وأهل السنة فرقتان: الأولى أصحاب الحديث وهم شعب: الداودية، والشافعية، والمالكية، والحنبلية والأشعرية.
والثانية أصحاب الرأي وهم فرقة واحدة، وأما المعتزلة وهم سبع فرق: الحنفية، والهذيلية، [ والنظامية ]، والعمرية، والجاحظية، والكعبية، والبشرية.
وأما أصحاب المذاهب فهم: أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، وأما مالك بن أنس بن مالك فهو إمام العراق، وأهل اليمن والمغرب يميلون إلى مذهبه، وأما أحمد بن حنبل فكان يخدم الشافعي ويأخذ بزمام دابته ويقول اقتدوا بهذا الشاب، وأما أصحاب الرأي فهم أصحاب أبي حنيفة، وأما المعتزلة فهم ينكرون خلق الجنة والنار، ويقولون إن عليا أفضل الصحابة، لكن يجوز عندهم تقدم المفضول على الفاضل لمصلحة يقتضيها الوقت.
ومنهم الحسنية وهم أصحاب الحسن البصري، والهذيلية وهم أصحاب الهذيل، والنظامية وهم أصحاب إبراهيم بن النظام، والعمرية وهم أصحاب عمر بن غياث السلمي، والجاحظية وهم أصحاب أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، والكعبية وهم أصحاب أبي القاسم الكعبي، والبشرية وهم أصحاب بشر بن المعتمر.
وأما المجبرة فهم عشرة: الكلابية، والكرامية، والهشامية، والموالفية، والمعترية، والدارية، والمقابلية، والنهالية، والمبيضة.
وأما الصوفية فهم فرقتان: النورية، والخلوية.
وأما المرجئة فهم ست فرق: الدرامية، والعلانية، والنسبية، والصالحية، والمثمرية، والجحدرية.
وأما الجبرية فهم خمس فرق: الجهمية وهم أصحاب جهم بن صفوان، والبطحية وهم أصحاب إسماعيل البطحي، والبخارية وهم أصحاب حسين بن محمد البخاري، والضرارية وهم أصحاب ضرار بن عمر، والصياحية وهم أصحاب صياح بن معمر.
وأما النواصب فهم الذين حاربوا زيد بن علي، وعندهم أن الفتى لا يكون سنيا حتى يبغض عليا.
وأما الخوارج فهم خمسة عشر فرقة: الأزارقة وهم أصحاب نافع بن الأزرق، والنجدات وهم أصحاب نجدة بن عامر الحنفي، والعجاردة وهم أصحاب عبد الكريم بن عجردة، واليحيائية وهم أصحاب يحيى بن الأحزم، والحازمية، وهم أصحاب عبد الله بن حازمة، والثعالبة وهم أصحاب ثعلب بن عدي، والجرورية وهم أصحاب عبد الله بن جرور، والصفرية وهم أصحاب الأصفر، والأباضية وهم أصحاب عبد الله بن أباض، والحفصية وهم أصحاب حفص ابن أنيية، والضاحكية وهم أصحاب الضحاك بن قيس.
وهؤلاء عقدوا على لعن معاوية وعمرو بن العاص وعثمان، وعلى البراءة منهم، وبنو أمية لعنهم الله دينهم الإجبار، والحجاج لعنه الله لما قتل أكابر أصحاب علي عليه السلام، ورمى الكعبة بالمنجنيق، قال: هذا منه تعالى.
والجبر كان دين الجاهلية وسنتهم، فلما نزل القرآن نسخه، فلما جاء بنو أمية أعادوه وجددوه، وأعادوا إلى دين الإسلام ما كان من سنن عبدة الأصنام، كما أدخل أصحاب النبي في دينه من سنن اليهود، وذلك أن الله أمر النبي عند خروجه من الدنيا أن ينهاهم عن أمور هم فاعلوها تأكيدا للحجة عليهم.
فصل
ثم إنهم اعتبروا في الدين قول الأوزاعي، وأبي نعيم، والمغيرة بن شعبة، وسفيان الثوري، واطرحوا قول آل محمد الذين نزل عليهم القرآن وولاهم، والحكمة فيهم وعنهم ومنهم.
فصل
وما كفاهم هذا الضلال حتى نسبوا من دان بدين آل محمد أنه يدين بدين اليهود، وقالوا: إن المذهب الذي في أيدي الشيعة مأخوذ من كتاب يهودي كان مودعا عند جعفر الصادق عليه السلام، ثم ما، كفاهم هذا الكفر والإلحاد، حتى أنهم جعلوا ما نقل عن أهل الله وحزبه أنه مأخوذ من كتب اليهود.
وما نقل عن أبي هريرة أنه مأخوذ عن رسول الله صلى الله عليه وآله، فكذبوا ما نقل عن أمناء الوحي والتنزيل، وأولياء الرب الجليل، واعتبروا قول المغيرة بن شعبة الذي سب أمير المؤمنين عليا عليه السلام على المنبر (1).
فصل
ثم ما كفى هذا الكفر حتى أنهم سموا شيعة علي أنهم حمير اليهود، فجعلوا حزب الله حمير اليهود، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله: يا علي حزبك حزبي وحزبي حزب الله (2).
فإذا قلت لهم: بماذا جاز لكم أن تسموا شيعة علي بهذا الاسم، وربهم الله، ونبيهم محمد، وشهرهم رمضان، وقبلتهم الكعبة وحجهم إليها، وهم قوم يخرجون الزكاة، ويصلون الأرحام، ويوالون عليا وعترته، فبماذا صاروا حميرا لليهود؟ فهلا يقولون لا نعلم أن شيعة علي لا ذنب لهم عند المنافقين، يسمون به حمير اليهود، غير حب علي الذي لو أن العبد جاء يوم القيامة وفي صحيفته أعمال النبيين والمرسلين، وليس معها حب علي فإن أعماله مردودة، وهل يقبل ما لا كمال له وما لا تمام إلا الدين القيم الكامل وهو حب علي؟ وكذا لو كان في صحيفته جميع السيئات وختمها الولاية فإنه لا يرى إلا الحسنات، وأين ظلام السيئات عند البدر المنير، أم أين مس الخطيئات عند نور الأكسير؟
فصل
فإذا قلت لهم: ما تقولون في رجل آمن بالله وبمحمد، وسلك سبيل الصالحات، لكنه كان يبغض عليا ويبغض من يهواه، فما له عند بعثه يدخل الجنة أو النار، فهناك يقولون بل يدخل النار، لقول رسول الله صلى الله عليه وآله: من عاداك فقد عاداني، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه (3).
وإذا قلت لهم: فما تقولون في رجل آمن بالله ورسوله وعبده مخلصا، لكنه لا يعرف فلا نا وفلانا، فما تقولون فيه، مؤمن أم كافر؟ ويدخل الجنة أم النار؟ فهناك يتحيرون، فإن قالوا نعم، لزمهم الدليل عليه، ولا دليل لهم، وكيف يدخل النار بترك ما لم يعرض عليه، وإن قالوا لا، قلنا: فلم سميتم قوما تبعوا رجلا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) حلية الأولياء: 1 / 95، ومسند ابن المبارك: 156 ح 253، وهو الذي أمر صعصعة بلعن علي فامتنع، راجع لطف التدبير: 1 / 119 باب 15.
( 2) بحار الأنوار: 39 / 93 ح 3.
( 3) الطرائف: 1 / 174 ح 184.
حبه يدخل الجنة وبغضه يدخل النار أشرارا، وسميتم شيعته من اليهود؟ فهناك فروا من الجهل وقالوا: لأنهم يقولون بسب الصحابة، ثم يقولون: قال رسول له: من سب أصحابي فقد سبني (1)، فإذا قلت لهم فهذا الحديث مخالف لاعتقادكم، أليس عندكم أنه كلما يصدر من العبد من الأفعال فإنها بقضاء الله وقدره، والله مريد لأفعال العبد، والعبد واسطة في الفعل والإرادة لله، فما ذنب من يسب إذا كان ذاك بقضاء الله وقدره، وكيف يكون الزنا والكفر من العبد بإرادة الله، والسب لا يكون بإرادة الله، ثم يقول لهم: وقد رويتم أيضا إن كان مجتهد أصاب فله أجران في اجتهاده، وإن أخطأ فله أجر (2)، فهؤلاء في اجتهادهم في السب إن أصابوا فلهم ثواب من اجتهد وأصاب، وإن أخطأوا فكذلك.
