في حالات السيدة حواء وسارة وآسية ومقارنتهن بفاطمة ( عليها السلام )

أولا : حواء أم البشر وأول امرأة من النساء الطاهرات في العالم ، وقد عجن الله طينتها الطيبة بيده كما عجن طينة آدم ( عليه السلام ) ، وكانت لزوجها أمة ونعم القرين ، والحكمة من خلقها أن تكون أنسا وسكنا لآدم ( عليه السلام ) ، ترد عنه الوحشة ، وكان بقاء الذرية ودوام النسل منوطا بها ، حيث انتشر منها النوع البشري ، فبعث الأنبياء العظام ، وشرعت الشرائع ، وأشيع المعروف ، وانتشرت الأحكام ، وكثرة المعرفة الحقة ، وأظهرت العبودية الخالصة .

ألبسها الله خلعة الوجود بنحو خاص ، وأخذ الله طينتها من فاضل طينة آدم مما يلي الركبة ، فصارت النساء يتبعن أمر الرجال ، وأما ما ذكر من المرويات القائلة إنها خلقت من ضلع آدم الأيسر ، فغاية في الضعف .

وفي كتاب العلل : « إنما سميت حواء لأنها خلقت من الحيوان أو من الحي » .

وفي مجمع البيان : قيل : لأنها أم كل حي  .

وقوله تعالى : ( خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ) صريحة في أن حواء خلقت من آدم ( عليه السلام ) ، وفي خبر آخر قال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : « إن الله خلق آدم من الماء والطين ، فهمة الرجال في الماء والطين ، وإن الله خلق حواء من آدم ، فهمة النساء في الرجال ; فحصنوهن في البيوت » .

ثانيا : إن لآدم وحواء حق الأبوة والأمومة علينا ، ولو أن أبناءهم أرادوا إحصاء حقوقهما ومفاخرهما ومآثرهما ما استطاعوا القيام بذلك إلى يوم القيامة ، سيما أن آدم ( عليه السلام ) كان أول من اطلع على أنوار الفيض المحمدي في أول الإيجاد ، ثم سطع النور في الناصية العلية الجلية لحواء ، فأنارت به جنة الخلد ، « فعليها من التسليمات أزكاها ، ومن التكريمات أسناها » .

والأفضل أن نبدأ الكلام بذكر جملة من حالاتها المختصة بها ( عليها السلام ) : منها : أن طينتها كانت من طينة آدم الطاهرة ولم تكن من طينة أخرى .

ومنها : إنها لم تر صلب أب ولا رحم أم ، فبقيت بعيدة مطهرة عن أصلاب الآباء وأرحام الأمهات الطوامث .

ومنها : إنها خوطبت بالخطاب الذي خوطب به آدم ( عليه السلام ) في قوله تعالى : ( يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة ) .

وفي الحديث « قال الله تعالى : يا آدم ويا حواء اسكنا جنتي وكلا ثمرتي ولا تقربا شجرتي ، والسلام عليكما ورحمتي وبركتي » .

ومنها : إنها أذن لها بدخول دار الكرامة وموطن الراحة .

ومنها : إنها رعاها خالق البرايا في جميع المقامات في الجنات العاليات ، وشملها بالعنايات اللامتناهية ، وغذاها غذاء الروح والبدن بالنعم الظاهرة والباطنة وجعل الجنة بعرضها منزلها ، وأنعم بها عليها نعمة غير ممنونة .

ومنها : في رواية الثعلبي والكسائي : كانت حواء في حسن سبعين حورية ، فصارت حواء بين الحور العين كالقمر بين الكواكب . ومنها : إن الله جعل الملائكة والحور العين والولدان خداما لها في الجنان .

ومنها : أنهم كانوا يطوفون بها غرف الجنة وقصورها وأعالي جنة عدن والفردوس ، ويزفونها بالتهاني على نياق الجنة مرة ، وعلى مراكب من المسك والكافور والزعفران بالحلي والحلل على رفارف السندس والإستبرق مرة أخرى ، فيعرضون عليها النعم الإلهية العظيمة .

ومنها : إنها كانت تجلس أحيانا على سرير مرصع بالجواهر النفيسة ، وله سبعمائة قائمة من الدر الأبيض ، وعليه أربع قباب : قبة الرحمة ، وقبة الكرم ، وقبة الرضوان ، وقبة الغفران .

ومنها : هبوطها مع زوجها آدم ( عليه السلام ) ، وذلك من فضل الله عليها وليس عقوبة لها ، بل كان وسيلة للوصول إلى النتيجة وإجراء القدرة وإمضاء المشية في جعل الخليفة ، وإنما يدفع البلاء قبل الإبتلاء ، لأن أهل البلاء لا تخلو عن الإبتلاء .

وهيهات هيهات الصفاء لعاشق * وجنة عدن بالمكاره حفت فبعد أن استغرق آدم وحواء ( عليهما السلام ) في نعم العلي الأعلى وعناياته الروحانية والجسمانية ، إلتفتا إلى نفسيهما لحظة وغفلا - آنا - عن مبدأ المبادى بمقتضى الطبيعة البشرية ، فظنا أن ما عندهما من فضل ومزايا وعطايا ونعم إلهية لا متناهية نالاها بالاستحقاق الذاتي والاستعداد الفطري ، فتحادثا في ما خصهما الله به من الحسن وشروق أنوار الجمال الموهوبة من حضرة ذي الجلال ، فقالا : لم يخلق الله في عالم الملك والملكوت خلقا أفضل ولا أشرف منا ، ولم ير سكان الملأ الأعلى مخلوقا أجمل ولا أحسن منا ، فنبههم الله بمشاهدة الأنوار المقدسة الخمسة الطيبة .

ولا بأس أن أنقل - في المقام - خبرين رواهما المؤالف والمخالف ، وبهما يثبت المقصود ، ولا نحتاج إلى بحث المساواة والمقارنة بين الزهراء ( عليها السلام ) وحواء .

أما الخبر الأول : فعن طرق الإمامية في البحار : عن الإمام الحسن العسكري ( عليه السلام ) عن آبائه الكرام ، عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) : « لما خلق الله تعالى آدم وحواء تبخترا في الجنة ، فقال آدم ( عليه السلام ) لحواء : ما خلق الله خلقا هو أحسن منا ، فأوحى الله - عز وجل - إلى جبرئيل أن ائتني بعبدتي التي في الجنة الفردوس الأعلى ، فلما دخلا الفردوس نظرا إلى جارية على درنوك من درانيك الجنة ، على رأسها تاج من نور ، وفي أذنيها قرطان من نور قد أشرقت الجنان من حسن وجهها ، قال آدم ( عليه السلام ) : حبيبي جبرئيل ، من هذه الجارية التي قد أشرقت الجنان من حسن وجهها ؟ فقال : هذه فاطمة بنت محمد ( صلى الله عليه وآله ) نبي من ولدك يكون في آخر الزمان قال : من هذا التاج الذي على رأسها ؟ قال : بعلها علي بن أبي طالب .

قال : من القرطان اللذان في أذنيها ؟ قال : ولداها الحسن والحسين .

قال آدم ( عليه السلام ) : حبيبي جبرئيل ! أخلقوا قبلي ؟ قال : هم موجودون في غامض علم الله عز وجل قبل أن تخلق بأربعة آلاف سنة » انتهى الحديث .

أما الخبر الثاني : فقد روي عن طريق المخالفين : روي أن آدم نظر إلى حواء ونظرت إليه فدهشا من جمالهما ، فقالا : سبحانك يا الله ، أخلقت خلقا أفضل منا ؟ فأوحى الله إلى جبرئيل أن خذ آدم وحواء إلى الفردوس الأعلى وافتح باب قصر من قصوره لهما ، فأراهما جبرئيل قصرا من ياقوت أحمر ، فيه عرش من الذهب ، قوائمه من الدر الأبيض ، وعليه جارية لم يرد آدم وحواء مثلها ، قد أضاء نور حسنها وبهائها ذلك القصر ، بل أضاء نورها الفردوس ; وعلى رأسها تاج مرصع بجواهر .

فقال آدم : من هذه الجارية ؟ فقال جبرئيل : هذه فاطمة الزهراء بنت محمد بن عبد الله ( صلى الله عليه وآله ) .

قال : ومن زوجها ؟ فجاء النداء : افتح القصر الآخر من الياقوت ، ففتحه فكان فيه قبة من كافور ، وعرش من الذهب ، عليه فتى يفوق حسن وجهه حسن يوسف الصديق .

قال : هذا زوجها : علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) .

فسأل آدم ( عليه السلام ) : أله ولد ؟ فاوحي إلى جبرئيل : افتح له قصر اللؤلؤ ، ففتحه فإذا فيه قبة من زبرجد وعرش من عنبر أشهب ، وعليه غلامان هما الإمام الحسن والإمام الحسين ( عليهما السلام ) .

فندم آدم على كلامه .

وهذا الخبر منقول في كتاب « نزهة المجالس ومنتخب النفايس » للشيخ عبد الرحمن الصفوري الشافعي .

وهكذا ترى الحديثين يختلفان في المضمون من حيث تعدد القصور والصور الشريفة التي تمثلوا بها .

وقد اتضحت أفضلية فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) على حواء وغيرها بعد هذين الخبرين ، ولا حاجة إلى المقارنة والمطابقة بين حالاتهما كما ذكرنا سابقا .

مقالة بلا ملالة روي في عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) ومعاني الأخبار لثقة المحدثين طاب ثراه مسندا عن محمد بن سليمان ، عن أبي الصلت الهروي ، عن علي بن موسى الرضا صلوات الله عليه قال : قلت للرضا ( عليه السلام ) : يابن رسول الله ! أخبرني عن الشجرة التي أكل منها آدم وحواء ما كانت ; فقد اختلف الناس فيها ، فمنهم من يروي أنها الحنطة ، ومنهم من يروي أنها العنب ، ومنهم من يروي أنها شجرة الحسد ؟ فقال : كل ذلك حق .

قلت : فما معنى هذه الوجوه على اختلافها ؟ فقال : يا أبا الصلت ! إن شجرة الجنة تحمل أنواعا ; فكانت شجرة الحنطة وفيها عنب ، وليست كشجرة الدنيا ، وإن آدم ( عليه السلام ) لما أكرمه الله - تعالى ذكره - بإسجاد ملائكته له وبإدخاله الجنة ، قال في نفسه : هل خلق الله بشرا أفضل مني ؟ فعلم الله - عز وجل - ما وقع في نفسه فناداه : ارفع رأسك يا آدم فانظر إلى ساق عرشي ، فرفع آدم رأسه فنظر إلى ساق العرش فوجد عليه مكتوبا « لا إله إلا الله محمد رسول الله ، علي بن أبي طالب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وزوجته فاطمة سيدة نساء العالمين ، والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة » .

فقال آدم : يا رب من هؤلاء ؟ فقال عز وجل : يا آدم ! هؤلاء ذريتك ، وهم خير منك ومن جميع خلقي ، ولولاهم ما خلقك ولا خلقت الجنة والنار ولا السماء ولا الأرض ، فإياك أن تنظر إليهم بعين الحسد فأخرجك عن جواري ، فنظر إليهم بعين الحسد وتمنى منزلتهم ، فتسلط عليه الشيطان حتى أكل من الشجرة التي نهي عنها ، وتسلط على حواء لنظرها إلى فاطمة بعين الحسد ، حتى أكلت من الشجرة كما أكل آدم ، فأخرجهما الله عن جنته وأهبطهما عن جواره إلى الأرض .

ونظائره في الأخبار المعتبرة كثير ، منها ما في معاني الأخبار عن المفضل بن عمر الجعفي ، عن الصادق ( عليه السلام ) في حديث طويل - يأتي في باب التوسل بالصديقة المخدرة - وفيه تصريح أن الشجرة هي الحنطة ، وفيه أسرار جليلة .

 وفي كتاب تأويل الآيات الباهرة في العترة الطاهرة : إنها شجرة علم آل محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، وهي « لمحمد وآل محمد خاصة دون غيرهم ، ولا يتناول منها بأمر الله إلا هم ، ومنها ما كان يتناوله النبي ( صلى الله عليه وآله ) وعلي وفاطمة والحسن والحسين ( عليهم السلام ) بعد إطعامهم اليتيم والمسكين والأسير ، حتى لم يمسوا بعد بجوع ولا عطش ولا تعب ولا نصب » .

وتجد فضل العلم الموهوب لفاطمة الطاهرة ظاهرا ، ولذا ذكرها الله في القرآن ضمن النساء الممدوحات بصفة العلم ، وهي أشرف صفات الإنسان .

وفي حديث آخر : إن آدم كان مستغرقا في النعم الظاهرة والباطنة في الجنة ، ولم يمنع إلا عن تمني درجة محمد وآل محمد ، فإن الله خصهم بهذه الدرجة دون غيرهم ، وإلا فماذا في الحنطة حتى يسعى ذاك النبي المعظم إلى أكلها ؟ ! فلا بد أن يكون الأمر المنهي عنه أعظم وأشرف من أكل هذه الثمرة ، فالأنسب أن يكون تمني منزلة أولئك المقربين .

أما الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه ، بها فقد اختلف فيها المفسرون من الفريقين ، وروي عن الحسن وعكرمة وقتادة وسعيد بن جبير أقوال مختلفة ، والأصح ما عن ابن عباس أنه قال : سألت النبي ( صلى الله عليه وآله ) عن الكلمات التي تلقى آدم من ربه فتاب عليه ؟ قال : سأله بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين إلا تبت علي ، فتاب عليه .

واختلفوا - أيضا - في الشجرة التي نهي عنها ، آدم فقيل : هي السنبلة عن ابن عباس ، وقيل : هي الكرمة عن ابن مسعود والسدي ، وقيل : هي التينة عن ابن جريج ، وقيل : هي شجرة الكافور يروى عن علي ، وقيل : هي شجرة العلم : علم الخير والشكر عن الكلبي ، وقيل : هي شجرة الخلد التي كانت تأكل منها الملائكة عن ابن جذعان ، وروي : إنها شجرة الحسد ، وقيل : هي شجرة الهوى والطبيعة وهي محركان وداعيان إلى صفة الحسد .

ونذكر فيما يلي الآيات الشريفة من سورة البقرة تبركا وتيمنا بتلاوتها ، واستنطاقا لمضامينها ومعانيها وما فيها من الوعد والوعيد ، قال الله تعالى في سورة البقرة : ( وقلنا يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين * فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين * فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم ) .

وقال تعالى في سورة الأعراف : ( . . . يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين * فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما وري عنهما من سوءاتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين * وقاسمهما إني لكما من الناصحين * فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين * قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ) .

بيان إجمالي للآيات مستطرف من تفسير مجمع البيان : ( يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة ) أي : اتخذ أنت وامرأتك الجنة مسكنا ومأوى لتأوي إليه وتسكن فيه أنت وامرأتك ، واختلف في هذا الأمر ، فقيل : إنه أمر تعبد ، وقيل : هو إباحة لأنه ليس فيه مشقة فلا يتعلق به تكليف . . . والنهي في « لا تقربا » نهي التنزيه دون التحريم ، كمن يقول لغيره : لا تجلس على الطرق ; وهو قريب من مذهبنا فإن عندنا أن آدم كان مندوبا إلى ترك التناول من الشجرة ، وكان بالتناول منها تاركا نفلا فضلا ، ولم يكن فاعلا لقبيح ، فإن الأنبياء ( عليهم السلام ) لا يجوز عليهم القبائح لا صغيرها ولا كبيرها ; وسيأتي الكلام في ذلك في باب عصمتها ( عليها السلام ) .

وقوله ( ولا تقربا هذه الشجرة ) أي لا تأكلوا منها وهو المروي عن الباقر ( عليه السلام ) فمعناه لا تقرباها بالأكل ، ويدل عليه أن المخالفة وقعت بالأكل بلا خلاف لا بالدنو منها ; ولذلك قال تعالى : ( فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما ) قيل : النهي عن موجب الشئ موجب لاجتناب ذلك الشئ . وتعلق النهي بالإقتراب - وهو من مقدمات الأكل - للمبالغة ، فالقرب يدعو إلى الميل والأكل .

واختلف في الجنة التي أسكن فيها آدم : فقال أبو هاشم : هي جنة من جنان السماء غير جنة الخلد ، لأن جنة الخلد أكلها دائم ولا تكليف فيها .

 وقال أبو مسلم : هي جنة من جنات الدنيا في الأرض ، وقال : إن قوله ( اهبطوا منها ) لا يقتضي كونها في السماء ، لأنه مثل قوله : ( اهبطوا مصرا ) .

واستدل بعضهم على أنها لم تكن جنة الخلد بقوله حكاية عن إبليس ( هل أدلك على شجرة الخلد ) فلو كانت جنة الخلد لكان آدم عالما بذلك ولم يحتج إلى دلالة .

وقال الحسن البصري وعمرو بن عبيد وواصل بن عطاء وكثير من المعتزلة كالجبائي والرماني وابن الأخشيد : إنها كانت جنة الخلد ، لأن الألف واللام للتعريف وصار كالعلم عليها ، قالوا : وقول من يزعم أن جنة الخلد من يدخلها لا يخرج منها غير صحيح . . » .

وقوله تعالى : ( فأزلهما الشيطان ) ، أي بالخطيئة وهي والمعصية والسيئة مترادفات بمعنى واحد ، وهو الزوال عن الحق ، و « الوسوسة » إغواء الشيطان وإغرائه . والهبوط بمعنى النزول والحركة من العلو إلى السفل ، وكل واحدة من هذه العبارات لها ظاهر مستعمل في الحقيقة والمجاز ، ولكل ظاهر بطون وتخوم لا يعلمهما إلا الله والراسخون في العلم .

والآن ينبغي أن نعرف ما هو معنى الشجرة المنهية التي ذكرتها الأخبار باسم العلم أو الحسد أو الشهوة أو الهوى ؟ ! فنقول : أولا : لقد أطلق على الشجرة أسماء الرذائل ، مع أن الجنة محل الفضائل لا الرذائل ، والحسد صفة من الصفات الذميمة في الحاسد ذي الوجود الخارجي ، لا في الشجرة ؟

وثانيا : لقد نسب الحسد في الحديث السابق إلى آدم ( عليه السلام ) ، فكيف يصح ذلك عند علماء الإمامية ؟ ! وبعبارة أخرى : نسب التبختر إليه ( عليه السلام ) وهو مناف لمذهب الحق ؟ ! الجواب : قال المرحوم العلامة المجلسي طاب ثراه في المجلد السابع من البحار : لعل المراد منها ترك الأولى ، لأنه مع العلم بأن الله تعالى فضلهم عليهما كان ينبغي لهما أن يكونا في مقام الرضا والتسليم ، وأن لا يتمنيا درجاتهم صلوات الله عليهم .

وقال المحقق الوحيد والمحدث الفريد الفيض الكاشاني عليه الرحمة : « كما أن لبدن الإنسان غذاء من الحبوب والفواكه ، كذلك لروحه غذاء من العلوم والمعارف ، وكما أن لغذاء بدنه أشجارا تثمرها ، فكذلك لروحه أشجار تثمرها ، ولكل صنف منه ما يليق به من الغذاء ; فإن من الإنسان من يغلب فيه حكم البدن على حكم الروح ، ومنه من هو بالعكس ، ولهم في ذلك درجات يتفاضل بها بعضهم على بعض ، ولأهل الدرجة العليا كل ما لأهل الدرجة السفلى وزيادة ، ولكل فاكهة في العالم الجسماني مثال في العالم الروحاني مناسب لها ، ولهذا فسرت الشجرة تارة بشجرة الفواكه ، وأخرى بشجرة العلوم ، وكان شجرة علم محمد ( صلى الله عليه وآله ) إشارة إلى المحبوبية الكاملة المثمرة لجميع الكمالات الإنسانية المقتضية للتوحيد المحمدي الذي هو الغناء في الله والبقاء بالله ، المشار إليه بقوله ( عليه السلام ) « لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل » فإن فيها من ثمار المعارف كلها ، وشجرة الكافور إشارة إلى برد اليقين الموجب للطمأنينة الكاملة المستلزمة للخلق العظيم الذي كان نبينا ( صلى الله عليه وآله ) ودونه لأهل بيته ( عليهم السلام ) ، فلا منافاة بين الروايات ، ولا بينها وبين ما قاله أهل التأويل إنها شجرة الهوى والطبيعة ، لأن قربها إنما يكون بالهوى والشهوة الطبيعية ، وهذا معنى ما ورد إنها شجرة الحسد ، فإن الحسد إنما ينشأ منها » .

