وهنا إننا نورد في هذا الفصل شمة من أسرار الأئمة الهداة والبررة السادات، والميامين الولاة، ونطقهم بالمغيبات، وإظهارهم الكرامات وإبرازهم الخفيات، توبيخا لأهل الجهالات، الذين أنكروا هذه الحالات، ومنعوا هذه الصفات، وزعموا أنهم من العداة.
وكيف لا يطلعون على الغيب (1)؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) إن الذي يدعي علم الغيب للإمام والنبي: لا يدعيه على نحو الاستقلالية، بل يدعي أن الله أطلع نبيه وأهل بيته على الأمور الغيبية التي لم يطلع عليها أحد.
وإن شئت قلت: علم الغيب لذات، الشخص وبلا توسط من الغير هو العلم الثابت لوجوب الوجود والذي هو عين الذات، وهذا مختص بالله ولغيره كفر أما العلم بالغيب الذي هو بتوسط الله تعالى وليس هو عين الذات، فهذا الذي علمته الأئمة ورسول الله ص وعليه دلت الآيات والروايات: فعن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: (والله لقد أعطينا علم الأولين والآخرين) فقال له رجل من أصحابه: (جعلت فداك أعندكم علم الغيب؟ فقال له عليه السلام: (ويحك إني أعلم ما في أصلاب الرجال وأرحام النساء، ويحكم وسعوا صدوركم ولتبصر أعينكم ولتع قلوبكم، فنحن حجة الله تعالى في خلقه ولن يسع ذلك إلا صدر كل مؤمن قوي قوته كقوة جبل تهامة إلا بإذن الله، والله لو أردت أن أحصى لكم كل حصاة عليها لأخبرتكم) (بحار الأنوار: 26 / 28 ح 28 باب جهات علومهم عن مناقب آل أبي طالب: / 3 / 374).
وقال رسول الله ص لعلي: (إن الله أطلعني على ما شاء من غيبه وحيا وتنزيل وأطلعك عليه إلهاما) (مشارق أنوار اليقين: 135 - 136 و 25 وفي بحار الأنوار: 26 / 4 ح 1: (أنا صاحب اللوح المحفوظ ألهمني الله علوم ما فيه).
وقيل لأبي جعفر عليه السلام: إن شيعتك تدعي أنك تعلم كيل ما في دجلة. وكانا جالسين على دجلة. فقال له أبو جعفر عليه السلام: (يقدر الله عز وجل أن يفوض علم ذلك إلى بعوضة من خلقه ؟) قال نعم. فقال عليه السلام: (أنا أكرم على الله من بعوضه) ثم خرج. (إثبات الوصية: 191 - 192).
وقال أمير المؤمنين عليه السلام في خطبه يوصف فيها الإمام: (فهو الصدق والعدل.
يطلع على الغيب ويعطي التصرف على الإطلاق) (بحار الأنوار: 25 / 170 ح 38 ومشارق الأنوار اليقين: 115).
وقال الإمام الصادق عليه السلام: (يا مفضل من زعم أن الإمام من آل محمد يعزب عنه شئ من الأمر المحتوم فقد كفر بما نزل على محمد، وإنا لنشهد أعمالكم ولا يخفى علينا شئ من أمركم، وأن أعمالكم لتعرض علينا، وإذا كانت الروح وارتاض البدن أشرقت أنوارها، وظهرت أسرارها وأدركت عالم الغيب) (مشارق أنوار اليقين: 138).
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: (والله لو شئت أن أخبر كل رجل منكم بمخرجه ومولكه وجميع شأنه لفعلت، ولكن أخاف أن تكفروا في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ألا وإني مفضيه إلى الخاصة) (نهج البلاغة: 250 الخطبة 175).
وقالت عائشة للإمام الحسن عليه السلام بعد أن أخبرها بما فعلته يوم وفاة الأمير ولم يطلع عليه أحد سواها: يا ابن خبوت جدك وأبوك في علم الغيب، فمن ذا الذي أخبرك بهذا عني ! ! (الهداية الكبرى: 197 - 198، ذيل الباب الرابع) وعندما أخبرها بخفايا ضميرها وما أخبرها به رسول الله صلى البله عليه وآله وسلم من حربها الأمير عليه السلام قالت: جدك أخبرك بذلك أم هذا من غيبك؟ ! قال عليه السلام: (هذا من علم الله وعلم رسوله وعلم أمير المؤمنين) (الهداية الكبرى: 197 - 198، ذيل الباب الرابع) وقال الإمام الحسن العسكري عليه السلام لمن سأله عن القائم المنتظر عجل الله فرجه: (ألسنا قد قلنا لكم لا تسألونا عن علم الغيب فنخرج ما علمنا منه إليكم فيسمعه من لا يطيق استماعه فيكفر) (الهداية الكبرى: 334 باب 13).
وعن الإمام زين العابدين عليه السلام (ألا إن للعبد أربع أعين: عينان يبصر بهما أمر دينه ودنياه وعينان يبصر بهما أمر آخرته، فإذا أراد الله بعبد خيرا فتح له العينين في قلبه فأبصر بهما الغيب في أمر آخرته (وأمر آخرته) (الخصال: 1 / 240 ح 90 باب الأربعة).
ورواه المتقي الهندي في كنز العمال بلفظ: (ما من عبد إلا وفي وجهه عينان يبصر بهما أمر دينه ودنياه، وعينان في قلبه يبصر بهما أمر الآخرة، فإذا أراد الله بعبد خيرا فتح له العينين في قيبه فأبصر بهما ما وعده بالغيب، فآمن بالغيب على الغيب) (كنز العمال: 2 / 42 ح 3043).
وفي قصة أبي يوسف ومحمد بن الحسن صاحبي أبي حنيفة ما يؤجد علم الإمام الكاظم عليه السلام للغيب حيث قال أحدهما لصاحبه: جئنا لنسأله عن الفرض والسنة وهو الآن جاء بشئ من علم الغيب.
فسألناه: من أين أدركت أمر هذا الرجل الموكل بك إنه يموت في هذه الليلة؟ قال الإمام عليه السلام (من الباب الذي أخبر بلعنه رسول الله علي بن أبي طالب عليه السلام) (الخرايج والجرايح: 287 - 288 الباب الثامن) وأيضا في قصة إخبار الإمام الرضا عليه السلام ابن هذاب بما يجري عليه ما يزيل الشك في الباب حيث قال عليه السلام له: (إن أخبرتك أنك ستبلى في هذه الأيام بذي رحم لك كنت مصدقا لي ؟) قال: لا، فإن الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى.
قال عليه السلام: (أوليس الله يقول: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول) فرسول الله ص عند الله مرتضى، ونحن ورثة ذلك الرسول الذي أطلعه الله على ما يشاء من غيبه، فعلمنا ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، وإن الذي أخبرتك يا ابن هذاب لكائن إلى خمسة أيام، فإن لم يصح ما قلت فبهذه المدة، وإلا فإني كذاب مفتر، وإن صح فتعلم أنك الراد على الله وعلى رسوله.
ولك دلالة أخرى فتصاب ببصرك وتصير مجفوفا فلا تبصر سهلا ولا جبلا وهذا كائن بعد إيام.
ولك عندي دلالة أخرى إنك ستحلف يمينا كاذبة فتضرب بأبرص) قال محمد بن الفضل: بالله لقد نزل ذلك كله بابن هذاب (الخرايج والجرايح: 306 الباب التاسع) .
* أقول: هذه رواية صريحة في علمهم للغيب لا ينكرها إلا ناصبي.
وعن أمير المؤمنين عليه السلام في خطبة له: (والإمام يا طارق بشر ملكي وجسد سماوي، وأمر إلهي وروح قدسي، ومقام علي ونور جلي وسر خفي، فهو ملك الذلت إلهي الصفات، زائد الحسنات عالم بالمغيبات: خصا من رب العالمين ونصا من الصادق الأمين) (بحار الأنوار: 25 / 172 ح باب جامع في صفات الإمام).
وعن أبي جعفر الجواد عليه السلام لما أخبر أم الفضل بنت المأمون بما فاجأها مما يعتري النساء عند العادة.
قالت له: لا يعلم الغيب إلا الله.
قال عليه السلام: (وأنا أعلمه من علم الله تعالى) الإرشاد إلى ولاية الفقيه: 254.
* أقول: وهذه رواية أخرى تنص على علمهم للغيب فلا تغفل وأزل الشك من قلبك.
وفي خطبة لأمير المؤمنين يذكر فيها صفات الإمام جاء فيها: (ويلبس الهيبة وعلم الضمير، ويطلع على الغيب ويعطي التصرف على الإطلاق) مشارق أنوار اليقين: 115.
هذا إضافة إلى روايات أخبارهم بأمور غيبية جزئية ليس هنا محل ذكرها.
وقال تعالى: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول) الجن: 26.
قال الإمام الرضا عليه السلام لعمرو بن هذاب عندما نفي عن الأئمة عليهم السلام علم الغيب محتجا بهذه الآية: (إن رسول الله هو المرتضى عند الله، ونحن ورثة ذلك الرسول الذي أطلعه الله على غيبه فعلمنا ما كان وما يكون إلى يوم القيامة) (بحار الأنوار: 12 / 22 و 15 / 74).
وقال أبو جعفر عليه السلام: (إلا من ارتضى من الرسول) وكان والله محمد ممن ارتضاه) الإرشاد إلى ولاية الفقيه: 257، وقريب منه في الخرايج والجرايح: 306).
وقالا: (ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك - تلك من أنباء الغيب نوحيه إليك) هود: 49، آل عمران: 44، يوسف: 102.
وقال: (وعلمك ما لم تكن تعلم) وهي عامة.
(وكل شئ أحصيناه في إمام مبين) يس: 12 والإمام المبين هو أمير المؤمنين علي عليه السلام (ينابيع المودة: 1 / 77 ط. إسلامبول و 87 ط.
النجف، وتفسير نور الثقلين: 4 / 379 مورد الآية والهداية الكبرى: 98 الباب الثاني والأنوار النعمانية: 1 / 47 و: 2 / 18).