ثم نقول لهم: لقد نطق القرآن لهم بالتنزيه والفوز، وأنه لا وزر عليهم فيما وزروا فيما زعمتم أن عليهم به الوزر والكفر، وذاك إما لحكم القضاء والقدر، وإن من تسبونه لا إثم عليهم في سبه، وذلك في قوله تعالى حكاية عنكم يوم القيامة، وقالوا: (ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار * اتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم الأبصار) (3)، والنار ليس فيها بإجماع الكتاب والسنة، وفحوى هذه الآية وبرهان العقل إلا الكافر والمنافق، والجنة ليس فيها كافر ولا منافق إلا مؤمن ومسلم، وقد شهدت هذه الآية لشيعة علي أنهم ليسوا من الكفار ولا من المنافقين، بل من المؤمنين، وإلا لكانوا في النار، لكنهم ليسوا فيها فهم في الجنة، وليس في الجنة إلا المؤمن، فتعين أن شيعة علي هم المؤمنون، ولم يضرهم سبهم الذي سميتموهم به أشرارا، بل كانوا به من الأخيار، فظهر كذبكم على النبي أنه قال: من سب أصحابي فقد سبني، وإن ثبت صدق الحديث لزم من صدقه أن أصحابه آله، كما تقدم، فتعين أن بغض المنافقين الشيعة ليس إلا بحبهم لعلي، ومن أبغض مواليا لعلي أبغضه الله، ولذلك قال الصادق عليه السلام: رحم الله شيعتنا أنهم أوذوا فينا وأننا نؤذي فيهم.
فصل
ثم رووا عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه مات ولم يوص إلى أحد، وأنه جعل الاختيار إلى أمته، فاختاروا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الغدير 10 / 270.
( 2) فتح الباري: ح7352.
( 3) ص: 63.
من أرادوا، فكذبهم القرآن ونزه نبيه مما نسبوا إليه، فقال: (ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب) (1)، وكذبهم فيما افتروا عليه فقال: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) (2)، فأخبر سبحانه أن كل من اختار من أمره غير ما اختاره الله ورسوله فليس بمؤمن، وقد اختاروا فليسوا بمؤمنين بنص الكتاب المبين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) البقرة: 132.
( 2) الأحزاب: 36.
فصل (هفوات العامة في الأنبياء عليهم السلام)
وإذا جاز للناس أن يختاروا إماما فلم لا يجوز أن يختاروا نبيا، والأشعرية منعوا العدل وأنكروا، وجوزوا على الله الظلم، والقرآن يكذبهم، ويقول: (ولا يظلم ربك أحدا) (1).
وجوزوا على الله فعل القبيح وقالوا إنه مريد للخير والشر، فإذا كان مريدا لهما فلماذا بعث النبيين وصدعهم؟ وقالوا: إن صفاته زائدة على ذاته، فلزمهم أن يعبدوا آلهة شتى.
وقالوا: لا يجب على الله شئ فهو يدخل الجنة من شاء ويدخل النار من شاء ولا يسأل عما يفعل، ومنادي العدل يناديهم بالتكذيب، ويقول: (ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون) (2)، ويقول: (إن الله لا يظلم مثقال ذرة) (3)، ويقول: (ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم) (4).
والمعتزلة قالوا بالعدل، وجوزوا الخطأ على النبيين، وإذا كان الله حكيما عادلا فكيف يبعث نبيا جاهلا، وأين العدل إذا ما اتخذ الله وليا جاهلا؟ ومنعوا الإمامة وقالوا: إن الحسن والقبح شرعيان لا عقليان.
وقالوا: إن الله أمر إبليس بالسجود لآدم، وأراد منه أن لا يسجد، ونهى آدم عن الشجرة، وأراد منه أكلها، فكيف يأمر بما لا يريد وينهى عما يريد؟ والمشبهة والمجسمة قالوا: الرحمن على العرش استوى، وقالوا: هو جسم كالأجسام.
وقالوا: هو ملء عرشه وله أصابع لا تعد وإن قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن (5).
وقالوا: إنه لما أهلك قوم نوح بكى عليهم حتى رمدت عيناه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) الكهف: 49.
( 2) يس: 54.
( 4) النساء: 40.
( 4) النساء: 147.
( 5) الكافي: 2 / 353.
وقالوا: إنه يوم القيامة يضع قدمه في النار، وتقول قط قط (1).
وقالوا إنه ينزل في كل ليلة جمعة إلى سماء الدنيا، وأن له حمارا يركبه إذا نزل (2)، وإنه يرى يوم القيامة كالبدر في ليلة تمامه.
ثم وقعوا في الأنبياء فجوزوا عليهم الخطأ وفعل الذنوب والغفلة (3)، ورموهم بظاهر القرآن من قوله: (وعصى آدم ربه فغوى) (4).
وجوزوا على الرسل الكرام فعل الكبيرة والصغيرة قبل البعثة، وفعل الصغائر بعد البعثة، وجوزوا على سيد المرسلين فعل الخطأ، وأخذوا بقوله: (ووضعنا عنك وزرك) (5)، وما علموا أن ذاك وزر الحرب لا وزر الذنب.
وقالوا إن جبرائيل شق صدره وأخرج منه علقة، فقالوا هذا خط الشيطان: ثم خاط صدره فبقي أثر المخيط (6).
وقالوا إن أباه مات كافرا (7)، وهو ابن سيد المرسلين إبراهيم.
ففعلوا كل ذلك لتثبت لهم إمامة الرجل، وجوزوا على النبي حب السماع والرقص، وقالوا إنه تمايل حتى سقط الرداء عن كتفه، ورووا أن الرجل دخل عليه وعنده امرأة تنشد الشعر وتضرب الدف فأمرها بالسكوت فسكت فلما خرج أمرها بالإنشاد فأنشدت فعاد إليه فأمرها بالسكوت فسكتت فلما خرج أمرها بالإنشاد، فقالت: يا رسول الله من هذا الذي تأمرني إذا دخل بالسكوت وإذا خرج بالإنشاد؟ فقال: هذا رجل يكره الباطل (8) فجعلوا نبيهم يحب الباطل.
ورووا عنه إذ قال: ما ينفعني شئ كانتفاعي بمال فلان، فكذبوا القرآن في قوله (ووجدك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) صحيح مسلم: 4 / 2187 ح 5084 كتاب الجنة، وأساس التقديس: 141 فصل 26.
( 2) تنزيه الشريعة: 1 / 138، والموضوعات: 1 / 79.
( 3) راجع الطرائف: 2 / 49 فقد فصل ذلك.
( 4) طه: 121 (6) الشرح: 2.
( 5) الشرح: 2.
( 6) رواه مسلم في كتاب الإيمان: ح 236.
( 7) راجع رسائل السيوطي، رسالة نجاة آباء الرسول.
( 8) إحياء علوم الدين: 2 / 278 كتاب آداب السماع.
عائلا فأغنى) (1)، ورووا عنه أنه صلى والمرأة تفرك الجنابة من ثوبه (2) والله أمره بتطهير ثوبه، فقال: (وثيابك فطهر) (3)، فقالوا: المراد بالثوب القلب.
ورووا عنه أنه قال: خذوا ثلث دينكم عن...
لا بل خذوا نصف دينكم (4)، ورووا عنه أنه صلى العصر ركعتين وسها فقالوا: إنه يا رسول الله قصرت الصلاة أم نسيت؟ فقال: كل ذلك لم يكن والضرورة تقضي أحد الوجهين، ثم قام فأعاد، وقال: وما أنا إلا بشر مثلكم (5).
فصل
وكيف جاز في الحكمة والعدل أن يبعث في الناس نبيا جاء جاهلا وأمينا خائنا فيكون إذا هو المغري بالقبيح والفاعل له.
ورووا أنه أتى حايط بني النجار ففحص وبال قائما (6)، ورووا أنه صلى خلف الرجل وصلى خلف الأعمى ابن مكتوم وقال: لا يخرج نبي من الدنيا حتى يصلي خلف رجل من أمته (7).
أقول: وكيف جاز للراعي أن يقتدي برعيته وقد أمروا أن يقتدوا به، والعقل السليم ينكر هذا ويكفر من قال به؟ ثم نسبوا إليه في الكلام اللغو والهجر؟ والله قد نزهه عنه، وقال: (وما ينطق عن الهوى) (8).
ثم ما كفاهم ذاك حتى خالفوا مقالة أهل الجنة ومقالة أهل النار وكذبوا على ربهم ونبيهم وكتابهم، أما تكذيبهم للكتاب فإن الله يقول: (ولا يظلم ربك أحدا) (9)، وهم يقولون كلما يصدر في العالم من خير أو شر فإن الله مريده وفاعله، والقرآن ينطق بتكذيبهم، فيقول: (ومن شاء
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) الضحى: 7.
( 3) المدثر: 4.
