى.

ومن هنا ندرك لماذا كانت الرشوة كفراً. إنها تعود بالإنسان إلى الجاهلية الأولى، التي حطّم الإسلام أسسها وأزال معالمها. وقد قال الإمام الصادق (ع): الحكم حكمان: حكم الله عزّ وجل، وحكم أهل الجاهلية ؛ فمن أخطأ حكم الله حكَمَ بحُكم الجاهلية.

فأما حُكم الله تَعالَى فقد قال فيه: {وكذلكَ أوحينا إليك رُوحاً مِن أمرنا، ما كنتَ تَدري ما الكتابُ وما الإيمانُ، ولكن جعلناهُ نوراً نهدي بهِ مَن نَشاء مِن عبادنا}" الشورى 52 ". وقال سبحانه: {ونَزَّلنا عليك الكتابَ تِبياناً لكلِّ شيءٍ وهُدىً ورحمةً وبُشرى للمسلمين}“ النحل 89 “.

هذا منطق حكم الله سبحانه، والذي جعله اللّـهُ في أحكامه وكتبه التي فيها أحكامه، أنها هدى ورحمة وبشرى ونور يهدي به مَن يشاء مِن عباده. أما حكم الجاهلية، فقد قال تَعالَى فيه:

{أفَحـُكْمُ الجاهليةِ يَبْغُونَ، ومَن أحسنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَومٍ يُوقِنون}“ المائدة 50 ". وقال: {ومَن يَعْصِ اللهَ ورسولَهُ، فقَد ضَلَّ ضَلالاً مُبيناً}" الأحزاب 36 ". وقال: {أفرَأَيتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَواهُ، وأضَلَّهُ اللّـهُ على عِلمٍ، وخَتَمَ على سَمعهِ وقلبه، وجعل على بصره غِشاوةً، فمَن يَهديهِ مِن بعدِ اللهِ، أفلا تَذَكَّرُون}“ الجاثية 23 ".

هذه هي الجاهلية وأحكامها ؛ ضلال وبُعد عن الدين وعصيان لله ولرسوله، وعبادة للشهوات. إنها الكفر بعينه. وأيضاً حين جعل الرشوة كفراً، فمعناه أن المرتشي يمشي بخطوات حثيثة نحو الجاهلية، ويؤكد وجودها وعودتها إلى حياة الناس. إنها محاربة ومعطلة لأحكام الله ودين الله. أعاذنا اللّـهُ مِن كل جهل وجاهلية، ومن عبادة الأهواء والشهوات، ومن مضلات الفتن والمحرمات.



--------------------------------------------------------------------------------

[1[color="Blue"]] الوسائل، ج12 ص 62

[2] الوسائل، ج12 ص 9 باب 4 صفات القاضي

[3] الوسائل، ج18 باب 8 تحريم الرشوة في الحكم

[4] الوسائل، ج12 ص 63 باب 5[/COLOR )
19

شراء كتب الضلال وحفظها
كتب الضلال: هي كل ما كُتب ووُضع لأجل إغواء الناس وإضلالهم وإبعادهم عن الحق، أو تشكيكهم فيه، سواء كان في عقيدة أو حكم شرعي أو حكم أخلاقي أو سلوك إيماني، وتغييره إلى الفساد والاضطراب. وعلى هذا فهو يشمل الكتب التي تناقش في العقيدة وفي انتقاد الأحكام أو الأخلاق أو بعض المستحبات العبادية والعادات الأخلاقية وغير ذلِكَ.

فكتب الزندقة والكفر، وكتب الفحش التي تعلم الفحشاء والهجاء والسخرية، والقصص التي تتضمن هذه المعاني، والمجلات والجرائد كذلك، وكتب السحر والتنجيم.. وكل ما يوجب الضلال والباطل، هذه كلها يحرم بيعها وشراؤها ويحرم حفظها واقتناؤها، إذا كان يترتب عليها الضلال والانحراف والخروج مِن العقيدة الحقة أو مخالفة وترك الأحكام الشرعية وغير ذلِكَ.

وهذا مِن الأمور الأكيدة والضرورية في الإسلام، لما فيه مِن التوهين للحق وللشريعة وإحياء للباطل وسننه. وقد يشمله ما ورد في إحياء وسنّ السنن الباطلة، فإن عليه وِزرها ووِزر مَن عمل بها إلى يوم القيامة([1]).

وعلى هذا فإن كتب الضلال أياً كان نوعها دينياً وفكرياً وثقافياً وأخلاقياً واجتماعياً، إذا كانت تؤدي قراءتها إلى زعزعة الإنسان في هذه الأمور، فهي محرمة شراء وقراءة. وإذا كان شراؤها وقراءتها لا يؤديان إلى ذلِكَ، بل يبقى المكلف على ما هو عليه مِن إيمانه ودينه وتمسكه بأحكامه وأخلاقياته واجتماعياته، فلا حرمة في شرائها ولا في قراءتها. خصوصاً إذا كان القصد مِن شرائها وقراءتها الردّ عليها، وبيان مافيها مِن زيف وخطأ وفساد فكري وثقافي وعقائدي وأخلاقي.

إن أعداء الإسلام يحاولون الوقوف في وجه الإسلام ومحاربته بشتى الوسائل، والتي مِن أهمها كتب الضلال وإعلانها ودسّها في المكتبة الإسلامية والعربية، وهو مِن الأمور الخطيرة التي نواجهها اليوم في حربنا مع خصوم الإسلام. وخطرها نابع مِن الأسلوب الَّذي ينهجه الأعداء في هذا المجال. فكتب الضلال تأخذ ألواناً عديدة: لون القصة ولون الأدب ولون الشعر ولون الأخلاق والاجتماعيات، والتمثيليات والحواريات والتاريخ وغير ذلِكَ، وهو كثير جداً لمن يحاول أن يستقصي الوسائل التي يستعملها أعداء الإسلام لمحاربة الإسلام، حتى أن بعض الأمور أصبح عرفاً في حياة المسلم، وأصبح لا يستطيع التخلص منه، ولا تجدي المواعظ والتحذيرات منه، والتي منها المخالفات الشرعية المتعددة والتي تتكرر يومياً. هذا نوع مِن الحرب التي يشنها خصوم الإسلام على الإسلام، فالعدو لا يريد منك أن تتجرد كلياً ودفعة واحدة عن دينك وعقيدتك وشريعتك وأخلاقك ولكن بالتدريج، أي يتدرج في طرح الأمور المحرمة، ويجعل الفرد المسلم يألفها ويعيشها كحاجة لازمة، ومنها الغناء والرقص وحضور المجالس المختلطة، التي تذهب الحياء وتذهب الحشمة، وبالتالي تكون مِن الضروريات الحضارية وضرورة المدنية. وهكذا نجد أنفسنا في حالة تصحير مِن الدين، بزوال أحكامه وأثرها وواقعها مِن النفوس حتى لا يبقى سوى العقيدة، وحتى العقيدة تضطرب أمام هذه الأوضاع الشاذة، وقد تصبح في مهب رياح الشك والاضطراب والقلق.

إن الشارع المقدس حمى دينه بعديد مِن الأمور، والتي منها ترك المحرمات والبعد عنها، والوقوف عند الشبهات، فإنّ ترك المحرمات يؤدي إلى الالتزام بالواجبات، وترك الشبهات والوقوف عندها يولد في نفس المؤمن القوة الرادعة والتأهيل الكامل للتسامي بالواجبات وأحكام الدين. مِن هنا نفهم وندرك لماذا حظّر الإسلام قراءة كتب الضلال وشراءها وغيرها مِن الأمور التي تودي بأمر الدين، فالقصد هو تمكين وتمتين أسس الدين وأحكامه في النفس ليبقى وضاءً مشرقاً وفاعلاً قوياً في الحياة.



--------------------------------------------------------------------------------

[1] الوسائل، ج11 ص 436

(20)

معونة الظالمين

معونة الظالمين: هي الميل وسكون النفس إليهم ومساعدتهم ومعاونتهم في ظلمهم والرضا بذلك. وهو مِن أقبح الأمور وأشدها خطراً على حياة الناس، وعواقبه وخيمة في الدنيا والآخرة.

والظلم الَّذي نتحدث عنه هو ظلم العباد بالقهر لهم والتسلط عليهم وإيذائهم وغصب أموالهم وتضييع حقوقهم وانتهاك حرماتهم وإذلالهم. ومعونة الظالمين تكون بما أشرنا إليه مِن رضاهم بظلمهم ومساعدتهم عليه بالقول أو الفعل أو الرضا وغير ذلِكَ...

ولا شك ولا ريب في حرمة المعونة للظالم على ظلمه، ويدل على ذلِكَ العقل والكتاب والسنة.

أما العقل فلأن الظلم بذاته قبيح لما فيه مِن الأذى والاعتداء على حقوق الناس، فالعقل بفطرته يأباه ويستنكره ويرفضه رفضاً قاطعاً.

وأما القرآن الكريم، فقد دلت الآيات العديدة على تحريم الظلم والمعاونة عليه. قال تَعالَى: {ولا تركَنوا إلى الَّذينَ ظلموا فتمسَّكُمُ النّارُ}والركون هو الميل إليهم، فتدل الآية على الحرمة. وكذلك لو قلنا إن الركون هو الدخول في ظلمهم، فتدل على حرمة الظلم والمعاونة عليه بوجه آكد.

وأما الروايات، فعن أبي حمزة الثمالي عن الإمام علي بن الحسين (ع) في حديث قال: إياكم وصحبة العاصين ومعونة الظالمين([1]).

ومنها رواية الحسين بن زيد عن الصادق عن آبائه (ع) في حديث المناهي قال: ألا مَن علّق سوطاً بين يدي سلطان، جعل اللّـهُ ذلِكَ السوط يوم القيامة ثعباناً مِن النار طوله سبعون ذراعاً، يسلّطه عليه في نار جهنم وبئس المصير([2]).

وعن جعفر بن محمّد عن آبائه (ع) قال: قال رسول الله (ص): إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: أين أعوان الظلمة ومَن لاق لهم دواتاً أو ربط كيساً أو مدّ لهم مَدّةَ قلمٍ، فاحشروهم معهم([3]).

وقال (ع): مَن مشى إلى ظالم ليعينه وهو يعلم أنه ظالم، فقد خرج مِن الإسلام([4]).

وعن صفوان بن مهران الجمّال قال: دخلت على أبي الحسن الأول [ الكاظم (ع) ] فقال لي: يا صفوان، كلُّ شيء منك حسن جميل ما خلا شَيْئاً واحداً. قلت: جعلت فداك أي شيء؟. قال: إكراؤك جمالك مِن هذا الرجل ( يعني هارون ). قال: واللهِ ما أكريته أشَراً ولا بطَراً ولا للصيد ولا للهو، ولكني أكريته لهذا الطريق، يعني طريق مكة ولا أتولاه بنفسي، ولكن أبعث معه غلماني. فقال لي: يا صفوان، أيقع إكراؤك عليهم؟. قلت: نعم جعلت فداك. (قال) فقال لي: أتحبّ بقاءهم حتى يخرج كراؤك؟. قلت: نعم. قال: مَن أحبّ بقاءهم فهو منهم، ومَن كان منهم كان وِرد النار. قال صفوان: فذهبت وبعت جمالي عن آخرها، فبلغ ذلِكَ إلى هارون، فدعاني فقال لي: يا صفوان بلغني أنك بعت جِمالك!. قلت: نعم. قال ولمَ؟. قلت: أنا شيخ كبير، وإن الغلمان لا يوفون بالأعمال. فقال: هيهات هيهات إني لأعلم مَن أشار عليك بهذا، أشار عليك موسى بن جعفر. قلت: مالي ولموسى بن جعفر!. فقال: دعْ عنك هذا، فواللهِ لولا صحبتك لقتلتك([5]).

وهذه الرواية التي ذكرناها عن صفوان خاصة به، والإمام رغب لصفوان بإنهاء التعامل، لأنه مِن أعاظم أصحاب الإمام موسى الكاظم (ع) ومن رجال الحديث الَّذينَ لهم السبق والفضل والمنزلة العالية. ولم يظهر مِن الإمام أنه أمره بفك التعامل مع هؤلاء، وإنما لكي لا يكون حجة للغير في التعامل معهم، أراد له الإمام أن يتعالى ويتنزّه بالشكل الَّذي تبقى له مكانته.

