كتاب مشارق أنوار اليقين للحافظ رجب البرسي من الكتب التي جمعت مناقب وأسرار آل محمد صلوات المصلين عليهم ما طلع نجم، بل لنا أن نقول أنه تفرد في نقل بعض المناقب والأسرار، مما واجهتنا مشكلة في تخريج تلك المناقب.
ومؤلف هذا الكتاب من الحفاظ المشهورين بالعلم والتقوى والعرفان، وشدة ولائه لآل محمد عليهم السلام، وإبراز ما أخفوه عن بعض شيعتهم، حتى رماه من لا تحقيق له ولا اطلاع له على جل روايات أهل البيت عليهم السلام بالغلو.
وسوف تعرف من كلام العلامة الخبير الأميني حقيقة الحال:
* قال العلامة الأميني (1):
الشيخ رضي الدين رجب بن محمد بن رجب البرسي الحلي المعروف بالحافظ: من عرفاء علماء الإمامية وفقهائها المشاركين في العلوم، على فضله الواضح في فن الحديث، وتقدمه في الأدب وقرض الشعر وإجادته، وتضلعه في علم الحروف وأسرارها واستخراج فوائدها، وبذلك كله تجد كتبه طافحة بالتحقيق ودقة النظر، وله في العرفان والحروف مسالك خاصة، كما أن له في ولاء أئمة الدين عليهم السلام آراء ونظريات لا يرتضيها لفيف من الناس، ولذلك رموه بالغلو والارتفاع، غير أن الحق أن جميع ما يثبته المترجم لهم عليهم السلام من الشؤون هي دون مرتبة الغلو وغير درجة النبوة، وقد جاء عن مولانا أمير المؤمنين عليه السلام قوله: إياكم والغلو فينا، قولوا: إنا عبيد مربوبون.
وقولوا في فضلنا ما شئتم (2). وقال الإمام الصادق عليه السلام: اجعلوا لنا ربا نؤوب إليه وقال عليه السلام: اجعلونا مخلوقين وقولوا فينا ما شئتم فلن تبلغوا (3).
وأنى لنا البلاغ مدية ما منحهم المولى سبحانه من فضائل ومآثر؟ وأنى لنا الوقوف على غاية ما شرفهم الله به من ملكات فاضلة، ونفسيات نفيسة، وروحيات قدسية، وخلائق كريمة، ومكارم ومحامد؟ فمن ذا الذي يبلغ معرفة الإمام؟ أو يمكنه اختياره؟ هيهات هيهات ضلت العقول، وتاهت الحلوم، وحارت الألباب، وخسئت العيون، وتصاغرت العظماء، وتحيرت الحكماء، وتقاصرت الحلماء، وحصرت الخطباء، وجهلت الألباء، وكلت الشعراء، وعجزت الأدباء، وعييت البلغاء عن وصف شأن من شأنه، وفضيلة من فضائله، وأقرت بالعجز والتقصير، وكيف يوصف بكله؟ أو ينعت بكنهه؟ أو يفهم شئ من أمره؟ أو يوجد من يقوم مقامه ويغني غناه؟ لا.
كيف؟ وأنى؟ فهو بحيث النجم من يد المتناولين ووصف الواصفين، فأين الاختيار من هذا؟ وأين العقول عن هذا؟ وأين يوجد مثل هذا؟ (4).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) الغدير: 7 / 33 - 68.
( 2) عن الخصال لشيخنا الصدوق وسوف يأتي مع تخريجه.
( 3) بصائر الدرجات للصفات وسوف يأتي.
( 4) من قولنا: (فمن ذا الذي يبلغ) إلى هنا مأخوذ من حديث رواه شيخنا الكليني ثقة الإسلام في أصول الكافي 1 / 99 عن الإمام الرضا صلوات الله عليه (هامش الغدير).
ولذلك تجد كثيرا من علمائنا المحققين في المعرفة بالأسرار يثبتون لأئمة الهدى صلوات الله عليهم كل هاتيك الشؤون وغيرها مما لا يتحمله غيرهم، وكان في علماء قم من يرمي بالغلو كل من روى شيئا من تلكم الأسرار حتى قال قائلهم: إن أول مراتب الغلو نفي السهو عن النبي صلى الله عليه وآله.
إلى أن جاء بعدهم المحققون وعرفوا الحقيقة فلم يقيموا لكثير من تلكم التضعيفات وزنا، وهذه بلية مني بها كثيرون من أهل الحقائق والعرفان ومنهم المترجم، ولم تزل الفئتان على طرفي نقيض، وقد تقوم الحرب بينهما على أشدها، والصلح خير.
وفذلكة المقام أن النفوس تتفاوت حسب جبلاتها واستعداداتها في تلقي الحقائق الراهنة، فمنها ما تبهظه المعضلات والأسرار، ومنها ما ينبسط لها فيبسط إليها ذراعا ويمد لها باعا، وبطبع الحال أن الفئة الأولى لا يسعها الرضوخ لما لا يعلمون، كما أن الآخرين لا تبيح لهم المعرفة أن يذروا ما حققوه في مدحرة البطلان، فهنالك تثور المنافرة، وتحتدم الضغائن، ونحن نقدر للفريقين مسعاهم لما نعلم من نواياهم الحسنة وسلوكهم جدد السبيل في طلب الحق ونقول: على المرء أن يسعى بمقدار جهده وليس عليه أن يكون موفقا ألا إن الناس لمعادن كمعادن الذهب والفضة (1) وقد تواتر عن أئمة أهل البيت عليهم السلام: أن أمرنا أو حديثنا - صعب مستصعب لا يتحمله إلا نبي مرسل أو ملك مقرب، أو مؤمن امتحن الله قلبه بالإيمان (2).
إذن فلا نتحرى وقيعة في علماء الدين ولا نمس كرامة العارفين، ولا ننقم من أحد عدم بلوغه إلى مرتبة من هو أرقى منه، إذ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
وقال مولانا أمير المؤمنين عليه السلام: لو جلست أحدثكم ما سمعت من فم أبي القاسم صلى الله عليه وآله لخرجتم من عندي وأنتم تقولون: إن عليا من أكذب الكاذبين (3).
وقال إمامنا السيد السجاد عليه السلام: لو علم أبو ذر ما في قلب سلمان لقتله، ولقد آخى رسول الله صلى الله عليه وآله بينهما فما ظنكم بسائر الخلق (4) (وكلا وعد الله الحسنى) و (فضل الله المجاهدين على
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) حديث ثابت عند الفريقين (هامش الغدير).
( 2) بصائر الدرجات للصفار: 6، أصول الكافي: 1 / 216.
( 3) منح المنة للشعراني: 14.
( 4) بصائر الدرجات للصفار: 7 آخر الباب الحادي عشر من الجزء الأول وأصول الكافي لثقة الإسلام الكليني: 1 / 216.
القاعدين أجرا عظيما) وإلى هذا يشير سيدنا الإمام السجاد زين العابدين عليه السلام بقوله:
إني لأكتم من علمي جواهره * كيلا يرى الحق ذو جهل فيفتتنا
وقد تقدم في هذا أبو حسن * إلى الحسين وأوصى قبله الحسنا
فرب جوهر علم لو أبوح به * لقيل لي: أنت ممن يعبد الوثنا
ولاستحل رجال مسلمون دمي * يرون أقبح ما يأتونه حسنا (1)
ولسيدنا الأمين في أعيان الشيعة (31: 193 - 205) في ترجمة الرجل كلمات لا تخرج عن حدود ما ذكرناه.
ومما نقم عليه به اعتماده على علم الحروف والأعداد الذي لا تتم به برهنة ولا تقوم به حجة، ونحن وإن وصافقناه على ذلك إلا أن للمترجم له ومن حذا حذوه من العلماء كابن شهرآشوب ومن بعده عذرا في سرد هاتيك المسائل فإنها أشبه شئ بالجدل تجاه من ارتكن إلى أمثالها في أبواب أخرى من علماء الحروف من العامة كقول العبيدي المالكي في عمدة التحقيق ص 155: قال بعض علماء الحروف: يؤخذ دوام ناموس آل الصديق وقيام عزته إلى انتهاء الدنيا من سر قوله تعالى: (في ذريتي) فإن عدتها بالجمل الكبير ألف وأربعمائة وعشرة وهي مظنة تمام الدنيا كما ذكره بعضهم فلا يزالون ظاهرين بالعزة والسيادة مدة الدنيا، وقد استنبط تلك المدة عمدة أهل التحقيق مصطفى لطف الله الرزنامجي بالديوان المصري من قوله تعالى: (لا يلبثون خلافك إلا قليلا) (2)، قال ما لفظه: إذا أسقطنا مكررات الحروف كان الباقي (ل ا ي ب ث ون خ ف ك ق) أحد عشر حرفا عددهم بالجمل الكبير ألف وثلاثمائة وتسعة وتسعين زدنا عليه عدد الحروف وهو أحد عشر صار المجموع وهو ألف وأربعمائة وعشرة وهو مطابق لقوله تعالى: (ذريتي) وسمعت ختام الأعلام شيخنا الشيخ يوسف الفيشي رحمه الله يقول: قال محمد البكري الكبير: يجلس عقبنا مع عيسى ابن مريم على سجادة واحدة وهذا يقوى تصحيح ذلك الاستنباط. ه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تفسير الآلوسي: 6 / 190 وسوف يأتي مع مصادر.
(2) الإسراء: 76.
تهويل ليس عليه تعويل
ونحن لا ندري ماذا يعني سيدنا الأمين بقوله: (وفي طبعه شذوذ وفي مؤلفاته خبط وخلط وشئ من المغالاة لا موجب له ولا داعي إليه وفيه شئ من الضرر وإن أمكن أن يكون له محل صحيح)؟ ليت السيد يوعظ إلى شئ من شذوذ طبع شاعرنا الفحل حتى لا يبقى قوله دعوى مجردة.