وفي بصائر الدرجات رواية أرويها هنا تأكيدا لهذا التقرير : عن محمد بن مسلم قال : سمعت أبا جعفر الباقر ( عليه السلام ) يقول : نزل جبرئيل ( عليه السلام ) على محمد ( صلى الله عليه وآله ) برمانتين من الجنة ، فلقيه علي ( عليه السلام ) فقال له : ما هاتان الرمانتان في  يديك ؟ قال : أما هذه فالنبوة ليس لك فيها نصيب ، وأما هذه فالعلم ، ثم فلقها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأعطاه نصفها وأخذ نصفها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ثم قال : أنت شريكي فيه وأنا شريكك فيه ، قال : فلم يعلم - والله - رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حرفا مما علمه الله إلا علمه عليا ( عليه السلام ) الخبر .

وهكذا هي شجرة « سدرة المنتهى » التي ينتهي إليها سير الأنبياء ، ولم يتجاوزها سوى خاتم المرسلين ( صلى الله عليه وآله ) ، وهي تعبير عن إحاطته الكلية بما فوق وما دون . وهكذا هي شجرة « الطوبى » المعبرة بذات الولاية .

فالمراد بتمثيل الثمرات المعرفة النبوية في عالم الملك لينتقل الناس من المحسوس إلى المعقول فيعرفونه ( صلى الله عليه وآله ) ، فلا يتمنون تلك المرتبة العلوية بدافع الهوى والشهوة الطبيعية ، ولا يحسدونه على ما آتاه الله ، وإلا فكيف يمكن أن تكون الرمانة نبوة وعلما ؟ ! فلا بد أن تكون كل رمانة تمثيلا عن شجرة العلم وشجرة النبوة في الملكوت الأعلى ، وتلك الشجرة بمالها من جامعية تحكي في محلها الشجرة الزكية للحقيقة النبوية الجامعة الحاوية لتمام الكمالات والملكات الإنسانية .

وببيان آخر : كان في بدء الخلقة مظهران للعلم والحسد : أحدهما آدم والآخر الشيطان . وكان الشيطان يرى أنه الأول في الملك والملكوت ، فلما رأى الملائكة تسجد لآدم ( عليه السلام ) ، حسده وأبى عن السجود له .

وكان آدم ( عليه السلام ) يظن أنه الوحيد الذي عنده العلم بالأسماء والمسميات ، وأنه الأفضل والأشرف ولا أحد فوقه .

ولذا سميت الشجرة الجامعة بشجرة العلم ، ومثلت لآدم ليراها ، ثم نهي عن أكل ثمارها ; لأنها خاصة للحضرة المقدسة النبوية والعلوية والفاطمية للأئمة المعصومين ( عليهم السلام ) ، ليس لغيرهم التناول منها ، فأراد الشيطان الذي حسد آدم ( عليه السلام ) أن يدفع آدم ليحسد صاحب الشجرة أيضا ، وبذلك ينزل عن درجته « والإنسان حريص على ما منع » .

يعني أن الشيطان تورط بالحسد فنزل عن درجته . فأراد أن يورط آدم ( عليه السلام ) بالحسد أيضا لينزله عن درجته . وبعبارة أخرى : سميت تلك الشجرة بشجرة الحسد بلحاظ تمني آدم ( عليه السلام ) لمنزلة صاحبها من حيث الإحاطة الكاملة والجامعية ، وهي شجرة العلم بلحاظ الإختصاص والإمتياز الذي فيها على علم آدم وانتسابها إلى علوم آل محمد ( صلى الله عليه وآله ) .

أما تسميتها بالتينة والكرمة والكافور والحنطة ، فبحسب استعداد عقول الناس ، وكل واحدة تشير إلى صفة كمالية من صفاتهم حسب المزاج والطبيعة كما قال الفيض الكاشاني في الكافور . وكما أن الهوى والشهوة الطبيعية من موجبات الحسد ، فكذلك أيضا المعرفة والمحبة منتزعة من العلم ، ومن ثمرات تلك الشجرة المباركة الكريمة الأصل .

تشجير في ذيل هذا التقرير قال تعالى : ( ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ) .

روى المرحوم المجلسي ( رحمه الله ) في تفسير الآية عن الأئمة الأطهار - عليهم صلوات الملك الجبار - وجوها عديدة في معنى الشجرة الطيبة ، منها إنها النخلة ، ومنها : إنها شجرة في الجنة ، ومنها : إن الشجرة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .

والوجه الأخير هو المعنى الأصح والوجه الوجيه ، وكتب الفريقين مشحونة بالأخبار المعتبرة المؤيدة له ، منها ما روي عن ابن عباس قال : قال جبرئيل ( عليه السلام ) للنبي ( صلى الله عليه وآله ) : أنت الشجرة ، وعلي غصنها ، وفاطمة ورقها ، والحسن والحسين ثمارها . والمراد بالكلمة الطيبة كلمة التوحيد ، أو الإيمان ، أو كل كلام أمر الله بإطاعته .

وقيل : أراد بذلك شجرة هذه صفتها ، وإن لم يكن لها وجود في الدنيا ، لكن الصفة معلومة .

وبناء على ذلك ، فشجرة الجنة الموصوفة بالجامعة إنما هي شجرة النبوة المحمدية المتجلية في كل تلك الكمالات والملكات ، فكأن تلك الشجرة كلمة طيبة كشجرة زاكية نامية نبوية ، أصلها ثابت راسخ وفرعها عال رفيع ، تفيض علمها في كل آن على الخلق ، وترشح عليهم الإفاضات ، فكل فاكهة أفيضت من العلويات إلى السفليات فهي من خيرات وبركات وإفاضات تلك الشجرة الكريمة الأصل وفروعها .

وكل ما ظهر في هذا العالم من الشرور والمفاسد من شؤم الصفات الخبيثة الخسيسة للشجرة الخبيثة لظالمي أهل البيت ومنكري حقوقهم والمتنكرين لهم .

( مثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار ) أي ما لها من ثبات وقرار في الأرض لقلع جثتها منها .

وقال تعالى في وصف طعام هؤلاء : ( إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم * طلعها كأنه رؤوس الشياطين ) .

قال المرحوم العارف المحقق صدر الدين الشيرازي ( رحمه الله ) : المراد بالشجرة الطبيعة الدنيوية ، والمراد بالطلع مبدأ وجود الأشجار ومنشأ حصول الأثمار وقت ظهورها ، أي أن مبدأ الإعتقادات الباطلة والأخلاق السيئة ، تترسخ في النفس قليلا قليلا ، فإذا قويت فصورتها جوهر شيطاني ، فتتعدى بعد غلبة الآمال والأماني المشؤمة والشهوات المذمومة ، وتملأ النفس من نار الجحيم والعذاب الأليم .

كما قال الله تعالى : ( ثم إنكم أيها الضالون المكذبون * لآكلون من شجر من زقوم * فمالئون منها البطون ) ، وكذلك شجرة طوبى التي أصلها في دار علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، وليس مؤمن إلا في داره غصن من أغصانها ; وذلك قوله تعالى : ( طوبى لهم وحسن مآب ) فتأويل ذلك من جهة العلم والمعارف الإلهية ، سيما ما يتعلق بأمر الآخرة » إلى آخر ما قال .

وقال في الفتوحات : « إن شجرة طوبى أصل لجميع شجرات الدنيا كآدم ( عليه السلام ) لما ظهر من النبيين ، فإن الله لما غرسها بيده وسواها نفخ فيها من روحه ، ولما تولى الحق غرس شجرة طوبى بيده ونفخ فيها من روحه ، فإذا شجرة طوبى مبدأ أصول المعارف الحقيقية والأخلاق الحسنة التي هي زينة وغذاء لها ولأهلها » .

وهذا الوجه يناسب المعاني والوجوه السابقة .

واعلم أن حديث معاني الأخبار جعل فاطمة الزهراء بمثابة الغصن ، وعليا بمثابة الفرع والحسنين بمثابة الثمار  .

وفي بصائر الدرجات جعلها الغصن في رواية ، وفي رواية أخرى جعل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) الفرع وفاطمة عنصر تلك الشجرة وأصلها .

وفي البصائر أيضا « أنا جذرها - أي أصلها - وعلي ذروها وفاطمة فرعها ، والأئمة أغصانها ، وشيعتهم أوراقها » .

والحديث في معنى سدرة المنتهى .

وفي تفسير فرات بن إبراهيم وتفسير العياشي مثله . وكذا في الكافي برواية عمرو بن حريث ، وفي إكمال الدين للصدوق برواية عمرو بن يزيد بياع السابري ، عن الصادق ( عليه السلام ) ، إلا أنه لم يذكر اسم فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) .

وقيل : أصل الشجرة النبوة وفرعها الولاية . وروى في المستدرك عن كتاب الفردوس وكتاب السمعاني بإسنادهما عن ابن عباس قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : « أنا الشجرة ، وفاطمة حملها ، وعلي لقاحها ، والحسن والحسين ثمرها ، والمحبون لأهل البيت ورقها من الجنة حقا حقا » .

وقد قدموا اسم فاطمة ( عليها السلام ) في هذا الخبر بناء على مشربهم ومذهبهم . والخلاصة : فإن المنصف البصير إذا غاص في بحار هذه الأخبار ، علم عدم جواز التفكيك بين فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) وبين الرسول ( صلى الله عليه وآله ) وأمير المؤمنين ، وعلم اتحادهم في كل العوالم ، وعلم أن كل ما قاله الرسول ( صلى الله عليه وآله ) في حقها قاله في حق الأمير ( عليه السلام ) أيضا في موضع آخر ، وأن أهل المعنى إذا لاحظوها بأي منظار ، فهي لا تخرج عن تلك الشجرة التي كانت في الجنة ، وأن حواء تابعت آدم ( عليه السلام ) وبعد أن نظرت إلى فاطمة بعين الحسد كوشفت بالمقامات العلية لفاطمة الزكية فأكلت من تلك الشجرة المنهية ، أو أنها رأت مقام فاطمة العالي عند رؤية تلك الشجرة فتناولت منها لعلها تنال ذلك المقام ، أو الأفضل منه ، والله العالم بحقائق السرائر وأفعال العباد ، والسلام على من نظر إلي بعين الرشاد والسداد .