( 4) وسائل الشيعة 1 / 47.
( 5) فتح الباري: ح 482.
( 6) راجع الطرائف: 2 / 302 بتحقيقنا.
( 7) مسند أحمد: ح 79.
( 8) النجم: 3.
( 9) الكهف: 49.
فليؤمن ومن شاء فليكفر) (1).
والرسول يقول: إن هي إلا أعمالكم وأنتم تجزون فيها إن خيرا فخير وإن شرا فشر (2)، ويقول [ الله تعالى ]: وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون) (3).
وأما كذبهم في الآخرة فإن الله إذا قال لهم أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون (4).
هناك كذبوا وحلفوا وقالوا: (والله ربنا ما كنا مشركين) (5).
فكذبوا على أنفسهم وذبوا ربهم، وأما كذبهم على نبيهم فإنه قوله: نقلت من الأصلاب الطاهرة إلى الأرحام الزكية (6)، وصدقه القرآن فقال: (وتقلبك في الساجدين) (7)، أي في أصلاب الموحدين (8)، وهم يكذبون العقل والنقل، ويقولون: ولد من كافر، ويقولون: سها ونسي، والله يقول: (سنقرئك فلا تنسى) (9)، نفى عنه النسيان، ولو كانت للنهي لكانت لا تنس لكنها لا تنسى.
وأما مخالفتهم لمقالة أهل الجنة فإن أهل الجنة لما قدموا إليها قالوا: الحمد لله الذي هدانا لهذا (10)، فشكروا ربهم على الهدى، وأهل النار لما وردوها قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا) (11) فأقروا أن الشقاء غلب عليهم، فالقدرية في اعتقادهم يخالفون العقل والنقل والقرآن والرحمن.
وأما العلوية ففرقها ثلاثة: الزيدية، والغلاة، والإمامية الاثنا عشرية.
فالزيدية قالوا بإمامة علي والحسن والحسين وزيد بن علي.
وهم خمسة عشر فرقة: البترية، والجارودية، والصالحية، والحريزية، والصاحبية، واليعقوبية، والأبرقية، والعقبية، واليمانية،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) الكهف: 29.
( 2) بتفاوت الغدير 5 / 452.
( 3) الأعراف: 28.
( 4) الأنعام: 22.
( 5) الأنعام: 23.
( 6) الشفا: 1 / 83 شرف نسبه.
( 7) الشعراء: 219.
( 8) الطبقات الكبرى: 1 / 22، والشفا: 1 / 15، وتاريخ الخميس: 1 / 234.
( 9) الأعلى: 6.
( 10) الأعراف: 23.
( 11) المؤمنون: 116.
والمحمدية، والطالقانية، والعمرية، والركبية، والخشبية، والحلسفية، والكل منهم لا يثبتون للإمام العصمة.
ويقولون: إن الإمامة مقصورة على ولد فاطمة عليها السلام، ومن قام منهم داعيا إلى الكتاب والسنة وجبت نصرته، ومنهم من يرى المتعة والرجعة، والمحمدية منهم يقولون: إن محمد بن عبد الله لابن الحسن حي لم يمت، وأنه يخرج ويغلب، وهم الجارودية، والعمرية يقولون: إن يحيى بن عمر الذي قتل أبوه بسواد الكوفة حي لم يمت، وأنه يخرج ويغلب.
أما الصالحية فهم أصحاب الحسن بن صالح ويعرفون بالسرية، وهم يرون أن عليا أفضل الأمة بعد نبيها، لكنهم لا يسبون الشيخين، ويقولون إن عليا بايعهما بيعة صلاح، ويقولون إن عليا لو حاربهما أحل دماءهما لكنه (1) امتنع، وينكرون المتعة والرجعة.
والأبراقية هم أصحاب عباد بن أبرق الكوفي، وهم يخالفون الجارودية ولا ينكرون على الشيخين، ولا يرون المتعة والرجعة، والحريزية وهم أصحاب حريز الحنفي الكوفي، وهم كالصالحية لكنهم يزعمون أن عليا لو امتنع من بيعة الشيخين أحل دمهما، وهؤلاء يبرأون من عثمان، ويكفرون أصحاب علي، ويدينون مع كل داع دعا بالسيف من آل محمد صلى الله عليه وآله.
الثاني من الشيعة الكيسانية وهم أربع فرق: المختارية، والمكرية، والإسحاقية، والحزنية.
الثالث من الشيعة الغلاة وهم تسع فرق: الواصلة، والسبأية (2)، والمفوضة، والمجسمة، والمنصورية، والعراقية، والبراقية، واليعقوبية، والعمامية، والإسماعيلية، والداودية، واتفق الكل من وهؤلاء على إبطال الشرايع، وقالت فرقة منهم: إن الله يظهر في صورة خلقه، وينتقل من صورة إلى صورة، ولكل صورة يظهر فيها باب وحجاب، إذا عرفها الإنسان سقط عن التكليف، وهؤلاء خالفوا العقل والنقل، أما العقل فإنه يدعو العبد إلى طاعة الله من حيث إنه مالك منعم أحسن أم ابتلى.
وأما النقل فقد قال صلى الله عليه وآله: بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة.
وقالت فرقة منهم: إن النبي والأئمة يخلقون ويرزقون، وإليهم الموت والحياة، وإن الواجب كالصلاة، والمحرم كالخمر، أشخاص من رجال ونساء، وإذا عرفها الإنسان ظاهرا وباطنا حلت له المحرمات، وسقطت عنه الواجبات.
وافترقت هذه السبأية 23 فرقة: الحصيبية، والخدلجية، والنضرية، والإسحاقية، والقمية،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) يتفق الصالحية مع المعتزلة في القول في أن أمير المؤمنين بايع الخلفاء ورضي بإمامتهم، ولو حاربهم لحكموا بكفرهم.
( 2) في الأصل المطبوع: السبابية.
والقتبية، والجعدية، والناووسية، والفضلية، والسرية، والطيفية، والفارسية، واليعقوبية، والعمرية، والمباركية، والميمونية.
فالسبأية أصحاب علي بن سبأ (1).
وهو أول من غلا وقال: إن الله لا يظهر إلا في أمير المؤمنين وحده، وإن الرسل كانوا يدعون إلى علي، وإن الأئمة أبوابه، فمن عرف أن عليا خالقه ورازقه سقط عنه التكليف.
وهذا كفر محض.
والخصيبة أصحاب يزيد بن الخصيب، وعنده أن الله لا يظهر إلا في أمير المؤمنين والأئمة من بعده، وأن الرسل هو أرسلهم يحثون عباده على طاعته، وأن الرجل هو إبليس الأبالسة، وأن ظلمة زريق قديمة مع نور علي لأن الظلمة عكس النور.
والإسحاقية وهم أصحاب إسحاق بن أبان الأحمر، وله مع الرشيد قصص.
والقمية هم أصحاب إسماعيل القمي، وهم يقولون: إن الله يظهر في كل واحد كيف شاء، وإن عليا عليه السلام والأئمة نور واحد.
وأما القتبية فإنهم يقولون: إن الباقر عليه السلام حي لم يمت وإنه يظهر متى شاء.
وإن الفطحية وهم أصحاب عبد الله بن جعفر الأفطح، وهؤلاء نسبوا الإمامة إلى الصادق عليه السلام، وادعوا فيه اللاهوت.
والواقفة وقفوا عند موسى، وقالوا: هو حي لم يمت، ولم يقتل، وإنه يعود إليهم.
والفارسية قالوا: إن بين الله وبين الإمام واسطة، وعلى الإمام طاعة الواسطة وعلى الناس طاعة الإمام.
واليعقوبية هم الواقفة، ودينهم انتهى إلى التناسخ.
والمباركية وهؤلاء ينتهون إلى الصادق، ويقولون إن إسماعيل ابنه يحيى بعد الموت ويملأ الأرض عدلا.
والميمونية أصحاب عبد الله بن ميمون بن مسلم بن عقيل (2).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) المشهور أنه عبد الله بن سبأ.
( 2) إن عبد الله هو ابن ميمون الفلاح، وقد زعموا أنه ادعى النسب إلى مسلم بن عقيل حين نزل على بني عقيل بالبصرة. وزعم بعض دعاة الإسماعيلية أنه من أولاد سلمان الفارسي.
والفرقة المفوضة وشعبها عشرون فرقة، منهم الفواتية وهم أصحاب فوات بن الأحنف، وهؤلاء قالوا: إن الله فوض الخلق والأمر والموت والحياة والرزق إلى علي والأئمة من ولده (1)، وإن الذي يمر بهم من الموت فهو على الحقيقة، وإن الملائكة تأتيهم بالأخبار، ومنهم من يقول: إن الله يحل في هذه الصورة ويدعو بنفسه إلى نفسه.