وبعد اعترافه بإمكان محمل صحيح لما أتى به المترجم له فأي داع إلى حمله على الخبط والخلط، ونسيان حديث: ضع أمر أخيك على أحسنه؟ وأي ضرر فيه على ذلك التقدير؟ على أنا سبرنا غير واحد من مؤلفات البرسي فلم نجد فيه شاهدا على ما يقول، وستوافيك نبذ ممتعة من شعره الرائق في مدائح أهل البيت عليهم السلام ومراثيهم وليس فيها إلا إشادة إلى فضائلهم المسلمة بين الفريقين أو ثناء جميل عليهم هو دون مقامهم الأسمى، فأين يقع الارتفاع الذي رماه به بعضهم؟ وأين المغالاة التي رآها السيد؟ والبرسي لا يحذو في كتبه إلا حذو شعره المقبول، فأين مقيل الخبط والضرر والغلو التي حسبها سيد الأعيان ؟.
وأما ما نقم به عليه من اختراع الصلوات والزيارة بقوله: (واختراع صلاة عليهم وزيارة لهم لا حاجة إليه بعدما ورد ما يغني عنه ولو سلم أنه في غاية الفصاحة كما يقول صاحب الرياض) فإنه لا مانع منه إلا ما يوهم المخترع أنها مأثورة، وأي وازع من إبداء كل أحد تحيته بما يجريه الله تعالى على لسانه وهو لا يقصد ورودا ولا يريد تشريعا؟ وقد فعله فطاحل العلماء من الفريقين ممن هو قبل المترجم [ له ] وبعده، ولا تسمع إذن الدنيا الغمز عليهم بذلك من أي أحد من أعلام الأمة.
وأما قول سيدنا: (وإن مؤلفاته ليس فيها كثير نفع وفي بعضها ضرر ولله في خلقه شؤون سامحه الله وإيانا)، فإنه من شطفة القلم صدر عن المشظف (1) سامحه الله وإيانا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) المشطف كمنبر: من يعرض بالكلام على غير القصد.
تآليفه القيمة:
1 - مشارق أنوار اليقين في حقايق أسرار أمير المؤمنين.
2 - رسالة في الصلوات على النبي وآله المعصومين.
3 - مشارق الأمان ولباب حقايق الإيمان.
ألفه سنة 813.
4 - رسالة في زيارة أمير المؤمنين طويلة.
قال شيخنا صاحب الرياض: في نهاية الحسن والجزالة واللطافة والفصاحة معروفة.
5 - رسالة اللمعة من أسرار الأسماء والصفات والحروف والآيات والدعوات.
فيها فوائد لا تخلو من غرابة كما قاله شيخنا صاحب الرياض.
6 - الدر الثمين في خمسمائة آية نزلت في مولانا أمير المؤمنين باتفاق أكثر المفسرين من أهل الدين، ينقل عنه المولى محمد تقي الزنجاني في كتابه: طريق النجاة.
7 - أسرار النبي وفاطمة والأئمة عليهم السلام.
8 - لوامع أنوار التمجيد وجوامع أسرار التوحيد في أصول العقايد.
9 - تفسير سورة الإخلاص.
10 - رسالة مختصرة في التوحيد والصلوات على النبي وآله.
11 - كتاب في مولد النبي وعلي وفاطمة وفضائلهم.
12 - كتاب في فضائل أمير المؤمنين غير المشارق.
13 - كتاب الألفين في وصف سادة الكونين.
أضاء بك الأفق المشرق * ودان لمنطقك المنطق
وكنت ولا آدم كائنا * لأنك من كونه أسبق
ولولاك لم تخلق الكائنات * ولا بان غرب ولا مشرق
وله في العترة الطاهرة وسيدهم صلوات الله عليه وعليهم قوله:
إذا رمت يوم البعث تنجو من اللظى * ويقبل منك الدين والفرض والسنن
فوال عليا والأئمة بعده * نجوم الهدى تنجو من الضيق والمحن
فهم عترة فوض الله أمره * إليهم لما قد خصهم منه بالمنن
أئمة حق أوجب الله حقهم * وطاعتهم فرض بها الخلق تمتحن
نصحتك أن ترتاب فيهم فتنثني * إلى غيرهم من غيرهم في الأنام من ؟
فحب علي عدة لوليه * يلاقيه عند الموت والقبر والكفن
كذلك يوم البعث لم ينج قادم * من النار إلا من تولى أبا الحسن
وقال السيد الأمين في أعيان الشيعة (1): كان حيا سنة 813 وتوفي قريبا من هذا التاريخ.
(والبرسي) نسبه إلى برس في الرياض بضم الباء الموحدة وسكون الراء ثم السين المهملة، قال: ويظهر من القاموس أنه بضم الباء وفتحها وكسرها.
في القاموس قرية بين الكوفة والحلة وقيل برس جبل يسكن به أهله.
وعن مجمع البحرين: قرية معروفة بالعراق، ذكر ذلك في ذيل قوله في الخبر أحلى من ماء برس، أي ماء الفرات لأنها واقعة على شفيره أو هو موضع بين البلدتين المذكورتين وضبطه بكسر الباء، وكذا عن شرح المولى خليل القزويني على الكافي.
أقول: الشائع على لسان أهل العراق اليوم بكسر الباء، والظاهر أنه اسم قرية هي اليوم خراب كانت على ذلك الجبل، وهذا الجبل اليوم على يمين الذاهب من النجف إلى كربلاء وأهل العراق يسمونه برس ويضربون به المثل للشخص الذي أينما ذهبت وجدته فيقولون فلان مثل برس.
وهذا الجبل لعلوه وعدم وجود جبل سواه في تلك السهول أينما كنت تراه.
وأصل الشيخ رجب من تلك القرية ثم سكن الحلة، وليست النسبة إلى بروسا المدينة المعروفة في الأناضول لأن المترجم لم يرها.
وفي الرياض قد يتوهم كون النسبة إليها.
وحكى عن الصدر الكبير الميرزا رفيع الدين محمد في رد شرعة التسمية للسيد الداماد أن كتاب مشارق أنوار اليقين في كشف أسرار حقايق أمير المؤمنين عليه السلام للشيخ الفاضل رضي الدين رجب بن محمد البروسي قال: ولا شك أن البروسي نسبة إلى بلدة بروسا ا ه.
وكيف كان فكونه نسبة إلى بروسا غير صواب مع إمكان كون الواو من زيادة النساخ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) أعيان الشيعة: 6 / 465 - 467.
أقوال العلماء فيه: في مسودة الكتاب: كان فقيها محدثا حافظا أديبا شاعرا مصنفا في الأخبار وغيرها.
وفي أمل الآمل: الشيخ رجب الحافظ البرسي كان فاضلا شاعرا منشئا أديبا له كتاب مشارق أنوار اليقين في حقائق أسرار أمير المؤمنين عليه السلام وله رسائل في التوحيد وغيره وفي كتابه إفراط وربما نسب إلى الغلو.
وفي الرياض: الشيخ الحافظ رضي الدين رجب بن محمد بن رجب البرسي مولدا والحلي محتدا الفقيه المحدث الصوفي المعروف صاحب كتاب مشارق الأنوار المشهور وغيره، كان من متأخري علماء الإمامية لكنه متقدم على الكفعمي صاحب المصباح وكان ماهرا في أكثر العلوم وله يد طولى في علم أسرار الحروف والأعداد ونحوها كما يظهر من تتبع مصنفاته، وقد أبدع في كتبه حيث استخرج أسامي النبي والأئمة عليهم السلام من الآيات ونحو ذلك من غرائب الفوائد وأسرار الحروف ودقائق الألفاظ والمعميات ولم أجد له إلى الآن مشايخ من أصحابنا ولم أعلم عند من قرأ (أقول) ستعرف أنه يروي عن شاذان بن جبرئيل القمي.
وقال المجلسي في مقدمات البحار عند تعداد الكتب التي نقل منها: وكتاب مشارق الأنوار وكتاب الألفين للحافظ رجب البرسي ولا أعتمد على ما ينفرد بنقله لاشتمال كتابيه على ما يوهم الخبط والخلط والارتفاع وإنما أخرجنا منهما ما يوافق الأخبار المأخوذة من الأصول المعتبرة.
وفي الرياض التأمل في مؤلفاته يورث ما أفاده الأستاذ المجلسي والمعاصر صاحب الأمل من الغلو والارتفاع لكن لا إلى حد يوجب عدم صحة الاعتقاد ا هـ(1).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) أعيان الشيعة: 6 / 466.
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواجد لا من قلة، الموجود لا من علة، والصلاة على المبعوث لأشرف ملة، وآله النجوم والأهلة.
وبعد فيقول المخلوق من الماء المهين العبد الفقير المسكين المستكين المؤمن بوحدانية رب العالمين، المنزه عن أقوال الظالمين، وشبه الظالمين، وضلال المشبهين، وإلحاد المبطلين، وإبطال الملحدين، الشاهد بصدق الأنبياء والمرسلين، وعصمة الأولياء الصديقين، والخلفاء الصادقين، المصدق بيوم الدين، رجب الحافظ صان الله إيمانه، وأعطاه في الدارين أمانه، هذه رسالة في أصول الكتاب سميتها (لوامع أنوار التمجيد، وجوامع أسرار التوحيد) أودعتها ديني واعتقادي، وجعلتها زادي ليوم معادي، قدمتها لوجوب تقديم التوحيد، على سائر العلوم، وأتبعتها كتابا سميته (مشارق أنوار اليقين، في إظهار أسرار حقائق أمير المؤمنين) فكان هذا الكتاب الشريف جامعا لحقائق أسرار التوحيد، والنبوة والولاية، موصلا لمن تأمله وأم له إلى الغاية والنهاية، والله المعين والهادي.