أما سارة رضي الله عنها فهي من بنات الأنبياء وابنة خالة إبراهيم خليل الرحمن - عليه صلوات الله الملك المنان - وهي من النساء الممدوحات في القرآن ، وكان لها جمال في حد الكمال بعد حواء ( عليها السلام ) ، قال الإمام ( عليه السلام ) : كان لسارة جمال كأنها حورية الجنان ، بل كانت حوراء في صورة إنسية ، وقد مر هذا المضمون في حق الصديقة الطاهرة ( عليها السلام ) .

ولم يكن لها في زمانها من النساء قرين في حسن السيرة وجمال المنظر ، وكانت آية من الآيات الإلهية في الحسن والجمال ، وكان خليل الرحمن يحبها حبا جما ، وكان إبراهيم ( عليه السلام ) يراها إذا خرجت حتى تعود ، وترتفع الحجب عن عينه فيرعاها بنظره ذهابا وإيابا ، وكان إذا خرج من البيت أقفل عليها الباب .

وجاء في رواية معتبرة : إن إبراهيم حينما خرج إلى مصر عمل تابوتا وجعل فيه سارة وشد عليها الأغلاق غيرة منه عليها ، ومضى حتى خرج من سلطان نمرود وسار إلى سلطان رجل من القبط يقال له « عرارة » ، فمر بعاشر فاعترضه العاشر ليعشر ما معه ، فلما انتهى إلى العاشر ومعه التابوت ، قال العاشر لإبراهيم ( عليه السلام ) : إفتح هذا التابوت حتى نعشر ما فيه ، فقال له إبراهيم ( عليه السلام ) : قل ما شئت فيه من ذهب أو فضلة حتى نعطي عشره ولا نفتحه ، قال : فأبى العاشر إلا فتحه ، قال : وغصب إبراهيم ( عليه السلام ) على فتحه ، فلما بدت له سارة وكانت موصوفة بالحسن والجمال ، قال له العاشر : ما هذه المرأة منك ؟ ! قال إبراهيم : هي حرمتي وابنة خالتي ، فقال له العاشر : فما دعاك إلى أن خبيتها في هذا التابوت ؟ ! فقال إبراهيم ( عليه السلام ) : الغيرة عليها أن يراها أحد ، فقال له العاشر : لست أدعك تبرح حتى أعلم الملك حالها وحالك ، قال : فبعث رسولا إلى الملك فأعلمه ، فبعث الملك رسولا من قبله ليأتوه بالتابوت ، فأتوا ليذهبوا به فقال لهم إبراهيم ( عليه السلام ) : إني لست أفارق التابوت حتى يفارق روحي جسدي . . .

فحملوا إبراهيم ( عليه السلام ) والتابوت وجميع ما كان معه حتى أدخل على الملك ، فقال هل الملك : إفتح التابوت ، فقال له إبراهيم ( عليه السلام ) : أيها الملك إن فيه حرمتي وبنت خالتي ، وأنا مفتد فتحه بجميع ما معي ، قال : فغصب الملك إبراهيم على فتحه ، فلما رأى سارة لم يملك حلمه سفهه أن مد يده إليها ، فأعرض إبراهيم ( عليه السلام ) وجهه عنها وعنه غيرة منه وقال : اللهم احبس يده عن حرمتي وابنة خالتي ، فلم تصل يده إليها ولم ترجع إليه . . فيبست يده ، فاعتذر إليه الملك واستغفر وطلب منه أن يدعو ربه ليطلق يده ، ففعل إبراهيم ، وعاد الملك إلى فعله ثلاث مرات ، وإبراهيم ( عليه السلام ) يدعو فتيبس يده ويستغفر فتطلق ، فلما رأى منه الملك ما رأى عظمه وهابه ووهبه جارية قبطية لخدمة سارة ، وقال له : أحب أن تأذن لي أن أخذمها قبطية عندي جميلة عاقلة تكون لها خادما ، وهي هاجر أم إسماعيل . . . والحديث طويل .

والغيرة من الخصال الممدوحة في الرجال ، ومعنى الغيرة : الحمية وكراهة شراكة الغير في الحق الثابت للإنسان ، ومن لا غيرة له فهو منكوس القلب ، وفي الحديث « لا أحد أغير من الله تعالى » وروي أيضا : « إن الله يغار والمؤمن يغار » روي أيضا : « المؤمن غيور »

وفي الحديث المذكور آنفا : قال إبراهيم ( عليه السلام ) للملك : « إن إلهي غيور يكره الحرام ، وهو الذي حال بينك وبين ما أردت من الحرام » . فسارة لها نسبة قرابة مع إبراهيم ( عليه السلام ) ، ويكفي في جلالها أن إبراهيم ( عليه السلام ) كان مأمورا باسترضاءها وتطييب خاطرها ، وهو دليل على حسن حالها ومكارم أخلاقها ومحاسن أفعالها ، بل يتبين من بعض الأخبار الصحيحة أنها مجابة الدعوة ، إستجاب لها خالق البريات ، وهذا دليل على شأنها العظيم ومقامها الرفيع .

ومن خصائصها الرائعة أنها بشرت بقوله تعالى : ( فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ) ، فبعد مضي خمس وسبعون سنة من عمرها الشريف ووهن قواها واندكاك أعضاءها ، بعث الله إليها الملائكة الكرام يبشرونها بمولود من مثل إسحاق ، وجعل من ذريته أنبياء . وكانت ولادتها غير متوقعة - عادة - لذا قالت ( أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا ) ؟ !

ولكنها الدعوة المستجابة تماما ، كما وهب يحيى ( عليه السلام ) بتلك الموهبة الكبرى .

وقد ذكرها الله عز وجل وذكر ضيافتها ومحبتها للضيوف واتباعها لإبراهيم أبي الأضياف ، فقال تعالى : ( هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين ) .

وخاطبها جبرئيل والملائكة الكرام ، واعتنى بها قاضي الحاجات عناية خاصة يطول شرحها .

منها على سبيل المثال : أن إبراهيم ( عليه السلام ) كان له يوما ضيف ، ولم يكن عنده ما يمون ضيفه فقال في نفسه : أقوم إلى سقفي فأستخرج من جذوعه فأبيعه من النجار فيعمل صنما ؟ ! فلم يفعل ، وخرج ومعه إزار إلى موضع وصلى ركعتين ، فلما فرغ ولم يجد الإزار علم أن الله هيأ أسبابه ، فلما دخل داره رأى سارة تطبخ شيئا فقال لها : أنى لك هذا ؟ قالت : هذا الذي بعثته على يد الرجل ، وكان الله سبحانه أمر جبرئيل أن يأخذ الرمل الذي كان في الموضع الذي صلى فيه إبراهيم ويجعله في إزاره والحجارة الملقاة هناك أيضا ، ففعل جبرئيل ذلك وقد جعل الله الرمل جاورسا مقشرا - وفي رواية ذرة - والحجارة المدورة شلجما والمستطيل جزرا » .

 وروي أيضا عن جعفر بن محمد ( عليهما السلام ) قال : « إذا سافر أحدكم فقدم من سفره فليأت أهله بما تيسر ولو بحجر ، فإن إبراهيم ( عليه السلام ) كان إذا ضاق أتى قومه ، وإنه ضاق ضيقة فأتى قومه فوافق منهم إزمة فرجع كما ذهب ، فلما قرب من منزله نزل عن حماره فملأ خرجه رملا إرادة أن يسكن به من روح سارة ، فلما دخل منزله حط الخرج عن الحمار وافتتح الصلاة ، فجاءت سارة ففتحت الخرج فوجدته مملوء دقيقا ، فأعجنت منه وأخبزت ، ثم قالت لإبراهيم ( عليه السلام ) : انفتل من صلاتك وكل ! فقال لها : أنى لك هذا ؟ قالت : من الدقيق الذي في الخرج ، فرفع رأسه إلى السماء وقال : أشهد أنك الخليل »  .

وكانت سارة صابرة لأنها صبرت على ضيافة إبراهيم الخليل مع ما كانوا عليه من الفقر والفاقة ، وروي أنه كان قد لا يتغذى ثلاثة أيام حتى يجد ضيفا فيأكل معه ، ولذا كني ب‍ « أبو الضيفان » و « أبو الأضياف » .

ولذا قال ( عليه السلام ) : « من أكرم ضيفه فهو مع إبراهيم في الجنة » .

وروي أن الضيف إذا دخل فتح لصاحب الدار ألف باب من أبواب الرحمة ، وغفر الله له ذنوبه ، وكتب له بكل لقمة يأكلها ضيفه ثواب حجة وعمرة مقبولة ، وبنى له مدينة في الجنة .

ومن أكرم ضيفه فكأنما أكرم سبعين نبيا ، وكتب له ثواب ألف شهيد .

وقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : « من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه » .

وفي الخبر : « لذة الكرام في الإطعام ولذة اللئام في الطعام » .

وقال علي ( عليه السلام ) : « إني أحب من دنياكم ثلاثة : إكرام الضيف ، والصوم في الصيف ، والضرب بالسيف » .

فالإكرام فرع من فروع السخاء ، وقد قال الله تعالى : « يابن آدم كن سخيا ، فإن السخاء من حسن اليقين ، والسخاء من الإيمان ، والإيمان في الجنة .

يابن آدم ! إياك والبخل ، فإن البخل من الكفر ، والكفر في النار » .

وفي كتاب عوالم العلوم : رئي أمير المؤمنين ( عليه السلام ) حزينا ، فقيل له : مما حزنك ؟ قال : لسبع أتت لم يضف إلينا ضيف (.

وقد نزلت آيات كثيرة في مدح أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وفاطمة ( عليها السلام ) في إطعام الطعام وقرى الضيف والإنفاق على الفقراء وقد ضبطت في كتب الفريقين ، خصوصا سورة هل أتى النازلة فيهم ( عليهم السلام ) .

على أي حال ، فإن أجلى وأعلى الصفات الكريمة في سارة إنما هي الحسن والجمال وشدة العفاف وصبرها على خدمة ضيوف إبراهيم الخليل ( عليه السلام ) ورضاه عنها وامتثالها أمر الله سبحانه واقترانها لزوج عظيم يأتي في الفضل بعد رسول الله في سلسلة الأنبياء والمرسلين .

نعم ، إن ما روي في كتب التفاسير والمناقب عن غيرة سارة وحسدها فهو من مقتضيات الطبيعة البشرية ، وهي ليست معصومة ، وقد ابتلي نظائرها وأترابها أيضا بهذا البلاء ، كحواء حينما حسدت فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) وما فعلته سارة مع هاجر كان من هذا الباب ! ! !