والعمرية أصحاب عمر بن الفرات وهو شيخ أهل التناسخ، والدانقية أصحاب الحسن بن دانق وهؤلاء عندهم: إن الإمام متصل بالله كاتصال نور الشمس بالشمس، فليس هو الله ولا غيره فلا هو مباين ولا ممازج (2).
والخصيبية يعتقدون أن الإمام يؤيد بروح القدس ويوقر في إذنه، والخمارية أصحاب محمد بن عمر الخماري البغدادي، وهم كالإمامية في الترتيب، إلا أن عندهم أن الإمام في الخلق كالعين المبصرة، واللسان الناطق، والشمس المشرقة، وهو مطل على كل شئ.
أقول: عجبا لمقسم هذه الفرق، كيف جعل هؤلاء من الغلاة، وقد ذكر أولا أنهم من الإمامية، ثم قال: إلا إن عندهم أن الإمام كالعين المبصرة واللسان الناطق، فدل على أن هذا الرجل ليس بعارف بمرتبة الولي المطلق، وهو عين الله الناظرة في عباده، ولسانه الناطق في خلقه، واللايوبية أصحاب الجالوت القمي، وعندهم أن الإمام هو الإنسان الكامل فإذا بلغ الغاية سكن الله فيه وتكلم منه.
ومن الفرق الغالية الكنانية، وهم ثلاثة عشر فرقة: المختارية، والكيسانية، والكرامية، والمطلبية والكل أجمعوا على أن محمد بن الحنفية هو الإمام بعد أبيه، وأن كيسان (3) هو المختار بن أبي عبيدة الثقفي، وأن هذا الاسم سماه به أمير المؤمنين، وهؤلاء هم أصل التناسخ.
والمسلمية أصحاب أبي مسلم الخراساني.
والكنانية أصحاب عامر بن وائل الكناني، وعندهم أن الإمام محمد ابن الحنفية، وأنه حي بجبال رضوى، وأنه يخرج في عصبة من الملائكة فيملأها عدلا، والعرفية أصحاب عرف ابن الأحمر،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) بنحو الاستقلال.
( 2) يتضح مراد هذه الفرقة: بالصورة تنعكس للشخص في المرآة فليست هي الشخص المقابل للمرآة، وليست هي غيره، وليست هي شيئا مباينا ولا ممازجا.
( 3) كيسان هو مولى محمد بن الحنفية، وليس هو المختار الثقفي.
والسماعية أصحاب سماعة الأسدي، وكان يظهر الأعاجيب من المخاريق والنيرنخات والسيميا وغير الفرائض، والغمامية ويقولون: إن عليا ينزل في الغمام في كل صيف، ويقولون إن الرعد صوت علي عليه السلام.
والأزورية قالوا إن عليا صانع العالم.
الفرقة الرابعة من هذه الفرق المحمدية، وهم أربع فرق: المحصية، وعندهم أن الله لم يظهر إلا في شيت بن آدم، وأن محمد هو الخالق الباري، وأن الرسل هو أرسلهم، وأن الأئمة من ولده أبوابه ليدلوا عباده على ما شرع لهم.
والبهنمية قالوا: إن الله لم يزل يظهر ويدعو الناس إليه وإلى عبادته، وكل من أظهر قدرة يعجز عنها الخلق فهو الله، لأن القدرة لا تكون إلا حيث القادر، وأن القدرة صفة الذات، والبهمنية قالوا: إن الله لم يظهر إلا في أمير المؤمنين عليه السلام والأئمة من بعده، وإنه أرسل الرسل عبيدا لهم، واحتجوا بقول أمير المؤمنين في خطبته: الحمد لله الذي هو في الأولين باطن، وفي الآخرين ظاهر، وأثبت للرسل المعجزات وللأولياء الكرامات.
وأما النجارية فهم أصحاب الحسن النجار، وهذا ظهر باليمن سنة 292 وادعى أنه الباب، فلما أجابه الناس ادعى الربوبية، وصار إليه رجل يقال له الحسن بن الفضل الخياط وصار يدعو إلى النجار ويزعم أنه بابه، وأمر الناس بالحج إلى دار النجار، ففعلوا وطافوا بها أسبوعا، وحلقوا رؤوسهم، وكان النجار والخياط يجمعون بين الرجال والنساء، ويحملون (1) بعضهم على بعض، فإذا ولدت المرأة من أبيها وأخيها سموه الصفوة.
والحلاجية أصحاب الحسين بن منصور الحلاج، ظهر ببغداد سنة 318 وكان أعجميا، وادعى أنه الباب، وظفر به الوزير علي بن عيسى، فضربه ألف عصا، وفصل أعضاءه ولم يتأوه، وكان كلما قطع منه عضو قال:
وحرمة الود الذي لم يكن * يطمع في إفساده الدهر
ما قد لي عضو ولا مفصل * إلا وفيه لكم ذكر
وأما الجبابرة والحميرية فإنهم تلاميذ الصادق عليه السلام، وعنه أخذوا علم الكيمياء.
وأما الخوارج وهم المارقون من الدين، وهم تسع فرق: الأزارقة وهم أصحاب نافع الأزرق، وهو الذي حرم التقية.
والأباضيون وهم أصحاب عبد الله بن أباض، وهم بحضرموت والمغرب والبواريخ وتل أعفر، وهم يحبون الشيخين ويسبون عليا وعثمان، وسموا خوارج لأنهم كانوا في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) في الأصل يحكمون.
عسكر علي يوم صفين، ثم مرقوا وخرجوا عن طاعة الإمام العادل فكفروا ولن تنفعهم عبادتهم، والناكثون: طلحة والزبير، والقاسطون: معاوية وعمرو بن العاص، وهم أصحاب البغي.
وأما الإمامية الاثنا عشرية (1)، فإنهم أثبتوا لله الوحدانية، ونفوا عنه الاثنينية، ونهوا عنه المثل والمثيل، والشبه والتشبيه، وقالوا للأشعرية: (إن ربنا الذي نعبده ونؤمن به ليس هو ربكم الذي تشيرون إليه، لأن الرب مبرأ عن المثلات، منزه عن الشبهات، متعال عن المقولات، مبرأ عن الخطأ والظلم، حكم عدل لا يتوهم ولا يتهم، ولا يجوز عليه فعل القبيح، ولا يضيع عمل عامل، ويجب عليه وفاء العهد، ولا يجب عليه الوفاء بالوعيد، وإن الحسن والقبح عقليان لا شرعيان، وإنه تعالى مريد للطاعات، كاره للمعاصي والسيئات، وإن صفاته عين ذاته المقدسة، ذات واحدة أحدية أبدية سرمدية قيومية رحمانية لها الجلال والإكرام، فإنه لا جبر ولا تفويض، بل مرتبة بين مرتبتين، وحالة بين حالتين)، وأثبتوا أن الأنبياء معصومون صادقون، وأن الله بعثهم بالهدى ودين الحق رسلا مبشرين ومنذرين صادقين، لا يجوز عليهم الخطأ عمدا ولا سهوا.
ثم قالوا للأشعرية: إن نبيكم الذي تقعون فيه وتشيرون إليه بالخطأ والنقائص ليس نبينا الذي أمرنا باتباعه، لأن نبينا طيب المرسلين وحبيب رب العالمين، الكائن نبيا، وآدم بين الماء والطين سيد معصوم، طاهر المولد، زائد الشرف، عالي الفخار، سيد أهل السماوات والأرض، طيب طاهر، علي زاهر معصوم، منزه عن الذنوب والغفلة.
ثم أثبتوا أصلا رابعا وهو الإمامة، وبرهنوا أنها لطف واجب على الله نصبه وتعيينه (2)، وعلى الرسول تبيينه، لحفظ الثغور وتدبير الأمور، وسياسة العباد والبلاد، وأن معرفة الإمام الحق واجبة على كل مكلف كوجوب معرفة النبي، وأن من مات ولم يعرف إمام زمانه مات كافرا، وأثبتوا أن الإمامة كمال الدين، وعين اليقين، ورجح الموازين، وأنها حرز من الربوبية فلا تنسخ أبدا، فهي من الأزل ولم تزل، وأنها سفينة النجاة، وعين الحياة، وهؤلاء تمسكوا بسلسلة العصمة وسلكوا إلى الصراط المستقيم والنهج القويم.
وذلك بأن الفرق الثلاث والسبعين أصولها ثلاثة: أشعرية وهم قالوا بالتوحيد والنبوة والمعاد،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) راجع: أمالي الشيخ الصدوق 510 المجلس 93.