فأقول متوكلا ومتوسلا: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة يوافق فيها السر الإعلان، والقلب اللسان، الحي القيوم، الموجود بغير أنية، المعروف بغير كيفية، سبحان الله العظيم في مجده، قيوم بذاته وصفاته، غني عن جميع مخلوقاته، وحده لا شريك له بعد فاقترب، وظهر فاحتجب، فلا بعده بعد مسافة، ولا قربه قرب كثافة، قرب إلى الأسرار ببره ورحمته، وبعد عن الأبصار بأشعة جلال عظمته، نأى عن العيون بشدة جماله، واختفى عن العيان بكمال نوره، فظهر بغيبه، وغاب بظهوره، فهو ظاهر لا يرى، وباطن لا يخفى، يعرف بفطر القلوب، وهو في سواتر الغيوب، تجلى بجمال صفاته من كل الجهات، فظهر وتجلى بكمال ذاته عن كل الجهات، فاستتر الفرد المجرد عن المواد والصور، فهو الرفيع في جلاله، البديع في جماله، وحده لا شريك له، وجوده وجود إيمان لا وجود عيان، دلت عليه آياته، وشهدت بوحدانيته مصنوعاته، وأقرت بربوبيته أرضه وسماواته، كل حادث دليل عليه، ومستند في وجوده إليه، ومشير بالعظمة والكبرياء إليه، فمفهومه ومعناه، تقدس في عزه وعلاه، أنت ذات واحدة لا تحدها فكرة، ولا تحاولها كثرة، لها الجلال والإكرام، والبقاء والدوام، والملك المؤبد، والسلطان السرمد، والعز المنيع، والمجد الرفيع، فالحق عز اسمه وجل جلاله، وأخذ من جميع الجهات، فرد صمد بكل العبادات، قيوم أحد بأكمل الدلالات، رب وتر بالذات والصفات، معبود حق بسائر اللغات، لا تحكيه العبارات، ولا تحويه الإشارات، فذاته الأزلية الأبدية القيومية الرحمانية، المقدسة بالوحدة الحقيقية، المنزهة عن الكثرة الصورية، مبدأ لسائر الموجودات، ومنبع لسائر الكمالات، موصوفة بأكرم الصفات، مسلوب عن جمال كمالها النقائص والحاجات، متعالية عن الأحياز والجهات، منزهة عن مشابهة المحدثات، مبراة عن المقولات، فسبحان القيوم، الذي لم يزل ولا يزال، الفرد المنزه عن الحلول والانتقال، وحده لا شريك له، كان ولم يزل كائنا، ولا سماء مبنية، ولا أرض مدحية، ولا خافق يخفق، ولا ناطق ينطق، ولا ليل داج، ولا صبح مشرق، كان الله ولا شئ معه، وهو على ما كان لم يتكثر بخلقه أبدا، فسبحان من أين الأين، فلا أين يحويه، وكيف الكيف فلا كيف يحكيه، وتعالى عن المكان والزمان، فلا وقت يباريه، وحده لا شريك له، جل عن أجل معدود، وأمد ممدود، وتعالى عن وقت محدود، الحي الحميد المحمود، قدوس، سبوح، رب الملائكة والروح، حي لا يموت.
فسبحانه من أزلي قديم، سبق العدم وجوده، والأزل قدمه، والمكان كونه، وعز عن المزاوجة اسمه، وحده لا شريك له، ليس لقدمه رسم، ولا حد، ولا لملكه قبل ولا بعد، ولا لأمره دفع ولا رد، ولا لسلطانه ضد ولا ند، تقدس القيوم في جلال عظمته، ودوام سلطنته، وحده لا شريك له، لا تدركه الحواس، فيوجد له شكل، ولا يشبه بالناس فيكون له مثل، امتنعت عن إدراك ذاته عيون العقول، وانقطعت دون وصف صفاته أسباب الوصول، حي قيوم، وجوده لذاته بذاته عن ذاته، لا لعلة تقومه فيكون ممكنا، ولا لسبب يتقدمه فيكون محدثا، ولا لكثرة تزاحمه فيكون للحوادث محلا، حي قبل كل حي، وحي بعد كل حي، واجب الحياة لكل حي، وحي لم يرث الحياة من حي، فهو المعبود الحق، والإله المطلق، أحدي الذات، وأحدي الصفات، أزلي اللاهوت، أبدي الملكوت، سرمدي العظمة، والجلال والجبروت، حي قيوم لا يموت، لا تحكيه الشواهد، ولا تحويه المشاهد، ولا تحجبه السواتر، ولا تبلغه النواظر، لا يدركه بعد الهمم، ولا يناله غوص الفطن، وجهه حيث توجهت، وطريقه حيث استقمت، لا تجري عليه الحركة والسكون، فكيف يجري عليه ما هو أجراه، لا إله إلا هو الله، فمن وصف الله سبحانه فقد حده، ومن حده فقد عده، ومن عده فقد ثناه، ومن ثناه فقد أبطله، إذ ليس في الأشياء، وإلا لكان محدودا، ولا منها، وإلا لكان معدودا، فهو بعيد عنها، دان إليها، قائم بها، قيوم عليها، لا يتجزى فيعد، ولا يتكثر فيحد، ما وحده من كيفه، ولا حقيقته أصاب من مثله، ولا إياه عني من شبهه، ولا حمده من أشار إليه وتوهمه، الحكم العدل الذي لا يتوهم ولا يتهم، شهدت العقول والنفوس، وشاهدت العيون والمحسوس: أن العالم متغير، وكل متغير جسم، وكل جسم حادث، وكل حادث له محدث، وذلك المحدث هو الخالق المقدر، والبارئ المصور، والجبار المتكبر، لافتقار الأثر إلى المؤثر، فهو الرب القديم، العلي العظيم، الغني الكريم، الجواد الرحيم، الذي صدر العالم عنه وابتدعه، وتعالى عنه، فهو المبتدئ الأول، الذي فاض عن جود وجود كل موجود، والمبدأ الأول واجب لذاته، والواجب لذاته حي قيوم، والحي القيوم قديم أزلي، والقديم واجب الوجود ودائم الوجود، واحد من جميع الجهات، والواحد الحق يستحيل أن يكون جسما، لأن الجسم يلزمه التركيب والكثرة، وكل مركب له أول، وما له أول محدث، والقيوم الحق مجرد عن كل مادة، منزه عن كل صورة، مقدس عن كل كثرة، مبرأ عن كل وصف، لا يشمله حد أو يبدأ له عد، أو يتناوله رسم، أو يكشفه اسم، لا تحويه الأقطار، ولا تبديه الأفكار، ولا تدركه الأبصار، وكيف تدركه الأبصار وهي خلقه؟ أو كيف تحويه الأقطار وهي صنعه؟ والصنعة على نفسها تدل، وفي مثلها تحل، فسبحانه قيوم حق، لا أول لوجوده، ولا نهاية لملكه وجوده، والعالم كله بالعدم مسبوق، وبالفناء ملحوق، فكلها سوى الحي القيوم محدث ومركب ومفتقر، والحق عز اسمه فرد مجرد، لا كثرة في ذاته وصفاته، هو هو واحد لا ينقسم، تقديرا ولا حدا واحدا، لا يقارب نظيرا ولا ضدا، واحدا ذاتا ونعتا، وكلمة وعدا، فله الوحدة اللائقة بكرم وجهه، وعز جلاله، كالإلهية المحضة، والإله المطلق هو الله سبحانه، كل الكل، ومعبود الكل، وخالق الكل، والعالي على الكل، والمتعالي عن الكل، والعلي عن الكل، والمنزه عن الكل، والبرئ عن الكل، والعالم بالكل، والمظل على الكل، والمطلع على الكل، والحافظ الكل، والحفيظ على الكل، والقائم بالكل، والقيوم على الكل.
فالرب الأزل القديم واحد حقا، وصمد يبقى، وقيوم معبود صدقا، فسبحان من تفرد بالوحدانية والجلال، وتقدس بالمجد والجمال، وتعزز بالبقاء والكمال، وحكم على الخليقة بالفناء والزوال، فكل شئ هالك إلا وجهه، فليس على الحقيقة معبود حق إلا الله وحده لا إله إلا الله، لا إله إلا الله نفي وإثبات، والحق ثابت لم يزل ولا يزال، والضد جل عن الضد، عدم محض، ينفي الغير من وقع النفي والإثبات، فمعنى كلمة التوحيد، وآية التجريد أنه لا إله في وجود، حي موجود، له الركوع والسجود، واحد لذاته، غني عن جميع مخلوقاته، قادر عالم، حي سميع، بصير مريد، كاره غني، واحد منزه عن كل نقص، طاهر من كل عيب، ذاته وصفاته، مستحق للعبادة، لا إله إلا الله اسمه، والرحمن نعته، والأحد ذاته، والواحد صفاته، واسمه الله، عز عن اسم، علم لذاته المقدسة، جامع لجلال صفات الجلال والعظمة، مانع من الشركة في الحقيقة والتسمية الرحمن ولا شبه يسمى أحد بأسمائه، ولا شريك له في ملكه وكبريائه، ولا شبه له في عظمته وآلائه، ولا منازع له في أمره وقضائه، ولا معبود سواه في أرضه وسمائه، رب قديم، وملك عظيم، غني كريم، لا شريك له في الإلهية، ولا شبيه له في الماهية، جل عن الشبيه والمثيل، وتعالى عن التشبيه والتمثيل، عز عن ولد ينفعه، وتقدس عن عدد يجمعه، الواحد الأحد، الذي لا يشبهه أحد، ولا يساويه أحد، له الجلال الباهر، والجبروت القاهر، والملكوت الزاهر، والسلطان الفاخر، هو الأول والآخر، والباطن والظاهر، الأول بالذات، والآخر بالصفات، والظاهر بالآيات، والباطن عن التوهمات، حارت في إدراك ملكات ملكوته مذاهب التفكير، وغارت عن الرسوخ في علمه جوامع التفسير، تاهت العقول في تيه عظمته، وهامت الأوهام في بيداء عزته، حماها نور الأحدية، وغشاها جلال سبحات الربوبية، عن إدراك حقيقته الإلهية، فرجع الطرف خاسئا حسيرا، والعقل مبهوتا مبهورا، والفكر متحيرا مذعورا، والوهم مذموما مدحورا، فسبحان الملك الحق المتعالي عن الجهات والأمكنة، الذي لا تأخذه نوم ولا سنة، ولا تصف جلال كمال عظمته الألسنة اللسنة، لا يحويه مكان، ولا يخلو منه مكان، ولا يصفه لسان، به كان الخلق لا بالخلق كان.