ولكن لا يخفى على القارئ أن كل ما أذكره من خصائص في مثل هذه الموارد ، فهو مقدمة لبيان المقامات الرفيعة المنيعة للصديقة الكبرى ( عليها السلام ) ، وكل ما فيه من شرح لسير هؤلاء النساء المكرمات واستكشاف لكمالاتهن ، فهو لمعرفة علو قدرها وسمو مقامها ، فكل واحدة منهن كانت آية من آياتها الباهرات ليس أكثر .

ففاطمة الطاهرة المرضية تزوجت من أمير المؤمنين ، وكان الخليل من شيعته المخلصين كما في قوله تعالى ( وإن من شيعته لإبراهيم ) ولطالما توسل به وبعترته الطاهرين في الشدائد ، فاطمئن قلبه ، وخصوصا حينما ألقي في النار .

وقد مر سابقا مقارنتها بفاطمة ( عليها السلام ) في بعض الموارد ، وسنذكر هنا موارد أخرى فنقول : لقد كانت سارة بنت نبي ولها قرابة قريبة من إبراهيم ( عليه السلام ) ، وفي ذلك فضل كبير ، وفاطمة ( عليها السلام ) أيضا من بنات الأنبياء ، ولكن لم يكن فيهن من كان لها نسب فاطمة في الفخامة ، حيث أنها بنت نبي آخر الزمان ، وكانت قرابتها من أمير المؤمنين أقرب من قرابة سارة من إبراهيم .

وأما في الحسن والجمال ، فإن في الروايات دلالة صريحة على أن نساء العالمين طرا لا يدانين تلك المحجوبة الكبرى في المحاسن الصورية والمعنوية ، ولا في مكارم الأخلاق الظاهرية والباطنية ، وسنبسط الكلام - فيما بعد - في شمائل مشكاة الأنوار وخصائل أم الأئمة الأطهار .

وأما بشارة سارة بولادة إسحاق ( عليه السلام ) ، كما بشرت إيشاع أم يحيى بيحيى ، وبشرت مريم بعيسى ، فإن فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) - أيضا - بشرت بالحسنين ، وفي الحديث « إن النبي بشرها عند ولادة كل منهما » ، فقال لها « ليهنئك أن ولدت إماما يسود أهل الجنة » وأكمل الله ذلك في عقبها .

وقد ولد من صلب إسحاق أنبياء عظام ، وولد من صلب سيد الشهداء - ابن فاطمة الزهراء - أئمة الهدى ( عليهم السلام ) ، وهم المقصودون ب‍ « الكلمة الباقية » صلوات الله وسلامه عليهم .

وأما حسن معاشرتها وصبرها على خدمة ضيوف الخليل وحبها لهم واسترضاءها لإبراهيم الحاكي عن رضا الله سبحانه ، فكل ذلك لا يبلغ عشر من أعشار ما كان لفاطمة .

وعلى ما هو المعلوم فإن أعلى درجات السخاء الإيثار ، وهو بذل الشئ المحبوب للغير مع شدة الحاجة إليه ، وبعبارة أخرى : أن تجوع أنت وتشبع جائعا ، وهو معنى قوله تعالى ( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) النازلة فيها ( عليها السلام ) .

روى الكراجكي في كنز الفوائد ، والشيخ عبد الله بن نور الله في عوالم العلوم عن أبي هريرة قال : إن رجلا جاء إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فشكا إليه الجوع ، فبعث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى بيوت أزواجه ، فقلن : ما عندنا إلا الماء ، فقال ( صلى الله عليه وآله ) : من لهذا الرجل الليلة ؟ فقال علي بن أبي طالب : أنا يا رسول الله ، فأتى فاطمة ( عليها السلام ) فأعلمها ، فقالت : ما عندنا إلا قوت الصبية ، ولكنا نؤثر به ضيفنا ، فقال ( عليه السلام ) : نومي الصبية وأطفئي السراج ، فلما أصبح غدا على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فنزل قوله تعالى : ( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) .

وفي كنز الفوائد أيضا في سبب نزول هذه الآية قال ( صلى الله عليه وآله ) في حديث : « . . . يا علي ! إن الله جعلك سباقا للخير سخاء بنفسك عن المال ، أنت يعسوب المؤمنين والمال يعسوب الظلمة ، والظلمة هم الذين يحسدونك ويبغون عليك ويمنعون حقك بعدي » .

ونقل صاحب العوالم عن محمد بن شهر آشوب صاحب المناقب أنه قال : « وأنفق - يعني أمير المؤمنين ( عليه السلام ) - على ثلاث ضيفان من الطعام قوت ثلاث ليال ، فنزل فيه ثلاثين آية ، ونص على عصمته وستره ومراده وقبول صدقته » .

أضف إلى ذلك حضور سارة عند ولادة فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) وفي أوقات أخرى لخدمتها .

هذا في الدنيا ، وستلتزم تلك السيدة المكرمة مع عدة آلاف من الحور العين والملائكة المقربين خدمة سيدة نساء العالمين يوم القيامة منذ زمن الشفاعة حتى دخول الجنة .

وروي في أخبار كثيرة أنها تشارك فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) في تربية أطفال هذه الأمة في الجنة .

وكل تلك الأخبار تدل على علو قدرها وعظمة مقامها .

وإن في نسبتها إلى أهل بيت العصمة والطهارة وقبولها لخدمتهم وإدراكها لصحبتهم كفاية ، وهذا شرف فوق شرف وفضل فوق فضل ، فلها غاية المنى والدرجة العليا في الآخرة والأولى ، فعليها وعلى سيدتها ومولاتها شرائف التسليمات أزكاها ، ونوامي البركات والتحيات أسناها .

أما خاتون بنت مزاحم امرأة فرعون أما آسية بنت مزاحم ، فهي سيدة من سيدات نساء الجنان ، وامرأة فريدة بين النسوان ، وكانت غاية في قوة الجنان وصلابة الإيمان ، وهي من النساء

الممدوحات في القرآن ، وقد أعطاها الله الحرمة بين نساء العالمين ، وذكرها النبي مرارا مترحما عليها برأفة ، وذكر حسن عقيدتها واستقامة إيمانها ، ومعرفتها وثباتها في الدين ، وإعراضها عن الكفرة والمشركين .

ولم يكن - منذ بدء الخليقة وزمان آدم أبو البشر - في أسرة الكفر امرأة كآسية في إطمئنانها ويقينها وثباتها في محبة الله ورسوله .

روى الشعبي عن جابر وسعيد بن المسيب ، وروى كريب عن ابن عباس ، وروى مقاتل عن سليمان عن الضحاك عن ابن عباس ، ورواه أبو مسعود وعبد الرزاق وأحمد وإسحاق ، والثعلبي في تفسيره والسلامي في تاريخ خراسان ، وأبو صالح المؤذن في الأربعين بأسانيدهم عن أبي هريرة أنه ( صلى الله عليه وآله ) قال : « حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد ، وآسية امرأة فرعون .

قال المجلسي : وفي رواية مقاتل والضحاك وعكرمة عن ابن عباس : « وأفضلهن فاطمة » .

أيضا في الفضائل عن عبد الملك العكبري ومسند أحمد بإسنادهما عن كريب ، عن ابن عباس ، أنه قال ( صلى الله عليه وآله ) : سيدة نساء أهل الجنة مريم . . . الخبر سواء .

وفي تاريخ بغداد بإسناد الخطيب عن حميد الطويل ، عن أنس قال : قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : خير نساء العالمين  . . . الخبر سواء .

وفي كتاب أبي بكر الشيرازي : وروى أبو الهذيل عن مقاتل عن محمد بن الحنفية عن أبيه أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قرأ ( إن الله اصطفاك وطهرك )  الآية فقال لي : يا علي ! خير نساء العالمين أربع : مريم بنت عمران ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد ، وآسية بنت مزاحم .

وفي حديث آخر قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : « لقد كمل من الرجال كثير ، وما كمل من النساء أحد إلا مريم بنت عمران ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد ، وآسية بنت مزاحم » وسيأتي شرح الحديث .

وفي بعض الكتب « ما كمل من النساء إلا أربعة . . . إلى آخر الخبر .

وفي البحار قال في حديث طويل : « إن آسية بنت مزاحم ، ومريم بنت عمران ، وخديجة بنت خويلد يمشين أمام فاطمة كالحجاب لها إلى الجنة »  .

وفي حديث طويل يأتي في باب الشفاعة وخصائص القيامة : إن حواء معها سبعون ألف حوراء ، وآسية ومن معها يستقبلن فاطمة ويسرن عن يسارها ، وكذلك مريم وخديجة يسرن عن يمينها ، لأنها أفضل من حواء وآسية .

ويعرف من هذه الأخبار قرب آسية من فاطمة أم الأطهار ، وما لها من المزية والشرف في هذا الجوار ، فالأفضل أن نتعرض إلى شئ من صفات الكمال فيها ، وإلى صلابتها في إيمانها المقبول ، وتميزها في ذلك بين نساء آل فرعون فنقول : إن بداية ظهور آثار الإيمان والإسلام على آسية كان من التأيدات السبحانية ، لأنها تشرفت بخدمة موسى بن عمران ( عليه السلام ) حينما رأته في بحر « قلزم » فتراكضت هي وجواريها ، والتقطته من بين الشجر والماء ، ولذا سمته « موسى » ، وهو مركب من اسمين بالقبطية ، ف‍ « مو » هو الماء ، و « سى » الشجر ، فلما فتحت التابوت رأت رضيعا وجهه كالبدر أجمل الناس وأصبحهم ، فوقعت عليها منه محبة في قلبها فوضعته في حجرها وقالت : هذا ابني ، فصدقتها جواريها على ما رأت من بهاء طلعته والنور الذي في جبهته ، وقلن : أي والله أي سيدتنا مالك ولد ولا للملك ، فاتخذي هذا ولدا ، وكانت قد حرمت من الأولاد الذكور ، فقالت : هو بني ، فغسلته وألبسته أفخر الثياب وحملته بحفاوة وشغف إلى بعلها فرعون ، وشرحت له حاله .

فقال الغواة من قوم فرعون : أيها الملك ! إنا نظن أن ذلك المولود الذي تحذر منه من بني إسرائيل رمي به في البحر فرقا منك ، فهم فرعون - واسمه قابوس بن مصعب - بقتله ، فتوسلت به آسية وتشفعت فيه ، فاستوهبته منه ( وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون ) فوهبه لها ، فطلبت له المراضع ، فلما امتنع أن يأخذ من المراضع ثديا ، قالت أخته « كلثمة » أو « كلثوم » ( هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه وهم له ناصحون ) فلما أتت بأمه ثار إلى ثديها ، فشرب كما يشرب العسل حتى امتلأ جنباه ( فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ) .