( 2) راجع أمالي الشيخ الصدوق 537 المجلس 97.
وأنكروا العدل. والإمامية، والمعتزلة. والإمامية قائلون بذلك، لكن المعتزلة أثبتوا العدل وأنكروا الإمامة، والإمامية قالوا بمقالة الفريقين وزادوا أصلا رابعا، وهو ختم الأعمال، وهو إمامه فكانت الفرقة المتممة، فلها النجاة من ثلاثة وسبعين فرقة، لأنهم أقروا بالبعث والنشور وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأن أعمال المنافقين حابطة لأنها لم تقع على وجه الحق، فما كان منها من العبادات فهو على غير ما أمر الله، وكله زيف وشبه الشبيه، وشبيه الموقوف عليه صحة العبادات، وقبولها الطهارة، وهي فاسدة، ففسد ما هو مبني على فساد.
وثانيها النيات، وهي غير صحيحة، وكذا صدقاتهم لأنها وقعت على غير الحق، لأن ما في أيدي المنافقين مغصوب، ولا قبول للفاسد والمغصوب.
ثم إن المؤمن العارف يعتقد أن تبدل السيئات للمؤمن العارف حسنات، وأثبتوا أن الرب المعبود واجب الوجود، منزه عن الرؤية بعين البصر، أما بعين البصيرة فلا، وقالوا للأشاعرة: إن ربكم الذي تدعون رؤيته يوم القيامة ليس هو ربنا الذي نعبده، لأن ربنا الذي نعبده ليس كمثله شئ، ومن لا مثل له لا يرى، فالرب المعبود لا يرى، وأن الرب المخصوص بالرؤية يوم القيامة هو الذي أنكرتم ولايته في الدنيا، فكفرتم فيه لعداوته وإنكار ولايته، لأنه هو الولي والحاكم الذي له الحكم وإليه ترجعون، وإليه الإشارة بقوله عليه السلام: أنا العابد أنا المعبود، وأثبتوا أن عليا مولى الأنام، وأنه أفضل الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله حظا ونصيبا، وأنه الأعلم والأزهد والأشجع (1) والأقرب (2)، وأنه معصوم واجب الطاعة خصاً من العلي العظيم، ونصاً من الرؤوف الرحيم.
وأنه صلى الله عليه نص على الحسن، ونص الحسن على الحسين، والحسين نص على علي بن الحسين من بعده، حتى انتهى إلى الخلف المشار إليه (3)، وأن كل إمام منهم أفضل أهل زمانه (4)، وأنه لا يحتاج في العلم إلى أحد، وأن أمرهم واحد ونورهم واحد، ولا يتقدم عليهم إلا من كفر بالله ورسوله، وأن معرفتهم واجبة وطاعتهم لازمة، وأن التبرؤ من أعدائهم واجب كوجوب معرفتهم، وأن فضلهم أشهر من الشمس أحياء وأمواتا، وأن قبورهم ومشاهدهم ملجأ القاصدين وملاذ الداعين، وأنهم الوسيلة والذخيرة يوم الحسرة، وأن التابعين لهم هم أهل النجاة، ولهم في معرفتهم الحسنات.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) أجمعت الفرق الإسلامية على صحة ما ذكره المصنف وإليك نموذجه:
* علي أفضل الصحابة
قال رسول الله (ص): (الصديقون ثلاثة: حبيب بن موسى النجار وهو مؤمن آل يس، وحزقيل مؤمن آل فرعون، وعلي بن أبي طالب وهو أفضلهم) (فضائل الصحابة لأحمد: 2/ 627 ـ 656 ح1072 و 1117، والجامع الصغير: 2/ 81، وتاريخ الخميس: 2/ 275، وأمالي الشجري: 1/ 139، والفيض القدير: 4/ 238 والفردوس: 3/ 421 ح3866 ومناقب ابن المغازلي: 161 ط. بيروت و 246 ح293 ط. طهران).
وقال (ص): (.. ولكن يا أبا عقال فضل علي على سائر الناس كفضل جبرئيل على سائر الملائكة) (كفاية الطالب: 316 الباب السابع والثمانون).
وقال (ص) في ذكر الصحابة: (.. وأفضلهم علي) (الكامل لابن عدي: 6/ 77 ترجمة كوثر بن حكيم 1610).
وقال (ص): (خيرها وأتقاها وأفضلها وأقربها إلى الجنة أقربها مني ولا أقرب ولا أتقى إلي من علي ابن أبي طالب) (ينابيع المودة: 1/294 عن كتاب الهمداني (مودة القرب ـ المودة الثالثة).
وقال (ص): (أفضل رجال العالمين في زماني هذا علي وأفضل نساء الأولين والآخرين فاطمة) (ينابيع المودة: 1/ 302 عن مودة القربى المودة السابعة).
وقال (ص): (إنّ الله عز وجل يقول: يا عبادي.. ألا فاعلموا انّ أكرم الخلق عليّ وأحبهم إليّ محمد، وأفضلهم لديّ محمد وأخوه علي من بعده، والأئمة الذين هم الوسائل) (إرشاد القلوب: 2/ 424).
وقال (ص): (يا علي لو أنّ أحداً عبد الله حقّ عبادته ثم يشك فيك وأهل بيتك أنكم أفضل الناس كان في النار) (ينابيع المودة: 1/ 302 عن مودة القربى ـ المودة السابعة).
* علي أعلم الصحابة
قال رسول الله (ص): (أعلم أمتي من بعدي علي بن أبي طالب) (جامع الأحاديث للسيوطي: 1/ 491 ح3414، وكنز العمال: 11/ 614 ح32977 ط.بيروت و6/ 156 ط. دكن 1312، وكنوز الحقائق: 390 ط. مصر و 18 ط. إسلامبول 1285).
وقال ابن عباس: قال رسول الله (ص): (علي بن أبي طالب أعلم أمتي وأقضاهم فيما اختلفوا فيه من بعدي) (قصص الأنبياء: 419، وكمال الدين: 1/ 263).
وقال الحسن بن علي (ع) قال رسول الله (ص): (علي أعلم الناس بالله والناس) (كنز العمال: 11/ 614 ح32980).
وقال المقداد: (إني لأعجب من قريش أنهم تركوا رجلاً ما أقول انّ أحداً أعلم ولا أقضى منه بالعدل) (تاريخ الطبري: 3: 297 حوادث سنة 23 قصة الشورى وتاريخ اليعقوبي: 2/ 163 أيام عثمان، وشرح النهج: 1/ 194 خ3، والكامل في التاريخ: 3/ 223 حوادث سنة 23 قصة الشورى، والعقد الفريد: 4/ 264).
وقال يزيد الثقفي: لا جرم كان علي أقضاهم وأعلمهم وأفضلهم (تاريخ دمشق: 63/80 ترجمة يزيد الثقفي كاتب الحجاج).
* علي أزهد الصحابة
قال رسول الله (ص) لفاطمة (ع): (أما تعلمين يا بنية أن من كرامة الله إياك أن زوّجك خير أمتي.. وأزهدهم في الدنيا) (كتاب سليم: 70 و 93).
وعن سعد بن أبي وقاص في الرد على من شتم أميرالمؤمنين (ع): (ألم يكن أزهد الناس؟) (مستدرك الصحيحين: 3/ 499 ذكر مناقب أبي إسحاق سعد بن أبي وقاص).
وقال قبيصة: (ما رأيت في الدنيا أزهد من علي بن أبي طالب) (نهج الحق: 245، وكشف اليقين: 107 ح101، ومناقب الخوارزمي: 122 ح136 فصل 10)
* علي أشجع الصحابة
قال رسول الله (ص) لفاطمة (ع).. (فزوّجك إياه واتخذه وصياً، فهو أشجع الناس قلباً) (ينابيع المودة: 2/ 395 الباب60 ومناقب الكوفي: 2/ 595 ح1100).
وأخرج الحارث عن شداد بن الأوس عن رسول الله (ص): (علي ألب أمتي وأشجعها) (المطالب العالية: 4 / 85 ح 4030، وكنز العمال: 11 / 753 ح 33670).
وعن الشعبي: (كان علي أشجع الناس تقر العرب بذلك) (الإستيعاب: 3 / 363).
( 2) الصواعق المحرقة: 270، وجواهر العقدين: 380.
( 3) قد فصلنا ذلك في كتابنا النصوص على آل محمد.
( 4) قد ذكرنا كون كل إمام أفضل أهل زمانه في كتابنا النصوص على آل محمد.