إن قلت: متى فقد سبق الكون كونه، أو قلت قبله فالقبل بعده، أو قلت أين؟ فقد تقدم المكان وجوده، أو قلت كيف؟ فقد أصحت عن الوصف صفته، أو قلت مم؟ فقد باين الأشياء كلها، أو قلت هو، فالهاء والواو كلامه.
بالكلمة تجلى الصانع للعقول، وبها احتجب عن العيون، فسبحان من جوده آية وجوده، وأنوار عظمته مانعة من سهوده، لم يزل، ولا يزال، أزليا أبديا في الغيوب، ليس فيها أحد غيره ولا معبود سواه، لا يجوز عليه التشبيه الذي يرقبه فهمك، ولا التشكيك الذي ينتجه وهمك، الجبار الذي فتق ورتق ظلام العدم بقوته وقهره، فأهل الوجود بلا إله إلا الله، وأتقن نظام الموجودات بقدرته وأمره، فليس خالق إلا الله خالق السماوات، وبالعدل فطرها، وأجرى فيها شمسها وقمرها، فهي دائرة بقهره، طالعة لأمره، ملأها بالأنوار، وقدسها بالأبرار، وحرسها بالشهب الثواقب من الأغيار، وحفظها من الأود والانفطار، فهي عالم الملكوت، وقبة الجبروت، وسرداق العظمة والجلال والجبروت، سقفا مرفوعا، وسمكا محفوظا، بغير عمد يدعمها، ولا دسار يقبضها، لم يشيدها سبحانه خوفا من سطوة سلطان، ولا خشية من نزول حدثان، بل جعلها دليلا للناظر، وعلما للسائر، تدل آياتها على عظمته، ورفعتها على قدرته، وكمال لطفه وحكمته، فمن نظر في خلق السماوات، وتعاقب حركات السيارات، واختلاف الليل والنهار، وما تضمن ذلك من الحكمة العجيبة، والقدرة الغريبة، بل في نفسه، وتركيب جسده، شاهد في كل لحظة، وعاين في كل لمحة، شاهد حق، وناطق صدق، ينطق بأن صانعه حي قيوم قدير، ويشهد بأن موجوده رب حكيم خبير.
سماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، وقمر ذو إشراق، وسراج وهاج، وسحاب صاعد، وماء فجاج، وأجسام ذات أعضاء، وأحياء وأمشاج، والكل يدلون على الصانع القدير، فسبحان من فطر الخلائق على عظائم المختلفات، وأنطقهم بغرائب اللغات، وقدر لهم الأعمار والأرزاق والأقوات، فهو الخالق العليم، الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة، ولا يغيب عن حفظه مكيال قطرة، فكيف يغيب عنه ما هو أبداه، ويخفى عليه ما هو أنشأه، لأن الخالق عالم بخلقه، محيط بصنعه، ومؤلف بين عناصره، شاهد بحقائقه وسرائره، مدرك بباطنه وظاهره، فهو العالم بخفيات الغيوب، الشاهد لسرائر القلوب، فالأعضاء شهوده، والجوارح جنوده، والضمائر غيوبه، والسرائر عيانه، فلا يخفى عليه شئ من خلقه، ولا يعزب عنه شئ من صنعه، وكيف يغيب عنه ما هو أبداه، ويخفى عليه ما هو أنشأه، فسبحانه من قادر عليم، لم يزل على الأسرار رقيبا، ومن الأرواح قريبا، وعلى الأعمال حسيبا، فهو الرقيب القريب، الشاهد الذي لا يغيب، فسبحان القيوم القدير، المتكلم الخبير، السميع البصير، سمعه منزه عن الأصمخة والأذان، وبصره منزه عن الحدقة والأجفان، وكلامه جل عن الآلات واللسان، فطر العقول فلا ضد حضره حين فطرها، وبرأ النفوس فلا ند خبره حين اختبرها، وحده لا شريك له، الروح قطرة من قطرات بحار ملكوته، والنفس شعلة من شعلات جلال جبروته، والسماوات السبع والأرض ومن فيهن ذرة من ذرات قدرته، وسبعون ألف عالم أثر من آثار حكمته، والعالم بأسره سر من أسرار صنعته، والكل شاهد بأنه هو الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له في جلال كبريائه، وعظمته، أهل السماوات يظنونه من الأرض، وأهل الأرض يظنونه في السماء، وهو الصمد الديان، المنزه عن الأين والمين، الموجود في كل مكان، المتعالي عن الادراك بالبصر والعين، العالي عن الحدوث والحدثان، الواحد الفاضل عن الاثنين، المعبود في كل زمان.
خلق الإنسان فقدره، وأحسن خلقه وصوره، وشق سمعه وبصره، خلقه من ماء مهين نطفة، وأنشأه من الحق شرعة ومنهاجا، وفطره على التوحيد، وأوقد له من العقل سراجا، وحل له رباط الضريح بأنامل الفرج والاعتبار، وأخرجه من مشيمة الرحم بيد المشية والرحمة والاقتدار، ودفع له دم الطمث في الصدر لبنا، وغذاه برزقه، وأخرجه إليه سهلا لينا ورباه بلطفه، وأنبته نباتا حسنا، وجعل له سمعا يسمع آياته، وعقلا يفهم كلماته، ويدرك صفاته، وبصرا يرى قدرته، وفؤادا يعرف عظمته، وقلبا يعتقد توحيده، ولسانا ينشر تمجيده، وجعل جسده مدنيته، والروح منه خليفته، وقلبه كعبته وبيته، الذي أطاف به ملائكته، وكرمه وفضله، وفض له سوابغ النعماء، وأمره بمعرفته، ليشكره على عميم العطاء والنعماء، وأسكنه دار المحنة والابتلاء، وأرسل عليه الرسل ونصب له الأدلاء، وساقه بسوط القهر إلى ميدان الفناء، وساوى بالموت بين الملوك والفقراء، ذلك لطف وعدل لنفوذ قلم القضاء، والوصول إلى دار البقاء، وإعادتهم بعد الموت لطفا واجبا لإيصال العوض والجزاء، فسبحان من فطر الخلائق، فلم يعي بخلقهم حتى ابتدأهم، ولم يستأنس بهم حين أوجدهم وأنشأهم، ولم يستوحش لفقدهم إذ أماتهم وأفناهم، ولم يعجزه بعثهم إذ هو أهون عليه إذا دعاهم، للمحسنات وناداهم، تبارك القوي القدير، علمه بهم قبل التكوين كعلمه بهم بعد الإيجاد والتبيين، فسبحان من ألهم، ومن له الفضل والمنن.
آمنت بذي الملك والملكوت، وأسلمت لذي العزة والجبروت، وتوكلت على الحي الذي لا يموت، الرب المنفرد بالوحدانية وعدم القرين، الحي القوي، العلي الغني عن المعين، شهدت بواجب الوجود، ومفيض الكرم والجود، بالأحدية التي لا تحد، والوحدانية التي لا تعد، والصمدانية التي ليس لها قبل ولا بعد، والإلهية البسيطة التي كل لها ملك ومملوك، وعبدت من سري وفؤادي وروحي وخيالي وسوادي، بأن الله هو الحق المبين وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، الرب الفرد الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد.
شهدت لربي ومولاي مصور ذاتي، ومقدر صفاتي، الذي له نسكي وصلاتي ومحياي ومماتي، بأنه هو الذي لا إله إلا هو رب كل شئ، وخالق كل شئ ومعبود كل شئ، وملك كل شئ، ومالك كل شئ وبيده ملكوت كل شئ، القيوم الأول، قبل وجود كل شئ، والحي الباقي بعد فناء كل شئ، الواحد المسلوب عنه الشبيه والنظير، الأحد الذي لا كمثله شئ، وهو السميع البصير، لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير، وأن هذه الصفات الإلهية، والمدائح الربانية، لا يستحقها أحد سواه، ولا يملكها ويستوجبها إلا الله وأنه سبحانه حكم عدل لا جور في قضيته، ولا ظلم في مشيئته وأنه تجري الأمور على ما يقضيه لا على ما يرتضيه، وأعتقد أنه من عرف بهذا الاعتقاد وحده، ونزهه عن مشاهدة المحدثات وعبده، وأعلن شكر الإله وحمده، فهو مؤمن مخلص قد شملته العناية والمنة، ووجبت له النجاة والجنة، وذلك كله بلطفه وعنايته وحوله وقوته ومنه وهدايته وإرشاده ودلالته.