وقال تعالى: (وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين) يونس: 61، وسبا 36 وقال عز من قائل: وكل شئ أحصيناه كتابا النبأ: 29. وهم الكتاب المبين (ينابيع المودة: 1 / 81 ط. النجف و 1 / 71 ط. تركيا ومشارق أنوار اليقين: 136).
وقال تعالى: ورحمتي وسعت كل شئ الأعراف: 156.
فروي عن الإمام الباقر عليه السلام في تفسيرها: (علم الإمام، ووسع علمه الذي هو من علمه كل شئ) (نور الثقلين: 2 / 78 ح 288 عن الكافي).
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: (أنا رحمة الله التي وسعت كل شئ) (الهداية الكبرى: 400).
وعلمه واجب لهم من وجوه: الأول أن الله سبحانه سطر في اللوح المحفوظ علم ما كان وما يكون، ثم أبرز إلى كل نبي منهم ما يكون له ولأوصيائه، إلى ظهور الشريعة التي تأتي بعده حتى ختمت الرسل بفاتحهم، وختمت الشرايع بخاتمها، فوجب أن يكون عنده علم ما سبق وما يلحق إلى يوم القيامة، لكونه خاتما لأن كتابه الجامع المانع، ثم أنه ليلة المعراج لما وصل المقام الأسنى، وكان قاب قوسين أو أدنى، وعلا على اللوح المحفوظ رفعة وعلما، وخوطب من الأسرار الإلهية بما ليس في اللوح، فكان علم الغيب الأول والآخر عنده وله (1)، بل هو اللوح المحفوظ لأنه السابق على الكل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) الصحيح أن زمن علمهم هو عالم الأنوار وقد فصلناه في كتاب علم آل محمد عليهم السلام وإليك مجمله: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (نبئت وآدم بين الروح والجسد) (وجبت النبوة لي وأدم بين الدوح والجسد) (فضائل ابن شاذان: 34، كنز العمال: 12 / 426 ح 35584 و 11 / 409 - 450 ح 32115 و 31917، والشريعة للجري: 416 - 421 - عدة أحاديث -، والشفاء: 1 / 166، وسنن الترمذي: 5 / 585، والمعجم الكبير: 20 / 353، الفردوس بمأثور الخطاب: 3 / 284 ح 4854).
فكونه نبيا ينبأ في غاية الوضوح والدلالة على تلقيه العلوم في ذلك العالم، إذ يستحيل أن الله اتخذ نبيا ونبأه وهو فاقد للعلم.
وعن الإمام الباقر عليه السلام: (إن الله أول ما خلق خلق محمدا وعترته الهداة المهتدين، فكانوا أشباح نور بين يدي الله).
قلت: وما الأشباح؟ قال: (ظل النور أبدان نورانية بلا أرواح، وكان مؤيدا بروح واحدة هي روح القدس) (أصول الكافي: 1 / 442 ح 10 مولد النبي).
وعن الإمام العسكري عليه السلام: (هذا روح القدس الموكل بالأئمة عليهم السلام يوفقهم ويسددهم ويزينهم بالعلم) (الأنوار النعمانية: 2 / 18).
وفي حديث عن الإمام الصادق عليه السلام قال فيه: (فلما أراد أن يخلق الخلق نشرهم بين يديه فقال لهم من ربكم؟ فكان أول من نطق رسول الله وأمير المؤمنين والأئمة صلوات الله عليهم، فقالوا أنت ربنا، فحملهم العلم والدين، ثم قال للملائكة: هؤلاء حملة علمي وديني وأمنائي في خلقي وهم المسؤولون) (بحار الأنوار: 15 / 16 باب بدء خلق النبي ح 22، و: 26 / 177 ح 19 باب تفضيلهم على الأنبياء، والتوحيد للصدوق: 319 باب معنى: (وكان عرشه على الماء) ح 1 باب 49 ط. قم).
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث جاء فيه: (ثم جعلنا عن يمين العرش، ثم خلق الملائكة فهللنا فهللت الملائكة، وكبرنا فكبرت الملائكة، وكان ذلك من تعليمي وتعليم علي، وكان ذلك في علم الله السابق أن الملائكة تتعلم منا التسبيح والتهليل، وكل شئ يسبح لله ويكبره ويهلله بتعليمي وتعليم علي) (بحار الأنوار: 345 باب فضل النبي وآله ح 18، ومشارق أنوار اليقين: 40، والأنوار النعمانية: 1 / 22).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (يا علي نحن أفضل (من الملائكة) خير خليقة الله على بسيط الأرض وخيرة الله المقربين، وكيف لا نكون خيرا منهم؟ وقد سبقناهم إلى معرفة الله وتوحيده؟ ! فبنا عرفوا الله وبنا عبدوا الله وبنا اهتدوا السبيل إلى معرفة الله) (بحار الأنوار: 26 / 349 - 350 - 350 ح 33).
وعن الإمام الصادق عليه السلام: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله مثل لي أمتي في الطين وعلمت الأسماء كما علم آدم الأسماء كلها) (بصائر الدرجات: 85 باب أنه عرف ما رأى في الأظلة ح 7).
وفي رواية عن الإمام الباقر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن ربي مثل لي أمتي في الطين وعلمني أسماء الأنبياء - وفي نسخة - الأشياء، كما علم آدم الأسماء كلها فمر بي أصحاب الرايات، فاستغفرت لعلي وشيعته) (بصائر الدرجات: 86 باب أنه عرف ما رأى في الأظلة ح 15).
وقال الإمام الجواد عليه السلام: (أنا محمد بن علي الرضا أنا الجواد، أنا العالم بأنساب الناس في الأصلاب أنا أعلم بسرائركم فظواهركم، وما أنتم صائرون إليه، علم منحنا به من قبل خلق الخلق أجمعين في الهداية الكبرى: علما أورثناه الله قبل الخلق أجمعين، وبعد فناء السماوات والأرضين، ولولا تظاهر أهل الباطل ودولة أهل الطلالة، ووثوب أهل الشك: لقلت قولا تعجب منه الأولون والآخرون).
ثم وضع يده الشريفة على فيه وقال: (يا محمد اصمت كما صمت آباؤك من قبل) (مشارق أنوار اليقين: 98 الفصل الحادي عشر، والهداية الكبرى: 296 باب 11).
وروى صاحب بستان الكرامة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان جالسا وعنده جبرائيل عليه السلام فدخل علي عليه السلام فقال له جبرائيل عليه السلام.
فقال النبي صلى الله عليه وآله: (أتقوم لهذا الفتى ؟).
فقال له عليه السلام: نعم إن له علي حق التعليم.
فقال النبي صلى الله عليه وآله: كيف ذلك التعليم يا جبرائيل؟ فقال: لما خلقني الله تعالى سألني من أنت وما اسمك ومن أنا وما اسمي؟ فتحيرت في الجواب وبقيت ساكتا، ثم حضر هذا الشاب في عالم الأنوار وعلمني الجواب، فقال: (قل: أنت ربي الجليل واسمك الجليل وأنا العبد الذليل واسمي جبرائيل). ولهذا قمت له وعظمته. (الأنوار النعمانية: 1 / 15).
وروى الصفوري قول أمير المؤمنين عليه السلام: (سلوني قبل أن تفقدوني عن علم لا يعرفه جبرائيل وميكائيل) (نزهة المجالس: 2 / 129 ط. التقدم العلمية بمصر 1330 ه، و 2 / 144 ط. بيروت المكتبة الشعبانية المصورة عن مصر الأزهرية 1346 هـ).
وقد أشار محيي الدين ابن عربي في خطبة الفتوحات المكية إلى ذلك بقوله: (الحمد لله الذي جعل الإنسان الكامل معلم الملك وأدار بانقساره طبقات الفلك).
وفي حديث الإمام الصادق عليه السلام مع المفضل بعد ذكر الإمام رجعة أصحاب الكساء وشكايتهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله ما حل بهم قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام لفضة: (يا فضة لقد عرفه رسول الله وعرف الحسين اليوم بهذا الفعل (ضرب فاطمة وإسقاط المحسن عليهما السلام) ونحن في نور الأظلة أنوار عن يمين العرش) (الهداية الكبرى: 408 باب 14).
هذا وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله قوله: (في قاب قوسين علمني الله القرآن وعلمني الله علم الأولين) (لوامع أنوار الكوكب الدري: 1 / 117 - 118).
وجودا، والممد للكل جودا، فعلم ما كان وما يكون عنده وعند أوصيائه.
واحتجاج الجاهلين، ووقوف المقلدين عند قوله (لا أعلم ما وراء هذا الجدار إلا ما علمني ربي) فيه أسرار كثيرة: الأول أنه شهد أن علمه من الله الذي اختاره واصطفاه، الثاني قوله: لا أعلم، أي لا أنطق من العلم ولو بما وراء هذا الجدار إلا إذا أمرت لأنه كان ينتظر الغيب إذا سئل، وهم يقولون: معلم مجنون، فكيف لو نطق به قبل أن يسأل أو قبل أن يؤمر وادعاه وهم متهموه بالسحر والكهانة، لكان ذاك منافيا للحكمة، وكان إذا سئل صبر حتى يؤمر، ليندفع ظن الملحدين فيه.
وكيف يحجب عنهم علم الغيب والكرامات وهم خلفاء الله على الخلائق وأمناؤه على الحقائق؟ وويل لمنكر والمنافق، فمن ذلك.