قال بعض أهل السير : عينوا لأم موسى راتبا يدفع لها في كل يوم كمؤونة لها ، وصنعوا له مهدا من ذهب ، وبقي الكليم ثلاثون سنة عند آسية ، وظهرت له آيات باهرة ومعجزات متواترة ، وهو يعيش في وفور النعم والراحة التامة ، في منتهى الإحترام والعزة ، حتى ظن الناس أنه ابن فرعون وآسية . وكان موسى ( عليه السلام ) يحب آسية ويحترمها ويداريها ، على العكس من فرعون ، فكم من مرة - في صغره وكبره - ضرب فرعون وشتمه ولطمه ، وقد قبض - مرة - على لحيته وهو صغير ثم جرها ونتف بعضها ، وهكذا هي يد القدرة الإلهية وحكمة الحضرة الأحدية ، حيث جعل أفضل أحباءه يكبر عند أسوأ أعداءه ، ولذا لما ظهرت الآية العظمى وتجلت اليد البيضاء ، قال فرعون لموسى : ( ألم نربك فينا وليدا وفعلت فعلتك التي فعلت . . . ) فبلغه موسى ( عليه السلام ) بالأمر الإلهي ، ودعاه للإقرار بربوبية خلاق السماوات والأرض فلم ينفعه البلاغ ، فحزن موسى لخسران ذاك الجهول الجحود وخذلانه ، فعوقب في الدنيا وله في الآخرة عذاب أليم .

الحاصل : كانت آسية خاتون مثالا في ثبات الإيمان وحسن المآل ، وقد منعت من قتل ذاك النبي المعظم ، ورعته وربته في بيت الشرك والكفر ، وبعد أن ظهرت الآيات التسعة والكرامات المتتالية سوى الآيتين العظيمتين ، العصا واليد البيضاء ، آمنت به سبعون قبيلة من الأقباط ، وأذعنوا بعبوديتهم لرب الأرباب ، فغضب فرعون فعذبهم عذابا شديدا ، رجالا ونساء ، وسمر أيديهم وأرجلهم بمسامير وأوتاد من حديد ، ولذا سمي ( فرعون ذي الأوتاد ) وحكم على النساء أن تكبل أرجلهن بالقيود ويساق بهن ليصعدن على سلم مبني بالطين والحجر والآجر إلى أعالي القصر ، فمنهن من تسقط فتموت ، ومنهن من يعذبن بعذاب مثل هذا العذاب ، ولو راجعت التفاسير وكتب السير لعرفت ما فعله هذا المخلوق العاجز الطاغي الباغي على الله ! ! وكان مما فعله هذا الطاغي أيضا أنه قتل سبعين من السحرة الذين هددهم ( لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين ) ولهؤلاء المؤمنين الراسخين في الإيمان قصة مملوءة بالغصص .

وله حكاية آخري مع الماشطة التي كانت تمشط بنته ، حيث جعل على رأسها طشتا وأشعل فيه النار ، ورمى بطفلها في تنور من نحاس فحمى والطفل يأمر أمه بالصبر وهو في لهيب النار ، ويقول لها : ليس بينك وبين الجنة إلا خطوة أو خطوتين . . . وبقي هكذا حتى مات . . . إلى آخر الخبر .

والعجيب في أمر آسية أنها كانت تكتم إيمانها في هذه المدة المديدة ، وهي عند فرعون ، تعيش معه كزوجة تألفه وتؤانسه ، فلما علم بإيمانها استشاط غضبا وأخذ يصرخ كالمجانين ويتلوى ، وكلما أصر عليها أن تقر بربوبيته رفضت وبقيت ثابتة على إيمانها بالله ، وتمسكها بالشريعة الموسوية ، فدعى قصابا - كما في بعض التواريخ المعتبرة - وأمره أن يقطع رأسها أمامه ويسلخ جلدها ، فلما شرع القصاب فزع سكان العالم الأعلى ورقوا لآسية وسألوا الله لها النجاة ، فجاءهم النداء من ذي الجلال : إن آسية أمتي وقد اشتاقت لمولاها ، انظروا ماذا تقول في ساعة احتضارها ، فلما استمع الملأ الأعلى وإذا بها تقول ( رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين ) .

روى الثعلبي في العرائس : عن ابن عباس قال : أخذ فرعون امرأته آسية حين ابتدأ بها يعذبها لتدخل في دينه ، فمر بها موسى وهو يعذبها ، فشكت إليه بأصبعها ، فدعا الله موسى أن يخفف عنها من العذاب ، فبعد ذلك لم تجد للعذاب ألما إلى أن ماتت في عذاب فرعون ، فقالت وهي في العذاب : ( رب ابن لي عندك بيتا في ‹الجنة ونجني . . . ) الآية ، فأوحى الله إليها أن ارفعي رأسك ، ففعلت فرأت البيت في الجنة من در ، فضحكت فقال فرعون : انظروا إلى الجنون الذي بها ، تضحك وهي في العذاب (.

فماتت آسية وكانت وفاتها سببا لهلاك ألف ألف وستمائة ألف من جنود فرعون ، هلكوا بأجمعهم .

ثم قال الملائكة مرة أخرى : عجبا من آسية ، تطلب « بيتا » من الله ولا تطلب شيئا آخر وهي في ساحة المجد الكبريائي الرباني ، تطلب بيتا فقط أجرا لصبرها ؟ ! فقال الله تعالى : إنها طلبت شيئا عظيما ، لأنها قالت ( رب ابن لي عندك بيتا ) فهي تطلب جواري ، وقد بنيته لها .

قال بعض أهل الفطنة وأرباب الذوق : لماذا طلبت آسية « بيتا » ولم تطلب « دارا » ؟ قالوا : لأن البيت محل لخلوة الحبيب يجيبه ، البيت موضع أمين لعرض الحال وكشف الأسرار ، وهو أولى من الدار لرعايته مع ملاحظة الأدب والحشمة والحياء والحجاب ، ثم إن آسية أرادت الجوار أولا ثم الدار ، وكان لها عند ربها قدم صدق وكفى .

وقدم صدقها وثبات قدمها وسابقتها الحسنى في الإيمان بالله وبكليم الله خير شاهد على حالها الذي أدى بها إلى ورود الساحة القدسية ، والقعود على بساط العزة الإلهية ، ومجاورة الحضرة الرحمانية .

والحق أن هذه المرأة كانت فريدة في إيمانها الراسخ ، وإسلامها القويم ، وثباتها في الدين ، وصبرها في البلاد ، ومحبتها لحبيب الله ، لذا سنعرض في هذا المقام موجزا لا يخلو من فائدة ، لبيان صلابة آسية وكمال يقينها وإيمانها الذي أوصلها إلى كعبة المراد .

وفي الحديث : إن فرعون كان راضيا بأن يعطي كل ما يملك على أن يصرف آسية عن الطريق القويم والنهج المستقيم ، فلم يفلح لأنها رفضته وأعرضت عن الدنيا بتمامها ، وفدت نفسها لموسى ( عليه السلام ) ، وأرجعت نفسها المطمئنة راضية مرضية إلى عالم الأنس وحضيرة القدس بإيمانها بالله ورسوله ، هذا الإيمان الذي صرفها عن الدنيا ومنعها عما سوى الله .

إيمان وإيقان إعلم أن ما يوجب النجاة من المهلكات في الدنيا والآخرة إنما هو الإيمان : ( ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم ) .

وقد أكد القرآن تأكيدا شديدا على الايمان ، ولم يذكر شئ في القرآن أكثر من الأمر بالإيمان والتوجه إلى الآخرة ; لذا صار الإهتمام بالإيمان أهم وآكد من أي عمل آخر ; والعبادات والطاعات بأجمعها منوطة بالإيمان قبولا وردا ، والشريعة النبوية متفرعة عليه وقائمة به .

وكما أن القلب أشرف الأعضاء ، فكذلك الإيمان - وهو مظروف القلب - أشرف الصفات والخصال والأصل الأصيل للكمال ، لذا قالوا في معنى الإيمان : « الإيمان هو العقد بالجنان والإقرار باللسان والعمل بالأركان »  .

هذا هو التعريف الظاهري للإيمان . والإيمان كشجرة تنبت في القلب ، وتنتشر أغصانها في جميع أجزاء البدن الإنساني ( كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ) .

فليس في المؤمن عضو إلا وله حظ من الإيمان .

روى الشهيد الثاني في رسالته « في الإيمان والكفر »  : من قال بعد صلاة المغرب مائة مرة « لا إله إلا الله محمد رسول الله » نفعته ثلاث فوائد :

الأولى : لا يضر إيمانه ذنب .

الثانية : يرضى الله عنه .

الثالثة : يرفع عنه عذاب القبر .

وظاهر الحديث أن معنى الإيمان هو الإقرار بالشهادتين بشرط أن يعقد عليه قلبه .

والإيمان لغة : التصديق بالقلب واللسان ، والتصديق بالقلب هو العلم ، فإذا قوي العلم في القلب سمي « يقينا » ، وشرط الإيمان توافق القلب واللسان ، وعلامته العمل بالأركان ، فإذا توافق العضوان ، وتبعهما بقية جوارح الإنسان ولم يعطل الأمر الإلهي ، فهذا هو الإيمان .

وقال بعض المرجئة : الإيمان هو القول دون العمل ; لأن القول مقدم على العمل ، قال الله تعالى : ( قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما  يدخل الإيمان في قلوبكم ) .

والإيمان قد يقوى وقد يضعف ; لذا تختلف مراتب المؤمنين . والإيمان إما أن يكون تحقيقيا أو تقليديا .

وبعبارة أخرى : إما أن يكون بالاستدلال أو بالمكاشفة ، قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا ) .

والإيمان إما أن يكون بالاستقلال ، أو عارية وبالعرض ، والممدوح هو الإيمان الإستقلالي الراسخ الثابت دائما الذي تحصل منه المكاشفات .

والإيمان الإستقلالي الثابت هو أساس العبادات ، ومدار الطاعات ، والركن الركين والأصل الأصيل في وجود المؤمن المسلم ، والفرائض والسنن كمالات وفروع ، ولا نجاة - البتة - من مهالك النيران إلا بالإيمان .