والحاصل أن معونة الظالم حرام، وكذلك الكسب منها وبواسطتها، فالمال أيضاً حرام وسُحت.

أعاذنا اللّـهُ مِن مساوئ الأمور ومزالق الأقدام.

إن العدل مِن أحب الأمور إلى النفس البشرية، وهو يتلاءم مع الفطرة وينسجم مع الضرورات الإنسانية، ويكبح جماح النفس التي لا تعرف لها حدوداً في عالم الأهواء والشهوات، ويردعها عن شرور النزوات والرغبات ويعيدها إلى أصالتها. ولذلك كان مِن الأمور المهمة في الشرع وفي حكم العقل أن يلتزم الإنسان العدل في كافة شؤونه، وكان مِن أهم مظاهر العدل للإنسان " العدل مع نفسه " أولاً، ومع غيره ثانياً.

والعدل مع النفس أن تضعها على جادة الحق والصراط السويّ، وأن تمنعها عن كل ما يشينها وكل ما يلوثها مِن الأخلاق الرديئة السيئة التي تؤدي بها إلى الهلاك والخسران. فإذا لم يفعل ذلِكَ فقد ظلم نفسه، ومَن ظلم نفسه لم يُؤمَن مِن أن يظلم غيره مِن الناس.

ورد في رواية أن رجلاً كتب إلى أبي ذر [ وقيل إلى الإمام الحسن (ع) ] قال: أطرفني بشيء!. فكتب إليه أبو ذرّ: إذا قدرتَ أن لا تظلم نفسك فافعل. فكتب إليه الرجل: وهل يوجد مَن يظلم نفسه؟!. فأجابه أبوذرّ: نعم نفسُك التي هي أعزّ الأنفس عليك، إذا عصيتَ الله بها فقد ظلمتها.

إن معونة الظالم تستقى منابعها مِن هذا الواقع، وهو أنّا نظلم أنفسنا أو ظلَمْنا أنفسنا، وحين ظلَمْنا أنفسنا أصبح ظلم الناس سهلاً علينا. وبهذا يستعين الظَّلَمة في اتخاذ أعوانهم، إنهم يستميلونهم أولاً ويغرونهم بكافة المغريات التي تخرجهم عن واقعهم وعن أصالتهم، حتى إذا ما أَلِفُوا الظلم أدخلوهم في مداخل الظلم، فيعتادوا عليه ويستصغروه ثمّ يبرروه، وعندها يصبح مِن الصعب التراجع عنه. أعاذنا اللّـهُ مِن الظلم ومن الغفلة ومن الضعف والوهن أمام الأهواء والشهوات والنزوات، ومطامع النفس والمغريات، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وأما التعامل مع الظالمين في الأمور المباحة مثل بناء بيت أو زراعة بستان أو تأجير حوائج لهم، فهل يجوز ذلِكَ أم لا؟.

الظاهر الجواز بمقتضى القواعد الشرعية ولما ثبت مِن السيرة المستمرة على ذلِكَ إلى زمان المعصوم. كما ظهر لنا مِن إكراء صفوان الجمال جماله لهم، ومن تعامل علي بن يقطين معهم، مع عدم ردع المعصوم لهم عن ذلِكَ. وقد أشرنا إلى أن ما رغّبه الإمام (ع) لصفوان مِن قطع علاقته بهارون كان تنزيهاً له مِن أن يكون سبباً وحجة للآخرين في صحة المعونة لهم.

وهذا الَّذي ذكرنا مِن جواز التعامل معهم في المباحات، مشروط بأن لا يحسب عليهم ومن أعوانهم، أو يؤدي عمله عندهم إلى تقوية سلطانهم وزيادة شوكتهم وتأييدهم على الباطل والظلم، وعلى هذا تحمل الأخبار التي تمنع مِن التعامل معهم، مثل قوله (ع): لا تُعِنْهُم على بناء مسجد. واللّـهُ العالم.



--------------------------------------------------------------------------------

([1]) الوسائل، ج12 باب 42

([2]) الوسائل، ج12 ص 130

([3]) الوسائل، ج12 ص 131 و 132

([4]) الوسائل، ج12 ص 131

([5]) الوسائل، ج12 ص 131 و 132
(21)

التَّسـَوُّل


السؤال أو التسوُّل مِن غير حاجة، هل هو حلال أم حرام؟. وهل يجوز للمرء أن يجعل التسول وسيلة رزقٍ وعيش، كما هو سائد وشائع في هذا الزمان، ومن مختلف الطبقات والمراتب؟. حتى بات الإنسان لا يعرف أو لا يطمئن إلى فقير، ولا يميّز الفقير مِن غيره، ولا يستطيع أن يتقرب إلى الله سبحانه بالعطاء والصدقة، مع ما ورد في الحث على الصدقة والاهتمام بها.

ولا أذيع سراً إن قلت: إن بعض مَن يطلب المال، يطلبه لأجل شرب الخمر أو المخدرات، وبعضه يطلب الصدقة ليستمر في المنكرات التي اعتاد عليها. ويتسول البعض ليغطي بعض التصرفات السيئة التي اعتاد عليها أيضاً، والبعض الآخر أو الأكثر ممن يطلب، يطلب ليجمع المال وهو غير محتاج.

أتحدث عن هذا الموضوع وبهذه الصراحة لأني ممن ابتلي بالناس، واكتشفت هذه المعاني مِن خلال الطلبات المتكررة التي تصدر منهم.

إذن فليس هناك مَن يطلب عن حاجة أو يدفعه الضيق والفقر والعوز للطلب إلا النزر القليل. والمحتاج الفعلي يمسك عن المسألة والطلب ترفعاً وعزة وكرامة، فهو يفضّل أن يطوي جوعاً ويتحمل مرارة الحرمان ولا يمدّ يده لأحد.

والحديث حول هذا الموضوع واسع جداً إذا ما أراد الإنسان أن يبحث في جميع جوانبه ويتوسع في الاشخاص الَّذينَ يطلبون والكيفيات التي يستعملونها والأساليب التي يتوسلون بها. والمهم أن هذا المعنى موجود وله واقع خارجي، والأساليب عديدة والحيل كثيرة. وهذه الظاهرة خطيرة جداً اجتماعياً وأخلاقياً ودينياً، ونحن معنيّون أن نبحث الموضوع مِن الناحية الدينية.

فالتسول لا يصحّ شرعاً أن يكون وسيلة عيش للإنسان أو أن يكون مورد كسب له، بل هو حرام بعنوانه الأولي، وذلك لأن فيه امتهان لكرامة الإنسان وإذلال لنفسه، وليس للمؤمن أن يذلّ نفسه ولا أن يمتهنها، لأن الله خلق الإنسان عزيزاً وأعزّه وأكرمه بالإيمان والإسلام، فكل ما يؤدي إلى ذلّه وإلى إهانته فهو إذلال للدين وإهانة للإسلام، فإذا وضع نفسه في هذا الموضع غير اللائق به فهو حرام.

ويدل على ذلِكَ مِن القرآن الكريم قوله تَعالَى:

{ولِلّهِ العِزَّةُ ولِرَسوله ولِلمؤمنين}" المنافقون 8 ".

ومن السنّة أخبار كثيرة، منها مرسلة ابن أبي عمير عمن سمع أبا عبد الله (ع) يقول: إياكم وسؤال الناس، فإنه ذلّ في الدنيا، وفقر يستعجلونه، وحساب طويل يوم القيامة([1]).

وفي حديث قال أبو عبد الله (ع): لو يعلم السائل ما عليه مِن الوزر، ما سأل أحدٌ أحداً. ولو يعلم المسؤول ما عليه إذا منع ما منع أحدٌ أحداً([2]).

والمتتبع للأحاديث الواردة في أبواب الصدقة، قد يحصل له الاطمئنان بالتواتر الإجمالي في أن السؤال مِن غير حاجة أمر غير مرغوب وقبيح ويستوجب الذل. ومن خلاله يقطع بحرمة السؤال مِن غير حاجة، وهو كذلك لما أسلفنا مِن الذل والامتهان للنفس وللكرامة، ويحرم على الإنسان ذلِكَ، ولما يستفاد مِن الروايات أيضاً. وأما المحتاج الَّذي لا يجد مجالاً لسد حاجته إلا مِن هذا الباب، فيجوز له ذلِكَ، لأنه محتاج ومضطر لذلك ولا وسيلة لديه سواه.

وأما المال المأخوذ مِن هذا الباب لغير لمحتاج فهو حرام قطعاً، لأن المعطي أعطاه على أساس الحاجة وأنه فقير، ولم يعطه على الإطلاق، أي سواء كان محتاجاً أو غير محتاج، بل أعطاه للمحتاج. والمحتاج أيضاً ليس له أن يصرفه في غير الوجوه المتعارفة مِن أكل وشرب وقضاء احتياجاته، وأما الأمور التي فيها مخالفات شرعية فلا يجوز له التصرف بهذا المال وبغيره.

وقد ورد في الحديث أن الحسن (ع) قال لرجل سأله: إن المسألة لا تحلّ إلا في أحد ثلاث ؛ دم مفجع، أو دَين مقرح، أو فقر مدقع. ففي أيها تسأل؟. فقال: في واحدة مِن هذه الثلاث([3]).



--------------------------------------------------------------------------------

([1]) الوسائل، ج 6 ص 307

([2]) المصدر السابق

([3]) الوسائل، ج 6 ص 312
وهل يجوز استرجاع الصدقة؟.

الجواب: المال الَّذي يعطى للفقير، مرة يعطى بعنوان الهبة والهدية أو غيرهما مِن العناوين المحبوبة، ومرة يعطى بعنوان الصدقة قربةً إلى الله تَعالَى. فإن أعطي بعنوان الهدية أو الهبة فيجوز الرجوع فيه، وذلك للأدلة الدالة على جواز الرجوع بالهدية والهبة، إلا إذا كان رحماً.

وأما إذا أعطى بعنوان الصدقة فيشكُل الرجوع بها. وإذا استرجعها، كما لو كان الفقير الطالب لها غير محتاج وعرف به ونوى بالمال الَّذي يريد إعطاءه الصدقةَ، أو كان يريد أن يعطي شَيْئاً ونوى به الصدقة ووجد الفقير قد انصرف، فلا يصح له في كل هذه الوجوه أن يتصرف بها، لأنه أخرجها عن ملكيته، وجعلها لله سبحانه. وفي ذلِكَ أخبار عديدة.

منها ما عن الحسين بن علوان عن الإمام جعفر عن أبيه (ع) أن علياً (ع) كان يقول: مَن تصدَّق بصدقة فرُدَّت عليه، فلا يجوز له أكلها، ولا يجوز له إلا إنفاقها، وإنما هي بمنزلة العتق لله، فلو أن رجلاً أعتق عبداً لله فردّ ذلِكَ العبد، لم يرجع في الأمر الَّذي جعله لله، فكذلك لا يرجع في الصدقة([1]).

وفي صحيح زرارة عن أبي عبد الله (ع) قال: إنما الصدقة محدثة، إنما كان الناس على عهد رسول الله (ص) ينحلون ويهبون. ولا ينبغي لمن أعطى لله شَيْئاً أن يرجع فيه. وما لم يعط لله وفي الله، فإنه يرجع فيه، نِحلةً كانت أو هبة، حيزت أو لم تُحَز([2]).

وفي صحيح علي بن جعفر (ع) عن أخيه موسى بن جعفر (ع) قال: سألته عن الصدقة إذا لم تقبض، هل تجوز لصاحبها؟.. إلى أن قال في آخر الرواية: وسألته عن الصدقة تُجعل لله مبتوتة، هل له أن يرجع فيها؟.

قال: إذا جعلها لله فهي للمساكين وابن السبيل، فليس له أن يرجع فيها([3]).

وفي موثقة الحلبي عن أبي عبد الله (ع) قال: قال رسول الله (ص): إنما مثل الَّذي يرجع في صدقته، كمثل الَّذي يرجع في قَيئـه([4]).