الفصل الأول: في أسرار النبي المصطفى وبعده آله الذين اصطفى
فمن ذلك أسرار مولده: رواه زياد بن المنذر عن ليث بن سعيد قال: قلت لكعب الأحبار وهو عند معاوية، كيف تجدون صفة مولد النبي صلى الله عليه وآله؟ وهل تجدون لعترته فضلا؟ فالتفت إلى معاوية لينظر كيف هو فأنطقه الله فقال: هات يا أبا إسحاق، فقال كعب: إني قرأت اثنين وسبعين كتابا نزلت من السماء، وقرأت صحيفة دانيال ووجدت في الكل مولده ومولد عترته، وإن اسمه لمعروف، ولم يولد نبي نزلت عليه الملائكة قط ما خلا عيسى وأحمد، وما ضرب على آدمية حجب الجثة غير مريم وآمنة، وكان علامة حمله أن نادى مناد في السماء في الليلة التي حملت به آمنة عليها السلام: أبشروا يا أهل السماء، فقد حمل الليلة بأحمد، وفي الأرض كذلك حتى في البحور، وما بقي يومئذ في الأرض دابة تدب ولا طائر يطير، إلا وعلم بمولده صلى الله عليه وآله، ولقد بني في الجنة ليلة ولادته سبعون ألف قصر من ياقوت أحمر، وسبعون ألف قصر من اللؤلؤ الرطب، وسميت قصور الولادة، وقيل للجنة: اهتزي وازيني، فإن نبي أولئك قد ولد، فضحكت الجنة يومئذ فهي ضاحكة إلى يوم القيامة، وبلغنا أن حوتا من حيتان البحر يقال له طموسا وهي سيدة الحيتان، لها سبعمائة ألف ذنب تمشي على ظهور سبعمائة ألف ثور، الواحد أكبر من الدنيا، لكل ثور منها سبعمائة ألف قرن من زمرد أخضر اضطرب فرحا لمولده، ولولا أن الله تعالى ثبته لجعل عاليها سافلها، وبلغنا يومئذ أنه ما بقي جبل إلا لقي صاحبه بالبشارة ويقول: لا إله إلا الله، ولقد خضعت الجبال كلها لأبي قبيس كرامة لمحمد صلى الله عليه وآله، ولقد قدست الأشجار أربعين يوما بأغصانها، وأزهارها وثمارها، فرحا بمولده، ولقد ضرب بين السماء والأرض سبعون عمودا من نور، ولقد بشر آدم بمولده فزاد في حسنه سبعين ضعفا، ولقد بلغني أن الكوثر اضطرب فرحا وطمأ ملؤه حتى رمي ألف قصر من قصور الجنة من الدر والياقوت نثارا لمولده، ولقد زم إبليس وسبل وألقي في الحفير أربعين يوما، ولقد تنكست الأصنام كلها وصاحت، وسمعوا صوتا من الكعبة يقول: يا قريش جاءكم البشير، جاءكم النذير، معه عمر الأبد، والرمح الأكبر، وهو خاتم الأنبياء، ونجد في الكتب أن عترته خير البشر، ولا تزال الناس في أمان من العذاب ما دامت عترته في الدنيا، فقال معاوية: يا أبا إسحاق ومن عترته؟ فقال: من ولد فاطمة، فعبس معاوية وجهه، وعض على شفته، وقام من مجلسه (1).
ومن ذلك من خواص مولده صلى الله عليه وآله ما نزل في الإنجيل: يا عيسى جد في أمري ولا تهزل، واسمع وأطع يا بن الطهر البتول، خلقتك من غير فحل آية للعالمين، فإياي فاعبد وعلي فتوكل، خذ الكتاب بقوة فبشر لأهل سوريا بالسريانية، تلمح من بين يديك أني أنا الله الدائم، صدقوا النبي الأمي صاحب الجمل، والدرع والتاج، وهي العمامة، والبغل والهراوة، وهي القضيب الأكحل العين، الصلت الجبين الواضح الخدين الأقنى الأنف المفلج الثنايا كأن عنقه إبريق فضة كأن الدهن يجري في تراقيه، أسمر اللون إذا مشى فكأنما ينقلع من صخر وينحدر من صبب، عرقه في وجهه كاللؤلؤ أو ريح المسك، لم ير مثله أو بعده مثله، نكاح النساء قليل النسل وإنما نسله من مباركة لها بيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب، يكفلها في آخر الزمان كفل زكريا أمك لها فرخان يستشهدان، كلامه القرآن، ودينه الإسلام، وأنا السلام، طوبى لمن أدرك زمانه، وسمع كلامه (2).
ومن ذلك ما رواه ابن عباس عنه من نطقه بالغيب وإخباره بالملاحم، قال: حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله حجة الوداع فجاء حتى أخذ بحلقة باب الكعبة ثم أقبل علينا بوجهه وهو كالشمس في الضحية ثم قال: ألا أخبركم بأشراط الساعة؟ فقلنا: بلى يا رسول الله، فقال: إن من أشراط الساعة إضاعة الصلاة، واتباع الشهوات، وتعظيم المال، وبيع الدين بالدنيا فعندها يذوب قلب المؤمن في جوفه كما يذوب الملح في الماء، مما يرى من المنكر فلا يستطيع إنكاره، فقال سلمان: وكل هذا كائن يا رسول الله؟ فقال: إي والذي نفس محمد بيده، فعندها يليهم من الأمراء الجور والوزراء الفسق، والعرفاء الظلم، والأمناء الخيانة، فعندها يكون المنكر معروفا والمعروف منكرا، ويصدق الكاذب ويكذب الصادق، وتتأمر النساء وتشاور الإماء وتعلو الصبيان المنابر، ويكون الفجور طرفا، والزكاة مغرما والغي مغنما، ويجفو الرجل والديه ويبر (3) صديقه، ويطلع الكوكب المذنب فعندها تشارك المرأة زوجها في التجارة، ويكون المطر قضا فإذا دخلت السوق فلا ترى إلا ذاما لربه، هذا يقول: لم أبع شيئا، وهذا يقول: لم أربح شيئا، فعندها يملكهم قوم إن تكلموا قتلوهم، وإن سكتوا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) الحديث بطوله في البحار: 15 / 261 ح 12 مع تفاوت ببعض الألفاظ.
( 2) بحار الأنوار: 14 / 284 ح 6، وفيه تفاوت ببعض الألفاظ مثلا بدل الدهن الذهب.
( 3) في المطبوع يئر وجاء في نسخة خطية: يبر.
استباحوهم، يسفكون دماءهم ويملؤون قلوبهم رعبا، فلا تراهم إلا خائفين مرعوبين، فعندها يؤتى بشئ من المشرق وشئ من المغرب، فالويل لضعفاء أمتي منهم والويل لهم من الله، لا يرحمون صغيرا ولا يوقرون كبيرا، قلوبهم قلوب الشياطين، فعندها يلتقي الرجال بالرجال، والنساء بالنساء، ويغار على الغلام كما يغار على الجارية في بيت أهلها، وتشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال، وتعلو الفروج السروج، فعلى أولئك من أمتي لعنة الله، فعندها تزخرف المساجد والمصاحف، وتعلى المنابر وتكثر الصفوف، قلوب متباغضة، وألسن مختلفة، فعندها تحلى ذكور أمتي بالذهب، ويلبسون الحرير والديباج ويظهر الربا ويتعاملون بالرشوة، ويستعملون الغيبة، فعندها يكثر الطلاق، فلا يقام لله حد فعندها يحج ملوك أمتي للنزهة، وتحج أوساطهم للتجارة، وتحج فقراؤهم للرياء والسمعة، فعندها يتعلمون القرآن لغير الله ويتخذونه مزامير ويتفقهون للجدال، ويكثر أولاد الزنا ويعفون بالقرآن، ويتهافتون على الدنيا، فإذا انتهكت المحارم، واكتسبت المآثم، سلط الأشرار على الأخيار، فهنالك يفشو الكذب، ويتهافتون في اللباس ويمطرون في غير أوان المطر، وينكرون الأمر بالمعروف في ذلك الزمان حتى يكون المؤمن أذل من الأمة، وتظهر قراؤهم فيما بينهم التلاوة والعداوة، أولئك يدعون في ملكوت السماء الأرجاس والأنجاس فهناك يخشى الغني من الفقير أن يسأله، ويسأل الناس في محافلهم فلا يضع أحد في يده شيئا فعندها يتكلم من لم يكن متكلما فلم يلبثوا هناك إلا قليل حتى تخور الأرض خورة حتى يظن كل قوم أنها خارت في ناحيتهم، ثم يمكثون ما شاء الله، ثم يمكثون في مكثهم فتلقى لهم الأرض أفلاذ أكبادها ذهبا وفضة، فيومئذ لا ينفع ذهب ولا فضة (1).
ومن ذلك من إخباره بالغيب أنه مسح التراب عن وجه عمار بن ياسر يوم الخندق وقال: تقتلك الفئة الباغية (2).
وقال لأبي ذر: كيف أنت إذا طردت ونفيت وأخرجت إلى الربذة (3)؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) بحار الأنوار: 6 / 307 ح 6 بتفاوت.
( 2) مسند البزار: 2 / 215 ح 604، والمعجم الأوسط: 9 / 198 ح 8427، ومسند الشاسي: 1 / 342، والمستدرك: 3 / 131.
( 3) البحار: 18 / 111 ح 18.
وقال: تبنى مدينة بين دجلة ودجيل والفرات وقطر، بل تجبى إليها خزائن الأرض ويكون الخسف بها (1)، يعني بغداد.
ومن كراماته صلى الله عليه وآله أنه لما اشتد الأمر على المسلمين يوم الخندق صعد صلى الله عليه وآله مسجد الفتح وصلى ركعتين ثم قال: اللهم إن لم تهلك هذه العصابة لن تعبد بعدها في الأرض، فجاءت الملائكة فقالت: يا رسول الله إن الله قد أمرنا بالطاعة لك فمرنا بما شئت، فقال: زعزعوا المشركين واطردوهم، وكانوا من ورائهم، ففعلوا ذلك، فقال أبو سفيان لأصحابه: إن كنا نقاتل أهل الأرض فلنا القدرة عليهم وإن كنا نقاتل أهل السماء فما لنا طاقة بأهل السماء (2).
ومن ذلك من أسرار مولده صلى الله عليه وآله أن الملك سيف بن ذي يزن قال لعبد المطلب رضي الله عنه: إني أجد في الكتاب المكنون، والعلم المخزون، أنه إذا ولد بتهامة غلام بين كتفيه شامة، كانت له الإمامة، ولكم الزعامة إلى يوم القيامة، تموت أمه وأبوه ويكفله جده وعمه، ولد في عام الفيل وتوفي أبوه وهو ابن شهرين.