وأما ما قاله المعتزلة والخوارج والكرامية والمرجئة في المعنى الشرعي للإيمان فكله ترهات ومزخرفات وركام من الرطب واليابس الذي ينزعج السامع ويتعب الناظر فيها ; والبيان الصحيح ما قاله صاحب مجمع البيان الطبرسي طاب ثراه قال : قال الأزهري : اتفق العلماء على أن الإيمان هو التصديق ، قال الله تعالى : ( وما أنت بمؤمن لنا ) أي ما أنت بمصدق لنا .

وقال ابن الأنباري : ومن قبل آمنا وقد كان قومنا * يصلون للأوثان قبل محمدا معناه آمنا محمدا أي صدقناه .

والإيمان من آمن من باب الإفعال ، وقال أهل الشريعة : « فالإيمان التصديق به من الله وأنبيائه وملائكته وكتبه ورسله والبعث والنشور والجنة والنار » .

وقال المعتزلة : إذا تعدى الإيمان بالباء ، فمعنى تصديقي يتضمن الإقرار والوثوق ، وإذا لم يتعدى بحرف فله معنى آخر ، فمن فسد اعتقاده وأقر بالشهادتين لفظا فهو منافق ، ومن أنكر لفظا وفسد اعتقاده فهو كافر ، ومن أخل بالعمل ولم يخل بالقلب واللسان فهو فاسق .

وعلى أي حال ; لا ينبغي للمؤمن أن يقصر في الإتيان بالطاعات الواجبة والمندوبة والإعتقادات الحقة وكل ما يتعلق بالأقوال والأحوال الممدوحة ، والاجتناب عن الكبائر والاحتراز عن المحظورات ، ولا بد له من التصديق والإذعان بالتعريف المعروف : « إن الإيمان هو عقد بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان » .

وقيل : إن الإيمان الكامل هو معرفة الله ، وجعلوا ذلك أصلا لكل الطاعات ، بل جعلوا كل طاعة إيمانا . وقيل : إن الإيمان اسم جامع للفرائض والنوافل ، ومنهم من أضاف غير النوافل أيضا .

أما المرجئة الذين قالوا : إن الإيمان قول بلا عمل ، فقد غفلوا عن قوله تعالى : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله واليوم الآخر وما هم بمؤمنين ) وقوله ( صلى الله عليه وآله ) : « من قال شيئا واعتقد خلافه فهو كاذب » .

والمذهب الحق أن يقترن الإيمان بالعمل ، كما قال الله تعالى : ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنه هم فيها خالدون ) .

وقال تعالى أيضا : ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون ) .

وقال تعالى أيضا : ( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ) .

وقال تعالى أيضا : ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية )  .

ونظائر هذه الآيات كثيرة في القرآن . ويحضرني في المقام بيان مفيد لعلماء التفسير وعظام أهل التحقيق لا بأس بذكره هنا : قالوا : إن لكل شئ ثلاث وجودات : وجود عيني ، ووجود ذهني ، ووجود لفظي ، والإيمان كذلك له وجودات ثلاثة .

وعلى ما هو المعلوم ، فإن الوجود العيني لكل شئ هو الأصل ، وباقي الوجودات فروع وتوابع .

فالوجود العيني الإيماني نور يسطع في القلب بعد رفع الحجاب بينه وبين الحق تعالى . قال تعالى : ( مثل نوره كمشكاة فيها مصباح ) وقال تعالى : ( الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور ) .

والإيمان الثابت يقبل الشدة والضعف مثل الأنوار الأخرى .

ويشهد لذلك قوله تعالى : ( فإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا ) .

فكلما ارتفع حجاب من الحجب ، ازداد نور الإيمان في الإنسان وانشرح صدره بذلك النور ، وعرف حقائق الأشياء كما هي ، وبمقدار انشراح الصدر يقدم على الأوامر ويجتنب النواهي ، بحيث تحيط أنوار الأخلاق الفاضلة والملكات الحميدة بتمام أعضائه وقواه .

قال تعالى : ( نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ) وقال تعالى : ( نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم ) .

فهذا الإيمان تحفة نورانية في ظلمات الطبيعة الإنسانية تجعل أنوار المعارف الجلية وتجليات العلوم الربانية وجدانية للمؤمن . أما الإيمان اللفظي ، فهو على العكس تماما ، لأنه إقرار بالشهادتين باللسان دون التحقق من حقيقتها ، فهذا الإيمان لا فائدة فيه ، ومثله مثل من ينطق بلفظ الخبز والماء ، فلفظ الماء لا يروي عطشانا ، ولفظ الخبز لا يشبع جائعا ، وهو الإيمان التقليدي ، ويقابله الإيمان التحقيقي .

أجل من تلفظ الشهادتين لحقه حكم المسلم ظاهرا ، وحرم دمه وماله وعرضه ، ولكنه لا ينال شيئا من المثوبات الأخروية البتة ، وهو إيمان العوام عموما والسفلة منهم خصوصا .

والخلاصة : إن القلب للإيمان ، والبدن للعبادة ، واللسان للشهادة ، واللسان ترجمان القلب ، والقلب ترجمان الحق ، فالإيمان التحقيقي يتضمن الإسلام ، والإسلام قد يكون فاقدا للإيمان . ففي الكافي : « الإيمان إقرار وعمل ، والإسلام إقرار بلا عمل » .

والإيمان كعين غزيرة تجري منها الأنهار والسواقي والجداول حسب غزارتها ، أو كمشكاة في الروح الحيواني كلما ازداد زيتها أنارت زوايا البدن الإنساني أكثر ، أو أن الإيمان كجوهر ثمين في صندوق الوجود الإنساني ، والشياطين يترصدونه يمينا وشمالا ليسرقوا منه ، فإذا عصى الإنسان سلب منه النور وروح الإيمان ، فإذا تاب عادت إليه ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : . . . لو لم يكن في الأرض إلا مؤمن واحد لاكتفيت به عن جميع خلقي ، وجعلت له من إيمانه أنسا لا يحتاج معه إلى أحد ، فلا بد أن يكون المؤمن غريبا في الدنيا وطوبى للغرباء .

فلا ينبغي - إذن - التفريق بين الإيمان والعمل ، لأن العمل جزء من الإيمان ، والإيمان سلطان على العمل ، وله حكومة على الأفعال المتعلقة بالأعضاء الإنسانية ، فإذا قصرت في أعمالها صارت كالعضو المشلول ، قال تعالى : ( وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ) ، وقال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله ) الآية أي الإعتقاد بما جاء به النبي ( صلى الله عليه وآله ) مما يجب على المؤمن أن يعلمه ويعمله ويقوله ، وضده الكفر والجحود قال تعالى : ( إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) .

فويل لمن آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه . نعم ; قد يتمسك البعض بالقول بزيادة الإيمان ونقصه واختلاف القوابل ، ففي الخبر المعتبر : « . . . فقلت : جعلت فداك إنا نبرأ منهم أنهم لا يقولون ما نقول .

فقال الصادق ( عليه السلام ) : يتولونا ولا يقولون ما تقولون تبرؤون منهم ؟ قال : قلت : نعم .

 قال : فهو ذا عندنا ما ليس عندكم ، فينبغي لنا أن نبرأ منكم ؟ قال : قلت : لا ، جعلت فداك قال : وهو ذا عند الله ما ليس عندنا ، أفتراه إطرحنا ؟ قال : قلت : لا ، جعلت فداك ، ما نفعل ؟ قال : فتولوهم ولا تبرؤا منهم ، إن من المسلمين من له سهم ، ومنهم من له سهمان ، ومنهم من له ثلاثة أسهم ، ومنهم من له أربعة أسهم . . . إلى آخر الحديث وسأل شخص فاضلا : هل الإيمان يزيد وينقص ؟ قال : لا .

قال السائل : فإيماني وإيمان النبي ( صلى الله عليه وآله ) سواء ؟ فقال الفاضل : إن الشمس إذا دخلت برج الأسد بلغت حرارتها الذروة في الأقاليم السبعة ، ولربما ذاب الذهب في بعض الأودية ، فإذا نزلت في برج الجدي يبرد الجو إلى حد يتعذر معه الوقوف في بعض النقاط المرتفعة ، والشمس هي الشمس لا اختلاف فيها إن كانت في برج الأسد أو في برج الدلو ، ولكن الإختلاف في مواقف البروج والمنازل .

ثم إن الإيمان قسمان : تقليدي وتحقيقي ، والتحقيقي أيضا قسمان : استدلالي وكشفي ، وكل واحد منهما ينقسم إلى ما له نهاية وما ليس له نهاية ، فما كان له نهاية سمي ب‍ « علم اليقين » ، وما ليس له نهاية سمي ب‍ « عين اليقين » ، وما كان بالمشاهدة والمكاشفة سمي ب‍ « حق اليقين » .

نرجع الآن إلى صلب الموضوع نستخلص النتائج من هذه المستطرفات والمفردات المرقومة : أولا : في بحار الأنوار عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : « اشتاقت الجنة إلى أربع من النساء : مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم زوجة فرعون ، وهي زوجة النبي ( صلى الله عليه وآله ) في الجنة ، وخديجة بنت خويلد زوجة النبي ( صلى الله عليه وآله ) في الدنيا والآخرة ، وفاطمة بنت محمد ( صلى الله عليه وآله ) » .

ونحن نعلم أن الجنة خاصة بأهل الإيمان ، وأنها لا تشتاق إلا الكمل من المؤمنين ، فينتج من هذا الحديث النبوي ( صلى الله عليه وآله ) الشريف أن آسية كانت ذات إيمان كامل ، وسيأتي قوله ( صلى الله عليه وآله ) : « لقد كمل من الرجال كثير وما كمل من النساء إلا أربعة » .

ويمكن أن يقال : إن تلك المكرمة المحترمة انتقلت من مرتبة « علم اليقين » إلى مرتبة « عين اليقين » فأكملت إيمانها هنا ، ثم انتقلت إلى عالم الشهود وسارت في هذا المقام إلى منتهاه ، ويكفيها فخرا أنها كانت سباقة إلى التوحيد في مدة مديدة من زمان موسى ( عليه السلام ) ، حيث وحدت الخلاق ولا موحد غيرها في الرجال والنساء ، والأعجب من ذلك كتمانها إيمانها عن فرعون ، حتى اقتضت الحكمة كشف الحجاب ورفع النقاب وإفشاء السر المكنون .

فدعيت - عند ذلك - إلى العالم الأعلى بدعوة ( إن إلى ربك الرجعي ) .