فسبحان من ابتدأ بالفضل، وكلف بالعدل، ومدح العلم وذم الجهل، وأفاض اللطف، وأوضح السبيل، ونصب الدليل، وأرسل الرسل، وبعث الأنبياء عليهم السلام حكاما لإظهار أمره، ونشر عدله، ونصب الأوصياء عليهم السلام أعلاما لكمال دينه، وبيان فضله، بعثهم بالهدى ودين الحق، رسلا مبشرين ومنذرين، صادقين معصومين، إليه يدعون، وعنه يقولون، وبأمره يعملون، ثم جعلنا وله الحمد من أمة خير الأنبياء عليهم السلام، وأطيب مخلوق من الطين والماء، وأشرف مبعوث شرفت به الأرض والسماء، الجسد المطهر، والروح المقدس المعطر، الذي تعطرت به البطحاء، البشير النذير، السراج المنير، أول الأنبياء بالنور، وآخرهم بالظهور، وسرهم في الأصلاب والظهور، أكرمهم شيعة، وأعظمهم شريعة، وأفصحهم كلاما، وأرفعهم قدرا، وأشرفهم كتابا، وأعزهم جنابا، أشرف من تشرفت به الأعواد والأعضاء، المنطق الإلهي، أفصح من نطق بالضاد، النبي الكريم صلى الله عليه وآله، والرؤوف الرحيم، الأول، الآخر، الباطن، الظاهر، الفاتق، الراتق، الفاتح، الخاتم، العالم، الحاكم، الشاهد، القاسم، المؤيد، المنصور، أبي القاسم محمد بن عبد الله، الحميد المحمود، الصادق الأمين، العزيز المبين، المنتجب من خاص الطين، المبعوث رحمة للعالمين، صفي الله وصفوته، وإمام أصفيائه يوم البعث والنشور، خاتم الأنبياء والمرسلين، وسيد الأولين والآخرين، صلى الله عليه وآله الطاهرين.
آمنا بالله وبمحمد صلى الله عليه وآله، وبما دعانا إليه، واتبعنا النور الذي أنزل معه (1)، وهدانا إليه، وصيه الذي خص بالولاء واللواء والإخاء (2)، نص النبي عليه، أخاه وأمينه، وخليفته وقائد جيشه، وحامل رايته، وسلطان رسالته، وإمام أمته، مفديه بروحه، ومتساوية بمحنه، عضده المعاضد، وساعده المساعد يوم شدته، سيد الوصيين، وإمام المتقين، وديان الدين، وصاحب اليمين، وعلم المهتدين، وخليفة رب العالمين، وسر الله وحجته، وآية الله وكلمته، في الأولين والآخرين، القائم بالحق، الإمام المبين مولانا وسيدنا علي بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه السلام، الذي كمل بحبه الدين، وقال بولايته أهل اليقين، ورجحت به الموازين، وبعده عترته الطاهرين، وذريته الأكرمين، وأبناءه المعصومين، وأوصياءه المنتجبين، وأسباطه المرضيين عليهم السلام، الهداة المهديين، خلفاء النبي الكريم، وأبناء الرؤوف الرحيم، وأمناء العلي العظيم، ورثة المرسلين، وبقية النبيين، وسادة الأولين والآخرين، نواميس العصر، وأخيار الدهر، ذرية بعضها من بعض، والله سميع عليم، وأشهد يا رب، وأعتقد أن قولك حق، ووعدك صدق، وأمرت بالبعث والنشور، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأن الدين عند الله الإسلام، جزى الله محمدا صلى الله عليه وآله خير الجزاء، وحيى الله محمدا صلى الله عليه وآله بالسلام.
اللهم فلك الحمد على ما أنطقتني به من حمدك، وعلمتني من مدحك، ولك الحمد على ما ألهمتني من شكرك، وأرشدتني إليك من ذكرك، ولك الحمد على أيسر ما كلفتني من طاعتك، وأوفر ما أنعمتني من نعمتك، اللهم فلك الحمد حمدا متواليا متعاليا مترادفا مباركا طيبا، أبدا سرمدا مجردا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) وفي الحديث أنه أمير المؤمنين عليه السلام راجع: تفسير نور الثقلين: 2 / 83 ح 300.
( 2) إشارة إلى حديث المؤاخاة وحديث الغدير وحديث الراية في خيبر.
مؤبدا، باقيا لقيامك لا أمد له، حمدا يزيد على حمد الحامدين لك، حمدا لا يندرس في الأزمان ولا ينتقص في العرفان، ولا ينقص في الميزان، حمدا يزيد ولا يبيد، ويصعد ولا ينفد، ولك الحمد يا من لا تحصى محامده ومكارمه، ومنحه، وصنائعه، وعواطفه وعوارفه، ولا تعد أياديه ومواهبه، السوابغ الشوايغ بالدوائم، الدوائب الفوائض، الفواضل، وأياديه الجليلة الجميلة الجزيلة وكرمه الكبير الكثير وفضله الوافر الوافي، وجوده الباقي الهامر، وبره الباهر وشمسه الزاهي الزاهر.
اللهم أنت ربي ورب كل شئ، لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وإياك أعبد، ولذاتك وصفاتك المنزهة أنزه وأوحد، وباسمك العظيم أسبح وأقدس، وأهلل وأمجد، ولجلال وجهك الكريم أركع وأسجد، ولفضلك القديم وبرك العميم أشكر وأحمد، وإلى أبواب كرمك وجودك الفياض ونعمك أسعى وأقصد، أسألك اللهم بجلال الوحدانية، والقدرة الربانية، والمحامد الإلهية، والمدائح الرحمانية، والأنوار المحمدية، والأسرار العلوية، والعصمة الفاطمية، والعزة الزكية، الهادية، المهدية، مقاماتك، وآياتك، وعلاماتك، وتجلياتك، لا فرق بينها وبينك، إلا أنهم عبادك وخلقك، أن تصلي على محمد وآل محمد، الذين لأجلهم ثبتت السماء، وثبتت الأرض على الماء، واخترتهم على العالمين، وفرضت طاعتهم على الخلائق أجمعين، وأبقيتني على إيمانك، والتصديق بمحمد عبدك، ورسولك، والولاية بخير الوصيين علي أمير المؤمنين، والتمسك بالهداة من عترته الطاهرين، سفينة النجاة وسادة الوصيين، والبراءة من أعدائهم الضالين، فإني رضيت بذلك يا رب العالمين.
اللهم وهذا صراطك الحق، ودينك الصدق، الذي تحبه وترضاه، وتحب من دانك به، وتجيب دعاه، اللهم صل على محمد وآل محمد، وثبتني على هذا الدين القيم، واجعله ثابتا، وحازما وناطقا به لساني، ومؤمنا وموقنا ومصدقا له سري وإعلاني، ومنقادا وتابعا وعاملا به جوارحي، وأركاني، ونورا وإقبالا في لحدي وأكفاني، فقد تشبثت بأذيال الكرم والرجاء، وقرعت بأنامل التصديق والتوفيق أبواب الإيمان والولاء، فاجعله اللهم خالصا لوجهك، يا ديان العباد، وزادا ليوم الحشر والتناد، إنك الكريم الجواد، وأعظم من سئل فجاد، يا أرحم الراحمين.
خطبة الكتاب مشارق أنوار اليقين في حقائق أسرار أمير المؤمنين عليه السلام
الحمد لله المتفرد بالأزل، والأبد، والصلاة على أول العدد، وخاتم الأمد، محمد وآله الذين لا يقاس بهم من الخلق أحد (1).
وبعد يقول الواثق بالفرد الصمد رجب الحافظ البرسي أعاذه الله من الحسد، وآمنه يوم يفر الوالد من الولد.
اعلم أن بعض الحاسدين، الذين ليس لهم حظ في الدين، من باب كاد الحسد أن يغلب القدر، لما بسطت لهم تجويد الكتاب المجيد، فكان مطويا عنهم أخذوا بطرفيه وأزاحوني، ولما نشرت لهم مطوي منثور الأخبار، وأبرزت إليهم بواطن الأسرار، من خدور الأفكار، حسدوني، وكذبوني، ولاموني، وملوني، وساموني، وسأموني، وكلما وضعت لهم سرير التواضع، ومددت لمودتهم يمين الخاضع، جزموا بعامل الهجر بودي وخفضوني، وأنكروني بعد أن عرفوني، ونكروني بعد أن عرفوني، ولا ذنب لي غير أني رويت زبد الأخبار، ووريت زند الأخيار، فذاع ندها، ونظم خيطها، وذاع شذاها، فضمخ طيبا قبل منها العليل.
وبل الغليل، ولما كان أكثرها من الأمر الخفي، والسر المخفي، الذي يضطرب لإيراده القلب السقيم اضطراب السليم، ويطرب لسماعه الفؤاد السليم، إذ لاحظ للمزكوم والمشموم، عند ملاحظة طيب المشروب والمشموم، فهو كما قيل:
ومن يك ذا فم مر مريض * يجد مرا به الماء الزلالا
فحمل بعض ما أوردت، جهلا بما أردت، قوم من القردة، إلى آخرين من الحسدة، وأداها من لا يعلم إلى من لا يفهم، والمرء عدو ما جهله، بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه فكانوا كما قيل:
يعرفها من كان من جنسها * وسائر الناس لها منكر
أو كما قيل:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) كما في الروايات: راجع الإختصاص: 13، وينابيع المودة: 1 / 301 - 214، وبحار الأنوار: 26 / 12 وكنز العمال: 12 / 104 ح 34201 وقد أتينا على طرقها في كتابنا: الولاية التكوينية: 243.