وماتت أمه وهو ابن أربع سنين، ومات عبد المطلب وهو ابن ثمان سنين، وكفله عمه أبو طالب عليه السلام (3).
ومن كراماته صلى الله عليه وآله أن أبا ذر لما جاء إليه وأسلم على يده قال له: إرجع إلى بلادك فإن ابن عمك قد مات، وقد خلف مالا فاحتوى عليه والبث في بلادك إلى وقت كذا وأتني.
فرجع إلى اليمن فوجد كما أخبره رسول الله صلى الله عليه وآله فاحتوى على المال، وبقي في بلاده حتى ظهر رسول الله صلى الله عليه وآله وأتى إليه.
ومن ذلك ما رواه وهب بن منبه عن ابن عباس قال: رسول الله صلى الله عليه وآله: لما عرج بي إلى السماء ناداني ربي يا محمد، إني أقسمت بي وأنا والله الذي لا إله إلا أنا أني أدخل الجنة جميع أمتك إلا من أبى، فقلت: ربي ومن يأبى دخول الجنة؟ فقال: إني اخترتك نبيا، واخترت عليا وليا، فمن أبى عن ولايته فقد أبى دخول الجنة لأن الجنة لا يدخلها إلا محبه، وهي محرمة على الأنبياء حتى تدخلها أنت وعلي وفاطمة وعترتهم وشيعتهم، فسجدت لله شكرا، ثم قال لي: يا محمد إن عليا هو الخليفة بعدك، وإن قوما من أمتك يخالفونه وإن الجنة محرمة على من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) البحار: 18 / 111 ح 18.
( 2) بحار الأنوار: 20 / 231 ح 3.
( 3) بحار الأنوار: 15 / 188 ح 11 عن الكافي.
خالفه وعاداه، فبشر عليا أن له هذه الكرامة مني وأني سأخرج من صلبه أحد عشر نقيبا منهم سيد يصلي خلفه المسيح ابن مريم يملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما، فقلت: ربي متى يكون ذاك؟ فقال: إذا رفع العلم، وكثر الجهل، وكثر القراء، وقل العلماء، وقل الفقهاء، وكثر الشعراء، وكثر الجور والفساد، والتقى الرجال بالرجال، والنساء بالنساء، وصارت الأمناء خونة، وأعوانهم ظلمة، فهناك أظهر خسفا بالمشرق وخسفا بالمغرب، ثم يظهر الدجال بالمشرق، ثم أخبرني ربي ما كان وما يكون من الفتن من أمية وبني العباس، ثم أمرني ربي أن أوصل ذلك كله إلى علي فأوصلته إليه وعن أمر الله (1).
ومن ذلك من كراماته صلى الله عليه وآله ما رواه ابن عباس قال: لما زوج النبي عليا بفاطمة، استدعى تميرات وفضلة من سمن عربي، وحفنة من سويق، وجعلها في قصعة كانت لهم، ثم فركه بيده الشريفة التي هي منبع البركات ومعدن الخيرات، وفياض النعمات، ورحمة أهل الأرض والسماوات، ثم قال: قدموا الصحاف والجفان والقصاع، فقدمت، فلم يزل يملأ من ذلك الهيس الجفان ويحملونها بيوت المهاجرين والأنصار، والقصعة تمتلئ وتفيض حتى اكتفى سائر الناس والقصعة على حالها.
ومن كراماته صلى الله عليه وآله ومكاشفاته مما تكلم به عند موته والناس حوله فقال: ابيضت وجوه واسودت وجوه، وسعد أقوام وشقى آخرون، سعد أصحاب الكساء الخمسة، وأنا سيدهم ولا فخر، عترتي عترة أهل بيتي السابقون أولئك المقربون، سعد من تبعهم وشايعهم، على ديني ودين آبائي، أنجزت موعدك يا رب، واسودت وجوه أقوام يردون ظمأ إلى نار جهنم مرق البغل الأول الأعظم، والآخر والثاني حسابهم على الله، وثالث ورابع كل امرئ بما كسب رهين، وعلقت الرهون، واسودت الوجوه، وهلكت الأحزاب وقادت الأمراء بعضها بعضا إلى النار، كتاب دارس وباب مهجور وحكم بغير علم، مبغض علي وآل علي في النار، محب علي وآل علي في الجنة (2).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) بعضه في البحار: 8 / 5 ح 8 و: 47 / 381 ح 102.
( 2) بحار الأنوار: 22 / 494 ح 40.
الفصل الثاني (أسرار أمير المؤمنين عليه السلام)
وفي أسرار أمير المؤمنين عليه السلام أنه لما ولد في البيت الحرام، وكعبة المسلك العلام، خر ساجدا ثم رفع رأسه الشريف فأذن، وأقام وشهد لله بالوحدانية، وبمحمد صلى الله عليه وآله بالرسالة ولنفسه بالخلافة والولاية، ثم أشار إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: أقرأ يا رسول الله؟ فقال: نعم، فابتدأ بصحف آدم فقرأها حتى لو حضر شيت لأقر أنه أعلم بها منه، ثم تلا صحف نوح وصحف إبراهيم والتوراة والإنجيل، ثم تلا (قد أفلح المؤمنون) (1) فقال له النبي: نعم.
أفلحوا إذ أنت إمامهم.
ثم خاطبه بما خاطب به الأنبياء الأوصياء، ثم سكت، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: عد إلى طفولتك فامسك (2).
ومن كراماته التي لا تحد وفضائله التي لا تعد: أن راهب اليمامة الأثرم كان يبشر أبا طالب عليه السلام بقدوم علي ع ويقول له: سيولد لك ولد يكون سيد أهل زمانه، وهو الناموس الأكبر، ويكون لنبي زمانه عضدا وناصرا وصهرا ووزيرا، وإني لا أدرك أيامه فإذا رأيته فاقرأه مني السلام، ويوشك أني أراه، فلما ولد أمير المؤمنين عليه السلام مر أبو طالب عليه السلام عليه ليعلمه فوجده قد مات، فرجع إلى أمير المؤمنين عليه السلام فأخذه وقبله فسلم عليه أمير المؤمنين وقال: أبتي جئت من عند الراهب الأثرم الذي كان يبشرك بي وقص عليه قصة الراهب، فقال له أبو عبد مناف: صدقت يا ولي الله (3).
ومن ذاك ما رواه محمد بن سنان قال: بينما أمير المؤمنين عليه السلام يجهز أصحابه إلى قتال معاوية إذ اختصم إليه اثنان، فلغى أحدهما في الكلام فقال له: اخسأ يا كلب، فعوى الرجل لوقته وصار كلبا، فبهت من حوله، وجعل الرجل يتضرع إلى أمير المؤمنين عليه السلام ويشير بإصبعه فنظر إليه وحرك شفته فإذا هو بشر سوي، فقام إليه بعض أصحابه وقال مالك: أن جهز الناس إلى قتال معاوية ولك مثل هذه القدرة؟ فقال: والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، لو شئت أن أضرب برجلي هذه القصيرة بهذه الفلوات حتى أضرب بها صدر معاوية فأقلبه عن سريره لفعلت، ولكن بل عباد مكرمون * لا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) المؤمنون: 1.
( 2) بحار الأنوار: 35 / 18 و 37 ح 14 و 37 بتفاوت والحديث طويل.
( 3) في المصادر: الراهب المثرم.
يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون (1).
ومن ذلك قوله لمروان بن الحكم يوم الجمل وقد بايعه: خفت يا ابن الحكم أن ترى رأسك في هذه البقعة، كلا لا يكون ذلك حتى يكون من صلبك طواغيت يملكون هذه الأمة (2).
ومن ذلك كلامه في كربلاء وهو التوجه إلى صفين فقال: صبرا أبا عبد الله بشاطي الفرات ثم بكى، وقال: هذا والله مناخ القوم ومحط رحالهم (3).
ومن ذلك قوله بصفين وقد سمع الغوغاء يقولون: قتل معاوية، فقال: ما قتل ولا يقتل حتى تجتمع عليه الأمة (4).
ومن ذلك ما رواه القاضي ابن شاذان عن أبان بن تغلب عن الصادق عليه السلام قال: كان أمير المؤمنين على منبر الكوفة يخطب وحوله الناس فجاء ثعبان ينفخ في الناس وهم يتحاودون عنه، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: (وسعوا له) فأقبل حتى رقى المنبر والناس ينظرون إليه، ثم قبل أقدام أمير المؤمنين عليه السلام وجعل يتمرغ عليها، ونفخ ثلاث نفخات، ثم نزل وأنساب، ولم يقطع أمير المؤمنين عليه السلام خطبه، فسألوه عن ذلك فقال: هذا رجل من الجن ذكر أن ولده قتله رجل من الأنصار اسمه جابر ابن سبيع عند خفان (5) من غير أن يتعرض له بسوء وقد استوهبت دم ولده.
فقام إليه رجل طوال بين الناس وقال: أنا الرجل الذي قتلت الحية في المكان المشار إليه، وإني منذ قتلتها لا أقدر أن أستقر في مكان من الصياح والصراخ فهربت إلى الجامع، وأنا منذ سبع ليال هاهنا.
فقال أمير المؤمنين عليه السلام: خذ جملك واعقره في مكان قتل الحية وامض لا بأس عليك (6).
ومن كرامته عليه السلام قوله: إن الله أعطاني ما لم يعط أحدا من خلقه، فتحت لي السبل، وعلمت الأسباب والأنساب، وأجرى لي السحاب، ولقد نظرت في الملكوت فما غاب عني شئ مما كان قبلي، ولا شئ مما يأتي بعدي، وما من مخلوق إلا وبين عينيه مكتوب مؤمن أو كافر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) الأنبياء: 26، والحديث في بحار الأنوار: 32 / 385 ح 357.
( 2) مدينة المعاجز: 2 / 39.
( 3) بحار الأنوار: 22 / 386 ح 28.