أما المرتبة الأخيرة فهي عالم حق اليقين ، وهو بحر لا ينزف ، وعالم مجهول لا يعرف ، وهو معنى الفناء في الله ، الخاص بالصديقة الكبرى فاطمة الزهراء سلام الله عليها ، وهو مقام لم يحصل ، ولن يحصل لسواها من النساء ، وعلامة هذا المقام المنيع والقدر الرفيع إعراضها عن الدنيا والعقبى ، وتوجهها التام إلى ساحة حضرة العلي الأعلى .

ولو أنعمنا النظر بعين البصيرة لانكشف لنا حقيقة هذا المعنى من قوله تعالى : ( إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض ).

وقال علي بن الحسين ( عليهما السلام ) : « إني أقبلت بكلي إليك » . ونعم ما قيل : إذا اشتغل اللاهون عنك بشغلهم * جعلت اشتغالي فيك يا منتهى شغلي وكيف لا تكون فاطمة الزهراء كذلك وأبوها يقول : « إن ابنتي فاطمة ملأ الله قلبها وجوارحها إيمانا إلى مشاشها » كما في الحديث عن الباقر ( عليه السلام ) قال : بعث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) سلمان إلى فاطمة قال : فوقفت بالباب وقفة حتى سلمت ، فسمعت فاطمة تقرأ القرآن من جوا والرحى يدور من برا ، وما عندها أنيس . وقال في آخر الخبر . .

فتبسم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقال : يا سلمان ! إن ابنتي فاطمة ملأ الله قلبها وجوارحها إيمانا إلى مشاشها ، تفرغت لطاعة الله ، فبعث الله ملكا اسمه زوقابيل - وفي خبر آخر : جبرئيل - فأدار لها الرحى ، وكفاها الله مؤنة الدنيا مع مؤنة الآخرة .

 قال في النهاية : في صفته ( صلى الله عليه وآله  ) : جليل المشاش ، ومنه الحديث : « ملئ عمار إيمانا إلى مشاشه » وفي رواية : « أخمص قدميه » .

وفي الشمائل المرتضوية في حديث طويل : « إنه رجل دحداح البطن ، طويل الذراعين ، ضخم الكراديس ، أنزع ، عظيم العينين ، لسكنه مشاشار كمشاشير البعير ، ضاحك السن » .

قال المجلسي ( رحمه الله ) : « ولم أجد لمشاشار معنى في اللغة : ولعله كان في الأصل : له مشاش كمشاش البعير ، والمشاش رؤوس العظام ، ولم تكن تلك الفقرة في بعض النسخ » إنتهى .

 ومعنى المشاش كما في الصحاح والقاموس عن الجوهري والفيروزآبادي : رؤوس العظام ، كالمرفقين والكعبين والركبتين . قال الجوهري : هي رؤوس العظام اللينة التي يمكن مضغها .

مثل الكردوس وجمعه الكراديس ، وهو كل عظمين التقيا في مفصل نحو المنكبين والركبتين والوركين .

والهاء في « مشاشها » تعود على فاطمة ( عليها السلام ) ، أو على جوارحها ; والمعنى واحد ، والعبارة تدل على قوة إيمانها ، والمقصود من شدة الحمل وصلابته قوة الحال واستحكامها ، وهو الإيمان ، وإشارة إلى رسوخه وثباته وسريانه في تمام أعضاء فاطمة ( عليها السلام ) من الرأس إلى القدم ، سواء في الأعضاء الصلبة العظيمة أو في الأعضاء الرخوة اللينة الرقيقة .

وفي الحديث ثلاث فضائل لفاطمة ( عليها السلام ) :

الأولى : إن الله كفاها أمر دنياها وآخرتها ، وهو الكافي .

الثانية : أمر جبرئيل بخدمتها .

الثالثة : إحاطة الإيمان بتمام أعضاء بدنها الشريف من أصول العظام وغيرها بنحو الهاجم والتراكم ، بحيث تمر من القلب والجوارح وتترسخ في عظام بدنها وتنفذ فيها ، عكس باقي النساء حيث قيل في حقهن : « إنهن نواقص العقول » .

وببيان آخر : قلنا أن علامة الإيمان في المؤمن اقترانه بالعمل ، وقد عبر الحديث بقوله : « العمل بالأركان » ولهذه العظام العظيمة مدخلية في التذلل والعبادة وإطاعة الرب ، خصوصا في أداء الفرائض والأعمال البدنية الأخرى . وقد أدت فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) حق كل عضو من أعضاءها بنحو الكمال ، خلافا لأهل المعصية الذين يمكنهم أن يقولوا « إلهي عصيتك بجميع جوارحي التي أنعمت بها علي » .

وكانت تلك المخدرة مستغرقة في الطاعات والتوجه إلى الحضرة الإلهية ، لا تفرغ جوارحها من العبادة كما قال علي بن الحسين ( عليهما السلام ) : « شهد بها شعري وبشري ومخي وعظامي ولحمي . . . » ولذا كانت تزداد في كمالاتها الإيمانية آنا بعد آن ، وزمانا بعد زمان ، فإذا صار العبد كذلك وارتبط بمولاه الحقيقي ارتباطا معنويا واتصل به اتصالا روحانيا ، صدق حينئذ في حقه الحديث القدسي : « إذا تقرب عبدي إلي بالنوافل ، أحببته فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها . . . » .

فنقول : إن الإيمان الكامل للفرد يتحقق بالإتيان بتمام ما جاء به النبي ( صلى الله عليه وآله ) وهو الدين الخالص ، والكامل في هذا الإيمان الخالص ينال مقام حق اليقين ، ويتمحض في إطاعة أوامر وأحكام الخلاق المبين ، وليس هذا الشخص الكامل في الإيمان إلا فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين صلوات الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها أجمعين .

ونظير هذا الحديث قول النبي ( صلى الله عليه وآله ) الشريف في حق الولي الأعظم حينما برز إلى عمرو بن عبد ود ، فقال : « لقد برز الإيمان كله إلى الشرك كله » وهو نظير قوله تعالى : ( ما كذب الفؤاد ما رأى ) يعني أن أمير المؤمنين صار هو الإيمان لشدة اعتقاده الصحيح ورياضاته البدنية وعباداته ، بل إن معنى الإيمان وحقيقته لا يتحقق إلا بولايته ، أو أن الإيمان بمراتبه المختلفة لا يكمل إلا بولايته .\

 ويشهد لذلك قول عمر بن الخطاب - كما في المناقب - : إني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : « لو أن السماوات والأرض وضعت في كفة ووضع إيمان علي في كفة ، لرجح إيمان علي ( عليه السلام ) » .

و ( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ) من عباده .

وفي حديث آخر : قال الله تعالى : « فإني آليت على نفسي قسما حقا لا أتقبل من أحد إيمانا ولا عملا إلا مع الإيمان به » .

وفي تفسير العياشي وكتاب « ما نزل من القرآن في علي ( عليه السلام ) » عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : ما نزلت آية ( يا أيها الذين آمنوا ) إلا وعلي شريفها وأميرها  .

وفي تفسير فرات عن أبي مريم قال : سألت جعفر بن محمد عن قول الله تعالى : ( الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ) قال : « يا أبا مريم هذه والله لعلي بن أبي طالب خاصة ، ما لبس إيمانه بشرك ولا ظلم ولا كذب ولا سرقة ولا خيانة » .

« وإن عليا أول من آمن بالله ورسوله ، وقالت بنته زينب الكبرى ( عليها السلام ) في وصفه عليه صلوات الله وسلامه : إمامي وحد الرحمن طفلا * وآمن قبل تشديد الخطاب والأخبار والآثار في إيمان أمير المؤمنين كثيرة في كتب الفريقين .

إن مثال العصمة الكبرى هي فاطمة الزهراء بنت نبي الرحمة ، وقرينة سلطان الولاية ، ولازم الإيمان الكامل الثبات والدوام على العقيدة .

وقد مر سابقا أن آسية اجتهدت في سبيل الإسلام والإيمان غاية الاجتهاد ، وتحملت الصعاب ، وقدمت روحها فداء واستشهدت في سبيل الله ، والعاقبة أنها نالت أجر همتها العالية ، فرفع ا لله عن نظرها الحجاب ، فرأت منزلها في الجنة ، وهذا معنى ( ما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله ) ، ولكن تبقى الدرجة الرفيعة لفاطمة الشفيعة أعلى وأفضل من مقام آسية لأنها أدركت سعادة الشهادة ، قال الإمام ( عليه السلام ) « إنها ماتت شهيدة » ، ولأنها لم تتمن على الله عند رحلتها في اليوم لأخير من عمرها حورا وقصورا وولدانا وغلمانا وجنانا ، ما تمنت شيئا من ذلك ، وإنما تمنت جوار أبيها سيد الرسل .

وحينما وهبت ثوبها ليلة الزفاف إلى الفقير السائل نزل جبرئيل وقال : فلتسأل فافاطمة من العلي الأعلى ما تشاء ، حتى لو كان ما في الخضراء والغبراء ، فقالت ( عليها السلام ) : « شغلتني لذة خدمتي عن مسألتي إياه ، وما أريد إلا النظر إلى وجهه الكريم » .

انظر إلى علو همتها وبعد نظرها ( عليها السلام ) ، حيث لم ترد من الله إلا الله ، فأظهرت الشوق للقاء الرب ، وحصرت رجاءها الواثق بلقاء جمال ذي الجلال والحضرة النبوية المقدسة ، « فعليك بالله ودع ما سواه » .

وقد دعت للأمة المرحومة دعاء الخير ، فأجابها الرب الودود أن ( كتب ربكم على نفسه الرحمة ) والحديث طويل سيأتي في خصيصة وفاتها ( عليها السلام ) .

وعجبا ، فلم أكن أحسب أنني سأطيل كلا هذه الإطالة ، وذلك لأني كنت أحفظ بعض الأخبار فذكرتها ولم أرد إبقاءها في الذهن ، فأشرت إلى كل واحدة منها إشارة عابرة ، والأفضل أن نعود إلى الموضوع فنذكر النسوان الأخريات ذكرا إجماليا بما يقتضيه هذا الكتاب - الذي يبحث في حالات أم الأطياب صلوات الله وسلامه عليها - لئلا يخلو من الإشارة إلى خادمات تلك المخدومة التي يخدمها أهل الأرضين والسماوات !

العودة إلى الصفحة الرئيسية