ولقد رأيت في دهري عجبا رجلا من أهل الفتوى، عالما من أهل الدعوى، قد سئل عن أمير المؤمنين: أيعلم الغيب؟ فعظم عليه السؤال، وكبر لديه هذا المقال، وقال: لا يعلم الغيب إلا الله.
ثم رأيته بعد ذاك باعتقاد جازم، وعقل عادم، ولحية نفيشة، وعقل أخف من ريشة، قد جلس إلي جنب أفاك أثيم، وقال له: كيف ترى حالي في هذه السنة، وكيف طالعي، وهل على نقص أم زيادة، وكيف تجد رملي على ماذا يدل؟ فلما قال له حشوا من الكذب صدقه واعتقده، فقام يصدق الكهان، ويطعن في ولي الرحمن.
وجاء مكذب الإمام المعصوم الذي برأه الله من الذنوب، وأطلعه على الغيوب، ويصدق الأفاك الأثيم في تعجيله وتأخيره.
فانظر إلى غيب الأذهان كيف يشرون الكذب بالإيمان، وتصديق قول الكهان، ويرتابون في قول سفير القرآن، ويدعون بعد ذلك الإيمان، وأنى لهم الإيمان، وهم مرتابون في قول العلي العظيم، ويصدقون قول الأفاك الأثيم.
فصل
ومن أين للمنجم معرفة علم حجب الوصي ! وهل يخدع بالفال إلا عقول الأطفال؟ هذا ومولاهم عن ذلك قد نهاهم، وهم مع النهي البليغ للكاهن المنجم يعتقدون، ولكذبه يصدقون، وبإفكه يفرحون، ولما حذرهم يحذرون، ولإمامهم يكذبون، وفي أقواله يرتابون، ولفضله ينكرون، ولمن رواه يعادون ويتهمون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولما رويت حكاية سلمان، وأنه لما خرج عليه الأسد قال (1): يا فارس الحجاز أدركني، فظهر إليه فارس وخلصه منه، وقال للأسد: أنت دابته من الآن.
فعاد يحمل له الحطب إلى باب المدينة امتثالا لأمر علي عليه السلام، فلما سمعوا قالوا هذا تناسخ.
وقالوا وأين كان علي هناك؟ وكيف كان قبل أن يكون؟ وأقبلوا ينكرون ما هم له مصدقون ولا يشعرون.
فقلت لهم: أليس قد روى ابن طاووس في كتاب المقتل مثل هذا بعينه، وقال: إن الحسين لما سقط عن فرسه يوم الطف قالت الملائكة: ربنا يفعل هذا بالحسين وأنت بالمرصاد؟ فقال الله لهم: انظروا إلى يمين العرش.
فنظروا فإذا القائم قائما يصلي، فقال لهم: إني أنتقم لهذا بهذا من هؤلاء.
فقالوا بلى (2).
فقلت: وأين كان القائم هناك؟ وكيف كان قبل أن يكون؟ وأين يكونون أولئك عنده إذا ظهر؟ وكيف رويتم هذا الحديث بعينه فصدقتموه في المستقبل وكذبتموه في الماضي، وما الفرق بين الحالين ؟
فيا أيها التايه في تيه حيرته وارتيابه، وهو يزعم أنه مؤمن آمن من عذابه، كيف أنت وما أمنت ولا أمان إلا بالإيمان، والله يقول وقوله الحق: (يا أيها الذين آمنوا آمنوا) (3).
فكيف يأمرهم بالإيمان وقد آمنوا؟ ومعناه يا أيها الذين آمنوا بالله وبرسوله آمنوا بسر آل محمد وعلانيتهم، فإن ذلك حقيقة الإيمان وكماله، لأن عليا هو النور القديم المبتدع قبل الأكوان والأزمان، المسبح لله ولا فم هناك ولا لسان، أليس كان في عالم النور قبل الأزمان والدهور، أليس كان في عالم الأرواح قبل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) مدينة المعاجز: 2 / 11.
( 2) الكافي: 1 / 465، ومعجم الإمام المهدي: 3 / 382.
( 3) النساء: 136.
خلق الأجسام والأشباح؟ أما سمعت قصة الجني، إذ كان عند النبي صلى الله عليه وآله جالسا، فأقبل أمير المؤمنين عليه السلام فجعل الجني يتصاغر لديه تعظيما له وخوفا منه، فقال: يا رسول الله إني كنت أطير مع المردة إلى السماء قبل خلق آدم بخمسمائة عام، فرأيت هذا في السماء فأخرجني وألقاني إلى الأرض، فهويت إلى السابعة منها، فرأيته هناك كما رأيته في السماء (1).
أيها السامع لهذه الآثار، لا تبادر إلى التكذيب والإنكار، فإن الشمس إذا أشرقت يراها أهل السماء كما يراها أهل الأرض، وينفذ ضوؤها ونورها في سائر الأقطار، وهي في مكانها من الفلك الدوار، وليست الشمس أعظم ممن خلقت من نوره سائر الأنوار، دليله قوله: أول ما خلق الله نوري، ثم عصره فخلق منه أرواح الأنبياء، ثم عصره عصرة أخرى فخلق منه الشمس والقمر وسائر النجوم (2).
فليت شعري ماذا أنكر من أنكر؟ أأنكر وجوده قبل الأشياء، أم أنكر قدرته على الظهور فيما يشاء، ومن أنكر الأول فهو أعور، ومن أنكر الثاني فإما أن يعمى أو يبصر !
أما تنظر إلى الماء إذا أفرغ في الأواني الزجاجية ذات الألوان كيف يتلون بألوانها للطفه وبساطته، والمادة الشفافة إذا أدنيتها إلى خط مرقوم فإنك تقرأه منها، والقمر إذا طل على البحر فإنك تراه في أفق السماء وفي قعر الماء، ومحمد وعلي هما البحر اللجي، والماء الذي منه كل شئ حي، والكلمة التي بها ظهر النور، ودهرت الدهور، وتمت الأمور، إلى يوم النشور.
ويكفي في هذا الباب قولهم: أمرنا صعب مستصعب لا يحمله نبي مرسل ولا ملك مقرب (3).
وإذا كان أمرهم وسرهم لا يحمله الملائكة المقربون، ولا الأنبياء والمرسلون، وسكان الحضرة الإلهية لا يعرفون، فكيف رددتم ما لم تحيطوا به خبرا وكذبتموه؟ ألم تعلموا أنهم الشجرة الإلهية التي كل الموجودات أوراقها وألفاقها؟ والسر الخفي المجهول الذي لا تدركه الأفهام والعقول، ولله در أبي نؤاس إذ يقول:
لا تحسبني هويت الطهر حيدرة * لعلمه وعلاه في ذوي النسب
ولا شجاعته في كل معركة * ولا التلذذ في الجنات من أربي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) حلية الأبرار: 2 / 16، ومدينة المعاجز: 2 / 445.
( 2) راجع البحار: 15 / 24 و: 25 / 22.
( 3) تقدم الحديث مع تخريجه.
ولا التبرأ من نار الجحيم ولا * رجوته من عذاب الحشر يشفع بي
لكن عرفت هو السر الخفي فإن * أذعته حللوا قتلي...
ومن ذاك ما رواه المقداد بن الأسود قال: قال لي مولاي يوما آتني سيفي، فجئته به، فوضعه على ركبتيه، ثم ارتفع في السماء وأنا أنظر إليه حتى غاب عن عيني، فلما قرب الظهر نزل وسيفه يقطر دما، قلت: يا مولاي أين كنت؟ فقال: إن نفوسا في الملأ الأعلى اختصمت فصعدت فطهرتها.
فقلت: يا مولاي وأمر الملأ الأعلى إليك؟ فقال: أنا حجة الله على خلقه من أهل سماواته وأرضه، وما في السماء من ملك يخطو قدما عن قدم إلا بإذني.
أنكر هذا الحديث قوم وعارض فيه آخرون، فقالوا: كيف صعد إلى السماء وهو جسم كثيف؟ فقلت في جواب من أنكر: إن عليا ليس كآحاد الناس [ وليسوا ] كعلي، وذاك غير جائز، وأين النور من الظلام، والأرواح من الأجسام، ومن لا ينكر صعود النبي صلى الله عليه وآله لا ينكر صعود الولي، ولا فرق بينهما في عالم الأجسام، ولا في الرفعة والمقام.
أما سمعت ما رواه ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله لما جاءه جبرائيل ليلة الأسراء بالبراق عن أمر الله بالركوب، فقال له النبي صلى الله عليه وآله: ما هذه؟ فقال: دابة خلقت لأجلك ولها في جنة عدن ألف سنة، فقال له النبي صلى الله عليه وآله: وما سير هذه الدابة؟ فقال: إن شئت أن تجوب بها السماوات السبع والأرضين السبع فتقطع سبعين ألف عام ألف مرة كلمح البصر قدرت، وإذا كانت دابة النبي صلى الله عليه وآله لها هذه القدرة، فكيف من لأجله وبأجله خلقت كل دابة.