( 4) بحار الأنوار عن الخرائج: 41 / 298 ح 27 وفيه لا يهلك.
( 5) خفان موضع بالكوفة.
( 6) بصائر الدرجات: 201 باب أنهم جرى لهم ما جرى للرسول ح 3 - 4 والبحار: 39 / 2 17 ح 14.
نحن نعرفه، إذا رأيناه (1).
ومن ذلك قوله عليه السلام لرميلة وكان قد مرض وأبل وكان من خواص شيعته فقال له: وعكت يا رميلة، ثم رأيت خفا فأتيت إلى الصلاة، قال: نعم يا سيدي، وما أدراك؟ فقال: يا رميلة ما من مؤمن ولا مؤمنة يمرض إلا مرضنا لمرضه، ولا حزن إلا حزنا لحزنه، ولا دعا إلا أمنا على دعائه، ولا سكت إلا دعونا له، وما من مؤمن ولا مؤمنة في المشارق والمغارب إلا ونحن معه (2).
ومن ذلك ما رواه الأصبغ بن نباتة عن زيد الشحام أن أمير المؤمنين عليه السلام جاءه نفر من المنافقين فقال له: أنت الذي تقول أن هذا الجري مسخ حرام؟ فقال: نعم، فقالوا: أرنا برهانك؟ فجاء بهم إلى الفرات، ثم نادى مناش مناش (3)، فأجابه الجري: لبيك، فقال له أمير المؤمنين: من أنت؟ فقال: ممن عرضت ولايتك عليه فأبى فمسخ، وإن فيمن معك من يمسخ كما مسخنا ويصير كما صرنا، فقال أمير المؤمنين: بين قصتك ليسمع من حضر فيعلم.
فقال: نعم كنا أربعة وعشرين قبيلة من بني إسرائيل، وكنا قد تمردنا وعصينا وعرضت علينا ولايتك فأبينا، وفارقنا البلاد واستعملنا الفساد فجاءنا آت أنت والله أعلم به منا فصرخ فينا صرخة فجمعنا جمعا واحدا، وكنا متفرقين في البراري فجمعنا لصرخته ثم صاح صيحة أخرى وقال: كونوا مسوخا بقدرة الله فمسخنا أجناسا مختلفة، ثم قال: أيتها القفار كوني أنهارا تسكنك هذه المسوخ واتصلي ببحار الأرض حتى لا يبقى ماء إلا وفيه من هذه المسوخ كما ترى (4).
فصل نازع في هذا الحديث من اعترضه الشك فقال: نطق بلسان الحال أو بلسان المقال، فقلت له: أما تسمع قول الله تعالى: تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن (5) فجعله لمن يعقل،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) بحار الأنوار: 39 / 336 ح 5.
( 2) بحار الأنوار: 26 / 154 ح 43.
( 3) في البحار: هناس.
( 4) بحار الأنوار: 27 / 271 ح 24.
( 5) الإسراء: 44.
ثم عطف على من لا يعقل فقال: وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم)، ثم قال: (إنه كان حليما غفورا) (1)، أخبر سبحانه أن كل شئ يسبح لربه بلسان الحال ولسان المقال، ولكن لسان المقال منه مستور عنكم لم يلزمكم الله بمعرفته، لأن العفو هو الستر فلو كشف الستر عنه عرفتموه مثل تسبيح الحصى بكف رسول الله صلى الله عليه وآله وإذا نطق الحصى الصوان بلسان المقال فلم لا ينطق الجري وهو حيوان، وقوله: إنه كان حليما غفورا، يعني أن سائر المخلوقات غير المكلفين يسبحون ولا يسأمون، وأنتم مع وجوب التكليف عليكم تنسون وتسأمون، وهو مع جهلكم وسهوكم، حليم عنكم وغفور لكم.
ومن ذلك ما رواه عبيد السكسكي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن عليا عليه السلام لما قدم من صفين وقف على شاطئ الفرات، وأخرج قضيبا أخضر وضرب به الفرات، والناس ينظرون إليه فانفجرت اثنتي عشرة عينا كل فرق كالطود العظيم ثم تكلم بكلام لم يفهموه، فأقبلت الحيتان رافعة أصواتها بالتهليل والتكبير، وقالت: السلام عليك يا حجة الله في أرضه وعين الله الناظرة في عباده خذلك قومك كما خذل هارون بن عمران قومه، فقال لأصحابه: سمعتم؟ فقالوا: نعم، فقال هذه آية لي وحجة عليكم (2).
ومن ذلك من قضاياه الغريبات وحله للمشكلات، أن رجلا حضر مجلس أبا بكر فادعى أنه لا يخاف الله ولا يرجو الجنة ولا يخشى النار، ولا يركع ولا يسجد، ويأكل الميتة والدم ويشهد بما لم ير ويحب الفتنة، ويكره الحق ويصدق اليهود والنصارى، وأن عنده ما ليس عند الله وله ما ليس لله، وأنا أحمد النبي وأنا علي وأنا ربكم، فقال له عمر: ازددت كفرا على كفرك، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: هون عليك يا عمر، فإن هذا رجل من أولياء الله لا يرجو الجنة، ولكن يرجو الله ولا يخاف النار، ولكن يخاف ربه ولا يخاف الله من ظلم، ولكن يخاف عدله لأنه حكم عدل، ولا يركع ولا يسجد في صلاة الجنازة ويأكل الجراد والسمك، ويحب الأهل والولد ويشهد بالجنة والنار، ولم يرهما ويكره الموت وهو الحق، ويصدق اليهود والنصارى في تكذيب بعضهم بعضا، وله ما ليس لله لأن له ولدا وليس لله ولد، وعنده ما ليس من عند الله، فإنه يظلم نفسه وليس عند الله ظلم، وقوله: أنا أحمد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) الإسراء: 44 - 45.
( 2) بحار الأنوار عن الخرائج: 33 / 46 ح 391.
النبي، أي أنا أحمده عن تبليغه الرسالة عن ربه، وقوله: أنا علي يعني علي في قولي، وقوله.
وأنا ربكم أي لي كم أرفعها وأضعها، ففرح عمر وقام فقبل رأس أمير المؤمنين عليه السلام وقال: لا بقيت بعدك يا أبا الحسن (1).
ومن ذلك أن ابن الكوا قدم إلى أمير المؤمنين وهو يخطب فقال: إني وطأت على دجاجة ميتة فخرجت منها بيضة أفآكلها؟ قال: لا، قال: فإن استفرختها فخرج منها فروخ فآكله؟ فقال: نعم.
فقال: كيف ذاك؟ فقال: لأنه حي خرج من ميت، وتلك ميتة خرجت من ميت (2).
أقول: وكيف لا يكون ذاك كذلك؟ وقد روى الحسن البصري أن الخضر لما التقى بموسى وكان بينهما ما كان جاء عصفور فأخذ قطرة من البحر فوضعها على يد موسى فقال الخضر: ما هذا؟ قال: يقول ما علمنا وعلم سائر الأولين والآخرين في علم وصي النبي الأمي إلا كهذه القطرة في هذا البحر (3).
وروى ابن عباس عنه أنه شرح له في ليلة واحدة من حين أقبل ظلامها حتى أسفر صباحها وطفئ مصباحها في شرح الباء من بسم الله ولم يتعد إلى السين، وقال: لو شئت لأوقرت أربعين بعيرا من شرح بسم الله (4).
نعم هذا أخو النبي ووصيه، ونائب الحق ووليه، وأسد الله وعليه، ومختاره ورضيه، الذي واسى النبي وساواه، وبمهجته في الملمات وفاه، وأجابه حين دعاه ولباه، وشيد الدين بعزمه وبناه، وكان بيت النبوة مرباه، ومبناه، وشمس الرسالة عرسه، وغصن الجلالة والنبوة ولداه، الذي نصر الرسول وحماه، وغسل النبي وواراه، وقام بدينه ودينه وقضاه، وليد الحرم وربيب الكرم، وفتاه الذي أباد الشرك وأفناه.
ومن ذلك: أن رجلا من الخوارج مر بأمير المؤمنين عليه السلام ومعه حوتان من الجري قد غطاهما بثوبه فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: بكم شريت أبويك من بني إسرائيل؟ فقال له الرجل: ما أكثر ادعاءك للغيب؟ فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: أخرجهما.
فأخرجهما، فأخرجهما، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: من أنتما؟ فقالت
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) بحار الأنوار عن المناقب: 40 / 221 ح 4 والحديث طويل.
( 2) شرح الأخبار للقاضي: 2 / 324، ومناقب آل أبي طالب: 2 / 196 وفيهما: استحضنتها.
( 3) بحار الأنوار: 40 / 186 ح 71.
( 4) تذكرة الخواص: 153، والطرائف: 1 / 205 بتحقيقنا، والبحار: 40 / 186 ح 71.
إحداهما: أنا أبوه، وقالت الأخرى: أنا أمه ومن ذلك ما رواه محمد بن سنان قال: سمعت أمير المؤمنين عليه السلام يقول للرجل: يا مغرور إني أراك في الدنيا قتيلا بجراحة من عبد أم معمر تحكم عليه جورا فيقتلك توفيقا يدخل بذلك الجنة على رغم منك، وإن لك ولصاحبك الذي قمت مقامه صلبا وهتكا تخرجان من عند رسول الله صلى الله عليه وآله فتصلبان على أغصان دوحة يابسة فتورق فيفتتن بذاك من والاك، فقال عمر: ومن يفعل ذاك يا أبا الحسن؟ فقال: قوم قد فرقوا بين السيوف وأغمادها، ثم يؤتى بالنار التي أضربت لإبراهيم ويأتي جرجيس ودانيال وكل نبي وصديق، ثم يأتي ريح فينسفكما في اليم نسفا (1).
ومن ذلك: أن أمير المؤمنين عليه السلام قال يوما للحسن: يا أبا محمد ما ترى عند ربي تابوتا من نار يقول يا علي استغفر لي، لا غفر الله له.