لو كنت تعلم كل ما علم الورى * طرا لكنت صديق كل العالم
لكن جهلت فصرت تحسب كل من * يهوى بغير هواك ليس بعالم
حتى أوصلوها بلسان البغضاء، إلى الأخوان من الفقهاء، وهم أهل المذهب المذهب، والمنهاج الذي ليس لهم منهاج، لكن لا يدرك غامض المعقول بالمنقول، فكيف بما وراء العقول، ولا يلزم من معرفة علم واحد الإحاطة بسائر العلوم، وما منا إلا له مقام معلوم، وكل ميسر لما خلق له، ومبتهج بما فضله الله وفض له، ونعم الله السوابغ والسوائغ (التوابع) الشرائع الدوائم الدوائب، الفوائض الفواضل، السائرة إلى عباده، الواصلة إلى بلاده، لا تنقطع ركائبها، ولا تنقشع سحائبها، وباب الفيض مفتوح، وكل من الجواد الكريم ممنوح، وليس وصول المواهب الربانية، والعثور على الأسرار الإلهية، بأب وأم، بل الله يختص برحمته من يشاء، وإن تقطعت من الحاسد الأحشاء، ولما أوردوها لهم بلسان يحرفون الكلم عن مواضعه، لم يلمحوا بالنظر الباطن وزواهر جواهرها من أصداف أصدقائها ولم ينهوا عيون العقول عن زيغها وأصدافها، ولم يتحلوا بها فيتزينوا ولم يصغوا بأسماع العقول إلى استماع (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) بل صدقوهم في الفتنة والريبة، وصادقوهم في استماع النميمة والغيبة، فجعلوا الكذب الشنيع، لسهام التشنيع غرضا، (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا،) فنسبوه إذ لم يفهموه، إلى قول الغلاة، ولا من أسرار الهداة، فكانوا كما قال أمير المؤمنين علي لقلنا غير مأمون على الدين بصرت فيهم بما بصرت كما قيل:
أعادي على ما يوجب الحب للفتى * وأهدأ والأفكار في تجول
أو كما قيل:
حاسد يعنيه حالي * وهو لا يجري ببالي
قلبه ملآن مني * وفؤادي منه خالي
وغير ملومين في الإنكار لأنه صعب مستصعب، لا يحمله إلا نبي مرسل أو ملك مقرب، أو مؤمن قد امتحن الله قلبه للإيمان (1).
وإذا أراد المنافق أسرار علي عليه السلام لبغضه، وردها الموافق بجهله بعدما نقل أنه صعب مستصعب فإن كان يعلمه فما هو الصعب المستصعب، وإن لم يعرفه فكيف شهد على نفسه أنه ليس بمؤمن ممتحن، فهلا صمت فسلم، أو قال إن علم، فمن وجد فؤاده عند الامتحان،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) كما في الأحاديث، راجع بحار الأنوار: 25 / 366 ح 7 وبصائر الدرجات: 26 ح 1 وما بعده.
ورود نسمات أسرار ولي الرحمن، قد اشمأز وقشعر، ومال عن التصديق وأزور، فذاك بعيد عن الإيمان، قريب من الشيطان، لأن حب علي عليه السلام هو المحك بلا شك، فمن تخالجته الشكوك فيه فليسأل أمه عن أبيه (1)، من نقص جوهره عن العيار، فليس له مطهر إلا النار، وإنما دعاهم إلى الإنكار الجهل والحسد، وحب الدنيا التي حبها رأس كل خطيئة، والميل مع النفس والهوى، ومن يتبع الهوى فقد هوى، لأن هذه النفس الإنسانية هي التي تحب أن تعبد من دون الله وأن لا ترى الفخر والسؤدد إلا لها، وأن ترى الكل عبيدا لها، لأنها سلسلة الشيطان التي بها يتدلى إلى هذا الحرم الرباني، وإليها الإشارة بقوله وأجريته مجرى الدم مني، ولذلك قال عليه السلام (أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك) (2) وفي النقل أن الله تعالى لما خلق النفس ناداها من أنا؟ فقالت النفس: فمن أنا؟ فألقاها في بحر الرجوع الباطن حتى وصلت إلى الألف المبسوط وخلصت من رذائل دعوى الأنانية الأينية ورجعت إلى نشأتها، ثم ناداها: من أنا؟ فقالت: أنت الواحد القهار (3)، ولهذا قال: (اقتلوا أنفسكم فإنها لا تدرك مقاماتها إلا بالقهر) (4).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) روي أن مبغضه ابن زنا أو حيضة، راجع إرشاد القلوب: 2 / 433، وترجمة علي من تاريخ دمشق: 2 / 224.
( 2) بحار الأنوار: 70 / 36 ح 1 باب 44.
( 3) مجموعة ورام: 59 باب العتاب.
( 4) بحار الأنوار: 60 / 294 باب 39.
(قصور الفهم عن إدراك مرتبة أمير المؤمنين عليه السلام)
كيف أنكروه، وما عرفوه، وبمجرد السمع له ردوه، وهو لعمري غرة فخر الأنوار، ودرة بحر الأسرار، وزبدة مخض الأسرار، ومعرفة أسرار الجبار، لأنه النهج الاسم، والاسم الأعظم، والترياق الأكبر، والكبريت الأحمر، ولكن ذا المذاق الوثي، والصدر الشجي، لا يفرق بين الحنظل والسكر.
ولما كانت الموهبة من الكلم (1) المخزون أنكرتها العقول لقصورها عن ارتقاء عالي قصورها، وصعقت عند سماع نفخة صورها، فالغالي والقالي هلكا في بحر الإفراط والتفريط، والتالي والموالي وقفا عند ظاهر التشكيك والتخليط.
فالقالي حجبه عن نورهم العالي ظلمة الكبر والحسد، والغالي تاه في تيه أسرارهم فضل عن سبيل الرشد، والتالي قاسهم بالبشر فوقف عن أسرارهم وقعد، والعارف نظر إلى ما فضلوا به من المواهب الإلهية فعرف أنهم سر الواحد الأحد، وأن ظاهرهم باطن الخلايق، وباطنهم عين الحقايق، وغيب الإله الخالق، فعلم من قوله تعالى: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو)، فهم مفاتح غيب الله التي لا يعلم فضلها وسرها إلا الله، وإن رفيع شرفهم لا تنال أيدي العقول علاه، وخفي سرهم لا تدرك الأفهام والأوهام معناه، ولهذا قيل في الحكمة: لا تحدث الناس بما يسبق إلى العقول إنكاره، وإن كان عندك اعتذاره، فليس كل من أسمعته نكرا يوسعك منه عذرا، وليس كل ما يعلم يقال، ولا كل ما يقال تجد له رجال.
وقال ابن عباس للنبي صلى الله عليه وآله: يا رسول الله أأحدث بكل ما أسمع؟ فقال: نعم إلا أن يكون حديثا لا تبلغه العقول، فيجد السامع منه ضلالة وفتنة.
وقال رجل للصادق عليه السلام: أخبرني لماذا رفع النبي عليا على كتفه؟ قال: ليعرف الناس مقامه ورفعته.
فقال: زدني يا بن رسول الله.
فقال: ليعلم الناس أنه أحق بمقام رسول الله.
فقال: زدني.
فقال: ليعلم الناس أنه إمام بعده والعلم المرفوع.
فقال: زدني.
فقال: هيهات والله لو أخبرتك بكنه ذلك لقمت عني وأنت تقول إن جعفر بن محمد كاذب في قوله أو مجنون.
وكيف يطلع على الأسرار غير الأبرار.
وقال علي بن الحسين عليهما السلام:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) الصعب المستصعب (خ. ل).
إني لأكتم من علمي جواهره * كيلا يرى الحق ذو جهل فيفتتنا
وقد تقدم في هذا أبو حسن * إلى الحسين وأوصى قبله الحسنا (1)
ولا غرو فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله يقول للملأ من قريش: قولوا لا إله إلا الله.
فيقولون، ثم يقول: اشهدوا أني محمد رسول الله، فيشهدون، ثم يقول: صلوا إلى هذه البنية، فيصلون، ثم يقول: صوموا رمضان في الهواجر، فيصومون، ثم يأمرهم بإخراج الزكاة فيخرجون، ثم يقول: حجوا واعتمروا، فيحجون ويعتمرون، ثم يدعوهم إلى الجهاد وترك الحلائل والأولاد، فيجيبون.
ثم يقول: إن عليا وليكم بعدي، فيعرضون، ولا يسمعون، فيناديهم بلسان التوبيخ وهم لا يسمعون: (قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون) (2)، ثم يتلو عليهم مناديا وهم لا يشعرون: (يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون) (3).
ويؤيد هذه القواعد: ما رواه الحسن بن محبوب عن جابر بن عبد الله عن أبي عبد الله عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال لعلي عليه السلام: يا علي أنت الذي احتج الله بك على الخلايق حين أقامهم أشباحا في ابتدائهم وقال لهم: (ألست بربكم؟ قالوا: بلى)( 3) فقال: ومحمد نبيكم، قالوا: بلى.
قال: وعلي إمامكم.
قال: فأبى الخلائق جميعا عن ولايتك والإقرار بفضلك وعتوا عنها استكبارا إلا قليلا منهم وهم أصحاب اليمين وهم أقل القليل، وإن في السماء الرابعة ملكا يقول في تسبيحه: سبحان من دل هذا الخلق القليل من هذا العالم الكثير، على هذا الفضل الجزيل (4).
ويؤيد ذلك: ما ورد في كتاب الوحدة عن ابن عباس أنه قال: مبغض علي من يخرج من قبره وفي عنقه طوق من نار، وعلى رأسه شياطين يلعنونه، حتى يرد الموقف (5).
وعنه مرفوعا إليه من كتاب بصائر الدرجات عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: يا علي والذي بعثني نبيا بالحق، واصطفاني على سائر الخلق، أنك لو صببت الدنيا على المنافق ما أحبك، ولو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) غرر البهاء الضنوي: 318، وجامع الأسرار: 35 والأصول الأصيلة: 167 وفيه زيادة:
يا رب جوهر علم لو أبوح به * يل لي: أنت ممن يعبد الوثنا
ولاستحلّ رجال مسلمون دمي * يرون أقبح ما يأتونه حسنا
(2) ص: 68.
( 3) النحل: 83.
( 4) بحار الأنوار: 26 / 311 ح 77 و 25 / 25 ح 45.