التسوّل ظاهرة مِن أخطر الظواهر التي تُحدث تغييرات اجتماعية ذات أبعاد ونتائج سيئة جداً، فالمتسول يفقد الكثير مِن وضعه الاجتماعي والأخلاقي، فاجتماعياً يعتبر الإنسان المتسول ساقطاً وغير مؤهل لأي اعتبار اجتماعي، لأنه ذاته لا يرى لنفسه حرمة ومكانة بين مجتمعه، فكيف يمكن للمجتمع أن يؤكد له هذا الاعتبار؟. هذا مضافاً إلى حالة التسول التي تفقده الإحساس بالدور أو القيمة إلا في هذا الإطار، ولذلك تجد أن مَن يعطيه شَيْئاً أو صدقة يقيّمه بأنه غريب عن هذا المجتمع وحالة لا يتمناها أبداً ؛ ولذلك تكون العطية التي تمدّ اليد بها إليه تجسيد لهذا التقييم.

وأما أخلاقياً، فالمتسول يفقد الكثير مِن الأخلاقيات، فالحياء مفقود لديه، ولذلك لا يتسول ولا يستجدي مَن لديه ذرة مِن الحياء. لقد استبدّ به الحرص والطمع، وعدم القناعة بما يعطى، وعدم الاكتفاء بما يحصل عليه.

كذلك المتسول لا يملك شَيْئاً مِن المقومات التي ترتقي به إلى الأدب والتوقير، ولذلك قد يحتاج إلى أن يظهر بمظهر الضعف حتى يستثير العطف والشفقة مِن الناس، وبهذا يكون قد استعمل الحيلة والكذب والخداع، ولا يمتنع مِن النفاق وغيره مِن المحرمات الأخلاقية الأخرى، مادامت توصله إلى أن يحصل على القدر الكبير مِن المال.

وحتى أستوعب الأمور المهمة التي تتعلق بالتسول أذكر هذه الطائفة مِن الأخبار، وفيها الكفاية للتعبير والتأكيد على مخاطر هذه الحالة اجتماعياً وأخلاقياً ودينياً.



--------------------------------------------------------------------------------

([1]) الوسائل، ج 6 ص 294

[2] الوسائل، ج13 ص 334

[3] الوسائل، ج13 ص 338

[4] الوسائل، ج13 ص 317
أهميـة الصدقة:

لقد ورد التأكيد على الصدقة في القرآن والسنة، والحث عليهما أيضاً، وما ذاك إلا لأنها الوسيلة التي يُستشعر فيها وبها التعاون المطلق مع الفقراء والمساكين والشعور بالمساواة والمواساة لهم والاهتمام بشأنهم، خصوصاً عندما يعرف الإنسان بأن الله سبحانه وتعالى هو مقسّم الأرزاق، وأنه لم يعطِ الغني لكرامة له عند الله، ولا حرم الفقيرَ لهوان به على الله، وأنه أعطى الغني لمصلحة وقتّر على الفقير لمصلحة لا يعلمها إلا هو. وقد ينقلب الحال، وما ذاك إلا لمصلحة أيضاً.

ورد في الحديث الشريف في فضل الصدقة:

عن أبي عبد الله (ع) قال: إن الصدقة تقضي الدين وتخلّف البركة.

وعن أبي جعفر (ع) قال: البرّ والصدقة ينفيان الفقر، ويزيدان في العمر.

وعن الرضا عن آبائه (قال) قال النبيّ (ص): خير مال المرء وذخائره الصدقة.

وقال أمير المؤمنين (ع): إذا أملقتُم فتاجِرُوا اللهَ بالصدقة.

وقال رسول الله (ص): داووا مرضاكم بالصدقة.

وغير ذلِكَ كثير، مما يبيّن ويؤكد فضل الصدقة وأهميتها عند الله وفي حياة الناس ؛ روحياً وأخلاقياً واجتماعياً.

إلا أن الصدقة هذه في فضائلها وفي آثارها، إنما هي إذا كانت بشروطها ؛ ومنها أن يقصد بها وجه الله تَعالَى، وأن تكون للفقير المحتاج، وأن لا يكون فيها مَنٌّ أو أذى، وأن تكون سراً إن أمكن، فصدقة السرّ تطفئ غضب الرب.

وحين يطلبها الإنسان وهو غير محتاج، تكون النتيجة أن هذا الإنسان بدلَ أن يكون موضع رحمة مِن الله سبحانه وسبب خير، يكون سبب بلاء لنفسه ولغيره، والأخبار الشريفة تحكي هذه المضامين.

قال أبو عبد الله (ع): ما مِن عبد يسأل مِن غير حاجة فيموت، حتى يحوجه اللّـهُ إليها، ويثبت له بها النار([1]).

وقال أمير المؤمنين (ع): اتّبعوا قول رسول الله (ص) فإنه قال: مَن فتح على نفسه باب مسألة، فتح اللّـهُ عليه باب فقر.

وعن محمّد بن مسلم (قال) قال أبوجعفر (ع): يا محمّد لو يعلم السائل ما في المسألة ما سأل أحدٌ أحداً. ولو يعلم المعطي ما في العطية ما ردّ أحدٌ أحداً.. ثمّ قال: يا محمّد إنه مَن سأل وهو بظهر غِنى لقي الله مخموشاً وجهه يوم القيامة.

وفي ( عدة الداعي ) عن الصادق (ع) قال: مَن سأل مِن غير فقر فكأنما يأكل الخمر([2]).



--------------------------------------------------------------------------------

[1] الوسائل، ج 6 ص 305

[2] المصدر السابق
السؤال مع الحاجة:

وقال أبو عبد الله (ع): رحم اللّـهُ عبداً عفّ وتعفَّف وكفَّ عن المسألة، فإنه يتعجل الذل في الدنيا، ولا يُغني الناسُ عنه شَيْئاً([1]).

وقال رسول الله (ص): يا أبا ذرّ إياك والسؤال، فإنه ذُلّ حاضر، وفقر تتعجّله، وفيه حساب طويل يوم القيامة.. إلى أن قال: يا أبا ذرّ لا تسأل بكفك، وإن أتاك شيء فاقبله.

وفي ( عدة الداعي ) عن أبي عبد الله (ع) قال: شيعتنا مَن لا يسأل الناس ولو مات جوعاً.

وقال النبيّ (ص): شهادة الَّذي يسأل في كفّه تُـرَدّ.

وقال أبو عبد الله (ع): (لو يعلم السائل ما عليه مِن الوزر، ما سأل أحدٌ أحداً)([2]).

وقال النبيّ (ص) يوماً لأصحابه: ألا تبايعوني؟. فقالوا: قد بايعناك يا رسول الله. قال: تبايعوني على أن لا تسألوا الناس، فكان بعد ذلِكَ تقع المخصرة مِن يد أحدهم، فينزل لها ولا يقول لأحد ناوِلـْنيها([3]).

وروى الكليني قال: روي عن لقمان أنه قال لابنه: يابنيّ ذُقتُ الصَّبِر، وأكلت لِحاء الشجر، فلم أجد شَيْئاً هو أمرّ مِن الفقر، فإن بُليت به يوماً فلا تظهر الناس عليه، فيستهينوك ولا ينفعوك بشيء. ارجِعْ إلى الَّذي ابتلاك به فهو أقدر على فرَجك، واسأله فمن ذا الَّذي سأله فلم يعطه، أو وثق به فلم يُنْجِه؟([4]).

وأختم حديثي بهذا الحديث، قال رسول الله (ص): يا علي، إن الله جعل الفقر أمانة عند خلقه ؛ فمن ستره كان كالصائم القائم، ومَن أفشاه إلى مَن يقدر على قضاء حاجته فلم يفعل فقد قتله، أما إنه ما قتله بسيف ولا برمح ولكنه قتله بما نكأ مِن قلبه([5]).

وما أطلت في الحديث عن هذا الموضوع إلا لأن هذه الظاهرة ‘‘ التسوّل ’’ تزداد بشكل ملحوظ وظاهر، وهي تأخذ منحى اجتماعياً خطيراً، يتحلل الإنسان في ظلها عن المسؤولية، ويتجه إلى الفوضى والارتباك الاجتماعي والأخلاقي والسلوكي والاقتصادي، لأنه سبب مِن أسباب البطالة المقنّعة التي تهدم المجتمع وتهدم الاقتصاد. والحديث طويل جداً في هذا الموضوع، نتمنى على المؤسسات والجمعيات الخيرية وعلى كل الفعاليات الرسمية والشعبية التي يمكنها أن تعمل على إيقاف هذه الظاهرة، أن لا تتوانى في مكافحة التسول حتى تقضي عليه، فإن هذا مِن أهم الخدمات والأعمال التي تُقَدَّم للإنسان والمجتمع.



--------------------------------------------------------------------------------

[1] الوسائل، ج 6 ص 308

[2] المصدر السابق

[3] الوسائل، ج 6 ص 310

[4] الوسائل، ج 6 ص 311

[5] المصدر السابق
(22)

بيع الدراهم المغشوشة

(وتزوير العملة)

العملة التي كانت تتداول بين الناس قديماً هي الدرهم والدينار، والدرهم كان يصنع مِن الفضة، والدينار مِن الذهب. وكان لكل واحد منهما وزن خاص، وقد ينقص عنهما. لذلك ورد في الأخبار أنه لابدّ مِن البيان والإعلام إذا كانا أقل مِن الوزن المتعارف عليه. كما أنه إذا تغيرت الأوصاف بأن استعمل وجهاً فضة والآخر نحاساً، قد يسقط عن التعامل به لأنه غش، ويدل على ذلِكَ ما ورد في رواية علي الصيرفي عن المفضّل بن عمر الجعفي قال: كنت عند أبي عبد الله (ع) فأُلقي بين يديه دراهم، فألقى إليّ درهماً منها، فقال: إيش هذا؟ قلت: مستوف، فقال: وما المستوف، قلت: طبقتين فضة وطبقة نحاس. فقال: اكسرها فإنه لا يحل بيعه ولا إنفاقه([1]).

وغيرها مِن الروايات أيضاً تحكي نفس المضمون. والإمام (ع) حين أمر بكسرها وعدم بيعها وعدم إنفاقها " نصف فضة ونصف نحاس " لأنه لا اعتبار لها كعملة، وأما كمادة الفضة والنحاس فيمكن شراؤها كفضة ونحاس، وهذا أمر آخر.

ثمّ إذا كان المتعاملان عالمَين بواقع الدراهم والعيب والغش الَّذي فيها فلا مانع، لإقدامهما على ذلِكَ وعلمهما. ويدل عليه ما ورد في صحيحة علي بن رئاب قال: لا أعلمه إلا محمّد بن مسلم قال: قلت لأبي عبد الله (ع): الرجل يعمل الدرهم يحمل عليه النحاس أو غيره ثمّ يبيعها. قال: إذا بيّن ذلِكَ فلا بأس([2]).

وأما إذا كانا جاهلين فلا حرمة في التعامل لجهلهما. وأما عن صحة المعاملة فنقول بعدم صحتها، وذلك لأن ما وقع عليه العقد لم يقصد، وما قصد لم يقع، ووصف الدرهم الصحيح الفضي مِن الأمور المقوّمة للعملة، فلا تصح. ومع ذلِكَ في مثل هذه المسألة يراجع الإنسانُ مقلَّده، فإن فيها كلاماً طويلاً.

وأما إذا كان البائع عالماً بالغش والعيب، وكان المشتري جاهلاً، فيحرم على البائع تكليفاً هذا التعامل لأنه غش، وكذلك يقال بعدم صحة المعاملة لما ذكرنا.