وروي في تفسير قوله تعالى: (إن أنكر الأصوات لصوت الحمير) (2)، قال: سأل رجل من أمير المؤمنين عليه السلام ما معنى هذه الحمير؟ فقال أمير المؤمنين عليه السلام: الله أكرم من أن يخلق شيئا ثم ينكره، إنما هو زريق وصاحبه في تابوت من نار في صورة حمارين إذا شهقا في النار انزعج أهل النار من شدة صراخهما.
ومن ذلك: أن الخوارج يوم النهروان جاءهم جواسيسهم فأخبروهم أن عسكر أمير المؤمنين عليه السلام أربعة آلاف فارس فقالوا: لا ترموهم بسهم ولا تضربوهم بسيف، ولكن يروح كل واحد منكم إلى صاحبه برمحه فيقتله، فعلم أمير المؤمنين عليه السلام بذلك من الغيب، فقال لأصحابه: لا ترموهم ولا تطاعنوهم، واستلوا السيف فإذا جاء كل منكم غريمه فليقطع رمحه ويمشي إليه فيقتله فإنه لا يقتل منكم عشرة، ولا يفلت منهم عشرة. فكان كما قال (3).
ومن ذلك - أي من كراماته -: ما رواه ابن عباس أن رجلا قدم إلى أمير المؤمنين عليه السلام فاستضافه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) مدينة المعاجز: 2 / 44، والبحار: 53 / 13 بتفاوت.
(2) لقمان: 19.
(3) المعجم الأوسط: 2 / 323 ومناقب الخوارزمي: 263.
فاستدعى قرصا من شعير يابسة وقعبا فيه ماء ثم كسر قطعة فألقاها في الماء ثم قال للرجل: تناولها فأخرجها فإذا هي فخذ طائر مشوي، ثم رمى له أخرى، وقال: تناولها فأخرجها فإذا هي قطعة من الحلوى، فقال الرجل: يا مولاي تضع لي كسرا يابسة فأجدها أنواع الطعام، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: نعم هذا الظاهر وذاك الباطن وإن أمرنا هكذا (1).
ومن ذلك: قصة فضة الجارية وأنها لما جاءت إلى بيت الزهراء عليها السلام ولما دخلت بيت النبوة ومعدن الرحمة ومنبع العصمة، ودار الحكمة وأم الأئمة، لم تجد هناك إلا السيف والدرع والرحى، وكانت فضة بنت ملك الهند وكان عندها ذخيرة من الأكسير، فأخذت قطعة من النحاس وألانتها وجعلتها على هيئة سمكة وألقت عليها الدواء وصبغتها ذهبا، فلما جاء أمير المؤمنين عليه السلام وضعتها بين يديه فلما رآها قال: أحسنت يا فضة لكن لو أذنبت الجسد لكن الصبغ أعلى والقيمة أغلى، فقالت: يا سيدي أتعرف هذا العلم؟ فقال: نعم، وهذا الطفل يعرفه وأشار إلى الحسن عليه السلام فجاء وقال كما قال أمير المؤمنين عليه السلام، ثم قال لها أمير المؤمنين: نحن نعرف أعظم من هذا، ثم أومى بيده، وإذا عنق من ذهب وكنوز سائرة، فقال: ضعيها مع أخواتها، فوضعتها فسارت (2).
ومن ذلك: ما رواه عمار بن ياسر قال: كنت مع سيدي أمير المؤمنين عليه السلام يوما في بعض صحاري الحيرة، وإذا راهب يضرب ناقوسه، فقال لي: يا عمار أتدري ما يقول الناقوس؟ فقلت: يا مولاي، وما تقول الخشبة؟ فقال: إنها تضرب مثلا للدنيا وتقول:
أهل الدنيا خلوا الدنيا * مهلا مهلا رفقا رفقا
إن المولى صمد يبقى * حقا حقا صدقا صدقا
يا مولانا إن الدنيا * قد أهوتنا واستغوتنا
ما من يوم يمضي منها * إلا أوهت منا ركنا
لسنا ندري ما قدمنا * فيها إلا إذ قد متنا
قال عمار: فأتيت الراهب من الغد فقلت له: اضرب الناقوس.
فقال: وما تفعل به وأنت مسلم؟ فقلت: لأريك سره، قال: فأخذ يضرب ناقوسه، وأنا أتلو عليه ما يقول، فخر ساجدا وأسلم،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) بحار الأنوار: 41 / 273 ح 29 وفيه: الحلواء.
( 2) بحار الأنوار: 41 / 273 ح 29 بتفاوت بسيط.
وقال: إن عندي بخط هارون بن عمران بيده أن الله يبعث في الأميين رسولا له وزير يعلم ما يقول الناقوس (1).
ومن ذلك ما روي من كراماته: أن فرعونا لما لحق هارون بأخيه موسى دخلا عليه يوما فأوجسا خيفة منه، فإذا فارس يقدمهما ولباسه من ذهب، وفي يده سيف من ذهب، وكان فرعون يحب الذهب فقال لفرعون: أجب هذين الرجلين وإلا قتلتك، فانزعج فرعون لذاك وقال: عودا إلي غدا، فلما خرجا دعا البوابين وعاقبهم، وقال: كيف دخل علي هذا الفارس بغير إذن؟ فحلفا بعزة فرعون ما دخل إلا هذان الرجلان، وكان الفارس مثال علي الذي أيد الله به النبيين سرا، وأيد به محمدا جهرا، لأنه كلمة الله الكبرى التي أظهرها الله لأوليائه فيما شاء من الصور فنصرهم بها، وبتلك الكلمة يدعون الله فيجيبهم وينجيهم، وإليه الإشارة في قوله: (ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا) (2) قال ابن عباس: وكانت الآية الكبرى لهما هذا الفارس والسلطان.
ومن ذلك ما رواه الرضا عليه السلام عن آبائه الطاهرين عليهم السلام أن يهوديا جاء إلى أبي بكر في ولايته وقال له: إن أبي قد مات وخلف كنوزا، ولم يذكر أين هي، فإن أظهرتها كان لك ثلث وللمسلمين ثلث آخر، ولي ثلث وأدخل في دينك، فقال أبو بكر: لا يعلم الغيب إلا الله، فجاء إلى عمر فقال له مقالة أبي بكر، ثم دله على علي عليه السلام فسأله فقال: رح إلى بلد اليمن واسأل عن وادي برهوت بحضرموت، فإذا حضرت الوادي فاجلس هناك إلى غروب الشمس فسيأتيك غرابان سود مناقيرها تنعب فاهتف باسم أبيك وقل له: يا فلان أنا رسول وصي رسول الله صلى الله عليه وآله إليك كلمني فإنه يكلمك فاسأله عن الكنوز فإنه يدلك على أماكنها، فمضى اليهودي إلى اليمن واستدل على الوادي وقعد هناك، وإذا بالغرابين قد أقبلا فنادى أباه فأجابه، وقال: ويحك ما أقدمك إلى هذا الموطن، وهو من مواطن أهل النار؟ فقال: جئت أسألك عن الكنوز، أين هي؟ فقال: في موضع كذا وفي حائط كذا.
ثم قال: ويلك اتبع دين محمد تسلم فهو النجاة.
ثم انصرف الغرابان، ورجع اليهودي فوجد كنزا من ذهب وكنزا من فضة، فأوقر بعيرا وجاء به إلى أمير المؤمنين عليه السلام وهو يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأنك وصي رسول الله وأخوه وأمير المؤمنين حقا كما سميت، وهذه الهدية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) بحار الأنوار: 40 / 172 ح 54 وفيه: يفسر ما يقول الناقوس.
( 2) القصص: 35.
فاصرفها حيث شئت فإنك وليه في العالمين (1).
ومن ذلك ما رواه ابن عباس أن جماعة من أهل الكوفة من أكابر الشيعة سألوا عن أمير المؤمنين أن يريهم من عجائب أسرار الله فقال لهم: إنكم لن تقدروا أن تروا واحدة، فتكفروا، فقالوا: لا شك أنك صاحب الأسرار، فاختار منهم سبعين رجلا وخرج بهم إلى ظاهر الكوفة ثم صلى ركعتين وتكلم بكلمات وقال: انظروا فإذا أشجار وأثمار حتى تبين لهم أنه الجنة، فقال أحسنهم قولا: هذا سحر مبين، ورجعوا كفارا إلا رجلين، فقال لأحدهما: أسمعت ما قال أصحابك وما هو والله بسحر، وما أنا بساحر، ولكنه علم الله ورسوله، فإذا رددتم علي فقد رددتم على الله، ثم رجع إلى المسجد يستغفر لهم، فلما دعا تحول حصى المسجد درا وياقوتا فرجع أحد الرجلين كافرا وثبت الآخر (2).
ومن ذلك أنه كان يقول لابن عباس: كيف أنت يا بن عم إذا ظلمت العيون العين؟ فقال: يا مولاي كلمتني بهذا مرارا ولا أعلم معناه، فقال: عين عتيق وعمر وعبد الرحمن بن عوف، وعين عثمان وستضم إليها عين عائشة، وعين معاوية وعين عمرو بن العاص، وعين عبد الرحمن بن ملجم، وعين عمر بن سعد (3).
ومن ذلك قوله لدهقان الفارس وقد حذره من الركوب والمسير إلى الخوارج فقال له: اعلم أن طوالع النجوم قد نحست فسعد أصحاب النحوس ونحس أصحاب السعود، وقد بدا المريخ يقطع في برج الثور وقد اختلف في برجك كوكبان وليس الحرب لك بمكان، فقال له: أنت الذي تسير الجاريات وتقضي علي بالحادثات، وتنقلها مع الدقائق والساعات، فما السراري وما الذراري؟ وما قدر شعاع المدبرات؟ فقال: سأنظر في الأسطرلاب وأخبرك، فقال له: أعالم أنت بما تم البارحة في وجه الميزان؟ وأي نجم اختلف في برج السرطان؟ وأي آفة دخلت على الزبرقان؟ فقال: لا أعلم، فقال: أعالم أنت أن الملك البارحة انتقل من بيت إلى بيت في الصين، وانقلب برج ماجين وغارت بحيرة ساوة، وفاضت بحيرة خشرمة وقطعت باب البحر (4) من سقلبة، ونكس ملك الروم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) مدينة المعاجز: 2 / 47 ح 393.