يؤيد هذا ما رواه محمد بن الحسن الصفار في كتاب بصائر الدرجات، قال: إن رجلا من علماء اليمن حضر مجلس أبي عبد الله، فقال له: يا يمني، أفي يمنكم علماء؟ قال: نعم، قال: فما بلغ عالمكم؟ قال: يسير في ليلة واحدة سير شهرين تزجر الطير، فقال له أبو عبد الله: إن عالم المدينة أفضل، فقال اليمني: وما يفعل؟ قال: يسير في ساعة من النهار مسيرة ألف سنة حتى يقطع ألف عالم مثل عالمكم هذا (1).
يؤيد هذا ما رواه صاحب التحف: أن عليا عليه السلام مر إلى حصن ذات السلاسل، فدعا سيفه ودرقته،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) دلائل الإمامة: 135 معاجز الصادق ع.
وترك الترس تحت قدميه والسيف على ركبتيه، ثم ارتفع في الهواء، ثم نزل على الحائط وضرب السلاسل ضربة واحدة فقطعها، وسقطت الغرائر، وفتح الباب (1)، وهذا مثل صعود الملائكة ونزولهم.
ثم نقول للمنكر: ألم تعلم أن العالم بالله، المعرض عمن سواه، إن شاء ارتفع في الهواء، وإن شاء مشى على الماء، واخترق الأجواء.
فإن عظم هذا لديك فانظر: أليس قد ارتفع إدريس وعيسى (2)؟ أليس قد شق البحر لموسى (3)؟ أليس قد ركب سليمان على الهواء (4) وركب الخضر على الماء؟
أليس كل الموجودات مطيعة للمولى الولي بإذن الرب العلي؟ أليس الكل دابة وهو الحاكم المتصرف، وإلا لم يكن مولى للكل، وهو مولى الكل، فالكل طوعه ومسخرات بأمره.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) البحار: 42 / 33 ح 11 ضمن حديث طويل.
(2) بقوله: إني رافعك إلي.
(3) بقوله تعالى: فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم الشعراء: 63.
(4) بقوله: (ولسليمان الريح.. وسخرنا الريح).
فصل (علم الكتاب عند آل محمد عليهم السلام)
أما بلغك وصف شق الأرض لاصف، لما دعا بحرف واحد من 82 حرفا، وهي بأجمعها عند أمير المؤمنين عليه السلام، وبذلك نطق الذكر الحكيم.
وإليه الإشارة بقوله: قال الذي عنده علم من الكتاب (1)، وقال عن أمير المؤمنين: ومن عنده علم الكتاب (2)، لا بل هو هي وهي هو لأنه الكلمة الكبرى، وإليها الإشارة بقوله: لقد رأى من آيات ربه الكبرى (3)، وليس هذا من باب التبعيض ولكنه مقلوب الخط، ومعناه لقد رأى الكبرى من آيات ربه، وقال لربه من آياتنا الكبرى، وقال: أنا مكلم موسى من الشجرة، أنا ذلك النور (4).
وأما ليلة المعراج، لما صعد النبي إلى السماء رأى عليا هناك، قال أو رأى مثاله في السماء، أو قال كشطت السماء فرآه ينظر إليه ، وكيف يغيب عنه وهو نفسه وشقيق نوره؟ وهو النور الأعظم في السماوات والأرض.
ثم إن الله جل اسمه خاطبه في مقام القرب بلسان علي، فعلي هو الآية الكبرى التي رآها موسى ومحمد عند خطاب رب الأرباب، وإليه الإشارة بقوله عليه السلام: ليس لله آية أكبر مني، ولا نبأ أعظم مني (5).
وما الفرق بين صعوده إلى السماء، وبين نزوله تحت الأرض وشق الأرض ولمن كان يدين الله بدين وبآيات أولياء الله من المصدقين، ولعلك تقول: كيف يكون في الملأ الأعلى خصومه؟ والقرآن يذكرك هذا من قوله: (ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون) (6).
أما سمعت قصة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) النمل: 40.
( 2) الرعد: 43.
( 3) النجم: 18.
( 4) تقدم الحديث.
( 5) بحار الأنوار: 36 / 1 ح 2.
( 6) ص: 69.
هاروت وماروت وفطرس الملك؟ أما علمت أن الجن الطيار مسكنهم الهواء؟ وبطن الأرض مسكن المتمردين؟ فاختصمت طائفة من الجن فصعد إليهم الولي الأمين فطهرهم.
أقبل لا يعلم ولا يفهم ولاحظ له من السر إليهم، فهو كما قيل لداود: الخل لا يدري بطيب حلاوة العسل.
ويقول نزل من السماء وسيفه يقطر دما.
ولمن قيل في السماء، وكيف يقع القتل على الجن، وهم أجسام شفافة، ومن أين للشفاف دم.
فقلت: يا قليل العبرة، وكثير العبرة، وقطير القطرة، ألم تمطر السماء دما ورماد القتل الحسين عليه السلام (1)؟
ومن أين للسماء رماد ودم؟ بل هي آيات بينات.
ألم يعلم أن عليا قتل الجن وأخذ عليهم العهد؟ فإذا لم يكن لهم دم ولا نفوس فكيف وقع عليهم القتل، وليس هذا مكان التأويل.
وصدق هذا المدعى قوله سبحانه: (لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) (2)، وكيف يحرق النار من ليس بجسم؟ وكيف يتألم بالعذاب من ليس له عروق ولا دم؟ وإذا كان الجن مخلوقين من النار ولا تؤثر النار فيهم فمن ترى يدخل النار عوضا عن إبليس وقد أضل الأولين والآخرين؟ أف لعقلك المستقيم ورأيك العديم، أما علمت أن عليا منبع الأنوار، وآية الجبار، وصاحب الأسرار، الذي شرح لابن عباس في ليلة حتى طفى مصباحها صباحها، في شرح الباء من بسم الله، ولم يتحول إلى السين، وقال: لو شئت لأوقرت أربعين بعيرا من شرح بسم الله الرحمن الرحيم (3).
فإن كبر عليك إعراضهم، وزادت عند سماع أسرار أمراضهم، فأنشدهم ولا تنشدهم، أماذا عليهم لو أجابوا الداعي، لكنهم خلقوا بغير سماع.
ثم يتمم هذه الأسرار ما رواه صاحب المقامات، مرفوعا إلى ابن عباس قال: رأيت عليا يوما في سكك المدينة يسلك طريقا لم يكن له منفذ، فجئت فأعلمت رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال: إن عليا علم الهدى والهدى طريقه، قال: فمضى على ذاك ثلاثة أيام، فلما كان في اليوم الرابع أمرنا أن نمضي في طلبه، قال ابن عباس: فذهبت إلى الدرب الذي رأيته فيه وإذا بياض درعه في ضوء الشمس، قال: فأتيت فأعلمت رسول الله صلى الله عليه وآله بقدومه، فقام إليه فلاقاه واعتنقه وحمل عنه الدرع بيده وجعل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) عيون أخبار الرضا: 2 / 268، والأمالي للصدوق: 189.
( 2) هود: 119.
( 3) تقدم الحديث.
يتفقد جسده، فقال له عمر: كأنك يا رسول الله توهم أنه كان في الحرب، فقال له النبي صلى الله عليه وآله: يا ابن الخطاب: والله لقد ولي علي أربعين ألف ملك، وقتل أربعين ألف عفريت، وأسلمت على يده أربعون قبيلة من الجن، وإن الشجاعة عشرة أجزاء، تسعة منها في علي، وواحدة في سائر الناس، والفضل والشرف عشرة أجزاء تسعة منها في علي وواحدة في سائر الناس، وإن عليا مني بمنزلة الذراع من اليد، وهو ذراعي من قميصي، ويدي التي أصول بها، وسيفي الذي أجالد به الأعداء، وإن المحب له مؤمن، والمخالف له كافر، والمقتفي لأثره لاحق (1).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) بحار الأنوار: 27 / 226 ح 22.