--------------------------------------------------------------------------------

[1] الوسائل، ج12 باب 10 أبواب الصرف

[2] الوسائل، ج12 باب 2 الصرف

تزوير العملة الورقية:

وبما أن التعامل بالدراهم والدنانير أصبح لاغياً في زماننا هذا، وأصبح التعامل بالعملة الورقية، التي تكسب اعتبارها مِن إقرار واعتبار الحاكم والسلطان لها، ولذلك إذا زُوّرت هذه العملة ففي مثل هذه الحالة التزوير قطعاً حرام، لما فيه مِن الإضرار بالوضع العام وبالناس واضطراب شؤونهم وأمورهم، وأيضاً لما فيه مِن المخاطر الكبيرة على البلاد وزعزعة الاقتصاد والأمن الاقتصادي، وكذلك لأنه سرقة لأموال الناس، فإن طرح هذه العملة المزوّرة في الأسواق وتتداول الناس بها يستدعي أن يأخذ بدلها مِن أموال الناس، وهو أخذ بلا حق، وهو عين السرقة. فكل هذه العناوين تستدعي حرمة التزوير بذاته، ولما يتسبب عنه مِن مخاطر ومضار. ولذلك كان الآخذ غاصباً وضامناً لأموال الناس التي أخذها ودفع مقابلها عملة مزوّرة.

وقد يستفاد هذا مِن الروايات الواردة في الدراهم المغشوشة وعدم جواز التعامل بها. ورد في رواية موسى بن أبي بكير قال: كنا عند أبي الحسن (ع) وإذا دنانير معيوبة بين يديه، فنظر إلى دينار فأخذه بيده ثمّ قصّه نصفين، ثمّ قال لي: ألقِهِ في البالوعة، حتى لا يباع شيء فيه غش([1]).

إن الأمن الاقتصادي مهم كالأمن على حياة الناس، بل لا يقلّ عنه ضرورة وأهمية، فالاقتصاد يشكل قاعدة أساسية في حياة الناس واستقرارهم، ولذلك كان ما يؤدي إلى تقوية الجانب الاقتصادي وتوسيع حركته بما يعود على الناس بالنفع والتوسعة والوفرة مِن علامات القوة في البلاد، ومن علامات الاستقرار والانتظام بين الناس، لأن أكثر ما يشغل بال العامة مِن الناس الفرد والمجتمع، هو تدبير أمور العيش وتأمين الاحتياجات الأولية الضرورية، وحين تكون توسعةٌ ووفرة في الموارد والأمور المعيشية، وحين يكون هناك رعاية لشؤون العامة، يشعر الناس بالاطمئنان والراحة ويتوجهون إلى البناء والإعمار والتخطيط الَّذي يعبِّر عن الوحدة وعن القوة وعن التلاحم وعن الأخلاقية. ولذلك نجد الحاكم والأمة التي تهتم بهذا الجانب هي الأمة التي تسير نحو التقدم والحضارة، وهي الأمة التي تملك زمام القدرة على بناء بلادها البناء المتكامل وعلى استيعاب الحضارة لها بشكل صحيح.

ونستفيد هذا المعنى مِن كلمات مولانا أمير المؤمنين في عهده لمالك الأشتر، حيث قال (ع):

وليكن نظرك في عِمارة الأرض أبلغ مِن نظرك في استجلاب الخراج، لأن ذلِكَ لا يُدرك إلا بالعمارة. ومَن طلب الخراج بغير عمارةٍ أخربَ البلاد وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلاً.

ويقول (ع): وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق، وأعمها في العدل، وأجمعها لرضا الرعية.

ويقول (ع): وإنما عماد الدين وجِماع المسلمين والعُدَّة للأعداء، العامةُ مِن الأمة، فليكن صغوُك لهم وميلك معهم.

وقال (ع) في بعض كتبه إلى بعض عماله: وإنّ عملك ليس لك بطُعمة، ولكنه في عنقك أمانة، وأنت مسترعى لمن فوقك، ليس لك أن تفتات في رعية([2]).

وغيرها مِن الكلمات، مثل قوله (ع): ولعل بالحجاز أو اليمامة مَن لا طمع له بالقرص ولا عهد له بالشبع. أو أَبيتَ مِبطاناً، وحولي بطون غَرثى وأكباد حرّى.

وكذلك كلماته في الاحتكار التي سبقت.

هذه الكلمات تؤكد على ضرورة الاهتمام والعناية بالوضع العام للناس، وعدم فسح المجال أمام أي أحد للتلاعب بمقدراتهم وخلق الفوضى بينهم، أياً كان نوعها وشكلها وخاصة بأمنها الاقتصادي.

إن مثل هذا الكسب الحرام لا يعتبر كسباً، وإنما هو تدمير للحياة الإنسانية في أغلب شؤونها. وورد في الحديث الشريف عن أبي عبد الله (ع) قال: سئل رسول الله (ص): مَن أحبُّ الناس إلى الله؟. (ع) قال: أنفع الناس للناس.



--------------------------------------------------------------------------------

[1] الوسائل، ج12 باب 86

[2] تصنيف نهج البلاغة للدكتور لبيب بيضون، ط1 قم، ص 598 و 609

(23)

تشبّه الرجال بالنساء
[ والنساء بالرجال ]

هذه المسألة مِن المسائل التي لها واقع خارجي، بمعنى أن التشبّه أمر حقيقي وواقع، فالنساء تتشبّه بالرجال إلى درجة لا تعرف أنها امرأة، والرجال يتشبّهون بالنساء إلى درجة لا يُعرفون بأنهم رجال. وإذا كان هذا التشبُّه منطلق كسبٍ للرجل والمرأة، فهل يجوز للرجل أن يتشبه بالمرأة يتزيّن بزينتها ويأخذ شكلها وأوضاعها، وهل يجوز للمرأة أن تتشبّه بالرجل وتأخذ شكله وكامل أوضاعه، أم لا؟.

التشبه باللباس وذلك بأن يلبس الرجال لباس المرأة والمرأة لباس الرجل، هذا لا يعتبر مِن التشبّه الَّذي هو محل الاستفهام والاستنكار منه، فإن لُبس أحدهما لباس الآخر قد يكون مِن باب الضرورة ولا مانع منه، وقد يكون اختياراً وهو مما يتعارف في البلاد أحياناً فلا مانع منه. نعم التشبّه الَّذي يمنع منه الشرع إن كان، هو أن يتزيى كل واحد بزيّ الآخر، كما أسلفنا في أول الكلام، وكما يفعله أهل الفسوق والتمثيل، فإن هذا مما يعلم كراهته ومبغوضيته لأهل الشرع، خصوصاً إذا استتبع واستلزم شَيْئاً مِن المحرمات. صحيح إن مابين أيدينا مِن أدلة في هذا الموضوع قد لاتغني في تأكيد الحكم والفتوى بالحرمة بشكل قاطع، إلا أن ما قلناه مِن أنه مما يعلم مِن مذاق أهل الشرع فيما نراه مِن تشبه المرأة بالرجل حتى لا تظن بأنها امرأة، ومن تشبّه الرجل بالمرأة حتى لا تظن بأنه رجل ؛ المبغوضية، بل يقطع الإنسان بالحرمة لما فيه مِن الفساد والإفساد وتغيير خلق الله. ومما يؤكد الحرمة في هذا الموضوع أنه ينطبق عليه أنه لباس الشهرة، ولباس الشهرة حرام كما ورد في ذلِكَ الروايات الصحيحة.

ففي صحيحة أبي أيوب الخزاز عن أبي عبد الله (ع) قال: إن الله يبغض شهر اللباس([1]).

ولباس الشهرة هو ما يدعو للسخرية والاستهزاء، وهو محرم قطعاً.

كذلك إن هذا الأمر مِن الوجهة العرفية والأخلاقية والاجتماعية مرفوض قطعاً، فضلاً عن الجهة الدينية، فليس كل ما هو حلال أو لاحرمة فيه، ينبغي أن يكون أو يصح عمله، ذلِكَ لأن تقييم الأعمال سواء مِن الرجل أو مِن المرأة يتبع الأخلاقية التي يتمتع بها كل واحد منهما، ويتبع الوازع الروحي والديني الَّذي يعكس ويجسّد الاتجاه الأخلاقي.

المرأة لها طبيعتها ولها مشاعرها ولها عواطفها ولها إحساسها، وهي في كل شؤونها وفي كل تحركاتها تكون قد جسّدت طبيعتها وحقيقتها، وهكذا الرجل. وهما بذلك يتحركان بالصفات الطبيعية التي وجدت فيهما.

وحين تتشبه المرأة بالرجل والرجل بالمرأة، التشبُّه الَّذي يحاول كل منهما أن يجسّد واقعاً غير واقعه، ويتحرك بعاطفة غير عاطفته، وإحساس غير إحساسه، وبشعور غير شعوره الواقعي والطبيعي، فإن هذا يعني الانحراف عن الواقع وعن الأخلاقية التي يجب أن يتمتع بها كل واحد منهما، وحين يصبح هذا مبدأ وشائعاً، يؤدي إلى الانحلال الأخلاقي والانحراف وفسح المجال أمام احتمالات الشر والفساد، وما أسرعها في الحياة.

إن الجمال والكمال في المرأة أنّ تبقى امرأة بكل شؤونها، والرجل قيمته وجماله وكماله أن يكون رجلاً كما أوجده اللّـهُ، وما جعل الرجال قوّامون على النساء، ومافُضّلوا إلا للطبيعة السامية عندهم. وما قُيِّمت المرأة بقيمتها واحتضنها الإسلام بالودّ والعطف واللطف والمكانة إلا لسموها في أنوثتها. ولو كان كل مِن الرجل والمرأة يعرف موقعه وأهميته في عقله وفي عواطفه وأحاسيسه لما حاول كل منهما أن يتشبّه بالآخر، التشبّه الَّذي يخرجه عن واقعه وعن دوره في الحياة.

إن قيمة المرأة في الوجود الإنساني أنها حجر الزاوية في ذلِكَ الوجود، وكذلك الرجل، وما خلق فيهما مِن أحاسيس ومشاعر للتأكيد على هذه القيمة وهذا الجمال. ولا أريد أن أخوض في حديث عن هذا الموضوع بأكثر مما ذكرت، فهو موضوع حساس وله أهميته كما له مخاطره. والذي ذكرت لا يتطرق إلى العمل، فالعمل مفسوح أمام الجميع للرجل والمرأة، وكل بحدوده وقيمه الأخلاقية والدينية.

والكسب مِن هذا اللباس أحقر كسب يحصله الإنسان، فالكسب الَّذي يأتي نتيجة إذلال نفسه والسخرية به، لا خير فيه.



--------------------------------------------------------------------------------

[1] الوسائل، ج3 باب 13 أبواب الملابس
(24)

ترويج بضائع الكفار ومقاطعتها


المقصود مِن هذا العنوان التعامل التجاري مع أهل الكفر والملل الأخرى، ولا إشكال أن الحديث في هذا الموضوع له تشعبات كثيرة، نذكر بعضها:

1 - الأمر الأول: التجارة بعنوانها الأولي، أي بما هي تجارة بيع وشراء وأخذ وعطاء، أمر مباح مع كل أحد، ولا يشترط الإسلام في التجارة وفي التعامل التجاري إطلاقاً.

وهذا ما يستفاد مِن الأدلة الواردة في ذلِكَ: {أحَلَّ اللّـهُ البيع}و {إلا أن تكونَ تجارة عن تراضٍ منكم}و {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل}وكذلك قوله تَعالَى: {أَوفُوا بالعقود}. وكذلك الحديث الَّذي يقول: لا يحلّ مال امرئ إلا عن طيب نفس منه، وكذلك الحديث: الناس مسلطون على أموالهم.

2 - الأمر الثاني: يوجد بين المسلمين وبقية الملل والأديان تعهد ضمني وإقرار ضمني قائم على احترام الأنفس والأموال والدماء والأعراض، فلا المسلم يعتدي على حرمة غيره ولا غير المسلم يعتدي على المسلم في نفسه وأمواله وعرضه ودمه وكافة شؤونه، ويتعاملون فيما بينهم على هذا المبدأ سواء في الوطن الواحد، كما في البلاد التي يتعايش المسلمون فيها مع غيرهم مِن أهل الأديان والملل السماوية وغيرها.

وهذا التعهد الضمني وثيقة ملزمة لكل الأطراف، لا يجوز الإخلال بها في أي شأن مِن الشؤون ولا بأي شكل مِن الأشكال.