( 3) معاني الأخبار: 387 باب نوادر المعاني وفيه بدل أسماء الرجال قوله: وأما العيون فأعداؤه رابعهم قاتله.
( 4) أو الصخرة كما في نسخة أخرى.
( 4) مدينة المعاجز 2 / 47.
بالروم وولى أخوه مكانه، وسقطت شرادت الذهب من قسطنطينية الكبرى، وهبط سور كرنديب، وفقد ربان اليهود، وهاج النمل بوادي النمل، وصعد سبعون ألف عالم وولد في كل عالم سبعون ألفا، والليلة يموت مثلهم، فقال: لا أعلم، فقال: أعالم أنت بالشهب الحرس والأنجم والشمس، وذوات الذوايب التي تطلع مع الأنوار وتغيب مع الأسحار؟ فقال: لا أعلم، فقال: أعالم أنت بطلوع النجمين اللذين ما طلعا إلا عن مكيدة، ولا غابا إلا عن مصيبة، وإنهما طلعا غربا فقتل قابيل هابيل، ولا يظهران إلا بخراب الدنيا؟ فقال: لا أعلم، فقال: إذا كنت لا تعلم طرق الدنيا فإني أسألك عن قريب، أخبرني ما تحت حافر فرسي الأيمن والأيسر من المنافع والمضار؟ فقال: أنا في علم الأرض أقصر مني في علم السماء.
فأمر أن يحفر تحت الحافر الأيمن فخرج كنز من ذهب، ثم أمر أن يحفر تحت الحافر الأيسر فخرج أفعى فتعلق الحكيم فصاح يا مولاي الأمان، فقال: الأمان بالإيمان، فقال: لأطيلن لك الركوع والسجود، فقال: سمعت خيرا، فقال: خيرا أسجد لله وتضرع بي إليه، ثم قال: يا سهر سقيل سوار نحن نجوم القطب، وأعلام الفلك، وإن هذا العلم لا يعلمه إلا نحن وبيت في الهند (1).
ومن ذلك ما رواه أحمد بن عبد العزيز الجلودي قال: خطب أمير المؤمنين عليه السلام بالبصرة فقال: سلوني قبل أن تفقدوني، سلوا من عنده علم المنايا والبلايا، والأنساب في الأصلاب، وفصل الخطاب (2).
روى الصدوق في العيون بسنده عن أبي الصلت الهروي قال: كان الرضا عليه السلام يكلم الناس بلغاتهم، وكان والله أفصح الناس بلغاتهم وأعلمهم بكل لسان ولغة، فقلت: يا بن رسول الله إني لأعجب من معرفتك بهذه اللغات على اختلافها، فقال: يا أبا الصلت أنا حجة الله، وما كان الله يتخذ حجة على قوم وهو لا يعرف لغاتهم، أما بلغك قول أمير المؤمنين عليه السلام: (أوتينا فصل الخطاب فهل فقل الخطاب إلا معرفة اللغات؟ - أنا دابة الأرض، أنا حي لا أموت، وإذا مت يرث الله الأرض ومن عليها، سلوني فإني لا أسأل عما دون العرش إلا أجبت (3)، وقوله: (عما دون العرش) رمز له وجوه: الأول منها: أن العرش هو العلم، والعرش عند علماء الحروف هو محمد، والعرش العرش
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) بحار الأنوار: 37 / 337.
( 2) بصائر الدرجات: 201 باب إنهم جرى لهم ما جرى للرسول: ح 3 - 4.
( 3) وفي حديث: بروح القدس علموا ما دون العرش إلى ما تحت الثرى. بصائر الدرجات: 454 ح 12 - 13.
وقوله: (عما دون العرش) لا يستلزم أنه لا يعلم ما وراء ذلك، بل إن عقول البشر لا تعي القول عما وراء العرش، ولا تحتمله بل تعمى دونه البصائر والأبصار.
آه لو أجد له حملة ! قال: فقام إليه رجل في عنقه كتاب رافعا صوته: أيها المدعي ما لا تعلم، المقلد ما لا يفهم، إني سائلك فأجب، قال: فوثب إليه أصحاب علي ليقتلوه، فقال لهم أمير المؤمنين عليه السلام: دعوه فإن حجج الله لا تقوم بالبطش، ولا بالباطل تظهر براهين الله، ثم التفت إلى الرجل وقال: سل بكل لسانك فإني مجيب إن شاء الله تعالى، فقال الرجل: كم بين المشرق والمغرب؟ فقال: مسافة الهواء، وقال: وما مسافة الهواء؟ قال: دوران الفلك، قال: وما دوران الفلك؟ قال: مسيرة يوم الشمس، قال الرجل: صدقت، قال: فمتى القيامة؟ قال: عند حضور المنية، وبلوغ الأجل، قال: صدقت، قال: فكم عمر الدنيا؟ قال: يقال سبعة آلاف ثم لا تحديد، قال: صدقت، قال: فأين مكة من بكة؟ فقال: مكة أكناف الحرم وبكة مكان البيت؟ قال: ولم سميت مكة؟ قال: لأن الله تعالى مك الأرض من تحتها أي دحاها، قال: فلم سميت بكة؟ قال: لأنها أبكت عيون الجبارين والمذنبين، قال: صدقت، قال: وأين كان الله قبل خلق عرشه؟ فقال أمير المؤمنين: سبحان الله من لا يدرك كنه صفته حملة عرشه على قرب زمراتهم من كراسي كرامته، ولا الملائكة المقربون من أنوار سبحات جلاله، ويحك لا يقال لم ولا كيف، ولا أين ولا متى، ولا بم ولا حيث، فقال الرجل: صدقت، قال: فكم مقدار ما لبث العرش على الماء قبل خلق الله الأرض والسماء؟ فقال: أتحسن أن تحسب؟ فقال: نعم، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: أفرأيت لو صب في الأرض خردل حتى سد الهواء وملأ ما بين الأرض والسماء، ثم أذن لك على ضعفك أن تنقله حبة حبة من المشرق إلى المغرب، ثم مد لك في العمر حتى نقلته وأحصيته لكان ذلك أيسر من إحصاء ما لبث العرش على الماء قبل خلق الأرض والسماء، وإنما وصفه لك جزاء من عشر عشير جزء من مائة ألف جزء وأستغفر الله من القليل في التحديد، قال: فحرك الرجل رأسه، وقال: أشهد أن لا إله إلا الله [ وأن محمدا رسول الله ] (1).
يؤيد هذا ما رواه الرازي في كتابه المسمى بمفاتيح الغيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ليلة أسري بي إلى السماء، رأيت في السماء السابعة ميادينا كميادين أرضكم هذه، ورأيت أفواجا من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) بحار الأنوار: 57 / 231 ح 188 عن كتاب المختصر مع تفاوت.
الملائكة يطيرون لا يقف هؤلاء لهؤلاء، ولا هؤلاء لهؤلاء، قال: فقلت لجبرائيل عليه السلام: من هؤلاء؟ فقال: لا أعلم، فقلت: وأين يمضون؟ فقال: لا أعلم، فقلت: سلهم، فقال: لا أقدر ولكن سلهم أنت يا حبيب الله، قال: فاعترضت ملكا منهم وقلت: ما اسمك؟ فقال: كيكائيل، فقلت: من أين أتيت؟ فقال: لا أعلم، فقلت: وأين تمضي؟ فقال: لا أعلم، فقلت: وكم لك في السير؟ فقال: لا أعلم، غير أني يا حبيب الله أعلم أن الله سبحانه يخلق في كل ستة آلاف سنة كوكبا، وقد رأيت ستة آلاف كوكبا خلقهن وأنا في السير (1).
ومن ذلك ما رواه أصحاب التواريخ أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان جالسا وعنده جني يسأله عن قضايا مشكلة فأقبل أمير المؤمنين عليه السلام فتصاغر الجني حتى صار كالعصفور ثم قال: أجرني يا رسول الله، فقال: ممن؟ فقال: من هذا الفتى المقبل، فقال النبي صلى الله عليه وآله: وما ذاك؟ فقال الجني: أتيت سفينة نوح لأغرقها يوم الطوفان، فلما تناولتها ضربني هذا فقطع يدي، ثم أخرج يده مقطوعة فقال النبي: هو ذلك (2).
وبهذا الإسناد أن جنيا كان جالسا عند رسول الله صلى الله عليه وآله فأقبل أمير المؤمنين عليه السلام فاستغاث الجني وقال: أجرني سليمان فأرسل إلي نفرا من الجن فطلت عليهم فجاءني هذا الفارس فأسرني وجرحني، وهذا مكان الضربة إلى الآن لم يندمل، فنزل جبرائيل عليه السلام وقال: الحق يقرئك السلام ويقول لك: إني لم أبعث نبيا قط إلا جعلت عليا معه سرا، وجعلته معك جهرا (3).
فيا خامد الفطنة، يا من يقول هذا التناسخ ومن أين لك علم التناسخ؟ وقدمك في طريق الحق غير راسخ، أما علمت أن اسم الله الأعظم نير لك في كل تركيب، وكذا كلمة الله العليا تظهر في كل صورة وتفعل كل عجيب، وكيف تشك في قول محمد صلى الله عليه وآله إذا قال: أنا الفاتح، أنا الخاتم، وترتاب في علي، أليس هو قسيم النور الأول الذي يتشعشع في جسد كل من والاه، فإنه أمل كل ولي وغاية كل صفي، ثم ظهر مع محمد صلى الله عليه وآله في هذا الجسد، كما كان معه في كل مقام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) بحار الأنوار: 57 / 338 ح 29.
( 2) حلية الأبرار: 2 / 15، ومدينة المعاجز: 1 / 142.
( 3) المراقبات: 259، وجامع الأسرار: 382 ح 763.