خاتمة
في ختم هذه الرسالة وبيان هذه المقالة، اعلم أن الذي دعاني إلى كشف هذه الأسرار، وحملني على قطف هذه الأزهار وإبراز هذه الأبكار من خدور الأفكار، وكان حقها أن تصان ولا تذاع فتهان، لأن الحرام كالحرام إظهار الخواص للعوام، أني لما رويت من أسرار أئمة الأبرار دورا، وجلوت منها غرارا، تؤمن معرفتها من العذاب، وتدخل الجنة بغير حساب، لأنها خط مما خط على خطط الجباه، ورقم رقم حبها على ألسنة العقول والأفواه، ولا ينشق رباها كل حليم أواه، وأخذ لها العهد على النسمات في الأزل وختم فرضها على البريات ولم يزل، فلما ند ندها وفاح شذاها ند بالأفكار ندها ومل شداها، حتى صار المنافق يهجرها ولا ينشق رباها، والموافق ينكرها ولا يخاف الله عقباها، وهي لهداها إلى الحق أحق أن يتبع وعيبا هي ولتناهى (1) بلسان الصدق أصدق ما يسمع، فأصبحت مع عظيم الحاجة إليها لا تحن القلوب عليها ولا تحن الطبائع إليها، فأعجب لها كيف لا يركب نهجها وفاز في سفينة النجاة، ولا تتطلب وهي عين الحياة مع تقاطر الأيدي والمتاجر دفع طيبها وطيب عرقها، تلحظها العيون بأهداب الحد الحفظ، تلفظها الفنون بأفواه الرفض، وهي أنفس نفيس بحيث إنها تتنافس فيه النفوس، فصارت تبعدها عن الأذهان بكذب فيها وبهتان، فكانت كما قيل:
ومن العجائب أنه لا يشتري * وقع الكساد يخان فيه ويسرق
وأقبل الحساد واللوام، كل يغض على عين البغضاء، ويغض عن طرق اللأواء والأحناء، وليس علي في مجمع الفرقان عيوب، ولا في صحيفة اللواء ذنوب، غير حبي لعلي، ونشري لصحائف أسراره، فإذا كان هذا هو الذنب، وعليه وفيه العتب، فحبذا ذنب هو أعظم الحسنات وسبيل النجاة، وعتب هو أحلى من نسمات الحياة عند ذكر الملمات، وذكر ذنب منه لا أتوب، وعيب منه لا أؤوب، بل أقول كما قال قيس عامر:
أتوب إليك يا رحمان مما * جنيت فقد تكاثرت الذنوب
وأما عن هوى ليلى وتركي * زيارتها فإني لا أتوب
وحسبك نعمة لا يقدرونها، لا تجد لمن سبقت له من الله الحسنى، لمعرفة المقصد الأسنى، فعلي في تحقيق الحقائق، وعلي في تدقيق الدقائق، بمعرفة إمام الخلائق، واقتدى بالإله الخالق، والنبي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) كذا بالأصل.
الصادق، والكتاب الناطق، لأن الرب العلي، والنبي الأمي، أشد حبا لعلي كأعظم معرفة بالولي، فقل لمن أغراه هواه وأهواه: (هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة) (1)، وقل لمن أذعن في حربي: (إني على بينة من ربي) (2)، ولقد شاع عن حبي ليلى، وإنني كلفت بها عقا، وهمت بها وجدا، فعرض لي من كل شئ حسانه، وعرضن لي حبا، وأبدين لي ودا، وقلن عسى أن ينقل القلب ناقل غرامك عن ليلى إلينا فما أبدى:
أبى الله أن أنقاد إلا لحبها * وأعشقها إذا ألفيت مع غيرها أبدا
فوالله ما حبي لها جاز حده * ولكنها في حسنها جازت الحدا
فقل للآثم والنائم من سره المبنى المنبتة لمن أنت أنت به (3)، أولئك الذين هداهم الله فبهداهم اقتده فها أنا في حبهم مقتد، بخاتم النبيين والكتاب المبين، إذ مدحه فيه بين الباء والسين، وأقول كما قال بعض العارفين:
لبيت لما دعاني ربة الحجب * وغبت عني نها من شدة الطرب
تركية في بلاد الهند قد ظهرت * ووجهها في بلاد الهند لم يغب
ألوت تطل على أبيات فارسها * إلى لوي فصار الحسن في العرب
ولست ممن غدا في الحب متهما * وفي انتسابي إليه ينتهي نسبي
فكل صب بهاؤه وجاء ببر * هان على حب ليلى فهو ابن أبي
فقمت أهزأ في حبها اللوام، ولا أخشى ملام من لام، وأقول بلسان أهل المعرفة والغرام:
يلومونني في حبه من حسد * ولست أخشى من عدو كمد
وأشرب في الأرواح راح الولا * من قبل أن يخلق كرم الجسد
فها أنا بشنان من حبها * في السكر العشاق حق الأبد
فشهرت ذيل العزلة، وأخرت يدي من حب الوحدة، وآنست بالحق وذاك أحق، إذ لا خير في معرفة الخلق، أقتدي بقول سيد النبيين وشفيع يوم الدين: الخير كله في العزلة (3)، والخير والسلامة في الوحدة، والبركة في ترك الناس، خصوصا أهل هذا الزمان جواسيس العيوب، اللابس أثواب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) يوسف: 108.
( 2) الأنعام: 57.
(3) كذا بالأصل.
الحسد منهم على كل حسن، الصديق الحميم والسليم الود منهم كالسليم، والحل الموحد وخل الودود لمعاصم الغيبة وأذامم الريبة (1) يسرون الحسنات ويظهرون السيئات، ويحبون أن تشيع الفاحشة، فثق بالله وذرهم واتخذ إليه سبيلا، (واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا) (2).
وتأسيت بقول الرسول صلى الله عليه وآله: إن الله أخذ ميثاق المؤمن أن لا يصدق في قوله، ولا ينتصف من عدوه، ولا يشفى من غلبة، ومن آذى مؤمنا لم يدخل حضرة القدس.
والمؤمن هو العارف بعلي.
وإليه الإشارة بقوله: أعرفكم بالله سلمان (3).
وكان سلمان أعرف الناس بعلي، فمن كانت معرفته بعلي أكثر كان لله أعرف وإليه أقرب.
فليس الإيمان إلا معرفة علي وحبه، لأن من عرف عليا عرف الله.
وإليه الإشارة بقوله: يعرفك بها من عرفك (4)، فمن آذى مؤمنا حسدا على ما آتاه الله فحسبه قول مولاه: (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله) (5).
ودخلت بركة دعائهم في جملة المرحومين، وصرت من شيعتهم الموحدين، بقولهم: رحم الله شيعتنا إنهم أوذوا فينا ولم نؤذ فيهم، أوذيت حسدا على ما في فضلهم، أوتيت طربا بما أوليت:
أما والذي لدمي حلا * وخص أهيل الولا بالبلا
لئن ذقت فيه كؤوس الحمام * لما قال قلبي لساقيه: لا
فموتي حياتي وفي حبه * يلذ افتضاحي بين الملا
مضت سنة الله في خلقه * بأن المحب هو المبتلى
فقمت أهجر معتذرا إلى من لامني ولحاني، وقلت له مقالة الوامق العاني، إلا بما أولاني ربي من خصائص ديني، يكفيني بها من النار ويقيني، وحب علي وعترته فرضي وسنتي وديني، وقبلتي وعدتي ويوم فاقتي، وبه ختم أعمالي ومقالتي ، وقلت :
فرضي ونفلي وحديثي أنتم * وكل كلي منكم وعنكم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كذا بالأصل
( 2) المزمل: 10.
(3) تقدم الحديث.
(4) تقدم الحديث.
(5) النساء: 54.
وأنتم عند الصلاة قبلتي * إذا وقفت نحوكم أيمم
خيالكم نصب لعيني أحدا * وحبكم في خاطري مخيم
يا ساداتي وسادتي أعتابكم * بجفن عيني لثراها ألثم
وقفا على حديثكم ومدحكم * جعلت عمري فاقبلوني وارحموا
منوا على الحافظ عند فضلكم * واستنقذوه في غد وأنعموا (1)
ثم أقول ختما للكتاب وقطعا للخطاب:
أيها اللائم دعني عنك واسمع وصف حالي * أنا عبد لعلي المرتضى مولى الموالي
كلما ازددت مديحا فيه قالوا لا تغالي آية الله التي وصفها القول حلالي
كم إلى كم أيها العاذل أكثرت جدالي وإذا أبصرت في الحق يقينا لا أبالي
يا عذولي في غرامي خلني عنك وحالي رح إلى ما كنت ناحي واطرحني في ضلالي
إن حبي لعلي المرتضى عين الكمال وهو زادي في معادي ومعاذي ومآلي
وبه أكملت ديني وبه ختم مقالي
وإلى هذا الختام انتهى أمد الكلام من مشارق أنوار اليقين في حقائق أسرار أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام والتحية والإكرام.
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) أعيان الشيعة: 6 / 466.