3 - الأمر الثالث: إنه في مقام الخلاف فيما بين المسلم وغيره مِن أهل الأديان والملل الأخرى، المرجع يكون مَن يحتكمون إليه ويرضون به حكماً دينياً أو القوانين الوضعية، أو الصلح حسب الاتفاق، على نحو لا يؤدي ذلِكَ الخلاف إلى صراع ديني أو مذهبي أو إقليمي أو دولي، وبعيداً عن المؤثرات والمصالح السياسية.

4 - الأمر الرابع: في حالة التعنّت وتدخل المؤثرات والمصالح السياسية، وفي حالة أن يقف غير المسلم محارباً للمسلم في وجوده وفي حياته وفي كافة ظروفه، كما هو قائم الآن مع الدول العربية وإسرائيل، والدول المؤيدة لإسرائيل في موقفها تجاه المسلمين والعرب، مما يشعر بشنّ الحرب العلنية، ليس فقط على المسلمين كأفراد وجماعات، وإنما أيضاً على دينهم، بل القصد الأساسي هو حرب الإسلام، وعليه ففي هذا المقام وفي هذه الحالة، هل يجوز التعامل مع الدول المحاربة للإسلام والمسلمين، والدول المؤيدة لمحاربة الإسلام، أم لا؟.

الجواب: قطعاً لايجوز ذلِكَ إطلاقاً. ويدل على ذلِكَ قوله تَعالَى: {يا أيـُّها الَّذينَ آمَنوا لاتتَّخِذوا عدُوِّي وعدُوَّكُم أولِياءَ تُلقُونَ إليهم بالمـَوَدَّةِ، وقد كفروا بما جاءكم مِن الحقِّ، يُخرجونَ الرسولَ وإياكم، أن تؤمنوا باللهِ ربِّكم} " الممتحنة1 ".

وقال تَعالَى: {لا ينهاكمُ اللّـهُ عنِ الَّذينَ لَم يُقاتلوكم في الدين ولم يُخرجوكم مِن دياركم، أن تَبَرُّوهُم وتُقسِطوا إليهم، إنَّ اللهَ يحبُّ المـُقسِطين * إنـَّما ينهاكمُ اللّـهُ عنِ الَّذينَ قاتلوكم في الدين وأخرجوكم مِن دياركم وظاهَروا على إخراجكم، أن تَوَلـَّوهُم، ومَن يتَوَلـَّهُم فأولئك همُ الظالمون}" الممتحنة 8 و 9 ".

وقال تَعالَى: {يا أيـُّها الَّذينَ آمنوا لا تتَّخِذوا اليهودَ والنَّصارى أولياءَ، بعضُهم أولياءُ بعضٍ، ومَن يتَوَلـَّهُم منكم فإنه منهم، إنّ الله لا يهدي القومَ الظالمين}“ المائدة 51 “.

دلت الآية الكريمة على النهي عن تولّي اليهود والنصارى بالمحبة والنصرة، ليس لأنهم أهل دين، وإنما لما يحملون مِن العداوة والحقد والبغضاء للمسلمين بلا سبب، وهم يتعاونون على هذه العداوة برغم ما بينهم مِن اختلاف ديني واجتماعي، كما هو قائم الآن في مواقف الغرب مع إسرائيل، والتصريحات التي صدرت ضد الإسلام في الغرب، مما يؤكد حقيقة ما ذكره القرآن بعد ألف وأربعمائة سنة ونيّف.

والمنع مِن الولاية واتخاذهم أولياء بالنصرة والتمكين، إنما هو لما فيه مِن تقوية جانب الكفر على الإسلام، وإظهار كلمة الكفر على كلمة الحق وكلمة الله تَعالَى.

وثانياً جعل السبيل للكافرين على المؤمنين، واللهُ سبحانه يقول: {ما جعلَ اللّـهُ للكافرين على المؤمنين مِن سبيل}.

وثالثاً: إن التولي بالمحبة والنصرة تأكيد على الرضى والقبول بالمبدأ الَّذي يفرضه الجانب الكافر، وفي هذا تأكيد على الالتحاق بهم والدخول في زمرتهم، ولذلك قال تَعالَى: {ومَن يتَوَلـَّهُم منكم فإنه منهم}جعلهم منهم وأبعدهم اللّـهُ عن ولايته وعن قربه، لأنهم تولوا الكافرين، ولأنه كلما اشتدت المحبة والولاية لأعداء الله اشتد البعد عن الله، وحين يبتعد الإنسان عن الله فما له مِن خَلاق.

ولابدّ مِن الإشارة إلى شيء مهم في هذا السياق، وهو أن الآية نهت عن توليهم بالمفهوم الَّذي يكون في زمرتهم ومنهم، أما التحالف الَّذي يقع مع الكافرين والمعاهدات التي تكون بين المسلمين وغيرهم، فهي ليست قائمة على النصرة والمحبة، وإنما هي قائمة على رعاية المصالح الخاصة التي فيها حفظ للمسلمين وردّ الأذى عنهم، وقد تحالف النبيّ (ص) مع يهود المدينة بني قينقاع وبني قريظة.

وأيضاً إن هذه الولاية الممنوع عنها غير مختصة بعصر ووقت نزول الآية بل هي عامة لكل زمان حتى زماننا هذا، وكذلك ضرورة المعاهدات والتحالفات، كما كانت في العصر الأول تكون في زماننا هذا، إذا كانت لها ضرورة أو وجدت لها دواعي مهمة تحفظ كيان المسلمين ومصالحهم، كل ذلِكَ استناداً إلى ما يقرره القرآن والسنة.

أما حكم ترويج البضائع، فالأصل الأولي والقاعدة هو جواز التعامل مع كل إنسان بكل أشكال التعامل، مادام ذلِكَ لا يؤدي إلى شيء مما ذكرنا مِن السلبيات أو توهين للإسلام والمسلمين أو حرب لهم. وأما إذا كان التعامل يؤدي إلى تأييد الكفر، أو كان الكفر يشنّ حرباً ضد الإسلام والمسلمين كما نشاهده ونعيشه اليوم، فلا بدّ مِن المقاطعة لكل أنواع التعامل، وكل المواد والمنتجات التي يتعامل بها. وهذا ما يستفاد مِن الآيات الكريمة التي أشرنا إليها. فتُوقَفُ كلُّ أنواع السلع والمواد التي تجلب مِن بلادهم، وهذا نوع مِن الردّ عليهم والحرب لهم. ولم يسعني الاطلاع على ما ورد في السنّة حول هذا الموضوع، ولكنه مِن الأمور الواضحة في حكمها، وهو باب مِن أبواب الجهاد.

نعم قد يستفاد ذلِكَ مِن السنة، مما ورد في أبواب الإعانة على الظلم، كما في إعانة الظلمة، ولعله مِن أصدق وأوضح الموارد التي تتعلق بالمقام. وكذلك فيما يعرف مِن الشارع المقدس مِن ضرورة دفع المنكر وعدم الرضا به، كما في موارد شرب الخمر وموارد القتل وموارد الاعتداء على الناس وعلى أعراضهم وأموالهم. وكذلك إهانة الأماكن الدينية والشعائر الإلهية وأمثال ذلِكَ، فإن هذه كلها يمكن أن يستفاد منها حرمة التعامل مع الكفار، لأنها كلها داخلة في إطار التعاون والتعامل معهم.

فالمنظور في هذه المسألة هو أن التأييد للكفار والتعامل معهم بأي نوع مِن أنواع التعامل التجاري والاقتصادي، لما كان يؤدي إلى تقوية الكفر ضد الإسلام، وشنّ الحرب على الإسلام بالشكل الَّذي نراه اليوم، والذي يتوسل الكفر بالمخططات المنكرة والحاقدة التي تكشف عما يحمل مِن عداوة وحقد وضغينة والتصميم على الوقوف في وجه كل ما يؤدي إلى تقوية الإسلام، فإنه يحرم حرمة قاطعة. ولابدّ مِن إيقاف كل النشاطات معهم، لأن الإسلام وكيان الإسلام وحرمة الإسلام والمسلمين أهم بكثير مِن كل شيء.

إن التعامل بهذا النحو يجسد أحد أمرين لا ثالث لهما، وهما: إما الإيمان وإما الكفر، إما الله وإما الشيطان، إما الحق وإما الباطل، إما الهدى وإما الضلال.

وقد قال تَعالَى: {وهل بعدَ الحقِّ إلا الضلالُ}اللّـهُ هو الحق والإيمان هو الحق، والهدى هو الحق. والإسلام يجسّد هذه المفاهيم بأجمعها، ولذلك كان الإسلام خيراً محضاً، وكان الإسلام بمفاهيمه هو الدين الَّذي يحقق للبشرية آمالها وتطلعاتها وانتظامها وخيرها وسعادتها. وما ارتضى اللّـهُ سبحانه هذا الدين شريعة ومنهاجاً وديناً للناس إلا لما يشتمل عليه مِن هذه المبادئ، ولأجله كان هو الحياة الحقيقية التي يجب أن يحافظ عليها الإنسان، وكان هو القوة التي يجب أن يتمتع بها في كل مجالاته ونشاطاته، وكان هو المحرك في كل مجالات الحياة والإنسان، وليس شيء سواه يجب أن يهتم به الإنسان، لأنه المصدر لكل ما يريده الإنسان.

مِن هنا كان كل شيء يحارب الإنسان أو يؤدي إلى حرب الإسلام كفر، يحرم التعامل معه وتأييده.


(25)

الـرِّبـا

الرِّبـا مِن الكبائر المحرّمة التي يعاقب عليها في النار. وقد ورد التشديد في حرمته بما يشعر بأنه يختلف عن باقي المحرمات، فهي (أي المحرمات) وإن كانت شديدة وكبيرة باعتبار أنها تجسّد معصية الله سبحانه وجرأة وطغيان عليه، إلا أن الحرمة في الرّبـا كما قال الله تَعالَى: {فَأْذَنُوا بحربٍ مِن اللهِ ورسولِه}يعني أن المرابي لايقوم بعمل عادي في حياة الناس، ولذلك يحاربه اللّـهُ، وليست هذه الحرب إلا لما في الرّبـا مِن آثار سيئة ومفاسد كبيرة، وما يفعله الربا في الواقع الإنساني وفي الحياة الإنسانية وفي طبيعة المال الَّذي يحصّله المرابي مِن الرّبـا مِن سوء وفساد، ومن تهديد للجهد الإنساني، بل هو امتصاص للجهد والقدرات والأعمال إلى درجة أن الإنسان لا يشعر بقيمةٍ للحياة ولا للمال. بل إن الرّبـا يجعل الإنسان رقاً وعبداً للمرابي بأي طريق كان، لأن كل جهده وأعماله ونشاطاته له ونصب، كما سنشير إلى ذلِكَ.

مِن هنا كان الربا حراماً. وقد نصّت الآيات الكريمة على حرمته. قال تَعالَى:

{الَّذينَ يأكُلونَ الرّبـا لا يقومون إلا كما يقومُ الَّذي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيطانُ مِنَ المـَسِّ، ذلِكَ بأنَّهم قالوا: إنـَّما البَيعُ مِثلُ الرّبـا ؛ وأحَلَّ اللّـهُ البَيعَ، وحَرَّمَ الرّبـا. فمَن جاءَهُ مَوعظةٌ مِن رَبِّهِ فانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ، وأمرُهُ إلى اللهِ، ومَن عادَ فَأُولئِكَ أصحابُ النَّار هُم فيها خالِدون * يَمْحَقُ اللّـهُ الرّبـا، ويُربي الصَّدَقاتِ، واللّـه لا يُحِبُّ كُلَّ كَفّارٍ أثيمٍ}" البقرة 275 و 276 ".

وقال تَعالَى: {يا أيـُّها الَّذينَ آمَنوا لا تأكُلُوا الرّبـا أضعافاً مُضاعفةً، واتَّقُوا اللهَ لَعلَّكُم تُفْلِحون}" آل عمران 129 ".

ولا شك ولا ريب أن الحرمة للربا بمقتضى مقابلتها مع حلّية البيع ووحدة السياق، تعني الحرمة الوضعية مضافاً للحرمة التكليفية التي وردت في الآيات الكريمة. وكذلك قوله تَعالَى:

{لا تأكُلُوا الرّبـا أضعافاً مُضاعفةً، واتَّقُوا اللهَ لَعلَّكُم تُفْلِحون} فإنها تأكيد على الحرمة الوضعية، فإن المقصود بالأكل الأخذ والتعاطي، لأن النهي هنا إرشادي إلى عدم سببيّة الرّبـا للأخذ والتعامل بمثل هذه المعاملة، والنهي في المعاملات يقتضي الفساد.