( 5) بحار الأنوار: 27 / 226 ح 21.
ضربت خيشوم المؤمن ما أبغضك، فلا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا كافر منافق (1).
وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: المخالف لعلي بعدي كافر ومشرك وغادر، والمحب له مؤمن صادق، والمبغض له منافق، والمحارب له مارق، والراد عليه زاهق، والمقتفي لأثره لاحق (2):
بحب علي تزول الشكوك * ويعلو الولاء ويزكو النجار
فإما رأيت محبا له * فثم العلاء وثم الفخار
وإما رأيت عدوا له * ففي أصله نسب مستعار
فلا تعذلوه على بغضه * فحيطان دار أبيه قصار
فوجب علي تنزيها للدين عن ظن الملحدين، وشك الجاحدين، واعتذارا إلى المؤمنين، بحكم من صنف، فقد استهدف، أن أورد في هذه الرسالة لمعة من خفي الأسرار، ومكنون الآثار، وبواطن الأخيار، وأميط عن محياها سدف الخفاء، ليبدو للطالب شهاب الاقتداء، في سماء الليلة الليلاء.
فإذا اتضحت بذلك خفايا الأسرار، وفضحت عن دورها أصداف الآثار، وبان بيان البيان، لمن ينظر (فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر) (3).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) بحار الأنوار: 39 / 280 ح 62.
( 2) بحار الأنوار: 27 / 226 ح 22
ولما كان سر الله مودعا في خزانة علم الحروف وهو علم مخزون، في كتاب مكنون، لا يمسه إلا المطهرون، ولا يناله إلا المقربون، لأنه منبع أسرار الجلال، ومجمع أسماء الكمال، افتتح الله به السور، وأودعه سر القضاء والقدر، وذلك بأن الله تعالى لما أراد إخراج الوجود من عالم العدم إلى عالم الكون، أراد العلويات والسفليات باختلاف أطوار تعاقب الأدوار وأبرزها من مكامن التقدير، إلى قضاء التصوير، عبأ فيها أسرار الحروف التي هي معيار الإقرار، ومصدار الآثار، لأن الباري تعالى بالكلمة تجلى لخلقه وبها احتجب ثم أوجد طينة آدم في العمل الذي هو عبارة عن الاختراع الأول، من غير مثال، ولا تعديل تمثال، ثم ركز في جبلة العملي (العماء خ.
ل) نسبة من تلك الحروف ورتبها حتى استشرق منها في عالم الإيجاد، بلطائف العقل لإشراق الظهور، ثم نقله بعد ذاك في أطوار الهباء الذي هو عبارة عن الاختراع الثاني، ورتب فيه رتبة من الحروف التي ركزها في جبلة العملي (العماء خ.
ل) حتى استشرقها في عالم الإيجاد بلطايف روحه في الاحتراق الثاني، ثم نقله بأطوار الذر الذي هو عبارة عن الإبداع الثاني، وأوجد فيه نسبة من الحروف التي وضعها في جبلتها الفطرية، حتى استشرق بها في عالم الإيجاد بلطايف القلب في الإبداع الثاني.
فالحروف معانيها في العقل، ولطايفها في الروح، وصورها في النفس،
وانتقاشها في القلب، وقوتها
الناطقة في
اللسان، وسرها المشكل في الأسماع.
ولما كان المخاطب الأول هو المخترع الأول، وهو العقل النوراني، كان خطاب الحق بما فيه من معاني الحروف.
ومجموع هذه الحروف في سر العقل كان ألفا واحدا لأنه بالقوة الحقيقية مجموع الحروف، وهو الذي سمع أسرار العلوم بحقيقة هذه الحروف قبل سائر الأشياء، والعقل هو صاحب الرمز والإشارة، والحقيقة والإيماء، والإدراك.
والحروف في لطيفة الروح شكل الضلعين من أضلاع المثلث المتساوي الأضلاع، ضلع قائم، وآخر مبسوط على هذه الصورة، والقائم ضلع الألف، والمبسوط ضلع الباء.
وإنما قلنا بأن الحروف في لطيفة الروح شكل ضلعين، لأن فيض الأنوار البسيطة التي في العقل بالفعل هي في الروح بالقوة فاتفقا في وجود الأسرار، وتباينا في اختلاف الأطوار.
ومن حيث إن الروح تستمد من العقل، والنفس تستمد من الروح، وجميع الأنوار العلوية تستمد من نور العرش، كذلك سائر الحروف تستمد من نور الألف، ورجوع السفلي والعلوي منها إليها، وكل حرف من الحروف قائم بسر الألف والألف سر الكلمة، وملائكة النور الحاملون للعرش من ذوات هذه الحروف، والأول منها المتعلق بالعقل اسمه الألف والموحدون لحضرة الجلال أربعة: العقل، والروح، والنفس، والقلب هو الموحد الرابع، وتوحيده بسر الحروف التي أوجدها الحق في جبلته، لأن القلب لوح النقوش الربانية، بل هو اللوح المحفوظ بعينه.
ومن هاهنا اختلفت الحروف باختلاف أوضاعها ونسبتها إلى أحوال آدم.
فالدال يوم خلقه، وخط الجيم يوم تسويته، وخط الباء يوم نفخ الروح فيه، وخط الألف يوم السجود، فكان تركيب البنية الإنسانية بالحكمة الإلهية من شكل تربيعي، وتربيع طبيعي، ومن عالمي الاختراع والإبداع، فعلم أن العالم العلوي والسفلي بأجمعه داخلان تحت فلك الألف الذي هو عبارة عن الاختراع الأول، والعرش العظيم، والعقل النوراني، والجبروت الأعلى، وسر الحقيقة وحضرة القدس وسدرة المنتهى، وساير الحروف إجمالا وتفصيلا انبعثت عنه، وجميعها باختلاف أطوارها وتباين آثارها تستمد منه، وترجع إلى الرب سبحانه.
خلق الخلق بسر هذه الحروف، وعالم الأمر كن فيكون، وكلامه سبحانه في حضرة قدسه إنما سمع بهذه الحروف، وهي قائمة بذات الحق سبحانه، وأسماؤه المخزونة المكنونة مندرجة تحت سجل هذه الحروف، والألف منها أول المخترعات، ومنها سائر مراتب العالم، وجميع الحروف محتاجة إليه وهو غني عنها لأن سائر الأعداد لا تستغني عنه، وهو لا يحتاج إليها.
ومن عرف ظاهر الألف وباطنه، وصل إلى درجة الصديقين، ومرتبة المقربين، لأن له ظاهرا وبطونا، فظاهره (3): العرش، واللوح، والقلم.
وهو مركب من (3) نقط: الواحدة والواحدة والواحدة، وبحثها يأتي فيما بعد.
وباطنه الأول (3) وهي: العقل، والروح، والنفس.
وباطنه الثاني (11) وهو عدد بسائطه الاسم الأعظم فإذا أخذ منه (12) وهي موضوع الأسماء والأعداد بقي (99) وهي عدد الأسماء الحسنى، وباطنه الثاني (71) وهو عدد اللام الفايض عنه، وهذا العدد مادة الاسم الأعظم وحرف من ظاهر الاسم الأعظم، وباطنه الثالث (42) وهو فيض اللام، وهو الميم، وعدده (45) وعددان في الألف واللام، وهذا العدد ظاهر الاسم الأعظم وباطنه، الرابع إن ضرب مفرداته في نفسها (9) والفتق الفايض عنه في فتق الحروف أيضا (9) وهي ألف ل ف ألف م م ى م، والعرش، واللوح، والقلم، مفرداتها أيضا (9) وهي ع ر ش ل و ح ق ل م، والعقل، والنفس، والروح، أيضا كذلك ع ق ل ن ف س روح، فألف هي الكلمة التي تجلى فيها الجبار بخفي الأسرار.
فمن عرف ظاهره وباطنه، أدرك خفي الأسرار، ومكنون الأنوار، لأنه حرف يستمد من قيومية الحق والكل يستمد منه.
فصل
وأما الألف المبسوط وهو الباء فهي أول وحي نزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وأول صحيفة آدم ونوح وإبراهيم وسرها، من انبساط الألف فيها سر القيامة بقيام طرفه، وهو سر الاختراع والأنوار، والأسرار الحقيقية مرتبطة بنقطة الباء، وإليها الإشارة بقول أمير المؤمنين (علي): (أنا النقطة التي تحت الباء المبسوطة) (1)، يشير إلى الألف القائم المنبسط في ذاتها، المحتجب فيها، ولذلك قال محي الدين الطائي: الباء حجاب الربوبية، ولو ارتفعت الباء لشهد الناس ربهم تعالى (2).
فصل
وحرف القاف باطن القلم وسر الأمر. والمراد بسر الأمر، القدر. والقلم ببسايطه (3) أحرف وهو الكائن لأسرار القدر، وهو سر الاسم الأعظم، والقلم حرفه الأول القاف المحيط بالعالم ظاهرا، وبالعلم باطنا وعدده (181). فإذا أخذ منه عدد الاسم الأعظم، وهو (111) بقي (70) وهي مادة الاسم الأعظم، وحرف من حروفه، كما أن السين حرف من حروف ظاهر الاسم الأعظم، ومن علم باطن السين علم الاسم الأعظم، وحرفه الثاني: ل، والثالث: م، ومن هذه الحروف تتركب العوالم بأسرها، وسائر الموجودات بأجمعها داخلة تحت (299) أسماء، والأسماء داخلة تحت الاسم الأعظم، والاسم الأعظم هو المائة والقاف بحسابه العددي مائة.
فصل
وحرف: ط طيار في جميع العالم، وسره في المبادئ الأوليات، وتعححت (3) نشأة الاختراعيات وسرها في العلويات والسفليات، ولها أسرار في ظهورها، فظهرت في آخر اسم لوط، فكان من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) شرح دعاء السحر: 64 وجامع الأسرار: 563 - 411 ح 1163 - 823 والأنوار النعمانية: 1 / 47.