الفصل الثالث (في أسرار فاطمة الزهراء عليها السلام)
فمن ذلك من أسرار مولدها الشريف ما رواه أصحاب التواريخ: أن خديجة لما حضرتها الولادة بعث الله عز وجل إليها عشرين من الحور العين بطشوت وأباريق وماء من حوض الكوثر، وجاءتها مريم بنت عمران وسارة وآسية بنت مزاحم، بعثهن الله يعنها على أمرها، فلما وضعتها أشرقت الدنيا وامتلأت منها الأقطار بالطيب والأنوار، وفاح عطر العظمة، وامتلأت بيوت مكة بالنور، ولم يبق في شرق الأرض ولا غربها موضع إلا أشرق نور، وظهر في السماء نور أزهر لم يكن قبل هذا، وقالت النسوة: خذيها يا خديجة طاهرة معصومة بنت نبي، زوجة وصي، نور وضي عنصر زكي، أم أبرار، حبيبة جبار، صفوة أطهار، مباركة بورك فيها وفي ولدها.
ولما تناولتها خديجة قالت: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن أبي سيد الأنبياء، وأن بعلي سيد الأوصياء، وأن ولدي سادة الأسباط، ثم سلمت على النسوة وسمت كل واحدة منهن باسمها، وبشر أهل السماء بعضهم بعضا بولادة الزهراء، وكانت تحدث خديجة في الأحشاء وتؤنسها بالتسبيح والتقديس، وكان نورها وحلقها وخلالها وجمالها لا يعدو رسول الله صلى الله عليه وآله (1).
ومن كراماتها على الله: أنها لما منعت حقها أخذت بعضادة حجرة النبي وقالت: ليست ناقة صالح عند الله بأعظم مني، ثم رفعت جنب قناعها إلى السماء وهمت أن تدعو فارتفعت جدران المسجد عن الأرض، ونزل العذاب فجاء أمير المؤمنين عليه السلام فمسك يدها وقال: يا بقية النبوة وشمس الرسالة، ومعدن العصمة والحكمة، إن أباك كان رحمة للعالمين فلا تكوني عليهم نقمة، أقسم عليك بالرؤوف الرحيم، فعادت إلى مصلاها (2).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) يراجع المجلد 46 من بحار الأنوار - تاريخ فاطمة عليها السلام.
( 2) وفاة الزهراء: 63، والاحتجاج: 56 والمسترشد: 382.
الفصل الرابع (في أسرار الحسن بن علي عليهما السلام)
فمن ذلك: أنه لما قدم من الكوفة جاءت النسوة يعزينه في أمير المؤمنين عليه السلام، ودخلت عليه أزواج النبي صلى الله عليه وآله، فقالت عائشة: يا أبا محمد ما مثل فقد جدك إلا يوم فقد أبوك، فقال لها الحسن: نسيت نبشك في بيتك ليلا بغير قبس بحديدة، حتى ضربت الحديدة كفك فصارت جرحا إلى الآن فأخرجت جردا أخضر فيه ما جمعته من خيانة حتى أخذت منه أربعين دينارا عددا لا تعلمين لها وزنا ففرقتيها في مبغضي علي صلوات الله عليه من تيم وعدي، وقد تشفيت بقتله، فقالت: قد كان ذلك (1).
ومن ذلك: أن معاوية لما أراد حرب علي عليه السلام وجمع أهل الشام، سمع بذلك ملك الروم فقيل له: رجلان قد خرجا يطلبان الملك، فقال: من أين؟ فقيل له: رجل بالكوفة ورجل بالشام، فقال: صفوهما فقال: من أين؟ فقيل له: والحق في يد الكوفي، ثم كتب إلى معاوية أن ابعث إلي أعلم أهل بيتك، وبعث إلى أمير المؤمنين عليه السلام ابعث إلي أعلم أهل بيتك، حتى أجمع بينهما وأنظر في الإنجيل من أحق بالملك منكما وأخبركما، فبعث إليه معاوية ابنه يزيد، وبعث إليه أمير المؤمنين الحسن عليه السلام، فلما دخل يزيد أخذ الرومي يده فقبلها، ولما دخل الحسن عليه السلام قام الرومي فانحنى على قدميه فقبلهما، فجلس الحسن عليه السلام لا يرفع بصره، فلما نظر ملك الروم إليهما أخرجهما معا، ثم استدعى يزيد وحده، وأخرج له من خزانته 113 صنما تماثيل الأنبياء وصورهم وقد زينت بكل زينة، فأخرج صنما فعرضه على يزيد فلم يعرفه، ثم عرض آخر فلم يعرفه، ثم سأله عن أرزاق العباد وعن أرواح المؤمنين، وأرواح الكفار، أين تجمع بعد الموت؟ فلم يعرف، فدعا الحسن بن علي عليه السلام وقال: إنما بدأت بهذا حتى يعلم أنك تعلم ما لا يعلم، وأن أباك يعلم [ لا ] أبوه وأن أباك رباني هذه الأمة، وقد نظرت في الإنجيل فرأيت الرسول محمدا والوزير عليا ونظرت إلى الأوصياء فرأيت أباك فيها وصي محمد، فقال للرومي: سلني عما بدا لك من علم التوراة، والإنجيل والفرقان، أخبرك، فدعا الأصنام، فأول صنم عرضه عليه على صفة القمر فقال الحسن عليه السلام: هذه صفة آدم أبي البشر، ثم عرض عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) الهداية الكبرى للخصيبي: 197.
آخر في صفة الشمس، فقال: هذه صفة حواء أم البشر، ثم عرض آخر، فقال: هذا عليه صفة شيت ابن آدم، وهذا أول من بعث وكان عمره في الدنيا 1540 سنة، ثم عرض عليه آخر فقال: هذه صفة نوح صاحب السفينة، وكان عمره في الدنيا 2500 سنة ولبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، ثم عرض عليه آخر، فقال: هذه صفة إبراهيم عريض الصدر طويل الجبهة، ثم عرض عليه آخر، فقال: هذه صفة موسى بن عمران وكان عمره 245 سنة وكان بينه وبين إبراهيم 500 سنة، ثم عرض عليه آخر، فقال: هذه صفة إسرائيل وهو يعقوب الحزين، ثم عرض عليه آخر، فقال: هذه صفة إسماعيل، ثم عرض عليه آخر، فقال: هذه صفة يوسف بن يعقوب، ثم عرض عليه آخر، فقال: هذه صفة داود صاحب الجراب، ثم عرض عليه آخر فقال: هذه صفة شعيب، ثم زكريا، ثم عيسى ابن مريم روح الله وكلمته، وكان عمره في الدنيا 23 سنة ثم رفعه الله إليه ثم يهبط إلى الأرض بدمشق ويقتل الدجال، ثم عرضت عليه أصنام الأوصياء، والوزراء، فأخبر بأسمائهم، ثم عرضت عليه أصنام في صفة الملوك وقال له ملك الروم: هذه أصنام لم نجد صفتها في التوراة والإنجيل، فقال الحسن عليه السلام: هذه صفة الملوك، فقال عند ذلك ملك الروم عند ذاك: أشهد لكم يا آل محمد أنكم أوتيتم علم الأولين والآخرين، وعلم التوراة والإنجيل، وصحف إبراهيم وألواح موسى، وأنا نجد في الإنجيل أن أول فتنة هذه الأمة وثوب شيطانها الضليل على ملك نبيها واجتراؤه على ذريته، ثم قال للحسن عليه السلام: أخبرني عن سبعة أشياء خلقها الله تعالى، لم تركض في رحم، فقال الحسن عليه السلام: آدم وحواء، وكبش إبراهيم، وناقة صالح، وإبليس والحية والغراب الذي ذكر في القرآن، ثم سأله عن أرزاق الخلائق فقال الحسن عليه السلام: في السماء الرابعة تنزل بقدر وتبسيط، وسأله عن أرواح المؤمنين أين تكون؟ فقال: تجتمع عند صخرة بيت المقدس في كل ليلة جمعة وهي العرش الأدنى ومنها يبسط الله الأرض ويطويها إليها وإليها المحشر.
ثم سأله عن أرواح الكفار فقال: تجتمع في وادي حضرموت عند مدينة اليمن ثم يبعث الله نارا من المشرق ونارا من المغرب ويتبعها ريح شديد فيحشر الناس عند صخرة بيت المقدس فأهل الجنة عن يمينها، وأهل النار عن يسارها في تخوم الأرض السابعة، فتعوق الناس عند الصخرة، فمن وجبت له الجنة دخلها ومن وجبت له النار دخلها، وذلك قوله: فريق في الجنة وفريق في السعير.
فالتفت الملك إلى يزيد وقال: هذا بقية الأنبياء وخليفة الأوصياء، ووارث الأصفياء وثاني النقباء، ورابع أصحاب الكساء، والعالم بما في الأرض والسماء، أفقياس هذا بمن طبع على قلبه وهو من الضالين، ثم كتب إلى معاوية: من أتاه الله العلم والحكمة بعد نبيكم وحكم التوراة والإنجيل وأخبار الغيب، فالحق والخلافة له، ومن نازعه فإنه ظالم، ثم كتب إلى أمير المؤمنين عليه السلام أن الحق لك والخلافة فيك وفي ولدك إلى يوم القيامة، فقاتل من قاتلك يعذبه الله بيدك، فإن من عصاك وحاربك عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين (1).
ومن ذلك من كراماته ما روي عن مولانا الباقر عليه السلام أن جماعة من أهل الكوفة قالوا للحسن عليه السلام: يا بن رسول الله ما عندك من عجايب أسرار أمير المؤمنين عليه السلام الذي كان يرينا أي شئ نريد يرينا إياه؟ فقال: هل تعرفون أمير المؤمنين عليه السلام؟ فقالوا: نعم، فرفع سترا كان على باب البيت، وقال: انظروا، فنظروا فإذا أمير المؤمنين، فقالوا: نعم، هذا أمير المؤمنين لا نشك فيه ونشهد أنك خليفة حقا وصدقا (2).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) بحار الأنوار: 33 / 237 ح 517 والحديث طويل جدا اختصر هنا.
( 2) مدينة المعاجز: 3 / 76 - 512.