ثمّ إن الرّبـا على قسمين: رِبا في المعاملة، ورِبا في القرض.

الربا في المعاملة:

ويشترط فيه شروط:

1) أن يكون بين المتجانسين.

2) - أن يكون مِن المكيل أو الموزون، أي مما يُكال مثل المـُد، أو يوزن مثل الكيلوغرام والرطل.

مثلاً: تبيع مد حنطة بمدين حنطة، أو كيلو رز بسمتي بكيلوين رز عنبر...

فهذا ربا، فالزيادة التي وقعت ثمناً لا تصح ولا يجوز أكلها، لأنها أخذ للمال بلا حق وبلا سبب شرعي ولا عرفي، ولذلك تكون مغصوبة ومحرمة، وحتى لو تراضيا على ذلِكَ، وحتى لو أحل أحدهما الآخر مِن الزيادة بهذه المعاملة، فإن هذا التحليل مرفوض شرعاً لبطلان وتحريم السبب، فيكون وجوده كعدمه. ولذلك على البائع أن يردّ الزيادة التي أخذها مِن المشتري ويضمنها.

وللإطلاع على مزيد مِن الأحكام تراجع الرسائل العملية لمن يقلِّد، والموسوعات الفقهية للباحث.


الرّبـا في القرض:

وهو أن تعطي المال قرضاً لشخص، وتشترط عليه الزيادة حين الأداء. مثل أن تقرضه مئة دينار على أن يرجعها مئة دينار وعشرة دراهم. هذه الزيادة باطلة وحرام أيضاً لأنها رِبا.

وقد ورد في الحديث الشريف: جاء الرّبـا مِن قِبَل الشرط، وإنما تفسده الشروط.

وعن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهما السلام قال: سألته عن رجل أعطى رجلاً مئة درهم على أن يعطيه خمسة دراهم أو أقل أو أكثر!. قال: هذا الرّبـا المحض([1]).

وهذا مما لا كلام ولا إشكال في حرمته أيضاً، كما عرفنا مِن النصوص الواردة، ولأنه ربا. والنصوص الواردة في حرمة الرّبـا كثيرة، وهي تظهر أن الرّبـا مِن أشد المحرمات وأفظعها وأسوئها عاقبة.

ورد في الحديث عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله(ع) قال: درهم ربا عند الله، أشدّ مِن سبعين زنيةً كلها بذات محرم. وفي بعض الروايات: ثلاثين زنية.

عن أبي بصير عن أبي عبد الله(ع) قال: درهم ربا أشدّ عند الله مِن ثلاثين زنيةً كلها بذات محرم، مثل عمه وخاله([2]).

وإنما شبّه الرّبـا بالزنا نظراً إلى التشديد في الحرمة، فإن الزنا مِن حيث الحرمة يختلف باختلاف المزنى بها، فالزنا بالعمة أو الخالة أو غيرهما مِن المحارم أشد بكثير مِن الزنا بالأجنبية ؛ ولا يعني هذا أن الزنا بالأجنبية غير حرام بل هو حرام. وكذلك يختلف الزنا مِن حيث المكان والزمان، كالزنا في المسجد أو في المسجد الحرام فهو أشد بكثير مِن الزِّنا في المكان العادي، لما فيه مِن هتك لحرمة المسجد والتعدي على قدسيته. وهكذا الحال في الزنا بشهر رمضان، وغير ذلِكَ.

وبعد أن انتهينا مِن بيان الحكم الشرعي لابدّ لنا أن نشرف مِن خلال العرض والتحليل على مخاطر الرِّبا التي تكاد تكون الشرّ المستطير في الحياة الاقتصادية للمجتمعات الإنسانية.

إن مِن أخطر ما يواجهه الإنسان في حياته بشكل عام أن يفقد توازنه وقدرته في استعمال القوى التي منحه اللّـهُ إياها، والتي بها يستطيع أن يتحكم في اتجاهاته وأهوائه وشهواته، والتي بها يميّز بين الخير والشر، وبها يتسامى إلى مراتب الفضيلة والكمال ؛ وهي العقل، والفطرة، والاختيار، وغيرها مِن القوى التي هي قوام الإنسان وقوام وجوده وإنسانيته.

فحين يميل الإنسان إلى الشر والفساد ويفسح المجال لأن تتحكم به أهواؤه وشهواته ويجعلها تسيطر عليه وعلى أوضاعه وتتحكم في تصرفاته وفي نمط حياته وأشكالها، ولا يدع للعقل وسلطانه مجالاً للموازنة ولا يستمع لندائه ولا لنداء الفطرة، ولا ينبض إحساسه وضميره بشيء مِن الواقعية أو الخير، فهو قطعاً يكون قد أصبح عبداً للأهواء والشهوات وسيطر عليه الشيطان، ويكون قد مهّد لتدمير نفسه ومجتمعه.

والإسلام يحاول مِن خلال تعاليمه وتشريعاته التي وضعها للإنسان وبين يديه أن يبني الإنسان بناءً متكاملاً قائماً على الواقع والخير والفضيلة، وعلى تأكيد إنسانيته واعتباراته التي ترتقي به إلى السعادة والغاية القصوى، وهي عبادة الله سبحانه: {وما خَلقتُ الإنسَ والجِنَّ إلا لِيَعبُدونِ}.

ومن جملة هذه التشريعات التي جعلها اللّـهُ أساساً لبناء الإنسان وتكامله، ابتعاده عن المحرمات وزجر نفسه عنها، وهُدّد عليها بالعقاب الشديد. هذا مضافاً إلى ما ينتج عن هذه المحرمات مِن شرور ومفاسد دينية واجتماعية وأخلاقية في النفس والأهل والولد والأموال، وفي كثير مما هو محيط بالإنسان، وبما هو خير للإنسان.

ومن هذه المحرمات بل ومن أخطرها وأشدها خطراً وحرمة {الرّبـا} فقد شدّد اللّـهُ سبحانه في حرمة الرّبـا بما لم يشدد بمثله في بقية المحرمات والمعاصي. قال تَعالَى:

{يا أيـُّها الَّذينَ آمَنوا اتَّقُوا اللهَ، وذَرُوا ما بَقيَ مِن الرّبـا إن كُنتم مُؤمنين * فَإن لَم تَفعَلُوا فَأْذَنُوا بحربٍ مِن اللهِ ورسولِه، وإن تُبْتُم فَلَكُم رُؤُوسُ أموالكُم، لا تَظلِمون ولا تُظلَمون}" البقرة 278 و 279 ".

لم يرد بالنسبة لبقية المحرمات والمعاصي قوله: {فَأْذَنُوا بحربٍ مِن اللهِ ورسولِه}مع العلم أن معصية الله واحدة، بالشديد وغيره، بالصغير والكبير ؛ ولكن التشديد في أمر الرّبـا بهذا الشكل يحكي ويعكس الواقع الخطير، أو يحكي المفاسد والشرور الكبيرة والخطيرة فيه، والتي يمكن أن تدمّر حياة الناس والمجتمعات الإنسانية أجمع، ولذلك شدّد اللّـهُ في شأنه وإبطاله بهذا الشكل: {فَأْذَنُوا بحربٍ مِن اللهِ...}.

وبيانات القرآن التي وردت في شأن الرّبـا تستهدف التأكيد على ضرورة التمسك بما يوحيه العقل والفطرة مِن المحافظة على التوازن في أفعال الإنسان وتصرفاته، وفي أخلاقياته وأفكاره وخواطره وكل ما يؤدي إلى حفظه وانتظامه واستقراره وعافيته وسلامته، وبناء نفسه ومجتمعه بناءً قائماً على التعاون على البرّ والتقوى.

ومما ورد في تأكيد هذه الحقيقة وبيان مخاطر الرّبـا، تشبيه الإنسان الَّذي يتعاطى الرّبـا ويأخذه كالسكران والمخمور الَّذي يتخبَّطه الشيطان مِن مسّ الجنون لا يعرف له هدف ولا غاية.

قال تَعالَى: {الَّذينَ يأكُلونَ الرّبـا لا يقومون إلا كما يقومُ الَّذي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيطانُ مِنَ المـَسِّ}هو إشارة واضحة إلى اختلال التوازن العقلي والفكري وفي السلوك والأخلاق، فضلاً عن الاضطراب في الوضع الاقتصادي الَّذي ينتج عنه.

إن الإنسان المرابي أمام شهوة المال وكسبه الوفير الَّذي يحققه مِن الرّبـا وبدون تعب ولا نصب يفقد صوابه ورشده وقدرته على التمييز بين الخير والشر، فهو لا يبالي بالمفاسد والشرور التي تنتج عن الرّبـا، سواء على نفسه أو على مجتمعه. ذلِكَ لأنه أمام المال وأمام هذا الكسب الهائل لا يشعر بقيمته كإنسان أبداً، لأنه فقد كل خصائص الإنسانية مِن الإيمان والعقل والعطف والرحمة والشفقة والإحساس والشعور بالتعاون على الخير والبرّ، لأن حب المال - والمال بذاته كما يقال: رَبٌّ يُعبد مِن دون الله - يطغى على المشاعر والأحاسيس وعلى كل شيء، فلا يكون في نفسه شيء سوى حب المال، والمال فقط.

والمرابي لا يهنأ بالمال برغم أن هدفه وغايته المال، وذلك لأن حب المال يسيطر عليه ويجعله دائماً في حركة وتوجه للتفكير بالاستيلاء على المال وتحقيق الزيادة فقط. فهو مثله مثل العطشان الَّذي يشرب مِن ماء البحر ولا يرتوي، وكلما شرب منه زاد عطشاً، فيبقى يشرب ويشرب إلى أن يموت وهو عطشان.

هذا مضافاً إلى خوفه على المال وضياعه أو خسارته أو رفض الوفاء مِن المدينين، لأنهم يشعرون بالغبن والظلم في ذلِكَ، ولأنه يعلم أن عملية الرّبـا سرقة وابتزاز لأموال الآخرين، واختلاس بغير حق وبغير وجه عرفي وبدون سبب وبدون رضى منهم.

لقد عبّر القرآن عن المرابي الَّذي يأكل الرّبـا بأنه لا يقوم إلا كالذي يتخبّطه الشيطان مِن المسّ، أي كالسكران مِن خمرة الزيادة والربح غير الشرعي. وهذه مِن خصائص القرآن الكريم ومن حقائقه التي لا يمكن فهم عواقبها إلا مِن الله سبحانه. والتشريعات الإلهية لما كانت كلها وفق المصلحة والمفسدة التي جعلها اللّـهُ في الأحكام، كان ما يفعله الإنسان على خلاف الحكم الشرعي والتشريع الإلهي موجباً لتدمير الأسس القويمة للحياة. فالحلال، حلال في الشرع لما فيه مِن الخير والصلاح وانتظام الأمور للإنسان. والحرام، حرام في الشرع لما فيه مِن الضرر والمفاسد واضطراب الأمور في الحياة. وحين حكى القرآن قول المرابين {ذلِكَ بأن البيع مثل الرّبـا}أشار بذلك إلى السلوكية المعبِّرة عن رفضهم لكل اعتبار وتعامل لا يؤدي إلى مصالحهم، وردّهم القرآن بقوله تَعالَى: {وأحلّ اللّـهُ البيع، وحرّم الرّبـا}. فالقرارات ليست قرارات الإنسان نفسه، إذ ليس للإنسان أن يشرّع لنفسه ويقرر نظامه بنفسه، ذلِكَ لأنه لا يعرف ما فيه خيره ومصلحته، ولا ما فيه السوء والشرّ والفساد لنفسه. ومِن هنا كان ما يراه الإنسان في معاملاته وبعض شؤونه، إذا لم يقرّه الشارع المقدس ولم يُمضه، لا يمكن اعتباره عقداً مُلزماً، ولا يمكن ترتيب الآثار الشرعية عليه. كما في البيع، فالعرف يرى أنه مبادلة مال بمال، والشارع أقرّ هذا المعنى وأمضاه بقوله:
{أَوْفـُوا بالعُقود}وبذلك جعله سبباً تترتب الآثار عليه، مِن نقل المثمن إلى المشتري ونقل الثمن إلى البائع وتملكهما.