( 2) قال بعض العارفين: ما رأيت شيئا إلا ورأيت الباء عليه مكتوبة.
جامع الأسرار: 701، وقيل: بالباء ظهر الوجود وبالنقطة تميز العابد عن المعبود. جامع الأسرار: 563 ح 1163 ونسبه لابن عربي، وشرح دعاء السحر: 64.
(3) كذا.
سرها تدمير قومه، كما ظهرت الهاء في أول اسم هود، فكان من سرها خسف الأرض بقومه وتدميرها، وظهرتا معا في اسم محمد صلى الله عليه وآله في قوله تعالى: (طه) وهو محمد بلغة طي.
فصل
وحرف الجيم (ج) حرف ملكوتي يتلقى عن الباء، يشترك فيه جميع العوالم الملكوتية وهو حرف أظهره الله في أول أسماء الجلال، والعرش قائم بجلال الجيم، والقلم يستمد منه الكرسي أيضا في صفة الجمال قائم به، وهو المثلث الذي انبسط فيه سر الألف والباء، وظهر في أطوار الغضب، ومركز اللطف، فتجلى في الجبار والجواد، فله الجبروت والجود.
فصل
وحرف: ك حرف ظهر في آخر اسم الملك، وله العزيز وهو باطن العلم وباطن الأمر وباطن العرش والكرسي، وباطن الصور السمائية والأرضية.
فصل
وحرف: ع هو أول أسرار العرش، والعقل، وهو حامل أسرار العالم، لأن العرش حامل الكرسي، والقلم واللوح والأفلاك والأرضين، والعقل حامل الروح، والروح حامل النفس، والنفس حامل القلب، والقلب حامل الجسم، والقدرة حاملة للكل.
فصل
وحرف: ث حرف ظهر في الوارث والباعث، وظهوره في الوارث إشارة إلى فناء الموجودات، وفي الباعث إشارة إلى القدرة على بعثهم بعد الممات، وجمعهم بعد الشتات.
فصل
وحرف الزاي حرف شريف، ظهر في العزيز، فالعزة لله جميعا، ومنه وصول العز إلى سائر العالم بالترتيب، فبعض العالم يستمد لعزه من بعض فكره، التراب يستمد من الماء، والماء من الهواء، والهواء من النار، والنار من الفلك، وهكذا ترتيب العزة في الأكوان، وإليه الإشارة بقوله تعالى: وتعز من تشاء وتذل من تشاء (1).
فصل
وحرف الواو، حرف من حروف العرش، سيار في أجزاء العالم، متعلق بطرفي الخلق، والأمر كن فيكون.
فصل
ولما كان هذا العلم الشريف، إشارات ورموزا، وردت منه ها هنا ما فيه إشارة وتنبيه.
فصل
وأما علم النقط والدوائر، فهو من أجل العلوم، وغوامض الأسرار، لأن منتهى الكلام إلى الحروف، ومنتهى الحروف إلى الألف، ومنتهى الألف إلى النقطة، والنقطة عندهم عبارة عن نزول الوجود المطلق الظاهر بالباطن، ومن الابتداء بالانتهاء، يعني ظهور الهوية التي هي مبدأ الوجود التي لا عبارة لها ولا إشارة.
فصل
ولما كان الألف، قائما بسر العقل، والعقل قائم به، وتمام الحروف في سر الألف، لكن بينهما تباين في الرتبة، فألف العقل قائم، وألف الروح مبسوط، وهذا العلم الشريف لو كشف للناس منه سر ما بين الألف واللام والميم التي هي جوامع الأمر الحكيم، لاضطرب كل سليم، وجهل كل عليم، كما ورد عن ابن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: يا محمد إن في سورة الأحزاب آيا محكما، لو قدرنا أن ننطق به، لنطقنا، ولكفر الناس إذا وجحدوا وضلوا، ولكن كما قيل:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) آل عمران: 26.
ومستخبر عن سر ليلى أجبته * بعمياء عن ليلى بغير يقين
يقولون خبرنا فأنت أمينها * وما أنا إن خبرتهم بأمين
فصل
وسر الله مودع في كتبه، وسر الكتب في القرآن، لأنه الجامع المانع، وفيه تبيان كل شئ، وسر القرآن في الحروف المقطعة في أوائل السور، وعلم الحروف في لام ألف، وهو الألف المعطوف المحتوي على سر الظاهر والباطن، وعلم اللام ألف في الألف، وعلم الألف في النقطة، وعلم النقطة في المعرفة الأصلية، وسر القرآن في الفاتحة، وسر الفاتحة في مفتاحها، وهي بسم الله، وسر البسملة في الباء، وسر الباء في النقطة.
فصل
والفاتحة هي سورة الحمد، وأم الكتاب، وقد شرفها الله تعالى في الذكر فأفردها، وأضاف القرآن إليها فقال عز اسمه: ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم (1).
فذكرها إجمالا وإفرادا وذلك لشرفها، وهذا مثل قوله: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى (2) أدخلها إجمالا، وأفردها إجلالا، والصلاة الوسطى هي صلاة المغرب ظاهرا، وفي وقت أدائها تفتح أبواب السماء، ويجب التعجيل بها لقوله صلى الله عليه وآله: (عجلوا بالمغرب).
وأما في الباطن والرمز، فهي فاطمة الزهراء عليها السلام، لأن الصلوات الخمس بالحقيقة هم: السادة الخمسة الذين إذا لم يعرفوا ولم يذكروا، فلا صلاة، فالظهر رسول الله صلى الله عليه وآله ومن ثم بدا النور أول ما خلق الله نوره (3) أول ما خلق الله اللوح (4)، أول ما خلق الله القلم (5)، فالعقل نور محمد صلى الله عليه وآله (6)، واللوح والقلم علي وفاطمة، وإليه الإشارة بقوله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الحجر: 87.
(2) البقرة: 238.
(4) كما يأتي.
(4) نظم المتناثر: 185.
(6) تاريخ ابن كثير: 1 / 39.
(6) العقل الأول نور خاتم النبوة. راجع نبراس الضياء: 102.
تعالى: (ن والقلم وما يسطرون) (1) وفريضة العصر أمير المؤمنين عليه السلام، والمغرب الزهراء، أمرهم الله تعالى بالمحافظة على حبها وحب عترتها، فصغروا قدرها، وحقروا عظيم أمرها، لما غربت عنها شمس النبوة، وحبها الفرض، وتمام الفرض، وقبول الفرض، لأن النبي صلى الله عليه وآله حصر رضاه في رضاها فقال: (والله يا فاطمة لا يرضى الله حتى ترضي، ولا أرضى حتى ترضي) (2).
ومعنى هذا الرمز أن فاطمة عليها السلام ينبوع الأسرار وشمس العصمة، ومقر الحكمة، لأنها بضعة النبي صلى الله عليه وآله وحبيبة الولي، ومعدن السر الإلهي، فمن غضبت عليه أم الأبرار، فقد غضب عليه نبيه ووليه، ومن غضب عليه النبي والولي، فهو الشقي كل الشقي.
وصلاة العشاء الحسن عليه السلام حيث احتجب عنه نور النبي والولي، والصبح الحسين عليه السلام لأنه بذل نفسه في مرضاة الله تعالى، حتى أخرج نور الحق في دجنة الباطل، ولولاه لعم الظلام إلى يوم القيامة.
فصل
ومثل هذا الباب من الحديث القدسي بقول الله سبحانه (ولاية علي حصني، فمن دخل حصني، أمن عذابي) (3).
فحصر الأمان من العذاب في ولاية علي، لأن الإقرار بالولاية يستلزم الإقرار بالنبوة، والإقرار بالنبوة، يستلزم الإقرار بالتوحيد، فالموالي هو القائل بالعدل، والقائل بالإمامة، والعدل مع التوحيد هو المؤمن، والمؤمن من آمن.
فالموالي لعلي هو المؤمن الآمن، وإلا فهو المنافق الراهق من غير عكس.
ومثال هذا من قول النبي صلى الله عليه وآله: (أنا مدينة العلم وعلي بابها) (4)، والمدينة لا تؤتى إلا بالباب، فحصر أخذ العلم بعده في علي وعترته، فعلم أن كل من أخذ علمه بعد النبي صلى الله عليه وآله من غير علي وعترته عليهم السلام فهو بدعة وضلال، (5) وفي هذا الحديث إشارة لطيفة، وذلك أن كل وحي يأتي إلى النبي صلى الله عليه وآله من حضرة الرب العلي فإنه لا يصل به إلا الملك حتى يمر به على الباب، ويدخل به من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) القلم: 1 (2) الصراط المستقيم: 2 / 93.
( 3) شواهد التنزيل: 1 / 170.
( 4) ينابيع المودة: 1 / 75 - 81 وأسد الغابة: 4 / 24.
الباب، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وآله: يا علي إن الله أطلعني على ما شاء من غيبه وحيا وتنزيلا وأطلعك عليه إلهاما (1)، وهذا إشارة إلى ما خص به نبيه ليلة المعراج خطابا، فإن ذلك خص به وليه إلهاما.
، أما قوله: إنك ترى ما أرى، وتسمع ما أسمع (2)، فإنه إشارة إلى نزول الملائكة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله بالتحف الإلهية، فإن الله خص وليه بأن يسمع بعضها ويراه، وأمر نبيه بإيصال باقيه إليه لأنه الخازن لأسرار النبوة، الولي في علو مقامه، تلميذ النبي صلى الله عليه وآله ووزيره لأن سائر البحار داخلة تحت البحر المحيط.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 13 / 197.
(2) بحار الأنوار: 37 / 270 ح 40.