أما الرّبـا فهو في نظر الشرع شيء غير مألوف وغير صحيح، حتى لو كان في نظر العرف معتبراً وصحيحاً كوسيلة تعامل بينهم، إلا أن الشارع المقدس لم يمض هذا النوع مِن المعاملات، ولا يراه سبباً مملِّكاً، وردَّه رداً قاطعاً بقوله تَعالَى: {وأحلّ اللّـهُ البيع، وحرّم الرّبـا}.

والآيات الأخرى تؤكد حرمته وعدم سببيّته للتعامل. فالربا لا يمكن أن يدخل في قائمة المعاملات الشرعية إطلاقاً، لأن المعاملات والعقود يجب أن تكون عن طيبة نفس بين المتعاملين، وتكون تجارة عن تراضٍ بينهم، ولا تطيب النفس بالزيادة التي يأخذها المرابي مِن المدين والمقترض، ولا تمثل استحقاقاً له، إذ لا عقد شرعي ولا عرفي، ولا يوجد له إمضاء معتبر في ساحة الاعتبارات الشرعية للتملك والاستحقاق، فيبقى على التحريم.

مِن هنا نقول: إن الرّبـا الَّذي يعتبر اليوم مِن أهم الموارد الاقتصادية في عالمنا المعاصر، وعليه يقوم بناء الاقتصاد العالمي بشكل واسع، هو مِن أخطر ما يعانيه الإنسان اليوم في نظامه الإقتصادي، وذلك لأن الرّبـا يستنفد طاقات وجهد الإنسان المدين، ويصبح أسيراً لفئة قليلة مِن الناس، وهم الَّذينَ نسميهم المرابين، هؤلاء الَّذينَ في أيديهم المال ويتحكمون في مقدّرات الناس والمجتمعات والأعمال بعملية الرّبـا كيف يشاؤون، لا يردعهم عن ذلِكَ رادع، بل لهم الحماية الكاملة.

فالزيادة التي يأخذها المرابي مِن الفرد، وتسمى هذه العملية بالقروض الاستهلاكية، وهي القروض التي يأخذها الفقراء لقضاء حاجاتهم الضرورية، فهم يقعون أسرى المرابي لضخامة الفائدة التي يضعها على الدَّين، بحيث يصبح هذا الفقير عاجزاً عن أداء الدين والفائدة التي عليه، بل لا يمكن أن يتخلص منها طوال حياته، ولذلك فهو أحياناً يحمل عبء هذا الدين لأبنائه وأبناء أبنائه، ولذلك يصبح أسيراً للمرابي هو وزوجته وأولاده وممتلكاته وكافة شؤونه وتحت رحمته، وإذا ما تمكن مِن أداء الدين والفائدة فيعود كما كان أولاً لا يملك شَيْئاً ومضطراً للاستدانة ثانياً، وهكذا.

وأما القروض الإنتاجية، وهي القروض التي يأخذها أصحاب المعامل والمصانع والحرف والتجار، وذلك لاستثمارها في تحسين الصناعة والتجارة والزراعة، ليكون الانتاج أرقى وأحسن وأكثر، والفائدة التي يفرضها المرابي على التاجر وصاحب المصنع والحرفي تتصاعد إلى درجة كبيرة، يصبح التاجر وصاحب المصنع معها عاجزاً عن أداء الدين وفائدته، مما يضطر هؤلاء إلى إيقاف نشاطهم التجاري والصناعي والزراعي، لأن الفائدة أصبحت أكبر مِن رأس المال المستخدم في التجارة. ومن هنا تحصل الأزمات الاقتصادية.

وشيء آخر مهم في هذا الباب، وهو أن الفائدة التي يأخذها المرابي يتم تحصيلها مِن المستهلك، ويتم ذلِكَ برفع أسعار السلع وبذلك يقل الشراء وتتكدس البضائع ويقل العمل والإنتاج، مما يؤدي إلى إيقاف العمل كما أشرنا. وبهذا تحدث الأزمات الاقتصادية نتيجة الرّبـا والفوائدِ العالية التي يتحكّم بها المرابون، وبهذا تكثر البطالة، وتنتشر في المجتمع الفوضى والفساد والشرّ والجرائم والسرقات والاعتداء على أموال الناس وعلى أنفسهم.

ورغم أن الاقتصاديين يعرفون أسباب الانهيار الأخلاقي والاجتماعي في المجتمع وأسباب الأزمات الاقتصادية، ورغم أنهم أيضاً يعرفون الحلول الناجعة لذلك، والدول تعرف هذا الواقع وهذه الحلول وبإمكانهم إيقاف كل هذه العمليات، إلا أنهم هم الَّذينَ يحمون الرّبـا ويعملون على تنشيط حركته في مختلف المجالات. إنهم لا يبالون بما يحصل للمجتمع بل للبشرية مِن هلاك وتدمير، وجوع وفوضى ؛ فالمهم عندهم الحصول على المال والربح بأية طريقة كانت. هذا هو واقع الرّبـا.

إنهم يرون أن الرّبـا أفضل نظام اقتصادي في عالمنا المعاصر، ويرون أنه أحسن وسيلة للكسب والإثراء السريع وبشكل غير متوقع، ولذلك يقفون مِن كل منتقد للربا موقف المحارب، وخاصة الدين الَّذي يرى في الرّبـا أنه إجرام وأنه مِن الكبائر.

قال تَعالَى: {يَمْحَقُ اللّـهُ الرّبـا، ويُربي الصَّدَقاتِ}وقال تَعالَى: {يا أيـُّها الَّذينَ آمَنوا اتَّقُوا اللهَ، وذَرُوا ما بَقيَ مِن الرّبـا إن كُنتم مُؤمنين * فَإن لَم تَفعَلُوا فَأْذَنُوا بحربٍ مِن اللهِ ورسولِه، وإن تُبْتُم فَلَكُم رُؤُوسُ أموالكُم، لا تَظلِمون ولا تُظلَمون}" البقرة 278 و 279 ".

يقول تَعالَى: {يَمْحَقُ اللّـهُ الرّبـا}ويقول: {فَأْذَنُوا بحربٍ مِن اللهِ ورسولِه}. فلننظر كيف يتم المحق للربا، وكيف تكون الحرب على المرابي مِن الله ورسوله؟.

{يَمْحَقُ اللّـهُ الرّبـا}تأكيد على أن الرّبـا غير باق، لأن المحق هو نقصان الشيء حالاً بعد حال، أي هو فناء وزوال للمال بالتدريج، فليس مِن المعقول ولا مِن الممكن أن يُبطل اللّـهُ شَيْئاً ويتوعد عليه ويتشدد في حكمه، أن يبقى هذا الشيء نافذاً وسارياً. والحقائق القرآنية لازمة الوقوع والتحقق في الدنيا والآخرة، وزوال الرّبـا وإن كان لا يظهر سريعاً، إلا أن آثاره على صعيد الأفراد وعلى صعيد الجماعات موجودة وظاهرة. وقراءة سريعة في أوضاع البشرية اليوم، التي أصبح نظامها الاقتصادي قائماً على الرّبـا، وكذلك حضارتها وتطورها وتقدمها ورخاؤها وسعادتها!. نجد أن ما تعيشه البشرية مِن شقوة دائمة ومستمرة، والتي تتجسد في البلاءات والامتحانات الإلهية التي يُبتلى بها المجتمع والأفراد، مِن الحروب الدامية المدمرة، ومن الأمراض الفتاكة والأمراض النفسية وما تسببه مِن قلق وخوف وعدم استقرار، وكذلك عدم الأمن ومن الاعتداءات المتكررة والمستمرة على الأنفس وعلى الأموال والأعراض، كلها تؤكد هذه الشقوة التي تدمر المجتمع الإنساني وتجعله غير مستقر وغير سعيد، بتلك الحضارة وذلك التطور والتقدم. أليس هذا مَحْقاً؟!!.

أما الحرب مِن الله ورسوله على المرابي، وهو يعني عداوة الله ورسوله للمرابي لعدم طاعته ورضوخه للحق وللعناية الإلهية التي جعلها اللّـهُ في التشريع، في الأنفس والأموال والأولاد.

والإنسان برفضه التشريع الإلهي، وعدم طاعته للأوامر الإلهية والانقياد لها، يضع نفسه خصماً للشرع، واللّـهُ سبحانه حمى شريعته بالمحرمات، فمن لم يترك المحرمات وتهاون بها فلا شك ولا ريب أنه قد عرّض نفسه للعداوة والنقمة السريعة.

كما أن الله سبحانه في تشريعه للأحكام يلاحظ مصالح العباد، والإنسان الَّذي لا تهمـّه مصالح العباد ولا يعمل على نفعهم.

ورد في الحديث: الخلق كلهم عِيال الله، فأحبّ الخلق إلى الله مِن نفع عيال الله([3]). وحين لايكون الإنسان كذلك بل يعمل على تدمير الخلق والبشر، فهو قطعاً سيلقى جزاء هذا الموقف، وهو الحرب مِن الله ورسوله، وهو التدمير الكامل. وكما قال تَعالَى: {وإذا أردنا أن نُهلكَ قريةً أمَرْنا مُترَفيها، ففَسَقُوا فيها، فحَقَّ عليها القولُ، فدمَّرْناها تدميراً}" الإسراء 16 ".

إن إعلان الحرب على المرابي ليس لأنه أخذ الزيادة فقط، بل لأنه بهذه الزياد جسّد الكفر، فهو لا يؤمن بالله وبسلطانه، بل يرى أن له الحرية المطلقة في تصرفاته وأعماله، وجسّد اللاأخلاقية، لأن هدفه فقط الحصول على المال. وجسّد انقطاعه عن المجتمع، فهو لا يعيش التعاون والمساواة ولا المشاعر الإنسانية، ومثل هؤلاء ألا يستحقون أن تعلن الحرب عليهم مِن الله ورسوله لإنقاذ البشرية مِن فسادهم وضلالهم؟.

ولكن رحمة الله تبقى هي الأساس في التعامل مع الإنسان، وقبل أن ينفِّذ فيه الحكم، فسح المجال له للتوبة: {وإن تُبْتُم فَلَكُم رُؤُوسُ أموالكُم، لا تَظلِمون ولا تُظلَمون}.صدق اللّـهُ العظيم.



--------------------------------------------------------------------------------

[1] الوسائل، ج12 باب 18 مِن أبواب الرّبـا

[2] الوسائل، ج12 باب 1 ص 423

[3] بحار الأنوار، ج 74 ص 339

(26)

أعمال الضلال

المقصود بهذا العنوان هو أن يقوم الإنسان أو يكون عمل الإنسان الَّذي يعيش منه ويحصل كسبه منه، مما يدعو الناس إلى الانحراف الديني والوقوع في المحرمات وإبعادهم عن الحق والدين والتكاليف الشرعية. مثل أن يشتغل بصناعة الأفلام التي فيها الشذوذ الجنسي والخلاعة والانحراف مما يستدعي المـُشاهد إلى أن يقع في الشذوذ المحرم، أو مثل التعهدات لدور السينما والمراقص والغناء، والأماكن التي يكثر ويكون فيها اللاأخلاقية والمحرمات أو التعامل مع الشركات أو المعاهد التي تدعو للانحراف الديني والأخلاقي، وغير ذلِكَ مما يعلم بأن المحرم يقع منه.

ولا إشكال ولا ريب في حرمة هذه الأمور كلها والتعامل معها والقيام بها، ببناء أو غيره.

ويدل على الحرمة جملة مِن الأحاديث، منها معتبرة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (ع) قال: مَن عمل باب هدى كان له أجر مَن عمل به، ولا يُنقص أولئك مِن أجورهم. ومَن عمل باب ضلال كان عليه وزر مَن عمل به ولا يُنقص أولئك مِن أوزارهم([1]).

وكذلك يدل على الحرمة، حرمة هذه الأعمال، كما ورد في باب الغناء واللهو، وكذلك أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه لابدّ مِن دفع المنكر. والمهم أنه لا يمكن الجمع بين أدلة صحة المعاملة وبين أدلة تحريم هذه الأمور، بل المقدّم هو أدلة حرمة هذه الأمور، لأن معنى أدلة صحة المعاملة، مثل {أَوفُوا بالعُقود}والوفاء والإتيان بالشيء المحرم ومخالفة أدلة الحرام، فيقع التناقض وهو مستحيل وخلاف المقصود، في حين أن مقتضى أدلة وجوب الوفاء بالعقود، هو ما كان العمل سائغاً في نفسه وطبعه.

إن الأعمال المحرمة أياً كان نوعها ليست هدفاً للإنسان، ولا يمكن أن يخضع للتعامل بها أبداً. فإن المعاملات التي اعتبرها الشارع المقدس أسباباً للنقل والانتقال ووسيلة للتملك هو ما يخضع لاعتبار الشارع المقدس وإمضائه، وماا يمكن أن يحقق فائدة ومالاً قابلاً للتداول بين الناس، والمحرمات ليست كذلك إطلاقاً لما فيها مِن الكراهة والمبغوضية للمولى عزّ وجل، بمعنى أن المولى يبغضها ويكره وقوعها لسوئها وفسادها، ولذلك نزع منها الاعتبار والإمضاء ولم يفسح المجال للإنسان أن يتوسل إلى شيء منها بالتعامل وبذل المال بإزائه، فالشارع المقدس سدّ كل منافذ الاعتبار والإمضاء للمحرمات، لأن الله سبحانه يريد أن يُطاع ولا يعصى.

(والمحرمات) تجسّد حرمات الله سبحانه، أي أن المحرمات هي الحد الفاصل في امتثال العبد وطاعته للمولى، بمعنى أن المحرمات هي الحاجز الَّذي لا يمكن تجاوزه ؛ فإما أن يمتثل المكلف الأمر بالترك، كما لو قال المولى اجتنبوا، وإما أن ينتهي عن الفعل ولا يصح أن يخالف أبداً، كما لو قال المولى لا تفعل، ومع المخالفة يكون قد تجاوز الحدود واعتدى على حق الله وحرمة أحكامه. ومع المخالفة قد لا يجد المكلف مجالاً للعودة، أو لاتكون هناك إمكانية التصحيح أو قبول التوبة، لأن مِن المحرمات التي يرتكبها ما يُظهر المكلف معها الجرأة والطغيان على الله سبحانه وعدم المبالاة، فيقول له المولى: وعزتي وجلالي لا أغفر لك بعدها أبداً.

إن (المحرمات) حَرم للدين وسور للشريعة ووسيلة حماية للأحكام الشرعية، فالطاعة التي يريدها اللّـهُ مِن المكلف تشكّل وتجسّد الإيمان الكامل بالله وبدينه وشريعته، والاهتمام بهذا الدين والأحكام وترك المخالفة يؤكد هذا الواقع، أما حين يترك المكلف الطاعة ويتجاوز الحدود فهو يعني أنه يسير باتجاه معاكس للإيمان والدين والأحكام، وحتى لا يقع المكلف فيما هو أكبر عليه أن يبتعد عن المخالفة والمعصية حفاظاً على الأحكام لتبقى لها إشراقتها ويبقى لها أثرها في الحياة، ولكي يعرف المكلف أن هذا الدين هو الحياة.

وقد ورد التأكيد على هذا المعنى في الحديث الشريف عن أبي جعفر الباقر (ع) قال: قال جدي رسول الله (ص): أيها الناس حلالي حلال إلى يوم القيامة، وحرامي حرام إلى يوم القيامة. ألا وقد بيّنهما اللّـهُ عزّ وجل في الكتاب وبيّنتـُهما في سيرتي وسُنّتي، وبينهما شبهات مِن الشيطان وبِدع بعدي، مَن تركها صلح له دينه، وصلحت له مروءته وعِرضه. ومَن رعى ماشيته قُربَ الحِمى نازعته نفسه إلى أن يرعاها في الحمى. ألا وإن لكل مَلِك حِمى، ألا وإن حمى الله عزّ وجل محارمه، فتَوَقُّوا حمى الله ومحارمه([2]).



--------------------------------------------------------------------------------

[1] الوسائل
ئل، ج11 ص 438

[2] بحار الأنوار، ج2 ص 260 و 261

(27)

التطفيف وبخس الميزان

التطفيف: هو النقص والتقليل مِن الوزن أو إعطاء الكيل أقل مما هو المتعارف عليه. والبخس: نقص الشيء عن الحدّ الَّذي يوجبه الحق ظلماً. وهو حرام عند كافة المسلمين بدون استثناء.

ويدل على حرمته العقل، لأنه ظلم واعتداء على حق المشتري وخيانة له في الوزن.

والقرآن صريح في التحريم والنهي عنه. قال تَعالَى: {وَيلٌ لِلمـُطَفِّفينَ * الَّذينَ إذا اكتالُوا على النَّاس يَستَوفُونَ * وإذا كالُوهُم أو وَزَنُوهُم يُخْسِرون}“ سورة المطففين “.

وقال تَعالَى: {ولا تُنْقِصوا المِكيالَ والميزان}"هود 83".

وقال تَعالَى: {ولا تَبْخَسوا النّاس أشياءَهُم}

وقال تَعالَى: {وأقيمُوا الوَزنَ بالقِسطِ ولا تُخْسِرُوا الميزان}
" الرحمن 9 ".

وأما السنة فقد ورد في تعداد الكبائر عن الإمام الرضا (ع) قال: واجتناب الكبائر، وهي قتل النفس.. إلى أن قال: والبخس في المكيال والميزان([1]).

وورد عن الأصبغ بن نباتة قال: سمعت أمير المؤمنين (ع) يقول على المنبر: يا معشر التجار، الفقهَ ثمّ المتجر (ثلاثاً).. إلى أن قال: التاجر فاجر، والفاجر في النار، إلا مَن أخذ الحق وأعطى الحق([2]).

وورد أيضاً عن أبي جعفر (ع) قال: وجدنا في كتاب رسول الله (ص): إذا ظهر الزنا مِن بعدي، كثر موت الفُجأة ؛ وإذا طُفِّف الميزان والمكيال أخذهم بالسنين والنقص([3]).

ثمّ إن الآيات والروايات وإن وردت في المكيل والموزون، إلا أنها تشمل المعدود أيضاً والمساحة والذراع وغير ذلِكَ مما تعارف أن تكون السلعة كمّـاً به، ولذلك فذكر المكيل والموزون مِن باب أنه الغالب، لا مِن باب التحديد. وحتى لو كان مِن باب التحديد فيحرم أيضاً النقص في المعدود والمساحة والذراع وغيرها إذا كان الشراء بها، فلا بدّ مِن أداء العدد كاملاً والمساحة كاملة والذراع بشكل كامل، فإذا نقص عن ذلِكَ كان خيانة وظلماً واعتداء على حق المشتري، ويكون ضامناً للمقدار الَّذي أخذه البائع، بل قد يقال ببطلان المعاملة إذا كان البيع وقع على العين الخارجية المستحقة، كأن يشتري هذا الكيس الخاص على أنه مئة كيلو، فتبطل المعاملة إذا لم يكن كذلك، لأن ما وقع عليه العقد غير موجود، والموجود لم يقع عليه العقد، إلا أن المسألة فيها كلام طويل، ويراجع فيها كل إنسان مقلده.

والمهم أن النقص أو نقصان المبيع عن المقدار المتعارف حرام، والذي يكيل ويُنقص، ففعله وأجرته حرام وكسبه منه حرام.

ثمّ إن التطفيف والبخس بذاتهما حرام، لأن الآيات الكريمة والأخبار جعلت العنوان: التطفيف والبخس، ومعلوم أنهما نقص السلعة على سبيل الظلم والاعتداء على حق الغير. ولذلك هدّد اللّـهُ عزّ وجل عليه بالعقاب، فإن الويل كلمة للتهديد والوعيد، وتقال لمن وقع عليه الهلاك والعقاب.

ورد في (سنن البيهقي) عن ابن عباس: لما قدم النبيّ (ص) كانوا مِن أخبث الناس كيلاً، فأنزل اللّـهُ: {وَيلٌ لِلمـُطَفِّفينَ}فأحسنوا الكيل بعد ذلِكَ.

حين يصل الإنسان إلى هذا المستوى في المعاملة وفي البيع والشراء، ويبخس الناس أشياءهم، يكون قد جسّد الحديث الشريف تماماً، وأنه أخبث الناس، وخُبث النفس علامة عدم الالتزام الصحيح والكامل بالإيمان، ولذلك يكون مثل هذا الإنسان إذا استمر على هذه الحال في ظلمه للناس وأكل حقوقهم وخيانته لهم وخيانة دينه، في معرض الخروج عن الدين، لأن ارتكاب المحرمات وتوالي ارتكابها بلا انقطاع، والاستمرار عليها يؤدي إلى إنكار ولايته أولياء الله، وإنكار ولايته أولياء الله تؤدي إلى إنكار النبوة، وإنكار النبوة يؤدي إلى إنكار الربوبية، لأن الذنوب تجعل القلب منكوساً، ينقلب أسفله أعلاه وأعلاه أسفله، ويغطى بالرَّين وهي طبقة مِن الظلمة، بحيث لا يستطيع أن يستقبل شَيْئاً مِن الحق والخير ولا يدركه، ولا يعود إلى خير أبداً. هذا خصوصاً إذا كانت لقمة عيشه مِن هذا الحرام، فإنها لقمة مسروقة مِن مال الغير، فكيف ينمو جسمه على الخير، وكيف ينبض قلبه بالحق؟!.

إن للذنوب آثاراً عديدة تحصل نتيجة توالي الذنوب والمعاصي مِن الإنسان، وهذه الآثار ليست فقط تهلك الإنسان، وإنما لها آثار دنيوية تدمّر كل شؤونه تدميراً كاملاً، وقد يمتد هذا حتى إلى الأبناء والأحفاد، وخصوصاً إذا كانوا راضين بفعل الأب.

ولها آثار في الآخرة، التي منها أنه يُفضح على رؤوس الأشهاد ويعرَّف به أنه سارق وظالم، وأنه يطالب بإعادة الحق مِن قبل الله سبحانه: {إنَّ رَبَّكَ لَبِالمِرصاد} والمرصاد عقبة يكون السائل فيها هو اللّـهُ، ويسأل عن حقوق العباد ومظالمهم.

ومنها العذاب الشديد والهوان الكبير في نار جهنم.

إن الإنسان يحمل أكبر أمانة في عنقه، وهي أمانة الدين، وأمانة العقيدة والولاية لأهل البيت (ع) وأمانة الشريعة، وأمانة الأخوة الإيمانية مع المؤمنين ؛ وأعظم شيء يطالب به الإنسان في الدنيا والآخرة هي هذه الأمانة ؛ في الدنيا حتى يستقيم حاله عليها ويسعد ويهنأ، ويحقق التوازن الأخلاقي والاجتماعي والسلوكي، وما يهدف إليه الدين مِن التحابب والترابط والتعاون على البرّ والتقوى بين الناس، وفي الآخرة يجعله في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

إن أحطّ ما في هذا العمل (التطفيف والبخس) وأقبحه، أن يقال عن فاعله إنه سارق. إنها سرقة حقيقية، فهل يرضى أن يقال عنه أمام الناس: إنه سارق، وهو في الواقع سارق؟!!.


[1] الوسائل، ج11 ص 261 و 262

[2] الوسائل، ج12 ص 574

[3] الوسائل، ج11 ص 513


إضافة رد


أدوات الموضوع ابحث في الموضوع
ابحث في الموضوع:

بحث متقدم

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


 

 


المواضيع والمشاركات التي تطرح في منتديات موقع الميزان لا تعبر عن رأي المنتدى وإنما تعبر عن رأي كاتبيها فقط
إدارة موقع الميزان
Powered by vBulletin Copyright © 2017 vBulletin Solutions, Inc